السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[91] من قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} الآية 204 إلى قوله تعالى: {وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} الآية 207
تاريخ النشر: ١٢ / صفر / ١٤٢٦
التحميل: 4173
مرات الإستماع: 3085

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ  ۝ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ۝ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [سورة البقرة:204 - 207]: "قال السدي: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي، جاء إلى رسول الله ﷺ وأظهر الإسلام وفي باطنه خلاف ذلك.

وعن ابن عباس -ا: أنها نزلت في نفر من المنافقين، تكلموا في خبيب وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع وعابوهم، فأنزل الله في ذم المنافقين ومدح خبيب وأصحابه، وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ، وقيل بل ذلك عام في المنافقين كلهم، وفي المؤمنين كلهم، وهذا قول قتادة ومجاهد والربيع بن أنس وغير واحد وهو الصحيح.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فالملاحظ في هذه الآيات أن الله قسم الناس فيها إلى فريقين متقابلين متناقضين، قال في الفريق الأول: وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وقال في الفريق الآخر: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ

ولهذا ذهب كثير من المفسرين إلى أن الآية الأولى عامة في المنافقين، والآية الثانية عامة في المؤمنين، وما روى عن السدي أنها نزلت في مثل الأخنس بن شريق الذي أظهر الإسلام، وباطنه على الخلاف، ثم بعد ذلك قتل أناساً، وقتل حمراً، وأفسد حرثاً وما أشبه ذلك، فهذه الرواية عن السدي لا تصح؛ لأنها في حكم المرسل، وعلى افتراض صحتها فالعبرة كما يقول المفسرون بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعليه فتحمل على كل من يشملهم الوصف في الآية.

وكذا قوله سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ، تعتبر عامة في أهل الإيمان الذين صدقوا في إيمانهم، ولم يخالطوه بنفاق، ولا تختص بأحد دون أحد منهم، والله أعلم.

وهذا ما اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- أنها عامة، وأما الرواية الأخرى التي نقلها عن ابن عباس أنها نزلت في نفر من المنافقين، تكلموا في خبيب وأصحابه الذي قتلوا بالرجيع، فحصل لهم الغدر، وعابوهم فقالوا: إن هؤلاء قد غرروا بأنفسهم وأوقعوها في القتل، فلم يستبقوا مهجهم، ولم يؤدوا ما طلب منهم، وجلسوا يتكلمون عليهم، ويقعون في أعراضهم، ويشمتون بهم، وما علموا أن هؤلاء بذلوا نفوسهم في سبيل الله فحصل مقصودهم من الشهادة، فهذه الرواية تؤكد ما ذهب إليه ابن جرير الطبري وابن كثير من عمومها، وشمولها جميع أفراد العام الذين يصدق فيهم هذا الوصف الوارد في الآية.

وروى ابن جرير عن القرظي عن نوف وهو البكالي وكان ممن يقرأ الكتب، قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل.

نوف البكالي كان ممن يقرأ الكتب السابقة، ويروي الإسرائيليات، وينقلها كثيراً.

قوم يحتالون على الدنيا بالدين، ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمر من الصبر، يلبسون للناس مسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب.

الصبر هو نبات معروف، لا يطاق طعمه؛ لأنه مر.

والمسوك جلود الضأن، فهم ذئاب ويلبسون جلود الضأن، والمراد أنهم يتظاهرون بالخير والصلاح، وحقيقتهم خلاف ذلك.

يقول الله تعالى: فعليّ يجترئون، وبي يغترون، حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليم فيها حيران.

قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ.. الآية، وهذا الذي قاله القرظي حسن صحيح.

الآية بظاهرها وعمومها تصدق في أهل النفاق؛ لأنهم يظهرون الصلاح والدين والخير والطاعة ويبطنون الكفر، وهكذا كل من تظاهر بالإسلام وأبطن خلافه يقاس عليهم، فتجدهم يتربصون بأهل الإسلام الدوائر فإذا ألم بالمسلمين حادثة، أو اعتراهم ضعف أو نحو ذلك، أظهروا كوامن النفوس فصاروا يشمتون ويطعنون في دين الله وشرعه وأهله، ويسخرون منهم، ويدعون إلى الإصلاح المبطن بالإفساد في الأرض يقول الله في وصف حقيقتهم: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ۝ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ [سورة البقرة:11-12].

