السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[20] قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} الآية 79
تاريخ النشر: ١١ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 2448
مرات الإستماع: 2216

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تتمة تفسيره لقول الله -جل وعلا: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ [سورة الإسراء:79] الآية.

قال: وقال الحسن البصري: هو ما كان بعد العشاء، ويحمل على ما كان بعد النوم.

وقوله تعالى: نَافِلَةً لّكَ إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص؛ لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره من أمته إنما يكفر عنه صلواتُه النوافلُ الذنوبَ التي عليه، قاله مجاهد، وهو في المسند عن أبي أمامة الباهلي -.

وقوله: عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا أي: افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقامًا محمودًا، يحمدك فيه الخلائق كلهم وخالقهم -تبارك وتعالى، قال ابن جرير: قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه محمد ﷺ يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم، عن حذيفة قال: يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، حفاة عراة كما خلقوا، قيامًا لا تَكلَّم نفس إلا بإذنه، ينادي: يا محمد، فيقول: لبيك وسعديك، والخير في يديك والشر ليس إليك، والمهدي من هديت، وعبدك بين يديك، ومنك وإليك لا منجى ولا ملجأ منك إلا إليك، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت[1] فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله .

وقال ابن عباس -ا: هذا المقام المحمود مقام الشفاعة، وكذا قال ابن أبي نجيح عن مجاهد، وقاله الحسن البصري.

وقال قتادة: هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، وأول شافع، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود الذي قال الله تعالى: عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَامًا مّحْمُودًا، قلت: لرسول الله ﷺ تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد، وتشريفات لا يساويه فيها أحد، فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكبًا إلى المحشر، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر واردًا منه، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق، وذلك بعدما يسأل الناس آدم ثم نوحًا ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، فكل يقول: لست لها، حتى يأتوا إلى محمد ﷺ فيقول: أنا لها، أنا لها[2] كما سنذكر ذلك مفصلًا في هذا الموضع إن شاء الله تعالى.

ومن ذلك أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها، وهو أول الأنبياء يقضى بين أمته، وأولهم إجازة على الصراط بأمته، وهو أول شفيع في الجنة كما ثبت في صحيح مسلم.

وفي حديث الصور أن المؤمنين كلهم لا يدخلون الجنة إلا بشفاعته، وهو أول داخل إليها، وأمته قبل الأمم كلهم، ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم، وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة لا تليق إلا له، وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة، شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك، وقد بسطت ذلك مستقصى في آخر كتاب السيرة في باب الخصائص، ولله الحمد والمنة، ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا النافلة الزيادة، فمن نظر إلى أن الزيادة هنا بمعنى الزيادة على الأصل فسر ذلك بأنها زائدة على الفرائض، فالله ذكر قبل ذلك الصلوات الخمس أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [سورة الإسراء:78] إلى آخره، ثم قال: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ زيادة على الفرائض، فيكون ذلك زيادة في حق النبي ﷺ باعتبار أنه مفروض عليه.

والقول بأن قيام الليل كان فرضًا عليه -عليه الصلاة والسلام- قول قوي معتبر -والله تعالى أعلم، لقوله: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة المزمل:2] فهذا أمر، والأصل أن الأمر للوجوب، وهذا الذي ذهب إليه كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله، فقال: إن قيام الليل واجب على النبي -عليه الصلاة والسلام، زائد على الفرائض، أي أنه مفروض عليه مع -أو زيادة- على الفرائض الخمس.

وقال الحافظ -رحمه الله: ”إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وغيره من أمته إنما يكفِّر عنه صلواته النوافل الذنوب التي عليه، قاله مجاهد“، وهذا القول عن مجاهد عزاه الواحدي إلى المفسرين، يعني أنه قول المفسرين، باعتبار أن الناس يعملون في محو سيئاتهم، وأما النبي ﷺ فقد غفر له الذنوب والسيئات، فعمله في رفعة الدرجات والشكران لله ، فليس هناك سيئات تكفر، فالله قد غفر له.

