الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
البصيرة في الدين
تاريخ النشر: ٢٥ / جمادى الأولى / ١٤٣٣
التحميل: 20397
مرات الإستماع: 8320

حقيقة البصيرة

إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله، صلى الله، وسلم، وبارك عليه، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فسلام الله عليكم، ورحمته، وبركاته.  

أيها الأحبة، حديثنا في هذه الليلة عن البصيرة في الدين، والحاجة لمثل هذا الحديث في مثل هذه الأيام ماسة، وشديدة، ولا يخفى ذلك على أحدٍ منا، لكثرة ما نرى، ونشاهد من الفتن، والأمور التي تزلزل الناس، وتأفكهم.

وكم رأينا من أناسٍ كانوا على الجادة، ثم بعد ذلك زلت أقدامٌ بعد ثبوتها.

وكم رأينا من أقوامٍ يتقلبون في ألوان الشبهات، والشهوات، ولا يعرفون كيف الخروج من ذلك.

فنحن بحاجةٍ إلى مدارسة هذه القضايا حيناً بعد حين، وأن نتذاكر، وأن نتواصى، وأن نتناصح، وأن لا نمل، ولا نفتر من طرح هذه الموضوعات.

حديثنا في هذه الليلة سينتظم عشر قضايا.

أسأل الله - تبارك، وتعالى - أن ييسر، ويبارك، وأن يعيننا، وإياكم جميعاً على أنفسنا، وأن ينفعنا بما نسمع.

سيتضمن هذا الحديث عن حقيقة البصيرة، وعن منزلتها، وعن أنواعها، وعن درجاتها، وعن أحوالها، وتفاوت الناس فيها، وعن الطريق الموصل إلى ذلك، وعما يكملها، وعن أسباب ضعفها.

وهكذا نتحدث عن آثارها، وثمراتها، وأخيراً يكون الحديث عما ينتج بسبب فقدها.

أولاً: حقيقة البصيرة:

أما حقيقتها فإنها ما يكون به اتضاح الحق، وإدراك الأمور على حقائقها، فهي اسمٌ للإدراك التام الحاصل في القلب.

وأصل ذلك من الظهور، والبيان، والله - تبارك، وتعالى - وصف هذا القرآن بأنه بصائر، أي: أدلةٌ، وهدى، وبيان يقود إلى الحق، ويهدي إلى الرشد.

وهي للقلب بمنزلة البصر للعين، يبصر بها المعلومات، والحقائق كما هي، فهي عين القلب، كما أن البصر عين البدن.

 
منزلة البصيرة في الدين

وأمّا منزلتها في الدين فإن كمال الإنسان يرجع إلى أصلين اثنين:

الأول: هو معرفة الحق الذي جاء به الرسول ﷺ

والثاني: هو العمل بهذا الحق، والناس إنما ينسفِلون، ويهبطون إما بسبب جهلهم بالحق، وإما بسبب ترك العمل به.

وبهذا تتفاوت مراتبهم، ودرجاتهم في الدنيا، والآخرة.

فأحياناً يكون الحق منبهماً على الإنسان، ملتبساً، وكم من واحدٍ لربما يبحث، ويراجع، ويطالع، ثم يخرج على الناس بعد ذلك بنتائج مقلوبة.

والعبد بحاجة دائماً إلى أن يسأل ربه أن يلهمه رشده، وأن يسدده في قوله، وعمله، ورأيه، وحكمه.

وكثير من الناس قد يعرف الحق، ولكنه لا يعمل بمقتضى هذه المعرفة، والعلم، وهذا كثير.

والله - تبارك، وتعالى - يقول: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [ص: 45].

فأثنى الله - تبارك، وتعالى - عليهم، فالأيدي: بمعنى القوة في تنفيذ الحق، والعمل به.

والأبصار: هي البصائر في الدين.

فجمع الله لهم هذا، وهذا، معرفة الحق على ما هو به، وكذلك القوة في تنفيذه، والقيام به ظاهراً، وباطناً.

فهذا هو الكمال الحقيقي لمن أراد أن يحصّل الكمالات.

وقد جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنهم أولي القوة، والعبادة[1].

وجاء عن قتادة، ومجاهد: أُعطوا قوةً في العبادة، وبصرًا في الدين[2].

