الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[89] من قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} الآية 199 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} الآية 202
تاريخ النشر: ١٠ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 4160
مرات الإستماع: 3182

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة: 199] "ثم" هاهنا لعطف خبر على خبر وترتيبه عليه، كأنه تعالى أمر الواقف بعرفات أن يدفَع إلى المزدلفة ليذكر الله عند المشعر الحرام، وأمره أن يكون وقوفه مع جمهور الناس بعرفات، كما كان جمهور الناس يصنعون، يقفون بها إلا قريشاً، فإنهم لم يكونوا يخرجون من الحرم، فيقفون في طرف الحرم عند أدنى الحِلِّ، ويقولون: نحن أهل الله في بلدته، وقُطَّان بيته.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ، جاء بعد قوله : لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [سورة البقرة: 198] يعني إذا انتقلتم من عرفة إلى مزدلفة: فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ [سورة البقرة: 198] ثم قال: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة: 199]. 

فهل هذه الإفاضة هي من مزدلفة إلى منى فتكون على هذا "ثم" على بابها للترتيب مع المهلة والتراخي، أم أن الإفاضة هنا هي نفسها التي ذكرت قبل وهي الإفاضة من عرفات إلى مزدلفة حيث قال: فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فتكون "ثم" على هذا ليست للترتيب، أم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً؟

فأما القول بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً فهذا لا يلجأ إليه إلا للضرورة، لكن يحتمل أن يكون هذا من باب عطف جملة على جملة من غير قصد للترتيب، أي أن "ثم" تكون لمجرد العطف فقط من غير نظر إلى الترتيب، وبالتالي نقول: إن الله  أمرهم بالذكر إذا أفاضوا من عرفات كما أن الله أمرهم بأن يفيضوا من عرفات ووجههم بجملة أمور:

منها: أن يذكروه إذا أفاضوا من عرفات في المزدلفة، ووجههم أن تكون إفاضتهم من عرفة من الحل إلى مزدلفة لا أن يقفوا دون ذلك كما كانت تفعل الحمس حيث كانوا يقولون: نحن قطان البيت وأهل الحرم فلا نخرج منه إلى الحل، فكان الناس يذهبون إلى عرفة وهم يقفون عند طرف الحرم، فالناس يفيضون من عرفة إلى مزدلفة وهؤلاء لم يخرجوا أصلاً إلى عرفة، فالله قال لهم: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ، فيكون هذا من باب عطف جملة على جملة دون مراعاة للترتيب؛ لأنه لا زال يتحدث عن الإفاضة من عرفة، فهناك أمرهم بالذكر، وهنا أمرهم أن تكون إفاضتهم من عرفات، لا كما كانت تفعله الحمس، فقوله: ثُمَّ أَفِيضُواْ بهذا الاعتبار يمكن أن يكون المخاطب به هم الحمس، أي قريش ومن ولدت، وبالتالي "ثم" ليست للترتيب، وإنما هي لمجرد العطف.

وإذا قلنا: إن "ثم" على وجهها وإن الإفاضة إنما هي إفاضة أخرى غير الأولى، أي الإفاضة من مزدلفة إلى منى فيكون الخطاب على هذا لجميع الناس، أي أنه يأمرهم بعد أن يقفوا في المشعر الحرام في مزدلفة أن يفيضوا منه إلى منى، ويحتمل أن يكون ذلك أيضاً أمراً لجميع الناس بأن يفيضوا من عرفة إلى مزدلفة.

فإذا قلنا: إن الأمر هنا بالإفاضة من مزدلفة إلى عرفة، تكون "ثم" على بابها من الترتيب، وقوله: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يمكن أن يكون المراد به إبراهيم ﷺ الذي نقتدي به في المناسك.

وإذا كان على الأول، أي أفيضوا من عرفة، فيكون المعنى أفيضوا كما تفيض سائر قبائل العرب أو سائر الأمة خلافاً لهؤلاء الحمس الذين كانوا يخالفون ويبقون في الحرم، وعلى هذا تكون "ثم" على ظاهرها من الترتيب.