وهذا القول الذي عزاه الواحدي إلى المفسرين رده ابن جرير -رحمه الله، واحتج لذلك بأمور، من ذلك أن الله قال لنبيه ﷺ في آخر حياته مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [سورة النصر:3]، فأمره بالاستغفار مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، فكان النبي ﷺ يكثر في ركوعه وسجوده من قول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي[3]، وأن النبي ﷺ كانوا يحصون له في المجلس الواحد من الاستغفار ما يزيد عن المائة مرة[4]، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه، فابن جرير -رحمه الله- لا يوجه المعنى إلى هذا، نَافِلَةً لّكَ بمعنى أنه مجرد فضيلة ورفعة في الدرجات وزيادة في الأجر والحسنات وأن غيره من الأمة ليس ذلك بنافلة في حقه بل هو كما قال الله : وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [سورة هود:114]، فهم يعملون في سبيل تكفير الذنوب وحط الخطايا والسيئات.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أن النافلة أعم من أن تكون زيادة على الفريضة، أو أن تكون بمعنى قول الفقهاء: إنه ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وأن المعنى أوسع من هذا وأعم من ذلك، فهو لا يوافق على تحديد ذلك بمعنىً عرفي جرى عليه الاستعمال في العصور المتأخرة، فعند ابن القيم -رحمه الله- نَافِلَةً لّكَ أي: زيادة لك في رفع الدرجات، بغض النظر عن حكمه، قد يكون هذا الذي يرفع به الدرجات من قبيل الفرض، وقد يكون من قبيل النفل، وظاهر كلامه -رحمه الله- أن قيام الليل في حق النبي ﷺ واجب، وعبر هنا بالنافلة؛ لأنه رفع في درجاته -عليه الصلاة والسلام.

وهذا في الواقع عند التأمل يشبه قول مجاهد، لكن قول مجاهد لم يتعرض فيه صراحة إلى أنه فرض أو ليس بفرض، وإنما ذكر أن الناس بالنسبة إليهم تكفر الذنوب والسيئات فهم يعملون الصالحات من أجل تكفيرها، والنبي ﷺ يعمل ليزداد ثوابًا وليس هناك ذنوب تكفر، فهذا خلاصة كلام ابن القيم -رحمه الله.

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ۝ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة المزمل:2] أمر يفيد الوجوب، وقوله -تبارك وتعالى: عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَامًا مّحْمُودًا، نُقل عن ابن عباس -ا- وغيره من السلف: أن ”عسى“ من الله واجبة، وبعضهم يقول: ”عسى“ من الله موجبة، وهكذا أيضًا يقولون: ”لعل“ من الله واجبة، يعني أن ”عسى“ في أصل معناها تفيد الترجي، والله -تبارك وتعالى- لا يترجى، وإنما يكون الترجي ممن لا يعلم العواقب، أما الله فيعلم كل شيء بيده مقاليد الأمور، يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فإذا قال: عَسَىَ أَن يَبْعَثَكَ رَبّكَ مَقَامًا مّحْمُودًا فهذا أمر سيقع، وأن الله سيبعثه، هو وعد خرج بهذه الصيغة على طريقة كلام العرب واستعمالاتهم، فإن العظيم منهم من الملوك والعظماء إذا أخرج الوعد فإنما يخرجه غالبًا بهذه الطريقة، يقول: عسى أن نحقق لك ما طلبت، عسى أن يحصل لك مقصودك ونحو ذلك، ويفهم منه أنه وعَدَ بذلك وعدًا جازمًا، لكنه أخرجه بهذه الطريقة.

وقوله تبارك وتعالى: عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً [سورة الممتحنة:7]، لابد أن يكون، وقد حصل، وأبو سفيان هو أول من قاتل أهل الردة، فإنه قدم من اليمن، وتوفي النبي ﷺ وهو في الطريق، فلقي ذا الخمار وقد ارتد عن الإسلام، فقاتله قبل قتال الصديق، مع أن أبا سفيان هو الذي كان يقود جيوش الشرك، فتحولت تلك العداوة إلى محبة، وكان يحرض الناس في يوم اليرموك على الجهاد والصبر، ويثبتهم بعد ما كان من الشرك والعداوة التي كان يكنها لهذا الدين، عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً، وأسلم عكرمة، وأسلم خالد بن الوليد الذي كان سببًا في هزيمة المسلمين في يوم أحد.

