السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[25] من قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُو} الآية 98 إلى قوله تعالى: {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} الآية 104
تاريخ النشر: ١٨ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 2362
مرات الإستماع: 2083

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ۝ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىَ الظّالِمُونَ إَلاّ كُفُوراً [سورة الإسراء:98، 99].

يقول تعالى: هذا الذي جازيناهم به، من البعث على العمي والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه؛ لأنهم كذبوا بِآياتِنَا أي: بأدلتنا وحجتنا، واستبعدوا وقوع البعث، وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أي: بالية نخرة، أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي: بعد ما صرنا إليه من البلى والهلاك والتفرق والذهاب في الأرض نعاد مرة ثانية؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السموات والأرض، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك، كما قال: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [سورة غافر:57].

وقال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [سورة الأحقاف:33] الآية، وقال: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ۝ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس:81، 82] إلى آخر السورة.

وقال ههنا: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي: يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى كما بدأهم، وقوله: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ أي: جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لابد من انقضائها، كما قال تعالى: وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ [سورة هود:104]، وقوله: فَأَبَىَ الظّالِمُونَ أي: بعد قيام الحجة عليهم، إَلاّ كُفُوراً إلا تمادياً في باطلهم وضلالهم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَىَ الظّالِمُونَ إَلاّ كُفُوراً، يستدل على قدرته -تبارك وتعالى- على البعث بخلقه هذه الأجرام، والمخلوقات العظام التي هي أشد من خلق الناس، لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ، وهذا أحد الطرق التي يستدل بها القرآن على تقرير أمر البعث، فتارة يحتج عليهم بالنشأة الأولى، وتارة بأمثلة مضروبة واقعة في أقوام أحياهم الله بعدما ماتوا، كأولئك الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت، وكالذي مر على قرية، وتارة يحتج عليهم بأن أخرج لهم من الشجر الأخضر ناراً، فصاروا يوقدون منه، إلى غير ذلك من طرق إثبات البعث.

وقوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ إن فُسر الأجل هنا بأنه الموت -كما قاله بعض السلف- فلا إشكال فيه؛ لأنهم لا يُمارون بالموت، يقرون أن الموت ملاقيهم، فيكون المعنى هكذا أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ أي: الموت، فتكون الواو عاطفة على ما قبلها، ولكن إذا فسر الأجل بيوم القيامة كما ذهب إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- فهم لا يؤمنون بالبعث، فالقول بأن الواو عاطفة على هذا المعنى فيه إشكال، على هذا المعنى يكون أَوَلَمْ يَرَوْاْ يعني الرؤية هنا علمية وليس بالبصر، أولم يعلموا أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ فهم لا يؤمنون أصلاً بالبعث.

وبعض المفسرين يقول: إن الآية فيها تقديم وتأخير ويقدرها هكذا، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ، قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ، لكن الأصل في الكلام الترتيب، ولا حاجة لدعوى التقديم والتأخير إذا كانت الآية يمكن أن تفهم على وجه صحيح من غيره، ولهذا قال بعض أهل العلم: إن الواو استئنافية، وهذا قول لعله أجود هذه الأقوال: إن الواو للاستئناف وليست عاطفة، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنّ اللّهَ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ يحتج على قدرته على البعث وإعادتهم ثانية بالنشأة الأولى، ثم يخبر بعد ذلك أنه جعل لهم أجلاً لا ريب فيه، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاّ رَيْبَ فِيهِ، وبهذا تنفك هذه الجملة وما تضمنته من المعنى عما قبلها فلا يكون ذلك داخلاً في قوله: أَوَلَمْ يَرَوْاْ أولم يعلموا؛ لأنهم لا يعلمون هذا ولا يؤمنون به، إذا فسرناه بالقيامة، فهم ينكرون البعث أصلاً.

قُل لّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ وَكَانَ الإنسان قَتُوراً [سورة الإسراء:100].

يقول تعالى لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه: قل لهم يا محمد لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله لأمسكتم خشية الإنفاق، قال ابن عباس -ا- وقتادة: أي الفقر، خشية أن تُذهبوها مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم، ولهذا قال: وَكَانَ الإنسان قَتُوراً قال ابن عباس وقتادة: أي بخيلاً منوعاً.

