بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنّ جَهَنّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مّوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُورًا إِنّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَىَ بِرَبّكَ وَكِيلًا [سورة الإسراء:63-65].
لما سأل إبليس النظرة قال الله له: اذْهَبْ فقد أنظرتك، كما قال في الآية الأخرى: قال فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، ثم أوعده -ومن اتبعه من ذرية آدم- جهنم فقال: فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنّ جَهَنّمَ جَزَآؤُكُمْ أي: على أعمالكم، جَزَاءً مّوْفُورًا قال مجاهد: وافرًا، وقال قتادة: موفورًا عليكم لا ينقص لكم منه، وقوله تعالى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، قيل: هو الغناء، قال مجاهد: باللهو والغناء، أي استخفهم بذلك، وقال ابن عباس في قوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال: كل داع دعا إلى معصية الله ، وقاله قتادة واختاره ابن جرير.
وقوله تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ، يقول: واحمل عليهم بجنودك خيَّالتهم ورَجلتهم، فإن الرَّجِل جمع راجل، كما أن الركْب جمع راكب، وصحب جمع صاحب، ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه، وهذا أمر قدري، كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا، وتسوقهم إليها سوقًا.
وقال ابن عباس -ا- ومجاهد في قوله: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال: كل راكب وماشٍ في معصية الله، وقال قتادة: إن له خيلًا ورجالًا من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه، تقول العرب: أجلبَ فلان على فلان إذا صاح عليه، ومنه نهى في المسابقة عن الجلَب والجنَب، ومنه اشتقاق الجلبة: وهي ارتفاع الأصوات، وقوله تعالى: وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ قال ابن عباس -ا- ومجاهد: هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله تعالى.
وقوله: وَالأوْلادِ قال العوفي عن ابن عباس -ا- ومجاهد والضحاك: يعني أولاد الزنا، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير علم، وقال قتادة عن الحسن البصري: قد والله شاركهم في الأموال والأولاد، مَجَّسوا وهودوا ونصروا وصبغوا على غير صبغة الإسلام، وجزّءوا أموالهم جزءًا للشيطان، وكذا قال قتادة سواء.
ولم يخصص بقوله: وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ معنى الشركة فيه بمعنىً دون معنى فكل ما عصي الله فيه أو به، أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة، فقد ثبت في صحيح مسلم عن عياض بن حمار أن رسول الله ﷺ قال: يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين، فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم[1].
وفي الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا[2]، وقوله تعالى: وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُورًا كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول إذا حصحص الحق يوم يقضي بالحق: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ الآية.
وقوله تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين، وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم؛ ولهذا قال تعالى: وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي: حافظًا ومؤيدًا ونصيرًا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قوله -تبارك وتعالى: قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنّ جَهَنّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مّوْفُورًا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم، إلى آخره، هذه الأوامر حملها بعض أهل العلم على أن ذلك للتهديد، كما تقول لمن تهدده وتتوعده: اذهب فافعل ما بدا لك، اذهب فافعل ما استطعت، يعني أنك ستجازيه وتحاسبه على فعله هذا، وله يوم لن يجاوزه، يقول: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا قال مجاهد: وافرًا، وقال قتادة: موفورًا عليكم لا ينقص لكم منه، وهذان بمعنىً واحد.
ثم قال: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قيل: هو الغناء، قال مجاهد: باللهو والغناء، وقال ابن عباس: كل داعٍ دعا إلى معصية الله، وقاله قتادة واختاره ابن جرير، ابن جرير -رحمه الله- اختار حمل الآية على الأعم من معانيها، فيرى أن كل صوت يُدعى فيه إلى ضلالة فهو داخل في هذه الآية، والغناء داخل في ذلك؛ لأن الغناء لا يدعو إلى طاعة الله وتقواه، وإنما هو لهو باطل يستفز الإنسان إلى المعصية، ويمرض قلبه ويفسده، وهكذا أيضًا المعازف، فهذه الأصوات المطربة كلها من صوت الشيطان، وكذلك صوت النائحة داخل فيه، وكل داعٍ دعا إلى معصية الله من قنوات، وإذاعات، وتسجيلات، وغير ذلك مما يدعو إلى معصية الله ومحادّته فإن هذا كله داخل في قوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ، فله جند وأتباع كُثر في كل زمان، والله يقول: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116].