وبعض أهل العلم يقول: إن في الآية تقديماً وتأخيراً، وممن قال بهذا ابن جرير الطبري -رحمه الله- مع تغاير أقوال هؤلاء وتفاوتها في هذا التقديم والتأخير، لكنهم قالوا بأصله وتفاوتت أقوالهم في سياق الجملة، مع أنه خلاف الأصل، فابن جرير الطبري -رحمه الله- يرى أن الترتيب هكذا: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [سورة البقرة: 197] وبعد ذلك: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة: 199] ثم: وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ [سورة البقرة: 197]، وهذا فيه شيء من التكلف.

والتقديم والتأخير له أمثلة تذكر، منها ما هو قريب ومنها ما هو بعيد، ففي قوله تعالى مثلاً عن عيسى ﷺ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:55] فقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، هذه الوفاة إما أن نقول: إن المراد بها ليست الوفاة الحقيقية المعروفة وإنما مستوفيك بروحك وبدنك، أو متوفيك يعني في النوم، بمعنى أنه رفعه في حال النوم التي تسمى الوفاة الصغرى، فيكون على هذا الكلام مرتباً. 

أو يقال: في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: (وإذ قال الله يا عيسى إني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا، ومتوفيك في النهاية، أي بعد أن ينزل إلى الأرض، فالوفاة بهذا الاعتبار تكون حقيقية، وهي الوفاة المعهودة، ولا أعني أن هذا القول في الآية راجحاً، وإنما المقصود أن هذا أحد الأمثلة التي يدعى فيها التقديم والتأخير، والله تعالى أعلم.

وهناك صورة أخرى أيضاً أو وجه آخر يمكن أن يقال فيه: إن "ثم" للترتيب، لكن ليس الترتيب في الواقع والخارج، وإنما هو الترتيب في الذكر، حيث يذكر أخباراً يرتب بعضها على بعض دون أن يقصد أن ذلك مرتب في الواقع والخارج، كأن تقول لإنسان: فعلت كذا ثم فعلت كذا ثم فعلت كذا ثم فعلت كذا، وأنت لا تقصد أن هذه الأمور مرتبة بهذه الطريقة، والسياق أحياناً يبين أنك إنما تريد أن تعدد عليه، فأنت ترتب هذه الأمور في الذكر دون أن تقصد أن ذلك وقع في الخارج مرتباً كما ذكرته معطوفاً بـ"ثم".

ولذلك ينبغي أن يُعلم أن "ثم" يمكن أن تكون لترتيب الأخبار أو الجمل بعضها على بعض دون أن يكون الأمر كذلك في الواقع ومن أمثلة ذلك من القرآن قوله تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة البلد:17]، فالإيمان هو مطالب به من البداية وإلا لم يقبل منه عمل أصلاً، ولذلك فإن بعض أهل العلم يقول: هذا من باب ترتيب الجمل والأخبار بعضها على بعض، والله أعلم.

روى البخاري عن عائشة -ا- قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسَمَّون الحُمْس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات.

كانوا يُسَمَّون الحُمْس، قيل: لأنهم يتحمسون لدينهم، يعني أن أكثر قبائل العرب تمسكاً وتديناً في نظر العرب وتقديرهم هم قريش؛ نظراً لما لهم من المكانة وما أعطاهم الله من القيام على البيت.

فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه ﷺ أن يأتَي عرفات، ثم يقف بها ثم يُفيض منها، فذلك قوله: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [سورة البقرة: 199].

وكذا قال ابن عباس -ا- ومجاهد، وعطاء، وقتادة، والسدي، وغيرهم.

وبهذا الاعتبار يكون المراد بقوله: مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ يعني سائر القبائل، أو سائر الناس، والمعنى لا تنفردوا دونهم وتقفوا في حد الحرم، وإنما أفيضوا من حيث أفاض الناس، فهنا إن قلنا إن "ثم" للترتيب فلا بد أن نقول بالتقديم والتأخير أو يقال: إن هذا ترتيب في الذكر فقط، أي ترتيب جملة على جملة، وخبر على خبر، وأمر على أمر فقط دون أن يكون ذلك مراعى به ما يقع في الخارج، والله أعلم.

واختاره ابن جرير، وحكى عليه الإجماع.