وأما قوله: وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ، معناه أنه يظهر للناس الإسلام ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق، كقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ.... الآية [سورة النساء:108]، هذا معنى ما رواه ابن اسحاق عن ابن عباس -ا.

وقيل معناه: إنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف، وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه، وهذا المعنى صحيح.

يَحتمِل في الإشهاد وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ معنيين:

الأول: أنه يقول قولاً والواقع أن الله يشهد على خلافه، ويعلم من باطنه وحاله خلاف ما أظهره، وهذا المعنى تشهد له قراءة ابن عباس وهي غير متواترة والله يشهد على ما في قلبه، والآية تحتمله احتمالاً قوياً.

والثاني: أنه يدعي الإسلام، ومحبة الله ورسوله، وطاعته واتباعه لشرائع الإسلام، ويعقب ذلك بقوله: والله يشهد على ما أقول من إرادتي للخير والإصلاح وما أشبه ذلك، وهو كذاب في ادعائه وإشهاده، وهذا المعنى هو المتبادر إلى الأذهان، ويشهد له قوله تعالى: إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [سورة المنافقون:1]، فهم جاءوا بلفظ الشهادة "نشهد" مؤكدة بإن ولام القسم، ورغم هذا بين الله حقيقة شهادتهم، فقال عنهم: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، وهذا القول...

قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس -ا، وحكاه عن مجاهد. والله أعلم.

ويمكن أن يستدل أيضاً للقول الثاني بقراءة أخرى ليست متواترة، وهي قراءة ابن مسعود -: ويستشهد الله على ما في قلبه، والآية إذا كانت تحتمل معنيين مختلفين بدون معارض، فإنها تحمل عليهما جميعاً؛ لأن القرآن يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهذا المنافق الذي يقول: إنه مؤمن، ومحب لله ورسوله، ومريد للخير، هو في الواقع حينما يقول ذلك أو يتفوه به، إنما يجعل الله يشهد على أن حاله على خلافه، وأن باطنه مكذب لظاهره.

والإشهاد كذباً بالله يلجأ إليه كثيراً المنافق؛ لأنه يعلم أنه في موضع تهمة وريب، فيتخذ من الإشهاد مطية للخروج من المأزق الذي وقع فيه، وهذه سجيتهم أخبر الله عنهم في معرض التشنيع بهم في أكثر من آية يقول سبحانه: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [سورة المنافقون:2]، يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة التوبة:96] يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ [سورة التوبة:62] حتى إنهم في اليوم الآخر إذا بعثهم الله يحتذون بما اعتادوه في الدنيا من الأيمان الفاجرة كما أخبر الله عنهم بقوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18] ظناً منهم أن أيمانهم التي كانت تروج في الدنيا، فحقنوا بها دماءهم، وأحرزوا بسببها أموالهم تروج في الآخرة، فلأجل ذلك إذا قاموا من قبورهم يوم القيامة اشتغلوا بالأيمان الكاذبة على الله ، وفي سورة المنافقون جاءت المؤكدات قوية في كلامهم قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ [سورة المنافقون:1]، لكن جاء الرد عليهم بنفس الطريقة وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، المهم أن كل معنى من هذه المعاني يوجد ما يشهد له من الدلائل، فيمكن أن تحمل الآية على الوجهين، والله تعالى أعلم.

وهو ألد الخصام، الألد في اللغة: الأعوج، وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا [سورة مريم: 97]، أي عوجاً.

الألد جاءت في كلام العرب، وقد فسرت في الآية بأحد معنيين:

الأول: يرجع إلى معنى الخصومة، والمراد أنه من أشد الناس خصومة.

والثاني: يرجع إلى معنى الميل والاعوجاج واتخاذ الجانب، وهذا الذي مشى عليه ابن كثير -رحمه الله، وأراد أنه مائل في خصومته، يكذب، ويتزايد، ويحرف الدليل وقول مخالفه ويقوّله ما لم يقل، ويستدل بأمور يعلم عدم صلاحها لإثبات المطلوب، ويكابر في الحق بعدما يتبين له، فكل ذلك داخل فيه، فهو معوج غير مستقيم في خصومته وجداله.

