بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا [سورة الإسراء:59].
عن سعيد بن جبير قال: قال المشركون: يا محمد إنك تزعم أنه كان قبلك أنبياء فمنهم من سُخرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإنْ سَرّك أن نؤمن بك ونصدقك، فادع ربك أن يكون لنا الصفا ذهباً، فأوحى الله إليه: إني قد سمعت الذي قالوا فإن شئتَ أن نفعل الذي قالوا فإن لم يؤمنوا نزل العذاب، فإنه ليس بعد نزول الآية مناظرة، وإن شئتَ أن نستأني بقومك استأنيتُ بهم، قال: يا رب استأن بهم[1]، وكذا قال قتادة وابن جريج وغيرهما.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: سأل أهل مكة النبي ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا، فإن كفروا هلكوا، كما أهلكت من كان قبلهم من الأمم، وقال: لا، بل استأن بهم، وأنزل الله تعالى: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ الآية[2]، ورواه النسائي[3] من حديث جرير -.
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: قالت قريش للنبي ﷺ: ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك، قال: وتفعلون؟ ، قالوا: نعم، قال: فدعا فأتاه جبريل فقال: إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، فقال: بل باب التوبة والرحمة[4].
وقوله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً، قال قتادة: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات؛ لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود -، فقال: يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب مرات، فقال عمر: أحدثتم، والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن، وكذا قال رسول الله ﷺ في الحديث المتفق عليه: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يخوف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، ثم قال: يا أمة محمد والله ما أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً[5].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله: وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ، هذه الآيات المشار إليها هي الآيات المقترحة التي كان يقترحها الكفار على أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام، وإنما يفعلون ذلك تعنتاً وطلباً لعجزهم، ومن هذه الآيات: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا، وقوله: مُبْصِرَةً وليس المقصود أن هذه الناقة لها بصر، وإنما المقصود أن هذه الآية –الناقة- ذات إبصار، بمعنى أنه يدركها من شاهدها، فهي آية واضحة لا لبس ولا خفاء فيها، ومع ذلك كذبوا وكفروا، فحينما يقال مثلاً يقول الله : وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [سورة الإسراء:12]، وآية النهار هي الشمس، ليس المقصود بـمُبْصِرَةً أنها ذات بصر تبصر، فالشمس ليس لها بصر، وإنما مُبْصِرَةً أي: أن الناس يبصرون بها، أو غير ذلك مما قيل، مما أوردت بعضه في الآية.
قال: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا، من أهل العلم من حمل الآيات في آخر هذه الآية على الآيات المذكورة في صدرها، وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ قال: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا، فقالوا: هي الآيات المقترحة، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وعلى هذا تكون ”ال“ في الآيات عهدية، ويكون ذلك من قبيل العهد الذكري؛ لأنه ذكر الآيات قبله ثم قال: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ المذكورة إِلاَّ تَخْوِيفًا.
ومن أهل العلم من عممه، فقال: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ أي: المعجزات، ومنهم من قال بأن الآيات هي الأمور التي يجريها الله مما يدل على كمال قدرته، وشدة بطشه، وعظيم انتقامه ممن انتقم منه، ففسروا ذلك بالمَثُلات، العقوبات التي ينزلها ببعض المكذبين، وما يري الناس من دلائل قدرته كما يقع من الزلازل والخسوف، والكسوف، فهذه آيات، كما قال النبي ﷺ لما انكسفت الشمس، وقال من قال بأن ذلك كان لموت إبراهيم ابنه ﷺ، فكان مما قال لهم -عليه الصلاة والسلام: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده[6]، فهذا يفسر قوله: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا.
وهذا القول له وجه ظاهر من النظر، ويدل عليه هذا الحديث، ومن حمله على المعنى الخاص -الآيات المقترحة- جعل ذلك عائداً إلى ما ذكر قبله، وهذا القول يشمل الأقوال التي كانت قبله، وبعضهم يقول: إن الآيات هي الموت الذريع، وبعضهم يقول: أحوال الإنسان وتقلباته والأطوار التي يمر بها: نطفة، ثم علقة، ثم يكون طفلاً، ثم بعد ذلك يخرج إلى الدنيا صغيراً، ثم بعد ذلك يشب، ثم يهرم، يتغير.
وقوله: فَظَلَمُواْ بِهَا، أي: كفْرهم بها، ويدخل فيه أنهم قتلوها، فيفسر ذلك قولُه -تبارك وتعالى: فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [سورة الأعراف:77]، وقول الله : فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ[سورة القمر:29]، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا [سورة الشمس:14].
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً: ”أي: مبينة موجبة للتبصر، وفعل الإبصار يستعمل لازماً ومتعدياً، يقال: أبصرته بمعنى أريته، وأبصرته بمعنى رأيته، فمبصرة في الآية بمعنى مرئية لا بمعنى رائية، والذين ظنوها بمعنى رائية غلطوا في الآية وتحيروا في معناها فإنه يقال: بصر به وأبصره فيعدى بالباء تارة والهمزة تارة، ثم يقال: أبصرته كذا، أي أريته إياه كما يقال: بصرته به وبصر هو به، فههنا بصيرة وتبصرة ومبصرة، فالبصيرة: المبينة التي تبصر، والتبصرة مصدر مثل التذكرة، وسمى بها ما يوجب التبصرة فيقال: هذه الآية تبصرة؛ لكونها آلة التبصر وموجبَهُ“[7]. ا. هـ
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً [سورة الإسراء:60].