فأعلم الناس هو أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه، وإن كان مقصراً في العمل.

وقد جاء عن بعض السلف - رحمهم الله تعالى - وقد ذكر الأولين من سلف هذه الأمة، فقال: إنما كانوا يعملون على البصائر، وما أُوتي أحدٌ أفضل من بصيرةٍ في دين الله، ولو قصر في العمل[3].

فالبصيرة: هي الأمر الكاشف الذي يعرف الإنسان به ربه - تبارك، وتعالى - معرفةً صحيحة، ويعرف به الطريق الموصل إليه، وهو ما شرعه على ألسُن رسلهِ - عليهم الصلاة، والسلام - وبه يعرف الدار التي يصير الناس إليها

هذه حقيقتها، وهذا ما يكون عليه مدارها. 

  1.  تفسير الطبري (21/215).
  2. المصدر السابق (21/167).
  3.  مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/303).
أنواع البصيرة:

أما أنواعها فيمكن أن نجمل ذلك بأنها على نوعين اثنين:

الأول: ما كان، وهبيًّا.

والثاني: ما كان كسبيًّا.

أما الوهبي فما يكون بتوفيق الله للعبد، فيفتح الله قلبه للحق، ويبصره به، فيكون مستقيماً، مهتدياً، ويكون هذا الإنسان على جادة، وهدى، وصراطٍ مستقيم.

والنوع الآخر: وهو ما كان من النوع الكسبي، وذلك يحصل بالمجاهدات، والصبر على تطلب العلم الصحيح من مظانه، وكثرة النظر في مصدر الهداية، وهو هذا القرآن، وما يشرحه من سنة رسول الله ﷺ وما كان عليه السلف الصالح في الفهم، والعلم، والاستنباط، والنظر في دلائل الكتاب، والسنة.

 
درجات البصيرة

وأما درجاتها: فقد ذكر بعض أهل العلم كالحافظ ابن القيم - رحمه الله - أنها على ثلاث درجات[1]:

المرتبة الأولى: ما يتصل بالله - تبارك، وتعالى - أن يعرف العبد ربه معرفةً صحيحة بأسمائه، وصفاته، فإذا عرف المعبود خافه، ورجاه، وعبده، وعظمه، ولم يتعاظم المخلوق فيصير في حالٍ يراقبه العبد أعظم من مراقبته لله - تبارك، وتعالى - أو يخاف منه أعظم من خوفه من ربه وتقدست أسماؤه.

فلا يكون الله - تبارك، وتعالى - أهون الناظرين إليه.

وكثير من العلل، والأدواء، والآفات التي تعتور السالكين إلى الله إنما يكون ذلك بسبب أنهم ما عرفوا الله المعرفة اللائقة بعظمته، وجلاله، فاجترءوا عليه، وصاروا يتعاملون معه تعاملاً قاصراً، بحسب ما وقع في نفوسهم من القصور في معرفة ربهم - تبارك، وتعالى -.

المرتبة الثانية: هي معرفة الأمر، والنهي، فيعرف مراد الله ويعرف حدوده، ويلزمها، وهذا الذي يورثه لزوم الصراط المستقيم، والتقوى، ويكون العبد بهذا محققاً للعبودية لله - جل جلاله، وتقدست أسمائه.

ولا يكون في قلبه أدنى معارضة لأمر الله، وشرعه، ونهيه، وهكذا في أقضيته، وأقداره، فيكون العبد في حالٍ من التسليم للأمر الشرعي، وللأمر الكوني القدري القضائي.

وذلك ينبني على ما قبله، فإن العبد إذا عرف أن ربه عليم، وأنه حكيم، لا تخفى عليه خافية، وأنه يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها، فإنه في هذه الحال يطمئن إلى تشريعه، فلا يعارضه بأدنى معارضة.

كما أنه يطمئن إلى أحكامه القدرية، فلا يعترض، ولا يتسخط على أقدار الله .

ولا يكون أيضاً هناك شهوةٌ غالبة، تغلبه فيترك أمر الله، أو يقع فيما حرمه الله، ويكون بهذا متبعاً لهواه.

المرتبة الثالثة: وهي البصيرة في الوعد، والوعيد.