الذي حكى عليه ابن جرير الإجماع أنهم يفيضون من عرفة إلى مزدلفة، هذا الذي قاله ابن جرير، ثم بعد ذلك ذكر القول بالتقديم والتأخير، وكأنه أراد أن يوجه -مع هذا- القول الذي يستشكل في "ثم" بأن يجعل "ثم" على ظاهرها للترتيب، فقال: الكلام فيه تقديم وتأخير، والقائلون بالتقديم والتأخير هم قليل حتى إن بعضهم رده صراحة وقال: هذا لا يصح، مثل ابن عطية، وهو خلاف الأصل.

لكن ابن جرير مع أنه كان يستحسن القول الآخر وهو أن الإفاضة المراد بها الإفاضة من مزدلفة إلى منى وهذا القول قال به كثيرون، ومع ذلك قال ابن جرير: هذا قول جيد، ووجهه حسن ولكنا لا نستجيز مخالفة الإجماع، ومعلوم أن مقصود ابن جرير بالإجماع قول الأكثر، وإلا فالقائلون بالقول الثاني كثيرون جداً أيضاً، فالله أعلم.

لكن العجيب أنك ترى كثيراً من أهل العلم يقولون: إن ابن جرير يقول بالقول الآخر، وهي أن الإفاضة من مزدلفة، ولا أدري ما الذي أوقعهم في هذا، فربما أنهم نظروا إلى أنه جعل "ثم" على بابها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه استحسن القول الثاني بعد أن ذكر وجهه، وأنه قول حسن، فربما نظروا إلى هذا دون ما قبله وما بعده حيث إن أسلوب ابن جرير -رحمه الله- كما هو معروف أنك تجده يتحدث عن معنى وكأنه يرجح هذا القول ثم يذكر بعده قولاً آخر فربما رجع للقول الذي قبله. 

وهكذا تجده يعلق بعد كل قول من أقوال أبي جعفر في التفسير ويعلق تعليقاً مشابهاً له في موضع بعد القول الثاني أو الثالث، أو في النهاية بعد أن يذكر الأقوال، فإذا جمعت عباراته التي يرجح بها وقارنت بينها تبين لك مراده، لكن ربما يقف الإنسان على جملة من أربعة أو خمسة أو عشرة أسطر، مما يقرر فيها توجيه هذا القول أو ترجيحه أو ردَّ غيره، فيظن الإنسان أحياناً أن هذا هو قوله من أوله إلى آخره، وليس الأمر كذلك، بل يحتاج أن ينظر في التعليقات الأخرى التي علق فيها على باقي الأقوال وما قاله في النهاية، حتى إنك تجد أحياناً كلامه في غاية التشابه هنا وهنا.

وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: أضللتُ بعيرًا لي بعرفة، فذهبت أطلبه، فإذا النبي ﷺ واقف، قلت: إن هذا من الحُمْس ما شأنه هاهنا؟"[1] أخرجاه في الصحيحين.

جبير بن مطعم كان من قريش، فكان ذلك عادتهم ومألوفهم، فهو مستغرب أن النبي ﷺ واقف مع الناس بعرفة.

ثم روى البخاري عن ابن عباس -ا- ما يقتضي أن المراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار، فالله أعلم.

وقوله: وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة البقرة: 199] كثيرًا ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات، ولهذا ثبت في صحيح مسلم أنّ رسول الله ﷺ كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر ثلاثًا[2]، وفي الصحيحين أنَّه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثًا وثلاثين[3]، وقد أوردناه في جُزْء جمعناه في فضل يوم عرفة.

هذا وجه حسن في توجيه ذكر الأمر بالاستغفار بعد قضاء المناسك مع أنهم كانوا في عبادة من أجلِّ العبادات، فكما أن النبي ﷺ كان إذا فرغ من صلاته استغفر فهنا كذلك، وذلك لا شك أنه يقتضي دفْعَ العجب والاستمرار على الطاعة، فيفرغ من عبادة ثم يدخل في أخرى، كما أن هذا يحتاج إليه العبد وذلك أن العبادة التي يقوم بها لا تخلو من نقص وتقصير، فهو يستغفر الله من ذلك.