يقول تعالى لرسوله ﷺ محرضاً على إبلاغ رسالته مخبراً له بأنه قد عصمه من الناس، فإنه القادر عليهم وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته، وقال مجاهد وعروة بن الزبير والحسن وقتادة وغيرهم في قوله: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ أي: عصمك منهم، وقوله: وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ الآية، روى البخاري عن ابن عباس -ا: وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله ﷺ ليلة أسري به، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ شجرة الزقوم، وكذا رواه أحمد وعبد الرزاق وغيرهما، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس -ا.
وهكذا فسر ذلك بليلة الإسراء: مجاهد وسعيد بن جبير والحسن ومسروق وإبراهيم وقتادة وعبد الرحمن بن زيد، وغير واحد، وقد تقدمت أحاديث الإسراء في أول السورة مستقصاة ولله الحمد والمنة، وتقدم أن ناساً رجعوا عن دينهم بعدما كانوا على الحق؛ لأنه لم تحمل قلوبهم وعقولهم ذلك، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وجعل الله ذلك ثباتاً ويقيناً لآخرين، ولهذا قال: إِلاّ فِتْنَةً أي: اختباراً وامتحاناً، وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم، كما أخبرهم رسول الله ﷺ أنه رأى الجنة والنار، ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل -عليه لعائن الله: هاتوا لنا تمراً وزبداً، وجعل يأكل من هذا بهذا، ويقول: تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا، حكى ذلك ابن عباس -ا- ومسروق وأبو مالك والحسن البصري وغير واحد، وكل من قال: إنها ليلة الإسراء، فسره كذلك بشجرة الزقوم.
وقوله: وَنُخَوّفُهُمْ أي: الكفار بالوعيد والعذاب والنكال، فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْيَاناً كَبِيراً أي: تمادياً فيما هم فيه من الكفر والضلال، وذلك من خذلان الله لهم.
قوله: وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ يعني: أن نواصيهم بيده فهم تحت قبضته، لا يخرجون عن تصرفه في قليل ولا كثير، وقوله: وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ هذه الرؤيا التي أُريها النبي ﷺ قال: هي رؤيا عين ليلة أسري به، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم سلفاً وخلفاً، وهو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، رحم الله الجميع.
وهو أظهر الأقوال، مع أن من أهل العلم من قال: إن النبي ﷺ رأى في المنام، كما في حديث اختصام الملأ الأعلى مثلاً، وقد يحمل ما جاء في بعض الأحاديث على أنه رؤيا منام في الذين مر النبي ﷺ بهم، كالذي يسبح في نهر من دم، ومنهم من يقول: في ليلة الإسراء، فالذي يؤيد أن الرؤيا التي أراه الله هي رؤيا عين ليلة المعراج أن الله قال: وَمَا جَعَلْنَا الرّؤيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ، ولم يكن من ذلك ما وقع به فتنة للناس إلا واقعة الإسراء والمعراج، وهي التي فتن بها من فتن من الكفار واستبعدوا ذلك وهالهم، واستهزءوا به ﷺ، وزادهم تكذيباً، واضطرب من اضطرب ممن لم يستقر الإيمان في قلبه، وكما سمعتم في بعض الروايات أنه رجع بعضهم، أما رؤيا المنام فلا يحصل بها هذا، ولا يُعرف أن النبي ﷺ رأى رؤيا منام فوقع بسببها فتنة للناس، فالإنسان يرى في المنام أشياء كثيرة، ولا يكون ذلك داعياً إلى الافتتان بما رأى.
قال: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ، قال: ”هي شجرة الزقوم“، كما قال الله : أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ [سورة الصافات:62-63]، فهذه أخبر الله -تبارك وتعالى- أنها فتنة، والفتنة بها: كيف تكون شجرة -والشجر فيه اللين والطراوة والرطوبة- تنبت في أصل الجحيم الذي هو في غاية الحرارة والإحراق؟ فهذه أضداد لا تجتمع، إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [سورة الصافات:63-65]، فهذه هي الشجرة المعلونة في القرآن، قيل لها ملعونة؛ لعدة أسباب:
من أهل العلم من يقول: إن العرب تقول لكل طعام كريه بغيض: إنه ملعون؛ ومعنى اللعن الطرد والإبعاد، فالطعام الكريه يصفونه بهذا أو يسمونه بذلك، وبعضهم يقول: لأن طلعها كأنه رءوس الشياطين، والشياطين ملعونة، وبعضهم يقول: لأنها تخرج في أصل الجحيم، وأصل الجحيم ملعون، وبعضهم قال: المراد بذلك هو أن اللعنة واقعة على آكليها، فهؤلاء الكفار يأكلون من هذه الشجرة في النار، وهم أهل لعن وإبعاد وطرد من رحمة الله -تبارك وتعالى، لكن هذا فيه بعد، فالله وصف الشجرة بهذا، ولما كانت هذه الشجرة بهذه الصفة من قبح المنظر والهيئة، والطعم، وصفت بهذا وقيل لها: شجرة ملعونة، نسأل الله العافية.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الّذِي كَرّمْتَ عَلَيّ لَئِنْ أَخّرْتَنِ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأحْتَنِكَنّ ذُرّيّتَهُ إَلاّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:61، 62].