وقال الله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [سورة النساء:53] أي: لو أن لهم نصيباً في ملك الله لما أعطوا أحداً شيئاً، ولا مقدار نقير، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو، إلا من وفقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له، كما قال تعالى: إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [سورة المعارج:19-22]؛ ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه، وقد جاء في الصحيحين: يد الله ملأى لا يَغِيضها نفقةٌ، سَحَّاءُ الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض، فإنه لم يَغِضْ ما في يمينه[1].

قوله -تبارك وتعالى: إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ أي: خوف الإنفاق، يقول: قال ابن عباس وقتادة: أي الفقر، وهذا ليس من قبيل التفسير بالمطابق، فإن قوله: خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ ليس معناه الفقر، وإنما هذا تفسير له بلازمه أو نتيجته، فإنه خشية الإنفاق، لئلا يفتقر، والسلف يفسرون تارة بالمطابق وتارة بالتضمن، وتارة يفسرون الشيء بلازمه، أو بنتيجته، أو يفسرون على المعنى، يقال: هذا تفسير على المعنى، وليس بتفسير على اللفظ، فهذا من هذا القبيل، وليس بتفسير على اللفظ مباشرة، وإنما قال الله مثلاً في النار التي في الدنيا إنه جعلها تذكرة، قال: وَمَتَاعًا لِّلْمُقْوِينَ [سورة الواقعة:73]، فأصل هذه اللفظة أي النازلين في الأرض القواء يعني القفر، يوقدون ويصطلون وما إلى ذلك، ولهذا فسرها بعضهم بالمسافرين، مع أن لفظة المُقْوين ليس معناها المسافرين، ولكن هؤلاء الذين في الأرض القواء، ويكون ذلك في أسفارهم وتنقلاتهم، ففسره من فسره من السلف بهذا، وإلا فأصل المعنى هو النازل في أرض القواء، الأرض القفر التي ليس فيها أحد، الصحراء.

فقوله: لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ قال: أي الفقر، الله ما قال: خشية الفقر، قال: خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ خشية الإنفاق؛ لئلا يفتقر، ولهذا يقول بعض المفسرين: إن قتل الأولاد كان خشية العار، مع أن الله قال: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [سورة الإسراء:31] يعني الفقر، من أملق الرجل: لم يبق له إلا الملقات، وهي الحجارة الملساء، فهم إنما قتلوهم خشية الفقر لئلا يؤدي ذلك إلى أن تضطر البنت لبيع عرضها، فهذا يكون ثانياً، أي مما يترب عليه، وينتج عنه، فهكذا في قوله: لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ قال: أي الفقر، يعني إذا أنفقوا أدى ذلك إلى الفقر، في تصورهم وزعمهم.

وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا، قتور صيغة مبالغة، يعني شديد التقتير، شديد الإمساك، والله يقول: وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ [سورة النساء:128]، وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [سورة التغابن:16]، فأضاف الشح إلى النفوس لشدة تمكنه منها، وهو مختص، وكأنه يختص بها، ملاصق لها، لا تنفك عنه إلا بمجاهدات وترويض وتهذيب لهذه النفوس.

وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىَ تِسْعَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنّي لأظُنّكَ يَا مُوسَىَ مَسْحُوراً ۝ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ وَإِنّي لأظُنّكَ يَفِرْعَونُ مَثْبُوراً ۝ فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً ۝ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً [سورة الإسراء:101-104].

يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون، وهي العصا، واليد، والسنين، والبحر والطوفان، والجراد والقمل، والضفادع، والدم آيات مفصلات، قاله ابن عباس -ا.

وقال محمد بن كعب: هي اليد والعصا، والخمس في الأعراف والطمْسَة، والحجر، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم.

هذه الآيات التسع اختلف العلماء -رحمهم الله- فيها ولم يتفقوا على قول معين، وهذا القول الذي نقله عن ابن عباس -ا- قال به كثير من المفسرين، العصا، واليد، والسنين، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، إلا أنهم ذكروا بدلاً من البحر: نقص الثمرات، والمقصود بالبحر أن الله أمره أن يضرب بعصاه البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [سورة الشعراء:63]، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى [سورة طـه:77]، فقال: العصا واليد والسنين، وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ [سورة الأعراف:130] وهو القحط والجدب، والبحر والطوفان، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ [سورة الأعراف:133].

