بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:
لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ فَلَمّا أَحَسّواْ بَأْسَنا إِذَا هُمْ مّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ إِلَىَ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْأَلُونَ قَالُواْ يَوَيْلَنَا إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَت تلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتّىَ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ [سورة الأنبياء:10-15].
يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ قال ابن عباس -ا: شرفكم.
أَفَلاَ تَعْقِلُونَ أي: هذه النعمة، وتتلقونها بالقبول، كما قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [سورة الزخرف:44].
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ، يقول: "قال ابن عباس: أي شرفكم". والذكر يأتي بمعنى الشرف، تقول: فلان له ذكر بمعنى له شرف، ولا شك أن إنزال هذا القرآن على هذه الأمة على يد هذا النبي الأمي -عليه الصلاة والسلام- شرف عظيم، حيث نزل بلسانهم، وعلى يد رجل منهم.
والذكر يأتي بمعنى الشرف، تقول: فلان له ذكر بمعنى له شرف، ولا شك أن إنزال هذا القرآن على هذه الأمة على يد هذا النبي الأمي -عليه الصلاة والسلام- شرف عظيم، حيث نزل بلسانهم، وعلى يد رجل منهم.
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ [سورة الجمعة:2]، فهذا رفع من مكانهم ومنزلتهم وجعلهم في مقام الصدارة بين سائر الأمم، وإذا تمسكوا بهذا الكتاب وآمنوا به واتبعوا ما فيه حصلت لهم الرفعة في الدنيا والآخرة.
وهذا المعنى الذي نقله المؤلف -رحمه الله- عن ابن عباس هو الذي اختاره كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله تعالى، وقوله -تبارك وتعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ [سورة الزخرف:44]، من أهل العلم من فسره بهذا أي: شرف لك ولقومك، وبعضهم يقول: إن قوله: فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي: حديثكم، وبعضهم يقول: أي ذكر الحلال والحرام، وذكر أمر دينكم وشرعكم، وبعضهم يقول: أي بمعنى الموعظة، أي فيه موعظتكم، والموعظة يقال لها: ذكر، وما يحصل به التذكر يقال له: ذكر، فهذا القرآن ذكر يحصل به التذكر، والاتعاظ، والاعتبار.
ويمكن أن تجتمع هذه المعاني -والله تعالى أعلم، فإن هذا القرآن لا شك أنه شرف لهذه الأمة إن اتبعوه وتمسكوا به، وهو متضمن لما فيه التذكير، وقد حوى ألوان المواعظ، صرف الله فيه العبر والأمثال، وضمنه ما تحصل به الهداية والسعادة والفلاح في الدنيا والآخرة.
ومثل هذا الاختصار -حينما يقتصر على إيراد هذا القول عن ابن عباس- قد يفهم منه أن المؤلف يختار هذا، والواقع أنه ليس كذلك، فمثل هذا في الاختصار لو كان بطريقة أخرى لكان أحسن، والله أعلم.
صيغة التكثير في قوله: وَكَمْ أي: هي كثير تلك القرى التي قصمناها وهي ظالمة، وأصل القصم في كلام العرب يأتي بمعنى كسر الشيء ودقه، تقول: قصم الله ظهره، والفصم يأتي بهذا المعنى ولكنه دونه، يعني إذا كان القصم من غير إبانة فإنه يقال له: فصم، فإذا كان أقوى وأشد وحصل معه الإبانة يقال له: قصم، وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وهذا للتكثير، ولا حاجة لحمله على قرية بعينها، كما جاء في بعض الأخبار التي تُلقيت عن بني إسرائيل أنها قرية معينة من أرض اليمن، ويذكرون في هذا بعض الأخبار، لا حاجة إلى هذا.
وما ذكره الله -تبارك وتعالى- بعده من قوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ لاَ تَرْكُضُواْ وَارْجِعُوَاْ، لا يعني أن هذا يختص بقرية بعينها؛ لأن "كم" التي للتكثير تدل على أن هذا وقع كثيراً وتكرر، وأن هذا الذي حدث من أنهم يركضون.
وقوله: لاَ تَرْكُضُواْ إلى آخره، لا يعني أن هذا وقع لأناس معينين، كما ورد أن هؤلاء الناس سمعوا صائحاً يقول: ارجعوا إلى مساكنكم، فرجعوا إلى مساكنهم، فسمعوا منادياً أيضاً يقول: يا لثارات نبي الله، يعني النبي الذي أساءوا إليه، وهذا لا حاجة إليه؛ لأن "كم" تدل على التكثير، فهذا أمر كثر وقوعه فلا يختص بقرية معينة، وهذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن، والله تعالى أعلم.