ومن أهل العلم من يقول: إن الأمر بالاستغفار في قوله هنا: وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ [سورة البقرة: 199] يعني أنهم لمّا كانوا في مقامات حريٌّ أن يستجاب للعبد بها أمروا بالاستغفار، فالإنسان يدعو في الطواف، وعلى الصفا والمروة، وبين ذلك، ويدعو أيضاً في عرفة وفي آخر مقامه في مزدلفة ثم أيضاً إذا رمى الجمار في أيام التشريق يقف بعد الأولى والثانية ويدعو طويلاً قريباً من سورة البقرة، فهذه مواطن لهذه العبادات الشريفة وهي حري أن يستجاب للعبد بها، فربما كان الأمر بالاستغفار بسبب ذلك.

وبعض أهل العلم يقول: هذا موجه للحمس الذين كانوا يقفون في الحرم، حيث أمروا بالاستغفار من وقوفهم دون عرفة، وهذا بعيد غاية البعد؛ لأن الخطاب هنا يشرع لهم فيه ويبين لهم المناسك وما ينبغي لهم فعله، فهو لا يخاطب أولئك المشركين الذين وقفوا في المزدلفة؛ ثم إن هؤلاء لا حج لهم  أصلاً؛ لأن الحج عرفة، فحجهم باطل، وليس لهم إلا التعب، فهذا لا يكفي فيه مجرد الاستغفار، بل لازالوا على إحرامهم، وفاتهم الحج، وعليهم أن يكملوا هذا الحج الفاسد، ويتحللوا منه بالطواف بالبيت، ثم عليهم على قول بعض أهل العلم أن يأتوا بحجة أخرى، وهذا إذا أردنا أن ننزل الحكم على المشركين، مع أن عباداتهم أصلاً مردودة؛ لأنهم أهل إشراك، والله لا يقبل من المشركين شيئاً.

وأورد ابن مَرْدويه هاهنا الحديث الذي رواه البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوءُ لك بنعمتك عَلَيّ، وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة[4].

وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو -ا- أن أبا بكر قال: "يا رسول الله، عَلمني دعاء أدعو به في صلاتي" فقال: قل: اللهمّ إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مَغْفِرةً من عندك وارحمني، إنَّك أنت الغفور الرحيم[5]، والأحاديث في الاستغفار كثيرة.

فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ۝ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ۝ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة: 200-202] يأمرُ تعالى بذكره والإكثار منه بعد قَضَاء المناسك وفراغها.

عرفنا قبلُ أن المناسك هي أعمال الحج، أو أن المراد بها ما يتعلق بالذبح.

وقوله: كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ قال سعيد بن جُبَير عن ابن عباس -ا: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم، فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحَمَالات ويحمل الديات، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم.

قد يشكل عند البعض في قوله تعالى: كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أن الإنسان قد لا يذكر أباه في الحج، بل قد يمر عليه اليوم واليومان لا يذكره، فما وجه الآية هنا؟

لقد وُجه هذا الإشكال إلى ابن عباس -ا- فبين وجهاً للآية غير هذا الظاهر المتبادر، فقال: كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ، أي: أن تغضب لله كما تغضب لأبيك إذا ذكر بسوء أو انتقص منه، أو أشد غضباً إذا انتهكت حرمات الله ، فهذا التفسير يمكن أن يخرج على أنه تفسير باللازم أو بالتضمن، لكنه ليس تفسيراً بالمطابقة، فالظاهر المطابق لقوله: كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أنكم تكثرون من ذكره كما تكثرون من ذكر آبائكم، وهذا يتضمن أنهم إذا انتقص آباؤهم فإنهم لا يرضون بذلك بل يغضبون لهم؛ لشدة محبتهم وافتخارهم وتعظيمهم لهم، والله أعلم.

وهذا الذكر المشروع لم يحدد هنا في الآية، إلا أن بعض أهل العلم نظر إلى المناسبة، فقال: إن الذي يفعله الحاج بعد قضاء المناسك ورمي جمرة العقبة هو التكبير، فهو الذكر المشروع حينذاك في حقه، ومن ثم يقال: فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا أي: اذكروه بالتكبير، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله.

