بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مّسْتُوراً وَجَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِيَ آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلّوْاْ عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً [سورة الإسراء:45، 46].
يقول تعالى لرسوله محمد ﷺ: وَإِذَا قَرَأْتَ يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن، جعلنا بينك وبينهم حجاباً مستوراً، قال قتادة وابن زيد: هو الأكنّة على قلوبهم، كما قال تعالى: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ [سورة فصلت:5] أي: مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء، وقوله: حِجَاباً مّسْتُوراً بمعنى ساتر، كميمون ومشئوم بمعنى يامن وشائم؛ لأنه من يمنهم وشأمهم، وقيل: مستوراً عن الأبصار فلا تراه وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى، ومال إلى ترجيحه ابن جرير -رحمه الله.
وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أسماء بنت أبي بكر -ا- قالت: لما نزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [سورة المسد:1]، جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فِهر وهي تقول: مذمَّماً أتينا - أو أبينا - قال أبو موسى: الشك مني، ودينَه قلينا، وأمرَه عصينا، ورسول الله ﷺ جالس وأبو بكر إلى جنبه، فقال أبو بكر : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك، فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآناً اعتصم به منها، وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مّسْتُوراً قال: فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي ﷺ فقالت: يا أبا بكر، بلغني أن صاحبك هجاني، قال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاكِ، قال: فانصرفت وهي تقول: لقد علمت قريش أني بنت سيدها[1].
وقوله: وَجَعَلْنَا عَلَىَ قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً وهي جمع كنان الذي يغشى القلب، أَن يَفْقَهُوهُ أي: لئلا يفهموا القرآن، وَفِيَ آذَانِهِمْ وَقْراً وهو الثقل الذي منعهم من سماع القرآن سماعاً ينفعهم ويهتدون به.
وقوله تعالى: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي: إذا وحدت الله في تلاوتك، وقلت: لا إله إلا الله، وَلّوْاْ أي: أدبروا راجعين، عَلَىَ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ونُفور جمع نافر، كقُعود جمع قاعد، ويجوز أن يكون مصدراً من غير الفعل، والله أعلم، كما قال تعالى: وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [سورة الزمر:45] الآية.
قال قتادة في قوله: وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ الآية، إن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا الله، أنكر ذلك المشركون، وكبرت عليهم، وضاقها إبليس وجنوده، فأبى الله إلا أن يُمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمةٌ من خاصم بها فُلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مّسْتُوراً، يقول: ”قال قتادة وابن زيد: هو الأكنة على قلوبهم“، وفسره بالآية: وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ أي: مانع، حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء.
قال: ”وقوله: حِجَاباً مّسْتُوراً بمعنى ساتر“، ما كان على وزن مفعول قد يأتي بمعنى اسم الفاعل، فيكون عبّر باسم المفعول وأراد اسم الفاعل، وهذا كثير في القرآن وفي لغة العرب، وقد يقع عكسه، يعبر باسم الفاعل ويراد اسم المفعول كما يقال: عيشة راضية، يعني عيشة مرضية، كقوله: خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ [سورة الطارق:6] دافق على وزن فاعل، يعني مدفوق، وإذا فسر الحجاب بأنه الأكنة التي على القلوب حِجَاباً مّسْتُوراً فيمكن أن يكون بمعنى اسم الفاعل، يعني ساتراً يحول بينهم، بين قلوبهم وبين الانتفاع والتأثر بالقرآن، ويصح أيضاً أن يراد به اسم المفعول، بمعنى أن هذا الحاجز الذي يحول بينهم وبين الانتفاع بالقرآن والتأثر به لا يرونه، ولا يشاهدونه، يقول: ”وقيل: مستوراً عن الأبصار فلا تراه، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى“، كل هذا يجري على تفسيره بالأكنة، يمكن أن يكون ساتر بمعنى فاعل، ويمكن أن يكون بمعنى مفعول، ومع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى، ومال إلى ترجيحه ابن جرير وابن القيم -رحم الله الجميع.
وهذه الرواية التي ساقها عن أسماء بنت أبي بكر -ا- قالت: لما نزلت: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ جاءت العوراء أم جميل ولها ولولة وبيدها فِهر، فِهر يعني: حجر، وهي تقل: مذمماً أتينا أو أبينا، قال أبو موسى: الشك مني، وأبو موسى هو إسحاق بن إبراهيم الهروي شيخ أبي يعلى، يقول: الشك مني، يعني هل قالت: أبينا أو أتينا.