وقال في قوله: فَلَمّا أَحَسّواْ بَأْسَنَا "أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم"، وبعض المفسرين يقول: فلما عاينوا بأسنا، عاينوا العذاب، وهذا لا يتنافى مع هذا القول أنهم أيقنوا، لمّا رأوه، وعاينوه، وإلا قبل ذلك كانوا يقولون: ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا [سورة الأعراف:77]، فهم لم يصدقوا خبره، ولا منافاة بين القولين، وبعضهم كالأخفش يقول: فَلَمّا أَحَسّواْ بَأْسَنَا أي: توقعوا عذابنا، والأمر -والله أعلم- فوق هذا، فهو ليس مجرد توقع وإنما أيقنوا وعرفوا بما عاينوا وشاهدوا، عند ذلك حصل منهم هذا الذي ذكره الله -تبارك وتعالى، فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ وليس بمجرد التوقع.
طبعاً، يقول: إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ الركض أصله: ركَضَ الفرسّ، أي أنه -كما هو معلوم- إذا حرك رجليه، فضربه بهما، كما يفعل راكب الدابة، هذا أصله، ثم بعد ذلك قيل للجري، فصارت العرب تعبر تعبيراً أوسع من هذا، ولو لم يفعل ذلك برجله بل لو أطلق الفرس وحده، يقال: ركضَ الفرسَ أي أجراه، وصار يقال لمن يجري ولو لم يكن راكباً يقال: ركض، يركض، ولكن أصله ركضه برجله بمعنى أنه يحرك رجليه كما يفعل راكب الدابة، هذا يقال له: ركضه برجله، ركض الدابة برجله، ما يقال: ركضها برجله، وإن كان يصح التعبير بهذا، لكن يقال: ركض الدابة، بمعنى أنه برجله جعل يحرك رجليه، يضربها برجليه في جنبيها من أجل أن تسرع، هذا الأصل، ثم صار يقال لكل جري، كما يقال في اليمين: أصلها مع الحلف الأخذ باليمين، تأكيداً للقول بالفعل، ثم صار ذلك يقال لكل حلف، وهكذا في عدد من الأشياء في كلام العرب كان لها أصل معين، ثم بعد ذلك توسعوا في التعبير عنها.
طبعاً هذا على أساس أنه استهزاء، لكن على ما ذكرت قبل قليل مما يذكره بعض المفسرين، وفسروا الآية بهذا الاعتبار بناءً على بعض المرويات الإسرائيلية أنهم سمعوا منادياً قال لهم: ارْجِعُوَاْ إِلَىَ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِفرجعوا إلى مساكنهم، ثم سمعوا منادياً يقول: يا لثارات نبي الله، فحصل استئصالهم وإهلاكهم، لكن هذا مبناه على ما ذكرت من هذه المرويات التي لا يصح الاعتماد عليها، لكن قصدت من هذا أن من فسره بذلك فإنه لا يكون على سبيل التهكم، أيا كان المراد به.
والأقرب أن هذا على سبيل التهكم -والله تعالى أعلم، كقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "أي قيل لهم نزراً لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور، والمعيشة، والمساكن الطيبة"، وبعضهم يقول: ارجعوا إلى مساكنكم يعني إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ بعضهم يقول: لعلكم تسألون أن يرجع إليكم في المهم، تسألون كما كنتم تسألون قبل ذلك، ويرجع إليكم في المهمات، ويؤخذ رأيكم فيها، لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ تهكماً بهم.
وبعضهم يقول: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ عما رأيتم وعاينتم فتجيبوا بما شاهدتهم وما حل بكم، لكن كل ذلك لا يكون، فإن العذاب يأخذهم ويستأصلهم ولا مجال إلى الرجوع إلى مساكنهم، لكن هؤلاء يقولون: إن ذلك وقع على سبيل التهكم بهم، أين تذهبون، رأيتم العذاب، ارجعوا إلى مساكنكم لعلكم تسألون عما شاهدتم، وتخبرون الناس بما حل بكم، على سبيل التهكم بهم.