فالشاهد أن ”عسى“ و”لعل“ موجبة، لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [سورة الطلاق:1] وهو الرجعة لمن التزم بما أمر الله به في شأن الطلاق، إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وقال: وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء:19]، فإذا طبقت هذه المعاني فلا ينتظر بعد ذلك إلا الرجعة، والمقام المحمود يحتمل أن يكون هذا اللفظ المفرد يقصد به معنىً مفرد، بمعنى الشفاعة العظمى، وهذا الذي ذهب إليه عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، وهو قول الجمهور، وتدل عليه الأحاديث التي أورد بعضها المصنف في الشفاعة العظمى.

وهنا قال: عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا جاءت منصوبة، يحتمل أن يكون بتضمين بعث معنى أقام، أي عسى أن يقيمك ربك مقامًا محمودًا، ويمكن أن يكون نصب ”مقامًا“ على الظرفية، ويمكن أن يكون على الحال أي ذا مقام محمود، ويحتمل أن يكون المقام هنا لفظه مفرد ومعناه العموم، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى[سورة البقرة:125]، فمقام إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في القولان، قيل: المقام الذي يصلى خلفه، وَاتَّخِذُواْ وتكون الآية في هذا المعنى، ويدل عليه سبب النزول، فإن هذا من موافقات عمر بن الخطاب فإنه قال للنبي ﷺ: لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى، ويقصد به الحجر الذي قد انطبعت عليه أثر القدم، فنزلت وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى.

وفي القراءة الأخرى: وَاتَّخَذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى، فيه معنيان الأول: تصلون خلفه، أي خلف المقام، والمعنى الثاني وهو لا ينافي المعنى الأول لكنه أعم منه أي: من مقامات إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- في الحج، مُصَلًّى أي: متعبدًا، وهذا معنىً له وجه، ولا ينافي المعنى الأول، وهو أعم منه، فمن ذلك الصلاة خلف المقام المعروف، والوقوف في عرفة، والمبيت في مزدلفة، والبقاء في منى، ورمي الجمار، وكل ذلك فهو من مقاماته ﷺ في الحج، فيتخذ ذلك متعبَّدًا، فهذا المعنى أعم وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ.

والكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يشعر بأنه يريد بذلك ما هو أعم من الشفاعة، فالشفاعة داخلة فيه ولكن كل مقام محمود للنبي ﷺ في الآخرة فهو داخل في هذا، كونه أول من يدخل الجنة، وأول من يستفتح باب الجنة، وحامل لواء الحمد -عليه الصلاة والسلام، إلى غير ذلك من الخصائص التي تكون له في الآخرة، والذين يصنفون في الخصائص يذكرون خصائص النبي ﷺ في الآخرة، وخصائص النبي ﷺ في الدنيا، ويذكرون خصائص أمته في الدنيا، وخصائص أمته في الآخرة.

الشاهد أن الآية تحتمل هذا المعنى، عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا أي: في مقامات شريفة عظيمة، يحمده عليها الخلائق، فيدخل في ذلك دخولًا أوليًا الشفاعة العظمى، مع العلم بأنك لو تأملت الروايات الواردة في الشفاعة وهي كثيرة جدًا، لا تجد في الروايات الصحيحة ما يصرح بالفصل بين الخلائق عمومًا، حسب ما وقفت عليه، ومن محاولة تتبع الروايات، وإنما الأحاديث في أنه -عليه الصلاة والسلام- يقول: أمتي أمتي فيدعو، مع أن أهل العلم يكادون يطبقون على أن الشفاعة العظمى هي الفصل بين الخلائق حينما يبلغ العرق من الناس ويشتد الموقف والكرب، فيفصل بين الخلائق، والروايات قد لا تجد فيها ما يصرح بهذا، وحينما يسجد -عليه الصلاة والسلام- يقال له: ارفع رأسك وسل تُعطَ واشفع[5]، فيسأل لأمته -عليه الصلاة والسلام، لكن يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن ذلك يقتضي ويستلزم الفصل بين الخلائق، فإن أمتهم لا يحصل لهم ذلك إلا بعد أن يفصل الله بين الناس، ويقضي بينهم، فيذهب من يذهب إلى الجنة، ويذهب من يذهب إلى النار، فتكون أمته أول من يدخل الجنة، فيكون ذلك مضمنًا في هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان.

روى البخاري عن ابن عمر -ا- يقول: ”إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثًا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد ﷺ فذلك يوم يبعثه الله مقامًا محمودًا“[6].