وبعض أهل العلم نظر إلى ما سبق من أنهم كانوا يذكرون آباءهم ويتفاخرون فيهم، فقال: يلهج بذكر الله مع الاستكانة والتضرع؛ لأن ذكر الآباء عند البررة بآبائهم يكون مع الاستكانة والتضرع، ولهذا جاء عن بعضهم كرجاء بن حيوة وغيره في صفة برهم بآبائهم أن الواحد منهم إذا كان عند أمه تراه كأنه مريض، فيسأل عن مرضه، فيقال: إنه ليس مريضاً ولكن هكذا حاله دائماً مع أمه، فمن شدة الاستكانة عندها ومن شدة بره وإجلاله وتعظيمه لأمه يراه الناظر إليه كأنه مريض.

وبعضهم كان لا يتكلم مع أمه أو مع أبيه إلا كالمتضرع، وبعضهم كان لا يكلم أباه أو أمه إلا كمن يتكلم سراً مع أحد فلا يكاد يسمع؛ لئلا يحصل منه رفع صوت على أبيه وأمه!!.

وبعض الشباب للأسف إذا سئل عن حاله افتتح بالمقدمة فيقول: أنا ملتزم، وهو في الحقيقة صاحب كبائر وعقوق لوالديه، وهو يظن أن التزامه يكون بمجرد إعفاء لحيته، والأمر ليس كذلك؛ إذ كيف يكون ملتزماً من يعقُّ والديه، أو يترك الصلوات، أو من كان قاطعاً لرحمه، فمثل هذا لا يكفيه مجرد الالتزام بإعفائه لحيته أو نحو ذلك ما دام حاله كذلك، نسأل الله العافية.

فأنزل الله على محمد ﷺ: فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله ولهذا كان انتصاب قوله: أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا على التمييز، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا.

أمرهم الله بأن يذكروه كذكرهم لآبائهم، وهذا يقتضي الإكثار من ذكره، نعم الإكثار، أو يذكروه ذكراً يماثل ذكر آبائهم، والكاف في قوله: كَذِكْرِكُمْ للتشبيه أي ذكراً يماثل ذكرهم لآبائهم أو أشد بحيث يكثرون من ذكره، وسبب النزول يوضح ذلك.

يقول ابن كثير -رحمه الله: والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله ولهذا كان انتصاب قوله: أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا على التمييز، تقديره كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا، و "أو" هنا لتحقيق المماثلة في الخبر، يعني أنها ليست للتخيير ولا للإباحة وإنما هي للتحقيق، وكأنها بمعنى "بل" أي: بل أشد ذكراً، كما يقوله بعض أهل العلم، وما ذكره ابن كثير -رحمه الله- هنا من أن أَشَدَّ منصوب على التمييز ليس محل اتفاق، بل إن مسألة النصب هنا تحتمل أشياء أخرى غير التمييز، كما أنها تحتمل الجر أيضاً؛ وذلك لأن لفظ "ذكر" في قوله: كَذِكْرِكُمْ مجرورة بالكاف، فيمكن أن تكون أَشَدَّ عائدة إلى ذكر فتكون أيضاً مجرورة، ويمكن أن تكون عائدة إلى الضمير الذي هو الكاف في "ذكركم" وهي مضاف إليه فتكون مجرورة أيضاً، فالجر محتمل وكذلك النصب، والقائلين بالنصب أكثر، ووجوه النصب المحتملة ربما تصل إلى خمسة أوجه منها ما ذكره ابن كثير –رحمه الله- من أنه منصوب على التمييز.

والخلاصة أن المعنى -والله أعلم- هو أنه أمرهم أن يذكروه ذكراً كثيراً يماثل ذكرهم الكثير لآبائهم، بل أشد ذكراً من ذكر آبائهم؛ لأن الله أعظم وأجلّ، وإنما يهلج الإنسان ويذكر كثيراً من يعظمه ويحبه، فالإنسان إذا أحب أحداً من الناس ذكره في كل مناسبة ومن غير مناسبة فكيف بالله ؟!