وبعضهم يقول: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ أي: كما كنتم تسألون قبل ذلك، يعني ارجعوا إلى مساكنكم لعلكم تسألون، أي يطلب منكم الإيمان كما كان يطلب منكم قبل نزول العذاب، على سبيل الاستهزاء.
قوله: جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ كما يقال للإنسان إذا مات: خمد، ويقال: برد، بمعنى صار جثة هامدة لا حراك فيها، فارقت أرواحهم أجسادهم فلم يعد بهم حراك.
وَمَا خَلَقْنَا السّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّا إِن كُنّا فَاعِلِينَ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمّا تَصِفُونَ وَلهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبّحُونَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ [سورة الأنبياء:16-20].
يخبر تعالى أنه خلق السموات والأرض بالحق، أي بالعدل والقسط، لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم:31]، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً كما قال: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [سورة ص:27].
وقوله تعالى: لَوْ أَرَدْنا أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّا إِن كُنّا فَاعِلِينَ، قال ابن أبي نجيح عن مجاهد: لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّايعني: من عندنا، يقول: وما خلقنا جنة ولا ناراً ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً.
قوله -تبارك وتعالى: وَمَا خَلَقْنَا السّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَفالله -تبارك وتعالى- خلق ذلك لغاية وحكمة عظيمة، ولم يكن ذلك للتلهي أومن غير حكمة أوجد الخلق من أجلها، فالله إنما خلق هذه الأكوان، والمخلوقات، والجنة والنار، كل ذلك بالحق، وقوله -تبارك وتعالى: لَوْ أَرَدْنا أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّا، اللهو بعضهم فسره بالولد، قالوا: هذه الآية رد على الذين نسبوا إلى الله الولد، وبعضهم فسره بالزوجة؛ لأنه يُتلهى بها، يقولون: هذا رد على الذين نسبوا له الصاحبة.
وبعضهم يحمل المعنى على ما هو أعم من ذلك، يقول: اللهو كل ما يتلهى به، ويدخل فيه اللعب، والله وصف الحياة الدنيا بأنها لعب ولهو، فكل ما يتلهى به فهو لهوٌ، فالله -تبارك وتعالى- يقول: وَمَا خَلَقْنَا السّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لَهْواً لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّا، فاللهو يدخل فيه ما يتلهى به.
ويذكر بعض أهل العلم الفروقات بين اللهو واللعب، فكل ما يتلهى به فهو لهو، وكل لعب فهو لهو، واللهو منه ما هو باطل، ومنه ما يكون حقاً، وبعض أهل العلم يقول: إن اللعب هو ما يأنس به الإنسان في أوله ويقبل عليه من أجل أن يأنس به ونحو ذلك، واللهو أوسع من ذلك، قد لا يحصل به الاستئناس كالذي ينشغل في الدنيا، ولو كان يشقى بها ويتعب، ينشغل بدنياه عن الآخرة، فهذا مشتغل باللهو، وهكذا إذا اشتغل بشيء يصرفه ويشغله عن الله ، ولو لم يكن فيه راحة وأنس، أما اللعب فإنه إقبال على شيء يستهويه، لكن دون أن ينتفع بذلك ويخرج منه بما يرفعه، ويحصل له به الأجر والثواب ونحو ذلك، فاللعب من اللهو، واللهو أوسع من هذا.
يقول: لاّتّخَذْنَاهُ مِن لّدُنّا قال: "أي من عندنا"، من عندنا يعني من جهة قدرتنا لا من عندكم، كما يعبر بعض أهل العلم، وابن القيم -رحمه الله- عبر بعبارة أخص من هذا فيقول: أي من الجوهر الأعلى السماوي الموصوف بالخلوص والنقاء، لا من جوهر هذا العالم الأرضي الذي ركب هذا التركيب الذي يخالطه ويمازجه الأدناس والفناء، ومثل هذه المواضع قد لا يتجاسر الإنسان فيها على بعض العبارات، وإنما يعبر بعبارة مجملة كما قال مجاهد، وبعضهم قال: لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لَهْواً أي: من الحور العين، والدخول في مثل هذه التفصيلات قد يكون الأحسن منه ما ذكره مجاهد، وبعضهم قال: لَوْ أَرَدْنَا أَن نّتّخِذَ لَهْواً إنه لهو الجماع، ففسروا اللهو بالجماع، ومثل هذا لا حاجة إليه، والله أعلم.