الشاهد أن هذه الرواية إن صحت فالنبي ﷺ قرأ من القرآن فلم تره هذه، فيكون قوله: حِجَاباً مّسْتُوراً على هذا المعنى أي: ساتراً بينه وبينهم فلا يرونه، وهذا غير المعنى الأول، فالمعنى الأول: حائل بينهم وبين الهدى، ولا يصل إليهم الموعظة ولا التذكير ولا ينتفعون بالقرآن، فقلوبهم في أكنة، وفي آذانهم وقر.
والمعنى الثاني يختلف عن الأول، أي يكون ساتراً لأبدانهم فلا يرونه أصلاً، وهذا المعنى رجحه القرطبي وذكر أمراً وقع له في ذلك، وهو أنه كان في بلاد العدو، فتبعه فارسان، وكان في أرض مكشوفة، أرض فلاة، فتبعوه، فجعل يقرأ بعض الآيات من سورة يس، كقوله: وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ [سورة يس:9]، فجاءوا ومروا من عنده وهم يبحثون عنه، ولم يروه، فجعل أحدهم يقول لصاحبه: هذا ديبلة، يعني شيطان.
وهذا المعنى -والله تعالى أعلم- لا ينافي المعنى الأول، فالمعنى الأول دلت عليه آيات من القرآن، وهذه الآيات فيها قرينة تدل عليه، قال الله تعالى بعده: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا، فالشاهد أن هذه الآية وآيات أخرى في معناها في القرآن تدل على أن الله جعل حائلاً وحاجزاً بين قلوب هؤلاء الكفار المصرِّين على كفرهم، وبين الهدى والقرآن والانتفاع به.
وهذا المعنى اختاره كبير المفسرين ابن جرير، والحافظ ابن القيم، وجمع من أهل العلم كثير، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، فهو معنىً دل عليه القرآن، المعنى الثاني: أن يكون الحاجز دون أبصارهم فلا يرون شخصه، وهذه الرواية إن صحت تدل عليه، ولكنها لا تعني أن ذلك هو التفسير لهذا الآية فحسب، وإنما هو أمر عملي فعله النبي ﷺ، والنبي ﷺ قد يفعل ذلك أخذاً من معناها الأعم، كما ذكرنا في مناسبات شتى، لما جاء النبي ﷺ لعلي وفاطمة وهما نائمان، فقال: ألا تصليان؟ فقال علي : إن أرواحنا بيد الله متى شاء أن يبعثنا بعثنا، أو كما قال، فرجع النبي ﷺ كالمغضَب وهو يلطخ فخذه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً[2]، هذه الآية في الكفار، في مجادلتهم بالوحي، ولكن النبي ﷺ وهو أعلم الناس بالقرآن، ومعاني القرآن، وفيما نزل في القرآن، أوردها في هذا الموضع.
وهكذا في كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ [سورة الأنبياء: 104] لما قرأها النبي ﷺ، لما قال: يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غُرْلاً، ثم قرأ الآية[3]، مع أن الآية في الأصل واردة في تقرير البعث، والاحتجاج بالنشأة الأولى على النشأة الثانية، فأوردها النبي ﷺ في هذا الموضع، ولما اختصم الخدري والعوفي في أي المسجدين بني على التقوى لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ [سورة التوبة: 108]، فالخدري يقول: مسجد النبي ﷺ، والعوفي يقول: مسجد قباء، فقال النبي ﷺ: هو مسجدي هذا[4]، مع أن سياق الآية في مسجد قباء، ولا ينفي عن مسجد قباء هذه الصفة، لكن النبي ﷺ نزلها على الأحق بذلك، ولا شك أن مسجده ﷺ أحق بهذا من مسجد قباء.
فالآية قد تكون وردت في معنى، ويؤخذ من معناها الأعم أو من لفظها العام، معنىً آخر، وذلك أشبه ما يكون بالرُّقية، يعني استعمال الآية في مثل هذا المقام، يشبه العمل بالرقى، ففي آيات الرقية مثلاً لم يرد عن النبي ﷺ فيها شيء أصلاً، باستعمالها في هذا العلاج، شيخ الإسلام يرى أنه إذا كتب على جبين المرعوف وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ [سورة هود:44]، تكتب بقلم على جبين المرعوف فيتوقف الرعاف، هذه لم ترد عن النبي ﷺ، والأصل في الرقى أنها من باب الطب، والأصل في الطب الإباحة ما لم يشتمل على محظور، مع أن الآية لا علاقة لها بالرعاف، ويمكن أن تأتي بالآيات التي فيها الإجراء والإسالة فيمن أصيب بجلطة فتقرأ عنده مثلاً.