وقال: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ يعني: بجنودك من الراكبين ومن الماشين، وليس المقصود بقوله: وَرَجِلِكَ الرجال، وإنما المقصود الرجْل: يعني الراجل، الذي يمشي على رجليه، وليس براكب، والمعنى: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بكل مستطاع، تقول: أجلب فلان بخيله ورجله، أي كل ما يستطيع أن يورده وأن يفعله، لم يدخر وسعًا.
ويقول: وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ يقول: ”عن ابن عباس ومجاهد: وهو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله تعالى“، المشاركة في الأموال يدخل فيها كل إنفاق في سبيل الشيطان، الإنفاق في معصية الله -تبارك وتعالى، كل ما ينفقه الكفار ليصدوا عن سبيل الله، وكل ما يفعله الكفار مما يملي عليهم الشيطان كما قال الله عنهم: وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا [سورة الأنعام:138]، إلى آخره، فما ذبح لغير الله فهو مشاركة من الشيطان لهم في الأموال، والوصيلة والسائبة والحام، إلى آخره، هذا كله من مشاركته لهم في الأموال، فكل مال ينفق في غير وجه حق فهذا داخل تحت هذا العموم، فلا يخص ذلك بنوع دون نوع.
وأما المشاركة في الأولاد فنقل الحافظ ابن كثير -رحمه الله- عن جماعة من السلف قولهم: يعني أولاد الزنا، وعن ابن عباس: هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهًا بغير علم، وقال قتادة والحسن: مجّسوا وهودوا، إلى آخره، وهذه أيضًا محمولة على العموم، فيدخل في المشاركة في الأولاد حينما يأتي الإنسان أهله ولا يقول: اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فالنبي ﷺ أخبر أن من قال ذلك فإن هذا الولد لا يسلط عليه الشيطان.
وكذلك إذا كان الإنسان يئد الولد، فإن هذا من المشاركة في الأولاد، وهكذا إذا عَبَّد الولد لغير الله فقال: عبد الحارث مثلًا، أو قال: عبد العزى، أو عبد الرسول، أو عبد النبي، أو عبد الحسين، فهذا من المشاركة في الأولاد، وإذا جعل هؤلاء الأولاد وقفًا، أو سدنة للقبور، كما يفعل عباد القبور، فهذا كله داخل فيه، داخل في المشاركة في الأولاد، -والله تعالى أعلم.
وقوله: وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا، المقصود بوعد الشيطان كل ما يعد به الكفار، كتمنيته لهم بالتوبة، وهكذا حينما يعد العصاة، ويرجّيهم أنه يفعل ثم يتوب، أو أن الله غفور رحيم، وأن الله سيغفر لهم، وهكذا ما كان يمني به الكفار، أنهم حينما ينتقلون إلى الدار الآخرة سيلقون ما هو أعظم مما كان في الدنيا من العطاء، فيقولون: إن الله أعطاهم الأموال والأولاد، فإذا بعثوا ورجعوا إلى ربهم فإنهم سيجدون عنده مالًا وولدًا، وكذلك ما كان يمنيهم به من أن هذه الأصنام ستشفع لهم عند الله -تبارك وتعالى- وأن لها منزلة، كل هذا داخل في هذا المعنى، -والله تعالى أعلم.
قال ابن القيم -رحمه الله تعالى: في قوله تعالى لإبليس: قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا، أعاد الضمير بلفظ الخطاب وإن كان من تبعك يقتضي الغيبة؛ لأنه اجتمع مخاطب وغائب فغلّب المخاطب وجعل الغائب تبعًا له، كما كان تبعًا له في المعصية والعقوبة فحسن أن يُجعل تبعًا له في اللفظ، وهذا من حسن ارتباط اللفظ بالمعنى واتصاله به، وانتصب جزاء موفورًا عند ابن مالك على المصدر”[3].
هذه لطيفة لفظية، الله يقول على سبيل الخطاب لإبليس: اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ بكاف الخطاب، مِنْهُمْ بضمير الغائب بالنسبة للناس، ثم وجه الخطاب إليهم، هذا يسمى التفات من الغائب مِنْهُمْ، ثم وجه بالخطاب فقال: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ ما قال: فإن جهنم جزاؤهم، قال: جَزَآؤُكُمْ تحول من الغيبة فقال: فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا، ما قال: جزاؤهم، وإنما تحول من الغيبة إلى الخطاب، فقال: جَزَآؤُكُمْ تغليبًا للمخاطب، اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فهم أتباعه، فجاء اللفظ مراعىً فيه ذلك، كما أنهم في المعنى تبع لإبليس، فأتبع اللفظ اللفظ، إتباع في اللفظ بناءً على إتباع المعنى، فراعى ذلك في اللفظ فقال: اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ ما قال: فإن جهنم جزاؤهم، بالغائب؛ إتباعًا لضميرهم هم، فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ، وإنما قال: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جاء بالخطاب إتباعًا لأول الكلام الذي بُدئ بالخطاب، فأتبع اللفظ اللفظ؛ لأن المعنى كذلك.