و "أو" هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر كقوله: فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [سورة البقرة:74]، وقوله: يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [سورة النساء:77] وقوله: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147].

"أو" في هذه الآيات ليست للشك قطعاً؛ لأن ذلك لا يرد على الله ، فالله يعلم خفايا الأمور ودقائق الأشياء، لكن هذا يمكن أن يوجه بأنه للتحقيق مثلاً أو بمعنى "بل"، فيكون المعنى: وأرسلناه إلى مائة ألف بل يزيدون، فكان قاب قوسين بل أدنى، ويمكن أن يكون ذلك بناءً على قاعدة ذكرناها سابقاً وهي أنه قد يرد الخطاب في القرآن باعتبار حال أو نظر المخاطب، فهي بالنسبة لهؤلاء المخاطبين لو نظروا للقوم الذين أُرسل إليهم يونس ﷺ بعد أن أنجاه الله من بطن الحوت فسيقدرونهم بمائة ألف أو يزيدون، وعلى القاعدة يكون قوله: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [سورة النجم:9]، أي في تقديراتكم.

وقوله: فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [سورة النجم:9]، فليست هاهنا للشك قطعاً، وإنما هي لتحقيق المخبر عنه كذلك أو أزيَد منه.

ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره، فإنه مظنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه، وهو معرض عن أخراه، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [سورة البقرة:200] أي: مِنْ نَصِيب ولا حظٍّ، وتضمَّن هذا الذمّ التنفير عن التشبه بمن هو كذلك.

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف، فيقولون: اللهم اجعله عام غَيث وعام خصْب وعام ولاد حسن، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً، فأنزل الله فيهم: فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ [سورة البقرة:200]، وكان يجيء بعدهم آخرون من المؤمنين فيقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201​​​​​​​] فأنزل الله: أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة البقرة:202​​​​​​​] ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأخرى فقال: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:200​​​​​​​].

سبب نزول قوله تعالى: وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [سورة البقرة:201​​​​​​​] يبين معناها، فهم يقولون: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً أي يسألون الله  من خيري الدنيا والآخرة.

ومن أهل العلم من يحمل مثل هذه الآيات على أمور تتعلق بالتعبد، فقالوا: آتنا في الدنيا حسنة ليس المراد به الزوجة الحسناء أو المال أو ما أشبه ذلك، وإنما فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً يعني العبادة والتوفيق للطاعة، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَة يعني الجنة.

وقد مرت بنا في الدرس الماضي آيات حملها بعض أهل العلم على نظائر هذا، مثل قوله تعالى: أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [سورة البقرة: 198]، وقوله تعالى: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]، وقوله: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا [سورة القصص:77]، وقوله: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ [سورة الجمعة:10]، فهذا منحى لبعض أهل العلم يفسِّر به مثل هذه الآيات، وإن كنا لا نقول إن هذا هو المعنى الراجح فيها.

فالمقصود أن الحسنة في قوله تعالى: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً [سورة البقرة:201] غير محددة، فيدخل فيها كل ما يحتاج إليه الإنسان ويُسرُّ به ويستحسنه من أمور هذه الدنيا وحطامها من المال والولد والزوجات والمراكب، ويدخل في ذلك أيضاً ما يوفق إليه من العبادات والطاعات فكل ذلك من الحسنة في الدنيا، وأما الآخرة فهي الجنة.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الحج - باب الوقوف بعرفة (1581) (ج 2 / ص 599) ومسلم في كتاب الحج - باب في الوقوف وقوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ (1220) (ج 2/ ص 894).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الصلاة - باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته (591) (ج 1 / ص 414).
  3. أخرجه البخاري في كتاب صفة الصلاة - باب من لم ير رد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة (807) (ج 1 / ص 289) ومسلم في كتاب الصلاة - باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته (595) (ج 1 / ص 416).
  4.  أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب أفضل الاستغفار  (5947) (ج 5 / ص 2323).
  5. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات - باب الدعاء في الصلاة (5967) (ج 5 / ص 2331) ومسلم في  كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار   - باب استحباب خفض الصوت بالذكر (ج 4 / ص 2078).

مواد ذات صلة