فالمعنى الأول يدل على أنه صاحب جدال كما قال الله عن المشركين: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [سورة الزخرف:58]، أي شديدو الخصومة، ومن هنا لا تجد الخصومة في القرآن الكريم تذكر إلا في مقام الذم، ومثلها المراء إلا في قوله: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا [سورة الكهف:22]، بخلاف الجدال فجاء الأمر به تمدحاً في مواضع: وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل:125]، وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة العنكبوت:46]، بينما جاء في موضع آخر على سبيل الذم يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ [سورة الأنفال:6]، إلى غير ذلك من النصوص.

وأما المعنى الثاني: فإنه ينبه إلى أنه غير مستقيم في خصومته، وإنما هو صاحب اعوجاج، والمعنيان يصبان في تفسير الألد، فيكون شديد الخصومة صاحب اعوجاج عند افتعالها، ولهذا ابن جرير -رحمه الله- يرى بأن المعنيين متقاربان، ولا مانع من حمل الآية عليهما، ولا حاجة للترجيح بين هذين المعنيين.

ومن أهل العلم من يقول: إن أصل اللدد مأخوذ من صفحة العنق، إذ إن شديد الخصومة صعب أن يثنيه أحد، أو يجعله يحيد ويميل برأيه تلقاء ما يراه مجادله؛ لأنه وجه نفسه إلى شيء مازج دمه وخالط فكره، فأخذوا منه المعنى الأول. وأخذوا المعنى الثاني من كون صفحة العنق في الجانب، وعليه جعلوا معنى ألد الخصام أي: شديد الخصومة مائل فيها، والله أعلم.

وهكذا المنافق في حال خصومته يكذب ويزّور عن الحق ولا يستقيم معه، بل يفتري ويفجر، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله ﷺ أنه قال: آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر[1].

إذا خاصم فجر: أي يميل في خصومته، فتحمله على البغي والعدوان، وتجاوز الحد.

وروى البخاري عن عائشة -ا- ترفعه قال: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم[2].

الخصام في قوله سبحانه: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [سورة البقرة:204]، يحتمل أن يكون مصدراً لخاصم يخاصم خصاماً فيكون بهذا الاعتبار أي: شديد الخصومة.

ويحتمل أن يكون جمعاً للخصم أو المخاصم، فيقصد به أكثر الخصماء أو أكثر المخاصمين مخاصمة وخصومة وهو معنى ألدهم، والله أعلم.

وقوله: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ [سورة البقرة:205]، أي هو أعوج المقال، سيئ الفعال، فذلك قوله وهذا فعله.

قوله سبحانه: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ يحتمل أن يكون من الولاية، يعني إذا صارت له سلطة كانت مدعاة له للإفساد والتغيير والتبديل.

ويحتمل أن يكون المعنى أنه إذا صار له التولي أعرض وذهب، كما قال الله عن المنافقين: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ [سورة المنافقون:4]، فيسمعك كلاماً ممتازاً مصففاً منمقاً أحلى ما يكون، إلا أن الفعال أقبح ما تكون، فهم أشباح بلا أرواح، وجسوم بلا فهوم، شبههم بالخشب المسند الذي لا ينتفع به لا في عمد ولا في سقف، وهكذا المنافق لا يقوم بنفسه ولا بغيره.

ويحتمل أن يكون تولى بمعنى ضل وغضب، وكل هذه الاحتمالات يحتملها لفظ الآية.

وقوله سبحانه: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ الحرث قيل: هو الزرع وهذا هو المعنى المتبادر، وبعضهم يقول: النساء، أي ويسمعك كلاماً حسناً وإذا تولى منك أفسد المرأة، وهذا من بلاغة القرآن فمعانيه لا تنقضي، وعجائبه لا تفنى.

والنسل بمعنى الذرية، وأصل النسل من السقوط، ولهذا قيل لما يخرج من المرأة نسل.

كلامه كذب، واعتقاده فاسد، وأفعاله قبيحة، والسعي هاهنا هو القصد.

ولا يفهم من السعي في الأرض أنه جرى أو مشى مشياً سريعاً، كما في قوله سبحانه: وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى [سورة القصص:20] فليس هذا هو المقصود، وإنما المقصود به العمل.

كما قال إخباراً عن فرعون: ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى ۝ فَحَشَرَ فَنَادَى ۝ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ۝ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى۝ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى [سورة النازعات:22-26]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [سورة الجمعة:9]، أي: اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية: إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وعليكم السكينة والوقار[3].

فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض وإهلاك الحرثِ-وهو محل نماء الزروع والثمار-والنسلِ-وهو نتاج الحيوانات-اللذين لا قوام للناس إلا بهما، وقال مجاهد: إذا سعى في الأرض فساداً منع الله القطر، فهلك الحرث والنسل.

تفسير مجاهد لقوله: وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ يعتبر من باب الملازمة، وتوجيه القول: أن الله علّق انحباس القطر ونزع البركات الذي يحصل به هلاك الزرع والنسل بتقحم بني آدم على الذنوب والمعاصي، وإفسادهم في الأرض، وهو تفسير حسن.

والله لا يحب الفساد، أي لا يحب مَن هذه صفته، ولا من يصدر منه ذلك.

وقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ [سورة البقرة:206]، أي: إذا وعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله، وقيل له: اتق الله وانزع عن قولك وفعلك وارجع إلى الحق، امتنع وأبى، وأخذته الحمية والغضب بالإثم أي: بسبب ما اشتمل عليه من الآثام.

الباء في قوله: بِالإِثْمِ للسببية، واختلفوا في معنى الآية فقيل: إنها بمعنى مع، أي: أخذته العزة مع الإثم، وهذا فيه بعد.

وقيل: إنها بمعنى اللام، أي: أخذته العزة للإثم والمراد أنها حملته على ذلك.

وقيل: إنها بمعنى على، أي حملته العزة على الإثم، وقريب منه القول بأن العزة أخذته وحملته بما يؤثمه، والله أعلم بالصواب.

وهذه الآية شبيهه بقوله تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [سورة الحـج:72]، ولهذا قال في هذه الآية: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [سورة البقرة:206]، أي: هي كافيته عقوبة في ذلك. 

وقوله: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ [سورة البقرة:206]، لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ [سورة البقرة:207]. 

قال ابن عباس وأنس وسعيد بن المسيب وأبو عثمان النهدي وعكرمة وجماعة: نزلت في صهيب بن سنان الرومي وذلك أنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل، فتخلص منهم وأعطاهم ماله، فأنزل الله فيه هذه الآية، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة وقالوا له: ربح البيع، فقال: وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم، وما ذاك؟ فأخبره أن الله أنزل فيه هذه الآية، ويروى أن رسول الله ﷺ قال له: ربح البيع صهيب[4].

ومعنى الآية عام يدخل فيه كل مجاهد في سبيل الله، كما قال تعالى: إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة:111]. 

ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين، أنكر عليه بعض الناس، فرد عليهم عمر بن الخطاب وأبو هريرة -ا- وغيرهما، وتلوا هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ [سورة البقرة:207].

جرت هذه الآيات على عادة القرآن الكريم في ذكر النقيضين، فإنه يذكر أصحاب النار ثم يذكر أصحاب الجنة، يأتي على ذكر الوعد ويثني بذكر الوعيد، يعرج على صفات الأبرار ويتلوها بصفات الفجار، فالله    –- لما ذكر حال الأولين وهم أهل النافق الذين:

يعطون من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب

ذكر حال الطرف الآخر وهو مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ، أي: يبيع نفسه طلباً لمرضاة ربه، فمثلهم أهل لرحمة الله ، ولهذا ختم الله هذه الآية بقوله: وَاللّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ أي: لهم أرقّ الرحمة وهي الرأفة، إذ الرأفة نوع من الرحمة، وأما أهل النفاق فقال في صنيعهم: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ.

والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه.

  1. أصل الحديث عند البخاري أربع من كن فيه.... رواه في كتاب الإيمان –باب علامة النفاق برقم (34) (1/21)، ورواه مسلم في كتاب الإيمان   –باب بيان خصلة المنافق برقم (58) (1/78).
  2. رواه البخاري في كتاب المظالم –باب إذا أذن إنسان لآخر شيئا جاز برقم (2325) (2/867)، ورواه مسلم في كتاب العلم –باب في الألد الخصم برقم (2668) (4/2054).
  3. رواه البخاري بلفظ آخر في كتاب الأذان –باب قول الرجل فاتتنا الصلاة برقم (609) (1/228)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة –باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيا برقم (603) (1/421).
  4. رواه الحاكم في مستدركه برقم (5700) (3/450)، وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في التلخيص برقم (5706).

مواد ذات صلة