وقال -رحمه الله تعالى: وأما تسميته صوت الشيطان، فقد قال تعالى للشيطان وحزبه: قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا الآيات، قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي أخبرنا أبو صالح كاتب الليث حدثنا معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال: كل داعٍ إلى معصية.
ومن المعلوم أن الغناء من أعظم الدواعي إلى المعصية؛ ولهذا فسر صوت الشيطان به.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي أخبرنا يحيى بن المغيرة أخبرنا جرير عن ليث عن مجاهد وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ قال: استزل منهم من استطعت، قال: وصوته الغناء والباطل، وبهذا الإسناد إلى جرير عن منصور عن مجاهد قال: صوته هو المزامير.
ثم روى بإسناده عن الحسن البصري قال: صوته هو الدف، وهذه الإضافة إضافة تخصيص، كما أن إضافة الخيل والرجل إليه كذلك فكل متكلم بغير طاعة الله ومصوت بِيَراعٍ أو مزمار أو دف حرام، أو طبل فذلك صوت الشيطان، وكل ساعٍ في معصية الله على قدميه فهو من رجِله، وكل راكب في معصية الله فهو خيّالته، كذلك قال السلف كما ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قال: رجِله كل رِجْل مشت في معصية الله، وقال مجاهد: كل رجُل يقاتل في غير طاعة الله فهو من رجِله.
وقال قتادة: إن له خيلًا ورجِلًا من الجن والإنس[4].
وقال -رحمه الله تعالى: “الصوت الشيطاني يستفز بني آدم، وصوت الشيطان كل صوت في غير طاعة الله نسب إلى الشيطان لأمره به، ورضاه به، وإلا فليس هو الصوت نفسه، فصوت الغناء وصوت النوح وصوت المعازف من الشبابات والأوتار وغيرها كلها من أصوات الشيطان التي يستفز بها بني آدم فيستخفهم ويزعجهم، ولهذا قال السلف في هذه الآية: إنه الغناء، ولا ريب أنه من أعظم أصوات الشيطان التي يستفز بها النفوس ويزعجها ويقلقها، وهو ضد القرآن الذي تطمئن به القلوب وتسكن وتخبت إلى ربها، فصوت القرآن يسكن النفوس ويطمئنها ويوقرها، وصوت الغناء يستفزها ويزعجها ويهيجها، كما قيل:
حامل الهوى تعِبُ يستفزه الطربُ | كلما انقضى سبب عاد منك سببُ |
تضحكين لاهيةً والمحب ينتحب | تعجبين من سقمي صحتي هي العجبُ |
وكذلك صوته الذي يستفز به النفوس عند المصيبة وهو النوح، فيستفزها بهذا الصوت إلى الحزن والأسف والسخط بما قضى الله، ويستفزها بذلك الصوت إلى الشهوة والإرادة والرغبة فيما يبغضه الله، فينهاها بصوت النوح عما أمر الله به، ويأمرها بصوت الغناء بما نهاها الله عنه، وهذا الصوت هو أحد الأسباب الخمسة التي أقسم الشيطان أن يحتنك بها ذرية آدم ويستأصلهم إلا قليلًا، وهي استفزازهم بصوته، والإجلاب عليهم بخيله ورجِله، ومشاركتهم في أموالهم وأولادهم، فكل راكب في معصية الله فهو من خيّالة الشيطان، وكل ماشٍ في معصية الله فمن رجّالته، وكل مال أخذ من غير حله، وأخرج في غير حقه فهو شريك صاحبه فيه، وكل ولد من نطفة زنا فهو شريك أبيه فيه”[5].
فلو لم يكن دليل على أن صوت الغناء والمعازف هو صوت الشيطان لما يستفز به السامع ويقلقه به ويزعجه ويزيل طمأنينته لكفى به دليلًا.