وكما قال ابن القيم -رحمه الله- في الآيات التي يقرؤها من يشعر بشيء من الخوف والاضطراب والارتباك ونحو هذا يقرأ آيات السكينة، فيجد لهذا أثراً عجيباً، فمثل هذه الآية إذا قرأها الإنسان وقصد بذلك أن لا يراه عدوه فيمكن أن يقع هذا، ويعميهم الله ، يعمي أبصارهم عنه، وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ، ويمر من بين أيديهم ولا يرونه، يمكن أن يقع هذا ولا يَبْعد، ولا يلزم أن يكون هذا هو معنى الآية الأصلي، -والله تعالى أعلم.
ويقول: وقوله: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً وهي جمع كنان الذي يغشى القلب ويغطيه، الأكنة بمعنى الأغطية، الشيء الذي يغطي، تقول: أكنّه من المطر، ومن الشمس، بمعنى غطاه وستره.
قال: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا، والوقر هو الثقل والصمم الذي يكون في الآذان، فهم لا يسمعون القرآن سماع انتفاع وتأثر، وإن كان يطرق أسماعهم لكن لا يفقهون ما سمعوا.
نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىَ إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً [سورة الإسراء:47، 48].
يخبر تعالى نبيه ﷺ بما يتناجى به رؤساء قريش حين جاءوا يستمعون قراءته ﷺ سراً من قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور من السِّحْر على المشهور، أو من السَّحْر وهو الرئة، أي إن تتبعون -إن اتبعتم محمداً- إلا بشراً يأكل، وفيه نظر؛ لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور، له رئِيٌّ يأتيه.
بالكسر والفتح رَئِيٌّ ورِئِيٌّ.
بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه، ومنهم من قال: شاعر، ومنهم من قال: كاهن، ومنهم من قال: مجنون، ومنهم من قال: ساحر؛ ولهذا قال تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً أي: فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصاً، قال محمد بن إسحاق في السيرة: حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي حليف بني زهرة، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله ﷺ وهو يصلي بالليل في بيته، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه، وكل لا يعلم بمكان صاحبه، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا، وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً.
ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض مثل ما قاله أول مرة، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق، فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود، فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته، فقال: أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟
قال: يا أبا ثعلبة والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها، قال الأخنس: وأنا والذي حلفت به، قال: ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته، فقال: يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال: ماذا سمعت؟! تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه، قال: فقام عنه الأخنس وتركه.
قوله: نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا هذه الرواية -وهي سماع هؤلاء الثلاثة- التي أوردها المؤلف -رحمه الله- تفسيراً لهذه الآية نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ، لا تصح فهي من مراسيل الزهري، وهو من صغار التابعين، وقوله -تبارك وتعالى: نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ يمكن أن تكون الباء للملابسة، أي يستمعون إليك متلبسين به، من الاستخفاف بك وبالقرآن، فيستمعون وهم بهذه المثابة، وهم متلبسون بهذه الصفة، استماع مستهزئ ومستخفٍّ، لا استماع معظم ومنتفع، وبعضهم يقول: إن الباء هذه يَسْتَمِعُونَ بِهِ زائدة، ويقصدون بذلك من ناحية الإعراب، لا من ناحية المعنى، وإن كان لا يحسن ولا يليق أن يعبر عن شيء مما في القرآن بالزيادة، ولذلك يسمي بعضهم مثل هذا: صلة، تأدباً في العبارة، والمعنى واحد.