المقصود بقوله: ”جُثًا“ هنا ليس بمعنى جاثين -يعني يجثون على الركب، وإنما ”جثًا“ هنا جمع جثوة، وهي الجمع أو الجماعة، يبعثون جماعات كل أمة تتبع نبيها.

روى ابن جرير عن عبد الله بن عمر -ا- يقول: قال رسول الله ﷺ: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى فيقول كذلك، ثم بمحمد ﷺ، فيشفع بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا[7]، وهكذا رواه البخاري في الزكاة وزاد: فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا يحمده أهل الجمع كلهم[8].

وروى أبو داود الطيالسي عن عبد الله قال: ثم يأذن الله في الشفاعة فيقوم روح القدس جبريل، ثم يقوم إبراهيم خليل الله، ثم يقوم عيسى أو موسى -قال أبوالزعراء: لا أدري أيهما- قال: ثم يقوم نبيكم ﷺ رابعًا، فيشفع لا يشفع أحد بعده أكثر مما شفع، وهو المقام المحمود الذي قال الله : عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا.

روى الإمام أحمد -رحمه الله- عن أبي هريرة قال: أتي رسول الله ﷺ بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه، فنهش منه نهشة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد يُسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟

فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.

فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وقد سماك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله قط، وإنه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، فذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى

فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله اصطفاك الله برسالته وبكلامه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، وإني قد قتلت نفسًا لم أؤمر بقتلها نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلّمت الناس في المهد صبيًا، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر ذنبًا، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ﷺ

فيأتون محمدًا ﷺ فيقولون: يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربي ثم يفتح الله عليّ ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد ارفع رأسك وسل تعطهْ واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب، أمتي يا رب، أمتي يا رب، فيقال: يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب، ثم قال: والذي نفس محمد بيده، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبُصرى[9]. أخرجاه في الصحيحين.

صح عن النبي ﷺ أنه يقول: يأتي عليه يوم وهو كَظيظٌ من الزحام[10]، ثمانية أبواب بهذا المقدار، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.

وحينما يقال للنبي ﷺ: اشفع تشفع يقول: أمتي يا رب أمتي يا رب، هذا لا يكون إلا بعد فصل القضاء بين الناس، فيزول عنهم الكرب الذي حصل؛ لأنهم حينما كانوا ينتظرون ويشتد عليهم الأمر فيشفع النبي ﷺ، فيقضي الله بين الناس، ثم يكون أول من يدخل الجنة هم أمة محمد ﷺ، بهذا المعنى، لكن قد لا تجد ما يصرح بذلك في الروايات، والله أعلم.

سؤال:

أهل التأويل هل هم أهل التفسير؟ وما الفرق بين لفظة التفسير والتأويل؟

الكلام في هذا كثير جدًا، وخلاصة الصحيح منه بعيدًا عن التكلف وبعيدًا عن كلام أهل البدع: أن التأويل تارة يأتي بمعنى التفسير، تأويل الآية كذا أي تفسيرها، وعلِّمه التأويل[11] يعني التفسير، فتأويل الكلام أي تفسيره، وتارة تأتي لفظة التأويل لمعنىً آخر غير التفسير، فلا تكن متفقة معه، فإذا قلت مثلًا: تأويل الرؤيا بمعنى تفسير الرؤيا، فهذا موافق للتفسير، ويأتي بمعنى فعل الامتثال، فعل ما أمر الله به مثلًا، فتحقيق الأمر يقال له: تأويل، والله حينما قال للنبي ﷺ: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ كان النبي ﷺ كما في حديث عائشة -ا- يكثر في ركوعه وسجوده يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي[12] يتأول القرآن، يعني يمتثل، يحقق، ينفذ، ويأتي أيضًا لمعنىً ثالث، وهو فيما يتصل بالأخبار، وذلك بوقوع المخبر به، أي بتحققه، هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ [سورة الأعراف:53]، يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يعني: وقوع وتحقق ما أخبر به من الأهوال والأوجال التي تكون في الآخرة والبعث والنشور والحساب والجنة والنار، فهذا تأويله، وتأويل الخبر وقوع المخبر، وتأويل الرؤيا بالمعنى الآخر وقوعها وتحققها قال: هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ [سورة يوسف:100]، يعني هذا مصداق تحققها ووقوعها، بينما في الآية الأخرى حينما قال: نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ [سورة يوسف:36] تأويل الرؤيا، رؤيا الملِك، يعني نبئنا بتفسيره، فتأويل الرؤيا يأتي بمعنى تفسير الرؤيا ويأتي بمعنى تحقق الرؤيا، ووقوعها، فهذه ثلاثة معانٍ على سبيل التفصيل للتأويل: الأول منها: هو الذي يوافق التفسير، والمعنيان بعده مغايران له.