وقال -رحمه الله تعالى: “قال تعالى: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قال مقاتل: استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم فكل راكبٍ وماشٍ في معصية الله فهو من جند إبليس[6].
هذا يحمل على جميع المعاني التي قالها السلف، والكلام في المعازف وآلات اللهو وأنها من صوت الشيطان لا شك فيه، هو يستفز النفوس لا شك بالمعصية، ويمرض القلوب ويفسدها، والعجب أن الصغير الذي لم يبلغ السنتين إذا سمع القصائد الملحنة يصدر منه من التصرفات والرقص والأشياء العجيبة التي قطعًا ما شاهد أحدًا يفعل هذا، ولكنه يبدأ يتصرف بتصرفات كأنه يشاهد ذلك، وكأنه يعيش بين هؤلاء الذين يرقصون، وهذا يدل على أن النفوس قد ركب فيها دواعي هذه الأمور التي يستفز الشيطان بها من شاء الله من خلقه، وللأسف في هذه السنوات بدأ بعض الناس يضطربون ويخرجون كل عجيب وعجيبة، وشذوذات، ومن كان في قلبه شيء أظهره، سواء كان بدعة، أو هوىً، أو ضلالةً، أو معصية، وكل صاحب شواذ تجرأ وأصدر ما عنده من شذوذات، وصار سلعة رائجة في هذه الأيام، حينما يخرج كتاب كبير في إباحة الغناء، فإن نسخ الكتاب تنفذ خلال ساعات قليلة، وكثير من هؤلاء الذين يقتنون هذا الكتاب ويتهافتون عليه يشترونه من باب الفضول؛ لأنه جاء بشيء غريب وشيء شاذ، فأحد هؤلاء الذين ظهر عنهم بعض الشذوذ أنكر هذا غاية الإنكار، وكتب رسالة يتبرأ فيها من هذا، ثم بعد ذلك أصدر كتابًا كبيرًا يقرر فيه ما ظهر من شذوذه الأول، وذكر في مقدمته أنه لم يجرؤ على إخراج هذه الأشياء حينما كان بعض العلماء أحياء، فلما ماتوا:
خلا لكِ الجوُّ فبِيضي واصْفِري | ونقِّري ما شئت أن تنقري |
ولا تجد عند الواحد من هؤلاء مجرد قضية كالغناء، بل تجد لها أخوات، قضايا تتعلق بالحجاب، وقضايا تتعلق بالاختلاط، وقضايا أخرى، وهكذا، والله المستعان.
مسألة: ”الزواج من الجن“.
الفقهاء تكلموا على هذه المسألة وبعضهم منع من هذا، وبعضهم أجازه، لكن لا يوجد شيء يثبت هذا، ويمكن لكل امرأة تحمل وليس لها زوج وتضع الولد بعد الولد، أن تقول: إنها متزوجة من جني، فيفتح هذا باب الشر والزنا، وأولاد الزنا، وبعضهم قال: أصلًا هذا لا يمكن أن يتم؛ لأن طبيعة هؤلاء غير طبيعة الإنس، ولا يمكن أن يحصل بينهم ولد، فلا يوجد في هذه الدنيا من أولها إلى آخرها حالة تثبت مثل هذا الشيء، والمعروف أنهم أجسام، يبدو -والله أعلم- أنها لطيفة، ومن الناس من يقول: إنهم لا يستطيعون أصلًا فض البكارة، -فالله أعلم، وبعض من به شيء من المس أو التلبس أو السحر أو غيره، يقول: إنه يشعر أن امرأة تجامعه، ونحو هذا، لا تستطيع أن تثبت هذا، والمرأة التي تشعر أن رجلًا يضاجعها أو شيئًا من هذا القبيل، ليس عندنا شيء إطلاقًا يثبت هذه القضايا، وما يقال: من أن آل فلان لهم أم من الجن، أو أب من الجن، أو غير هذا، فهذا كله كذب.
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار، برقم (2865).
- رواه البخاري، كتاب الوضوء، باب التسمية على كل حال وعند الوقاع، برقم (141)، ومسلم، كتاب النكاح، باب ما يستحب أن يقوله عند الجماع، برقم (1434)، من حديث ابن عباس -ا.
- بدائع الفوائد، لابن القيم الجوزيه (4/991).
- إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، لابن القيم الجوزيه (1/255-256).
- انظر: بدائع التفسير، لابن القيم الجوزيه (2/143-144).
- التفسير القيم، لابن القيم (1/103)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/122).