يقول: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا، يقول: ”من السِّحْر على المشهور“، وهذا هو الظاهر المتبادر، رجل مسحور، أي أنه قد ابتلي بالسحر، فصار يخلط في نظرهم، وما يصدر عنه إنما هو من جراء هذا السحر، ومعلوم أن المسحور لا يصدر عنه الأفعال المرضية، والتصرفات السوية، وكيف يأتي على يده هذا القرآن المعجز، فهذا السحر على هذا الحال أورثه أعظم الكمالات، يقول: ”أو من السَّحْر وهو الرئة“، فكل من له سَحر فهو مخلوق، ومحمد ﷺ يأكل ويشرب ويتنفس، ويقال: انتفخ سحره، يعني رئته، تعبيراً عن الخوف، فمعنى ذلك أنكم تتبعون بشراً وهم في تصورهم أن النبي لا يكون بشراً، فقالوا: أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وهذا المعنى بعيد، وهو خلاف الظاهر المتبادر، فهذا يقال على سبيل التورية والتلبيس على السامع والإلغاز، والقرآن لا يكون بهذه المثابة، يعني قد تقول لسبب أو لآخر عن شخص: فلان مسحور لتعتذر له وأنت تقصد أن له سَحر، يعني رئة، يعني قد يتصرف تصرفا خاطئا، فتعتذر عنه، أو تعتذر له.
يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ”وفيه نظر؛ لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور، له رَئِيٌّ“، أو رِئِيٌّ من الجن، المقصود: أن يكون له تابع من الجن، وهذا التابع من الجن لربما يبدي له بعض الأشياء مما لا يراها الناس فيراها هو، أو يُسمعه بعض الأشياء التي لا يسمعها الآخرون، أو يوقع في نفسه أشياء في أمور تحصل فيشعر بها، فيقول: فلان معه كذا، أو فلان مات، أو فلان الآن مسافر، أو فلان الآن مريض، أو نحو هذا، ويكون كما قال، لا يدري كيف جاءت، وقعت في نفسه هذه الأمور.
وقد يجري ذلك على لسانه، إما في بعض قضايا العلم فيتكلم بأشياء كأنها عن ظهر قلب، كلام أهل العلم، وهو لم يقرأها، أو يكون هذا أحياناً يجري على لسانه في أمور تلبس على الناس وتضللهم بشبهات أكبر منه، وليس هو بهذا المستوى، هو أصلاً، تجري على لسانه، وقد يحصل له ذلك في باب التعبير، التفسير للرؤى أحياناً، فيجري على لسانه التعبير، وهو لا يعرف كيف فسرها، فيكون هذا بسبب القرين أو بسبب هذا الرَّئِيِّ من الجن، وكثير من الناس قد لا يشعر بهذا أصلاً، ولربما يحصل له إذا استرسل معه وتابعه وتفطن له واستجاب، يحصل له بسببه فتنة، أو يفتن غيره بذلك، لأنه يخبرهم عن أشياء.
ففي باب الرقية مثلاً يقول: فلان مسحور وسَحَره فلان، والسحر في المكان الفلاني، والسحر مؤثر فيه في الشيء الفلاني، يوجد فيه كذا ويوجد فيه كذا، في جسده، وأشياء غريبة أشبه بالخيالات، ثم تتبدى الأمور وتنكشف على أن ما قاله صحيح أحياناً، وهو إما أنه يستعين بالشياطين مباشرة، أو أنه جري ذلك على لسانه ويكون له تابع من الجن، وهذه أمور موجودة وواقعة، وكما قيل في عمرو بن لحي الخزاعي، كان له رَئِيٌّ من الجن، فجاءه فقال له: اذهب إلى ساحل جدة، تجد أصناماً معدة، إلى آخر ما قال، فذهب هناك فاستخرجها من ساحل جدة، وكانت منطمرة مدفونة، من بعد الطوفان، فأخرجها وعبدتها العرب – وهي ود ويغوث وسواع، وعادت الأصنام التي عبدها قوم نوح بأسمائها وأعيانها إلى العرب، هكذا قيل، فالله تعالى أعلم.
وقوله سبحانه: انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً، أي: لا يستطيعون سبيلاً إلى الهدى، فلا يصلون إليه؛ لمَا وُجد على قلوبهم من الأكنة -الأغطية، وفي آذانهم من الوقر، قالوا: وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ فهذا لا يصلون معه إلى الهدى بحال من الأحوال، ويحتمل أن يكون قوله: فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً، أي: سبيلاً إلى الطعن فيه، وإنما يقولون هذه المقالات الباطلة التي لا يصدقها عاقل، كيف يكون مسحوراً ويأتي بهذا القرآن؟!، المسحور يخلط.