ومن السلف كالحسن البصري -رحمه الله- من ذكر هذه الأشياء إلا أنه ذكر مكان السنين ونقص الثمرات: الجبل والبحر، والمقصود بالجبل ما ورد في قوله: وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [سورة الأعراف:171]، رُفع الجبل فوق هؤلاء وصار كالسحابة لما عتوا عن أمر الله وأبوا عن قبول ما جاء عنه، فكانوا في غاية المكابرة، يقولون: سمعناه يقول: كذا وكذا، ثم قال: إن شئتم فافعلوا وإن شئتم فلا تفعلوا، فرفع فوقهم الجبل، فخروا سجداً من الخوف، ويقال: إنهم رفعوا عيناً إلى السماء وهم في حال السجود من الخوف، خشوا أن يقع الجبل عليهم، ولهذا يقال: إن سجدة اليهود، يسجد على عين ويرفع الأخرى، هذا هو أصل سجودهم حينما سجدوا لمّا رُفع الجبل عليهم، لشدة عتوهم، ويقول محمد بن كعب: هي اليد والعصا والخمس التي في الأعراف والطمسة، والمقصود بالطمسة أو الطمس لما دعا موسى -عليه الصلاة والسلام- ربه فقال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ [سورة يونس:88]، هذا هو المراد، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد وعكرمة والشعبي وقتادة: هي يده، وعصاه، والسنين، ونقص الثمرات، والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.

والآيات التي أعطاها الله لموسى كثيرة، ومن أبرز هذه الآيات: التسع التي أشار الله إليها.

فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ أي: ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها، كفروا بها وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً، وما نجعت فيهم: فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا، وقالوا: لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعًا إلى آخرها، لما استجابوا ولا آمنوا إلا أن يشاء الله، كما قال فرعون لموسى وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً قيل: بمعنى ساحر، والله تعالى أعلم.

قوله تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ، وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا، هذه الآيات في ظاهر السياق تدل على أن الآيات التي أراها الله فرعون وقومه وكابروا وأبوا من الدخول في الإيمان فكانوا يقولون: يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ ۝ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [سورة الأعراف:134، 135]، الذي يظهر أن الآيات التسع هي الآيات التي وجهت إليهم، وأن الجبل حينما رُفع هو آية من الآيات التي أعطاها الله لموسى -عليه الصلاة والسلام، وهذا ليس على سبيل المعجزة قصداً وابتداءً من أجل الدخول في الإيمان، ومن أجل أن يثبت لهم أنه نبي، وإنما حصل هذا بعد إهلاك فرعون، رفع الله فوقهم الجبل، فوق الإسرائيليين، والفراعنة ما رأوا هذا، ولم تكن تلك الآية مسوقة لهم؛ ولذلك أكثر المفسرين ما ذكروا الجبل.

 كذلك أيضاً البحر: جمهور المفسرين ما ذكروا البحر؛ لأنه لم يكن من الآيات التي جاء بها موسى -عليه الصلاة والسلام- لهؤلاء من أجل الدخول في الإيمان، وإنما كان في نهاية المطاف عند الغرق، حين انتهى كل شيء، فالله يقول: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا، وفرعون حينما قال: إني لأظنك يا موسى، لم يكن له تعلق بالجبل الذي حصل بعد إنجاء موسى ومن معه، ولم يكن له تعلق بالبحر حيث انفلق ثم أغرق الله الفراعنة، فتكون الآيات بهذا الاعتبار العصا واليد والسنين، وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ [سورة الأعراف:130]، ونقص الثمرات بدلاً من البحر، والطوفان فاض عليهم النيل، وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ هذه الآيات، والله تعالى أعلم، فالآيات التسع ينبغي أن تحصر بما كان قبل إغراق فرعون مما ساقه لحملهم على الإيمان.

وقوله: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا، إذا حُمل ”مسحور“ بمعنى مفعول على ظاهره يعني أنه قد وقع عليك السحر فأصابك بسبب ذلك شيء في عقلك ونظرك فادعيت هذه الدعوى أنك نبي مرسل من عند الله ، يكون ”مسحور“ كما قالوا أيضاً لأنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [سورة الشعراء:27]، به جنون، يدعي أنه نبي وأنه رسول، وأن الله أرسله، فهو يقول كما قال الله -تبارك وتعالى- عن قول الأمم عامة حينما يأتيهم الأنبياء فإن قولهم بذلك متحد: إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [سورة الذاريات:52]، فقول: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا يمكن أن يكون المراد على ظاهره ”مسحور“ يعني باعتبار مفعول، أي أنه وقع عليك السحر، أصابك سحر فأصابك شيء من التخليط بسببه.