وهناك معنىً آخر شاع عند المتأخرين ولم يكن معروفًا عند السلف وهو صرف الكلام من المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح، فهذا كما سبق -في الأصول وكما سبق في عدد من المناسبات- ثلاثة أنواع، فما كان لدليل فإنه يكون تأويلًا صحيحًا، وقد يكون لدليل لا يصح فيكون تأويلًا بعيدًا، أو لشبهة أو نحو ذلك، ويمثل الأصوليون على ذلك بتأويل الأحناف: أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل[13] قالوا: المقصود الصغيرة، أما الكبيرة فلها أن تعقد على نفسها، لأنها تعرف مصلحتها، فقيل لهم: النبي ﷺ يقول: امرأة والصغيرة ليست امرأة، فلجئوا إلى القول بأن المقصود المكاتبة، فيقال: المرأة أعم من ذلك، ولا يحمل على معنىً قليل أو نادر، فهذا يسمى تأويل بعيد، والقسم الثالث الذي يسميه الأصوليون باللعب، ”وما خلا فلعبًا يفيد“

وذلك مثل تأويلات الرافضة لقوله تعالى: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [سورة البقرة:67] قالوا: عائشة -ا، يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [سورة النساء:51] يقولون: أبوبكر وعمر، وقول بعض الصوفية إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا: هي النفس تذبح بسكين الطاعة، فهذا لعب، وتحريف للكلم عن مواضعه، ومثل تأويلات الباطنية الفاسدة، يؤولون الصفا والمروة بالإمام، أو بعليّ، أو النبي وعليّ، أو الإمام والولي، وما شابه ذلك من الخزعبلات، وتأويل الفاطمية لقوله تعالى: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [سورة النصر:1] يقولون زورًا وبهتانًا: هم العبيديون، فيقول كبيرهم لاثنين من كُتَّامِه وقد سمى أحدهما بنصْر الله والثاني بالفتح، يقول: أنتما من عنى الله بقوله: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ، وهكذا قوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [سورة الجمعة:11] يقول: كوك: هذا اسمه كوك، وهكذا، والله أعلم.

  1. رواه البزار في مسنده برقم (2926)، والطيالسي برقم (414)، وعبد الرزاق الصنعاني في مصنفه برقم (2566)، وصححه الألباني في ظلال الجنة برقم (789).
  2. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، برقم (7072)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (193).
  3. رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب الدعاء في الركوع، برقم (761)، وفي كتاب التفسير، باب تفسير سورة: إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ، برقم (4684)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484).
  4. رواه أبو داود من حديث ابن عمر -ا، كتاب سجود القرآن، باب في الاستغفار، رقم (1516)، والترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، باب ما يقول إذا قام من المجلس، برقم (3434)، وابن حبان في صحيحه برقم (927)، وقال الألباني في صحيح أبي داود: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه ابن حبان والترمذي"، برقم (1357).
  5. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا، برقم (4435)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (193).
  6. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا، برقم (4441).
  7. رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (17/529)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2460).
  8. رواه البخاري، من حديث عبد الله بن عمر -ا، كتاب الزكاة، باب من سأل الناس تكثرا، برقم (1405).
  9. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا، برقم (4435)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدني أهل الجنة منزلة فيها، برقم (194).
  10. رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم (2967).
  11. رواه أحمد في المسند (4/225)، برقم (2397)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عبد الله بن عثمان بن خثيم، فمن رجال مسلم، وهو صدوق، وابن حبان في صحيحه برقم (7055)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2589).
  12. رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب الدعاء في الركوع، برقم (761)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (484).
  13. رواه الترمذي، كتاب النكاح، باب ما جاء لا نكاح إلا بولي، برقم (1102)، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب لا نكاح إلا بولي، برقم (1880)، وأحمد في المسند (40/435)، برقم(24372)، وقال محققوه: حديث صحيح، والحاكم في المستدرك برقم (2706)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2709).

مواد ذات صلة