وقريب من هذا أيضاً قول من قال: فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً لا يستطيعون سبيلاً: أي لا يهتدون إلى شيء يقولونه يقبله السامع، فالأشياء التي يقولونها: شاعر، كاهن، ساحر، أو مسحور، كل هذا مما لا يقبله السامع؛ لأن من عرف أوصافه ﷺ عرف أنه أبعد ما يكون عن هذه الأمور، فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً، فلم يهتدوا إلى شيء يقولونه فيه تقبله العقول، أو لا يستطيعون سبيلاً إلى إبطاله والقدح فيه، وقد تناقضت أقوالهم، ولو قيل: فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً أي: مخرجاً مما وقعوا فيه من التناقض في أقوالهم عنه، تارة يقولون: ساحر، وتارة يقولون: كاهن، وتارة يقولون: مجنون، وتارة يقولون: شاعر، فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً.
وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ قُلْ عَسَىَ أَن يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنّونَ إِن لّبِثْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:49-52].
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد القائلين استفهام إنكار منهم لذلك: وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أي: تراباً، قاله مجاهد، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: غباراً، أَإِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي: يوم القيامة بعدما بلينا وصرنا عدماً لا نذكر، كما أخبر عنهم في الموضع الآخر يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ [سورة النازعات:10-12].
وقوله تعالى: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ [سورة يس:78] الآيتين، فأمر الله سبحانه رسول الله ﷺ أن يجيبهم فقال: قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قال ابن إسحاق عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: سألت ابن عباس عن ذلك، فقال: هو الموت، وروى عطية عن ابن عمر -ا- أنه قال في تفسير هذه الآية: لو كنتم موتى لأحييتكم، وكذا قال سعيد بن جبير وأبو صالح والحسن وقتادة والضحاك وغيرهم، ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة، لأحياكم الله إذا شاء، فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده.
وقال مجاهد: أَوْ خَلْقاً مّمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني: السماء والأرض والجبال، وفي رواية: ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم.
وقوله تعالى: فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا أي: من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً أو خلقاً آخر شديداً، قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ أي: الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً ثم صرتم بشراً تنتشرون، فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال، وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الآية.
وقوله تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ قال ابن عباس -ا- وقتادة: يحركونها استهزاء، وهذا الذي قالاه هو الذي تعرفه العرب من لغاتها؛ لأن الإنغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل، ومنه قيل للظليم -وهو ولد النعامة- نغضاً؛ لأنه إذا مشى عجّل بمشيته وحرك رأسه، ويقال: نَغضَتْ سنُّه، إذا تحركتْ وارتفعت من منبتها.
وقوله: وَيَقُولُونَ مَتَىَ هُوَ إخبار عنهم بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [سورة يونس:48]، وقال تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا [سورة الشورى:18]، وقوله: قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي: احذروا ذلك، فإنه قريب سيأتيكم لا محالة، فكل ما هو آتٍ آت، وقوله تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ أي: الرب -تبارك وتعالى، إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ [سورة الروم:25] أي إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يُخالَف ولا يمانع، بل كما قال تعالى: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50]، إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل:40].
وقوله: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ [سورة النازعات:13، 14] أي: إنما هو أمر واحد بانتهار، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها، كما قال تعالى: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي: تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته.
وقوله تعالى: وَتَظُنُّونَ أي: يوم تقومون من قبوركم إِنْ لَبِثْتُمْ أي: في الدار الدنيا إِلَّا قَلِيلاً، وكقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [سورة النازعات:46]، وقال تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْما [سورة طه:102-104].
وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ [سورة الروم:55]، وقال تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة المؤمنون:112-114].
قوله: وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ”أي: التراب، قاله مجاهد“، واختاره ابن جرير، والرفات: هو ما تفتت وتهشم وتكسر وترضض من كل شيء، يقال هذا للشيء المتفتت، يقال: رفات فلان، يعني ما تحلل من جسده ومن جثته بعدما بلي، وتحول إلى تراب أو نحوه، وتفسير من فسره بالغبار ليس بعيداً عن هذا؛ لأن المقصود هو الشيء المتفتت، وَرُفَاتًا فيصدق هذا على التراب، ويصدق هذا على الغبار، والجامع المشترك في هذا كله هو الشيء المتفتت، إذا صارت الأجساد هذه متحللة تحولت إلى تراب، فالذي فسره بالتراب: هذا معنىً له في كلام العرب، وأخذ ذلك لربما من كون الأجساد تتحول إلى تراب، ومن الآيات الأخرى، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، فيكون هذا من قبيل تفسير لفظة بلفظة.