هذا الذي يسمونه بالكليات، كل شيء في القرآن كذا فهو كذا، مثل كل الريح في القرآن فهو العذاب، وأحياناً يستثنون، يقول لك: إلا في قوله: بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [سورة يونس:22].
كل شيء في القرآن القتل فهو اللعن مثلاً إلا كذا، لكن هذا يحتاج إلى استقراء، هل هي في كل المواضع فعلاً كذلك أو لا، وهذا يسمونه بالكليات في التفسير، والكليات تأتي بمعنيين، تأتي بمعنى ما يقابل الجزئيات، فالقضايا الكلية كالتوحيد، وقضايا الأخلاق، أصول الأخلاق، وما أشبه ذلك يقال لها: الكليات، مثلما يقال: الكليات الخمس: حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ النسل والعرض، وحفظ العقل، وحفظ المال، يقال لها: كليات، ويقال: الكليات لما كان من هذا الشأن، كل كذا فهو كذا، هذا غير هذا، ولذلك تجد أحياناً في بعض الكتب التي تعنى بالكليات، في بعضها المقصود هذا: كل كذا فهو كذا، والقواعد يقال لها: كليات، ولو لم تكن مبدوءة بكل؛ لأنها تنتظم الجزئيات الكثيرة، فالقاعدة قضية كلية وليست جزئية، فالقواعد كليات، وتارة يراد بالكليات المعنى الآخر: أي هي أصول الدين الكبار، ودعائمه العظام، وما أشبه هذا.
وقوله هنا: "كل شيء في القرآن "إن" فهو إنكار"، فقوله: إِن كُنّا فَاعِلِينَ أي: ما كنا فاعلين، وتأتي مخففة من الثقيلة أحياناً، وتأتي شرطية، ومن أهل العلم من قال بأنها نافية إِن كُنّا فَاعِلِينَ أي: وما كنا فاعلين، لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ، ولم نكن فاعلين ولم نتخذ لهواً، وبعضهم يقول: بل هي شرطية، وبعضهم يُجّوز الأمرين، وقد يحتمل أن تكون شرطية ويحتمل أن تكون نافية، فإذا كانت شرطية يكون إِن كُنّا فَاعِلِينَ يعني إن كنا ممن يفعل ذلك لاتخذنا من لدنا إِن كُنّا فَاعِلِينَ، تكون شرطية، إن كنا ممن يتخذ لهواً لاتخذناه من عندنا، وهذا الكلام أيضاً في الآية الأخرى، وهي قوله -تبارك وتعالى: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81]، فـ"إن" هنا شرطية، إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، لكن فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، فأنا أول العابدين لله، على قول جماعة كبيرة من السلف وممن بعدهم، وبعضهم يقول: فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ لهذا الولد، لكنه غير موجود، فقال ذلك على سبيل التنزل، وعلى هذا المعنى يمكن أن يكون ذلك داخلاً تحت القاعدة، وهي: أن التعليق بالشرط لا يعني إمكان الوقوع، إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ، -والله أعلم.
أصل الدمغ في كلام العرب الشجة التي تصل إلى الدماغ، وهي من أنواع الشجاج، فالشجاج أنواع منه ما يقال له: المأمومة: تصل إلى أم الدماغ، ومنه ما يقال له: الموضحة توضح العظم، فالدامغة: هي التي تصل إلى الدماغ، وهذه لا يعيش الإنسان معها عادة، الدامغة تصل الضربة فيها إلى الدماغ، ليس فقط العظم أو الجلد، وإنما تصل إلى الدماغ، فيقال: دمغه أي شجه على دماغه حتى وصل إلى الدماغ، يقال: هذه ضربة دامغة، يعني قاضية، فصار ذلك يستعمل فيما يحصل به إبطال الشيء بالكلية.
وقال الله -تبارك وتعالى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فيزهقه: يعني يذهبه، تقول: زهقت نفسه، زهقت روحه يعني ذهبت، فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ أي: ذاهب مضمحل باطل، وذلك بما في هذا القرآن من الحجج والبراهين، وبيان دلائل التوحيد، وبطلان ما يخالفه ويناقضه من الشبهات، والترّهات، وما يتشبث به هؤلاء من المبطلين، ممن نسبوا لله الصاحبة أو الولد، وعبدوا غيره، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ، يقول: وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ مما يضيفونه إلى الله من الشركاء الذين يعبدونهم، فتضمن هذا القرآن من الحجج والبراهين ما يجلي به ويبطل به كل باطل.