يذكر -تبارك وتعالى- عداوة إبليس -لعنه الله- لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له افتخاراً عليه واحتقاراً له، قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً، كما قال في الآية الأخرى: أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة الأعراف:12]، وقال أيضاً: أرأيتك، يقول للرب جراءة وكفراً والرب يحلم وينظر قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الّذِي كَرّمْتَ عَلَيّ الآية، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: يقول لأستولين على ذريته إلا قليلاً، وقال مجاهد: لأحتوينّ وقال ابن زيد: لأضلنهم، وكلها متقاربة، والمعنى: أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ لئن أنظرتني لأضلن ذريته إلا قليلاً منهم.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً، ذكر الله خبر آدم وإبليس، في مواضع كثيرة من القرآن في سورة البقرة، والأعراف، والإسراء، والكهف والحجر وص، وطه، وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً، والآيات في المواضع الأخرى تفسر هذا وتبين أن الذي منعه هو الاستكبار، إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ [سورة البقرة:34]، وأنه اعتز بأصله وترفع به، قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ [سورة ص:76]، والعلماء -رحمهم الله- ردوا على هذا القياس الفاسد وقالوا: إن أول من قاس قياساً فاسداً في مقابل النص هو إبليس، وبينوا وجوه تفضيل الطين على النار، قالوا: الطين توضع فيه الحبة فتخرج شجرة مثمرة، والنار لا يوضع فيها شيء إلا هلك واحترق، وقالوا: من طبيعة الطين الرزانة والثبات، ومن طبيعة النار الخفة، وقالوا: الطين يبنى بها الدور ونحو ذلك، وأما النار فهي متلفة، من طبعها الإحراق والإتلاف، إلى غير ذلك من الوجوه التي ردوا بها على إبليس.
فقوله: قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً، وقال: فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ [سورة الأعراف:14، 15] أمهله الله وقال: وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ، هل قال هذا بعلم، أي أن الله أعلمه أن أكثرهم سيتبعونه؟ أو أنه قاله باعتبار أنه عرف من طبيعة آدم لما علم أنه ركب فيه الشهوات والغرائز أن ذلك سيكون سبباً لانحرافه ومعصيته لله -تبارك وتعالى؟ أو أنه قال ذلك ظناً؟ كما قال الله : وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ [سورة سبأ:20]، وإنما قاله ظاناً يعني بغلبة ظن، وقال: لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً، يقول الحافظ -رحمه الله- عن ابن عباس -ا: ”لأستولين على ذريته إلا قليلاً، وقال مجاهد: لأحتوين، قال ابن زيد: لأضلنهم، وكلها متقاربة“.
ذكر بعض أهل العلم أن أصل الاحتناك هو الاستئصال، ومنه احتنك الجراد الزرع إذا استأصله وأتلفه، فالجراد إذا نزل بمحل في ليلٍ تُصبح ترى الأشجار بلا ورق، حتى النخيل يصبح وهو مجرد عسب ليس فيه سعف، فإبليس يقول: لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا، ومنه ما يوضع في حنك الدابة، فيسيطر عليها بهذا اللجام أو الحديدة أو نحو ذلك، فتدار كما يريد من يقودها أو يركبها، لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلًا، أخذًا من الحنك، بمعنى أنه يضلهم ويتلاعب بهم ويديرهم كما يشاء، ويوجههم ويتصرف بهم، ويضللهم فيتبعه أكثر الخلق، ولهذا قال الله : وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وقال: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] فهؤلاء حزب الشيطان وأتباعه، وهم نصيبه الذين يقودهم إلى النار، والله المستعان.
- تفسير الطبري (17/477).
- رواه أحمد في المسند برقم (2333)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والحاكم في المستدرك برقم (3379)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
- رواه النسائي في الكبرى برقم (11290).
- رواه أحمد في المسند برقم (2166)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم، والبيهقي في الكبرى برقم (18188)، والحاكم في المستدرك برقم (7601)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، والطبراني في الكبير برقم (12736)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (3388).
- رواه البخاري، كتاب الكسوف، باب الصدقة في الكسوف، برقم (997)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف، برقم (901)، ورُوي بألفاظ متعددة في الصحيحين غير هذا اللفظ.
- رواه البخاري، كتاب الكسوف، باب الذكر في الكسوف، برقم (1009)، وبرقم (1010)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة، برقم (912).
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، للإمام ابن القيم الجوزيه (2/170).