ففي الآيات الأخرى ورد ذكر التراب في بعضها، يقول الله : وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا [سورة المؤمنون:82]، فيمكن تفسير الرفات بالتراب، تفسير لفظة بلفظة، مثل تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ [سورة الفيل:4]، أو في غير هذا الموضع في قصة أصحاب الفيل، لكن يصلح أن يفسر به، ومِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ [سورة هود:82-83]، قصة قوم لوط، في الموضع الآخر لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ [سورة الذاريات:33]، هنا تفسير لفظة بلفظة، فالسجيل هو الطين، والرفات هو التراب، وأصل هذه المادة -كما سبق- الشيء المتفتت.
وقول الله عن الكفار إنهم قالوا: أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا إلى آخره، ثم رد الله عليهم فقال: قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا قال: ”إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات“، فهم يقولون: إن مَن تحول إلى تراب فلا يمكن إعادته مرة أخرى، فالله يرد عليهم ويقول: قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا بمعنى: كونوا ما هو أقوى الأشياء في نظركم كالأحجار التي هي في غاية الصلابة والشدة، أو الحديد الذي هو أعظم من ذلك وأصلب، فإن الله قادر على إعادتكم، لا يمتنع عليه شيء ، ثم نقلَهم إلى شيء أكبر من هذا وأبهمه، قال: أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ بعضهم فسر هذا بالموت، وبعضهم فسره بالسماوات والأرض والجبال.
والأقرب وهو ما قاله ابن جرير: إن ذلك لا يحد بهذا ولا هذا، وإنما الله أبهم ذلك ليذهب فيه الذهن كل مذهب، ما هو الذي يكون بهذه المثابة خلقاً؟ ليكن أعظم من ذلك مما يخطر في البال، الله قادر على الإعادة، وإذا كان الإنسان بحال أعظم فيها شدة من الحديد والأحجار، كان جبلاً أو كان أرضاً أو غير ذلك، فإن الله قادر على إعادته مرة أخرى مهما كان، لا يمتنع عليه الشيء، هذا هو المعنى، -والله تعالى أعلم، هذا من باب الرد عليهم، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم في تفسيرها.
وهناك وجه آخر تحتمله الآية، ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله، لكن لم يذكره تحديداً على سبيل الترجيح والاختيار، لكن ذكره مع المعنى السابق: أن الآية قد تدل على المعنيين وهو أنه يقول لهم: قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ إذا كنتم تزعمون أنه ليس هناك مدبر، ولا مصرف، يعيدكم ويبعثكم ويحاسبكم، فلماذا لم تكونوا -إذا كان الأمر كذلك- خلقاً آخر غير هذا الذي يقبل الموت والتحلل والبِلى والتحول إلى تراب، لماذا لم تختاروا لأنفسكم حالاً أخرى، وخلقاً أشد وأقوى من الحجارة، أو من الحديد، ما دام الأمر بهذه المثابة؟
لكن هذا المعنى -والله تعالى أعلم- فيه بعد؛ لأن هؤلاء لا ينفون أن الله هو المدبر والخالق، الذي خلقهم وأوجدهم، هم لم يزعموا أنهم أوجدوا أنفسهم، ولم يكن هؤلاء في يوم من دهرهم من القائلين بالطبيعة مثلاً، وأنه لا خالق، أبداً، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان:25]، والمعنى المتوجه هو المعنى الأول وهو الذي عليه عامة المفسرين، -والله تعالى أعلم.
وقوله: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ يعني: يحركونها إنكاراً واستبعاداً واستهزاءً، يعني هيهات، يقول: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً يقول: أي تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته، يعني تستجيبون بحمده كما قال ابن جرير: أي بقدرته ودعائه إياكم: ولله الحمد، كما تقول: فعلت ذلك بحمد الله، يقول: وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً، إِن لَّبِثْتُمْ قال: أي في دار الدنيا، وهذا هو الأقرب، وهو الذي رجحه أيضاً ابن جرير، ويدل عليه قوله تعالى: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ [سورة المؤمنون:112، 113].