كل الذين يصفون ويقولون هذه الأباطيل، ويدعون أن لله ولداً أو صاحبة هذه الدعاوى الكاذبة هم داخلون في هذا، كل من جعل لله شريكاً، أو صاحبة أو ولداً، والله أعلم.
هنا قوله: وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ يعني: أن الله -تبارك وتعالى- هو رب كل شيء ومليكه، فكل من في السماوات والأرض فهو مخلوق لله مربوب مملوك، والولد كما هو معلوم ليس كذلك، فهذا رد على هؤلاء الذين ينسبون له الشركاء والصاحبة والولد، فهذا الخلق كله كلهم عبيده وخلقه ومماليكه يتصرف فيهم كما يشاء.
يقول: وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ هذه جملة أخرى، يعني الوقف هنا تام على قوله -تبارك وتعالى: وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يعني ملكاً وخلقاً، ثم جاءت جملة جديدة وَمَنْ عِندَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وهم الملائكة، فلا يتعاظمون ولا يترفعون أو يأنفون، وأيضاً لا يستحسرون.
" أي: لا يتعبون ولا يملون"، بمعنى قول الله : ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ [سورة الملك:4]، ومعنى حسير: كليل، فهذه الكلمة تأتي بمعنى الإعياء والانقطاع أو الانقطاع بسبب الكلال والإعياء والتعب، كما يقال: حسرت الدابة، يعني انقطعت، انقطعت من طول السير، وهو الذي يعبر عنه يقال: حرنت الدابة، حرنت: يعني البعير مع طول السير في السفر يبرك، فإذا برك لا يمكن أن يقوم ولو أحرق بالنار، فيُترك، وقد يموت في مكانه؛ لأنه ما يأكل ولا يشرب، قد يكون هذا البروك لمدة طويلة، لا يتحرك أبداً من طول التعب، فإن كان صاحبه يهتم به يجلس عنده، فيعلفه، ويجمع له الحشيش، ويسقيه، ويتلطف به غاية التلطف من أجل أن تطيب نفسه وينشط فيقوم، هذا يحصل عند العرب في أسفارهم وتنقلاتهم، فمتى ما نهض هذا البعير ركبه، قد تطول المدة وقد تقصر، ولهذا كانوا غالباً ما يتركون البعير، وأحياناً قد ينحرونه ويأكلون لحمه، وأحياناً لا يتمكن أصلاً صاحبه من ذلك؛ لأن الركب لا ينتظره، فيترك، ولهذا تجدون في قول الشاعر:
بها جيف الحسرى فأما عظامها | فبيض وأما جلدها فصليب |
جيف الحسرى يعني يصف فلاة بعيدة، فتجد الإبل تنقطع فيها ويتركونها ويذهبون، فتموت وتتفسخ فتلوح عظامها.
فإذا طال المكث وماتت البهيمة يبقى الجلد قوياً جافاً يابساً، والزهومة والدهون وكل ذلك قد تحلل وتلاشى. فقوله: وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ بمعنى الانقطاع والإعياء، ما يحصل لهم تعب وانقطاع عن عبادة الله ، فلا يحصل لهم تعاظم، لا يتركون ذلك كبراً وتعاظماً، ولا يتركونه بسبب التعب والإعياء.
فقوله: وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ بمعنى الانقطاع والإعياء، ما يحصل لهم تعب وانقطاع عن عبادة الله ، فلا يحصل لهم تعاظم، لا يتركون ذلك كبراً وتعاظماً، ولا يتركونه بسبب التعب والإعياء.
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً، مطيعون قصداً وعملاً، قادرون عليه، كما قال تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6].
أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء:21، 22].
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال: أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ أي: أهم يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض؟، أي لا يقدرون على شيء من ذلك، فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السموات والأرض، فقال: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ أي: في السموات والأرض لَفَسَدَتَا كقوله تعالى: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [سورة المؤمنون:91].