ويحتمل أن يكون المراد مفعول بمعنى فاعل، تقول: هذا رجل مشئوم، يعني أنه ذو شؤم، وليس الشؤم وقع عليه، لكنه يكون منه، فمفعول تأتي بمعنى فاعل أحياناً في كلام العرب، فيكون ”مسحور“ بمعنى ساحر، إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا أي: ساحرًا، وهذا تشهد له الآيات الأخرى وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ [سورة الزخرف:49]، مع أن بعض المفسرين تكلف فيه وقال: إنهم قصدوا بذلك يا أيها العالِم؛ لأن السحر عندهم بمنزلة رفيعة، فإذا أرادوا أن يمدحوا ذلك ونحو ذلك قالوا: يا أيها الساحر، وهذا خلاف الظاهر، ولا يجوز حمل القرآن على غير ظاهره إلا لدليل، لكن هم يعتقدون أنه ساحر، فقالوا ذلك، مثل الذين قالوا: صبأنا صبأنا، عندما أرادوا أن يدخلوا في الإسلام قالوا: صبأنا صبأنا، فهؤلاء يقولون: الساحر، ولما جاءهم موسى -عليه الصلاة والسلام- بالبينات قالوا: إنه ساحر، ولهذا طلبوا السحرة، ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [سورة يونس:79] بكل سحار من أجل إبطال ما جاء به ﷺ، فيكون من باب مفعول بمعنى فاعل، وهذا الذي تشهد له الآيات الأخرى التي ذكر الله فيها قول فرعون في موسى -عليه الصلاة والسلام، وهكذا قال الملأ: إن موسى -عليه الصلاة والسلام- كان ساحرًا.

فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة ههنا، وهي المعنية في قوله تعالى: وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إلى قوله: فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [سورة النمل:10-12].

قوله: فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ آيات يعني بيّنة، آيات: دلائل وحجج على صحة ما جاء به موسى ﷺ، ولم يكن منها نتوق الجبل ولا انفلاق البحر؛ لأن ذلك لم يكن من أجل الدخول في الإيمان، وإنما كان في نهاية المطاف.

فذكر هاتين الآيتين العصا واليد وبيّن الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصلها، وقد أوتي موسى آيات أخر كثيرة، منها ضربة الحجر بالعصا، وخروج الماء منه، ومنها تظليلهم بالغمام.

حينما كانوا يستسقون يحملون حجرًا فيضربه موسى ﷺ إذا احتاجوا إلى الماء، فينفجر من هذا الحجر اثنتا عشرة عينًا، على عدد أسباط قبائل بني إسرائيل، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ [سورة البقرة:60]، فهذه آية، لكن لم تكن موجهة لفرعون وقومه، وإنما كان ذلك بعد إهلاكهم.

ومنها تظليلهم بالغمام.

هذا كان في التيه لما خرجوا بعد إهلاك فرعون.

وإنزال المن والسلوى.

ومثل هذه لم يكن المقصود بها إثبات النبوة، مثل الآيات التي جرت للنبي ﷺ، مثل نبع الماء من بين أصابعه ﷺ، وتكثير الطعام ونحو ذلك، كانت تجري من غير طلب من أحد، وكان ذلك بين أهل الإيمان؛ ولذلك فإن ما يسميه المتأخرون بالمعجزات وهي دلائل النبوة وآيات الأنبياء منها ما يكون قصد به التحدي مثل انشقاق القمر، والقرآن، وعصا موسى -عليه الصلاة والسلام، وحينما يخرج يده بيضاء من غير سوء، من غير برص، ونحو ذلك، فهذه يقصد بها التحدي، وهناك أشياء تجري على يد هؤلاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وعلى أتباع الأنبياء مما يسميه المتأخرون بكرامات الأولياء، وكل ذلك في عرف المتقدمين يقال له: آيات الأنبياء، ويقال له: دلائل النبوة