وقال بعض أهل العلم: المقصود مدة المكث في القبور، وبعضهم يقول: بين النفختين وهذا أبعد الأقوال، والأقرب -والله أعلم- وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً أي: في الدنيا، يقول: ”أي في دار الدنيا، إِلاَّ قَلِيلاً، كقوله: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا“.
وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا [سورة الإسراء:53].
يأمر -تبارك وتعالى- عبده ورسوله ﷺ أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن والكلمة الطيبة، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، وأوقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإنه عدو لآدم وذريته من حين امتنع عن السجود لآدم، وعداوته ظاهرة بينة؛ ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، أي فربما أصابه بها.
وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار[5] أخرجاه من حديث عبد الرزاق.
قوله: وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يقول: ”يأمر -تبارك وتعالى- عبده ورسوله ﷺ أن يأمر عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن، والكلمة الطيبة، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم“، يقال: نزغ ونغز، والنزغ يأتي بمعنى النخس حسّاً، ومن جهة المعنى يأتي بمعنى التحريك والتحريش والإفساد والإغراء، فكل ذلك مما يتضمه معنى النزغ، تقول: نزغه الشيطان، بمعنى حركه، أو أغراه، أو نزغ بينهم الشيطان إذا أفسد، فالشيطان يغري النفوس ويحركها، ويستثيرها من أجل مواقعة ما لا يليق من الأقوال والفعال، فالله -تبارك وتعالى- يُعلم عباده المؤمنين عداوة عدوهم إبليس، ويبيّن لهم فعله السيئ بالإفساد بينهم.
إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ فإنّ: هنا تشعر بالتعليل؛ أي لأن الشيطان ينزغ بينهم، والسبيل إلى سد هذا الطريق قبل الوقوع، وإلى استدراكه بعد الوقوع: أما قبل الوقوع فالله بينه في هذا الآية، يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، ما قال: يقولوا الحسن، وإنما يقول: الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
فإذا أراد أن يتكلم الإنسان يتخير أحسن العبارات بما لا يؤذي السامع، ولا يجرح مشاعر الآخرين، أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، إذا أراد أن ينصح أحداً من الناس فإنه يتخير الكلمة الطيبة، التي هي الأحسن، وإذا تردد بين كلمتين وحركته نوازع الغضب فإنه يتخير الكلمة التي لا غضاضة فيها ولا عيب؛ لأن الشيطان يغري النفوس، ولو كان الإنسان مازحاً، فإنه لا يسترسل فيقع في المحظور، ويتكلم بالكلام الذي لا يليق، فكما قيل: زلة اللسان أعظم من زلة القدم؛ لأن الإنسان إذا زل بقدمه قد تنكسر رجله، ولكنه إذا زل باللسان فقد تذهب دنياه وآخرته.
وبعد الوقوع: كما قال الله : وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت:34]، وقوله: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ [سورة المؤمنون:96-98]، إلى آخر الآيات التي علمنا الله فيها كيف نتخلص من شره وإفساده وتزيينه وتسويله، يقول: ”فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم“.
- رواه الحاكم في المستدرك برقم (3376)، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وابن حبان في صحيحه برقم (6511)، وقال الأرنؤوط في تحقيقه: صحيح بشواهده، وأبو يعلى في مسنده برقم (53).
- رواه البخاري، كتاب التهجد، باب تحريض النبي ﷺ على صلاة الليل والنوافل من غير إيجاب، برقم (1075)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما روي فيمن نام الليل أجمع حتى أصبح، برقم (775).
- رواه البخاري عن ابن عباس -ا- قال: خطب النبي ﷺ فقال: «إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [سورة الأنبياء:104]...الخ"، كتاب التفسير، باب كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ، برقم (4463)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب فناء الدنيا وبيان الحشر يوم القيامة، برقم (2860).
- رواه النسائي، كتاب المساجد، باب ذكر المسجد الذي أسس على التقوى، برقم (697)، والترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة التوبة، برقم (3099)، وأحمد في المسند (18/359)، برقم (11846)، وقال محققوه: حديث صحيح، وقال الألباني: صحيح لغيره في صحيح الترغيب والترهيب برقم (1177).
- رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ من حمل علينا السلاح فليس منا، برقم (6661)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن الإشارة بالسلاح إلى مسلم، برقم (2617)، وأحمد في المسند بلفظ: لا يمشين أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان ينزع في يده، فيقع في حفرة من نار (13/527)، برقم (8212)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.