قوله: أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ بعضهم يقول: إن "أم" هذه هي المنقطعة، وإن الهمز لإنكار الوقوع، أَمِ اتّخَذُوَاْ آلِهَةً مّنَ الأرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ أي: هذه الآلهة تبعث الخلق بعد فنائهم وموتهم، وتحييهم؟، ثم قال: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا "إلا" هذه فسرها جماعة من أهل العلم بأنها بمعنى سوى، ويقولون: إنها ليست استثنائية، هذه ليس المقصود بها أنها ذات استثناء، وإنما هي بمعنى غير، لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ غير الله لفسدتا، وهذا الذي يسميه المتكلمون بدليل التمانع، ويقولون بأنه دليل التمانع في الربوبية، يقولون: لو كان لهذا الكون صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، لفسدت السماوات والأرض، وشيخ الإسلام وكذلك ابن القيم ناقشهم في هذا، وأن هذا الدليل إنما هو تمانع في الإلهية؛ لأنه قال: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌما قال: أرباباً، قال: إن الأقرب أن يكون دليل التمانع في الربوبية هو قوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ.
ومما ذكره قال: إنه أولاً ذكر آلهة، والشيء الآخر: أنه قال: لَفَسَدَتَا، فهذا فساد بعد الوجود، فالربوبية تعني الخلق والإيجاد، بخلاف مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ فهذا الرب هو الخالق، ولَفَسَدَتَا هي موجودة، من الذي أوجدها؟ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا، فساد بعد الوجود، فقالوا: هذا تمانع في الإلهية، وليس في الربوبية.
وقال ههنا: فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ أي: عما يقولون أن له ولداً أو شريكاً -- وتقدس وتنزه عن الذي يفترون ويأفكون علواً كبيراً.
وقوله: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [سورة الأنبياء:23] أي: هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه وعلمه وحكمته وعدله ولطفه، وَهُمْ يُسْأَلُونَ أي: وهو سائل خلقه عما يعملون كقوله: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الحجر:92، 93]، وهذا كقوله تعالى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [سورة المؤمنون:88].
سؤال:
ما هو الضابط فيما يرسله الله -تبارك وتعالى- على خلقه؟ متى يقال له: عذاب؟
النبي ﷺ أخبر عن الطاعون بأنه عذاب، كان يرسله الله على من شاء من خلقه، وأنه رحمة لهذه الأمة، وهذا يدل على أنه ما كل ما يقع من المصائب العامة أو الخاصة يعني أنه عذاب، مع أن الله يقول: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ [سورة الشورى:30]، فالخلق مستحقون لهذا بسبب تقصيرهم وجناياتهم، وما يرسله الله لهم قد يكون رحمة بهم؛ لرفع درجاتهم وتكفير سيئاتهم، ونحو هذا، فيكون رحمة بهذا الاعتبار، لينيبوا إليه، ليرجعوا إليه، وما أشبه هذا، وقد يكون عقوبة، وقد يكون عذاباً وعقوبة، ويترجح هذا أو هذا بمعرفة حال الناس.
فإن كانوا أهل طاعة واستقامة وعبادة وصلاح فيقال: هذا ابتلاء وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء:35]، فالله وعد بالابتلاء، فما يقع من القحط والمجاعة وغلاء الأسعار، فإذا كان الخلق على استقامة، وهذا كما يقال في الحال العامة، عموم الناس، وأنهم يأخذون على يد الظالم، وينهون عن المنكر، ويأمرون بالمعروف، ونحو ذلك، فيرجى أن الذي حل بهم إنما هو تكفير لسيئاتهم ورفع لدرجاتهم وابتلاء لهم، ويقلبهم الله في هذا وهذا.
وإذا كان الغالب عليهم هو الفساد والشر والمحادة لله ، فتظهر فيهم الشرور والمنكرات ولا تغير، فهذا غالباً ما يكون عقوبة، كالذي يقع على الكفار والمحاربين لله المحادين له، فمثل هذا ما يقال: والله إن الذي وقع فيهم هو تكفير لسيئاتهم، ورفع لدرجاتهم، إنما هو عذاب نزل بهم، وهو قليل مما ينتظرهم، الأمم المعرضة عن الله، حتى لو كانوا ينتسبون للإسلام، إذا ظهر فيهم المنكر وكان هو الغالب ولم يُغيّر، فالأحاديث والنصوص دلت على هذا، إلا عمهم الله بعقاب[1]، هذا إذا كان ما وقع إنما هو متولد من المنكر وناتج عنه فهذا لا شك أنه عقوبة معجلة، وإذا كان متولداً من الطاعة فهذا رحمة، وابتلاء لرفع الدرجات وتكفير السيئات، والله أعلم.
- رواه أحمد في المسند برقم (19230)، وقال محققوه: إسناده حسن، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2317).