لكنّ المتأخرين قالوا لما يجري على يد الأنبياء معجزات، وقالوا لما يجري على يد أتباعهم كرامات، يعني من الخوراق، فهذه ليس المقصود بها كما يقوله المتكلمون من الأشاعرة ونحوهم بأنها خوراق للعادة، يُعرّفون المعجزة بأنها: أمر خارق للعادة، على سبيل التحدي، مقرون بدعوى النبوة، هذا تعريفهم هم؛ لأنهم لا يفرقون تفريقًا صحيحًا بين المعجزة وبين السحر، فعندهم ذلك يلتبس على الناس، فلهذا جاءوا بهذا التعريف للأسف الذي أصبح مشهورًا ويدرسه كثير من الناس ولا يتفطنون لما تحته، لا تكاد تجد من يتكلم على المعجزة إلا ويذكر هذا التعريف: أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، أو على سبيل التحدي، مع دعوى النبوة، مقرون بدعوة النبوة. 

هذا الكلام غير صحيح فإن المعجزات منها ما لا يكون على سبيل التحدي، كنبع الماء بين أصابعه ﷺ، وتكثير الطعام، وإنزال المن والسلوى على موسى -عليه الصلاة والسلام، والتظليل بالغمام، هذا لم يكن على سبيل التحدي، وقولهم: مقرون بدعوى النبوة، ليس بلازم، فهم يريدون أن يفرقوا بينه وبين ما يجري على أيدي السحرة، والفرق الحقيقي بين ما يجري على يد السحرة وبين ما يجري على يد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- من الخوارق: أن خوارق السحرة لا تكون خارقة للعادة، نعم، قد تكون خارقة لعادة غيرهم من الناس، فحينما يمشي الساحر مثلًا على النار، ويقول: درست هذا في دورة، هذه خارقة لعادة غيرهم، ويمكن لكل من تعلم هذا السحر الباطل أن يفعل مثله، وقل مثل ذلك في جميع أباطيلهم، وللأسف صارت هذه الأشياء اليوم تروج تحت مسمى دورات، فالأحجار الآن يعتقد فيها، هذا حجر فيه الخاصية الفلانية، وهذا الحجر فيه الخاصية الفلانية، هذه وثنية يأتون بها من أمم شرقية لا يعرفون الدين ولا يعرفون الله، وتروج أحيانًا تحت مسميات وألقاب ومصطلحات مقبولة، يظن من لا بصر له أنها فعلًا مصطلحات علمية وجيدة، وهذا الحجر له خاصية كذا، وهذا يسحب الغم والهم، وهذا يسحب الروماتيزم، وهذا يسحب المرض الفلاني، وهذا ضد العين، وغير ذلك من الخزعبلات.

وغير ذلك مما أوتوه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر، ولكن ذكر ههنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر، فكانت حجة عليهم فخالفوها وعاندوها كفرًا وجحودًا.

ولهذا قال موسى لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أي: حججًا وأدلة على صدق ما جئتك به، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا أي: هالكًا، قاله مجاهد وقتادة، وقال ابن عباس -ا: ملعونًا، وقال أيضًا هو والضحاك: مَثْبُورًا أي: مغلوبًا، والهالك كما قال مجاهد يشمل هذا كله.

وقوله هنا: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ، لَقَدْ عَلِمْتَ هكذا قرأه الجمهور بفتح التاء، وفي قراءة متواترة، قراءة الكسائي بضم التاء، لَقَدْ عَلِمْتُ فموسى يتحدث عن نفسه -عليه الصلاة والسلام، فيقول: أنا أعلم ذلك وأنت لا تعلمه يا فرعون، لكن قراءة الجمهور لَقَدْ عَلِمْتَ، يؤيدها قوله -تبارك وتعالى: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14].

وقوله: بَصَائِرَ هذا نصْبُه على الحال، وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا أي: هالكًا، وذلك قاله موسى -عليه الصلاة والسلام- بعد أن خاطبه بأسلوب ألين من هذا، فالله قال: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا [سورة طه:44] فجاءه بهذه الآيات فلما كابر وكفر كان آخر الدواء الكي، فخاطبه بهذا الخطاب الذي ذكره الله : وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا أي: هالكًا، والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [سورة ص:75]، برقم (6976)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993)، واللفظ له.

مواد ذات صلة