وذلك أن العبد يكون بحال كأنه يرى الدار الآخرة أمام عينيه، فإذا وقف بين يدي الله وصفّ قدميه في الصلاة فهو يتصور أنه، واقف على الصراط، واقفٌ بين الجنة، والنار، وهو يتصور الدار الآخرة بتفاصيلها التي أخبرنا الله تعالى عنها، كأنه يشاهدها، ويراها.

فيعمل بمقتضى هذا العلم، وهذه البصيرة التي صارت في قلبه، فأضاءت له الطريق، وعرف ما هو مقدم عليه، فصار يعمل لذلك اليوم، ويستعد للقاء ربه .

ومن نظر في كثير من الآيات التي ذكر الله فيها تفاصيل الآخرة، وما يقع من الجدال بين الأتباع، والمتبوعين، وما يقع من السؤالات، والمحادثات التي تكون بين أهل الجنة، أو التي تكون بين أهل النار، كقول بعض أهل الجنة: إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ [الصافات: 51] إلى آخر ما قص الله - تبارك، وتعالى - في سورة الصافات - شعر كأنه يشاهد ذلك.

إن الكثير من هذه القضايا لا يدركها الإنسان إلا حينما يشاهدها، ويكفي في الدليل على ذلك أن أصحاب النبي ﷺ لما قُبض رسول الله - عليه الصلاة، والسلام - وتكلم من تكلم أن النبي ﷺ لم يمت فلما قرأ عليهم أبو بكر الآية: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144].

كانت هذه الآية كأنها تطرق أسماعهم لأول مرة، هذا في الدنيا، فكيف بالآخرة؟

فإذا شاهد الإنسان حقائق الآخرة لربما تكون هذه الآيات التي قص الله علينا فيها خبر الآخرة مفصلاً كأنها تطرق سمع الإنسان لأول مرة.

ولهذا كانت الغفلة غالبة بضعف اليقين، فالإنسان يعلم أنه سيموت، وأنه سيحاسب، ويؤمن بالجنة، والنار، ومع ذلك يجترئ على الله ويعمل المعاصي، ويترك الطاعات، كأنه لن يحاسب.

فإذا فُتح على قلبه، واستنارت بصيرته، فيكون ذلك كأنه يعاينه، كأنه أمامه يشاهده، ومن ثَمّ فإذا قام في الصلاة خشع، وخضع قلبه، وهو مراقب لربه في أحواله كلها، وكذلك أيضاً في أعماله، يأتي من الأعمال بما يظن أن سعادته تتحقق بذلك، حينما تفتح تلك الصحائف، وتوضع الموازين، فلا يعمل إلا ما يسره، ويورثه السعادة في ذلك اليوم.

  1.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/144 - 145).
أحوال البصيرة:

هذه البصيرة بمنزلة البصر للعين، فهي تتفاوت، والناس يتفاوتون فيها، كما يتفاوتون في البصر، أو أعظم من ذلك.

فالبصر كما أنه يتأثر بأدنى ما يقع فيه، فيشوشه، ويضر بناظره، فكذلك هذه البصيرة، فإنها تكون تارةً عمياء، لا تبصر شيئاً، وتارةً تكون ضعيفة الإبصار - يعني مريضة - وتارة تكون صحيحة، مبصرة، تميز بين الحق، والباطل.

والله - تبارك، وتعالى - يقول: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف: 36].

فعبر عن ذلك بهذا الوصف وَمَنْ يَعْشُ وأصل العشا في العين هو ضعف بصرها، والمراد هنا عشا البصيرة، نسأل الله العفو، والعافية.

وفي قوله - تبارك، وتعالى - عن المنافقين: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15] فعبر عن ذلك بـ"العمه" والعمه عمى القلب، وظلمة البصيرة، وأثره الحيرة، والاضطراب، وعدم الاهتداء للصواب.

وكما قال الله - تبارك، وتعالى -: أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى [الرعد: 19].

فالعمى وحده هو الذي ينشئ الجهل بهذه الحقيقة الكبرى، الواضحة، التي لا تخفى إلا على العميان.

فالعمى عمى البصيرة، وانطماس المدارك، واستغلاق القلوب، وانطفاء قبس المعرفة في الأرواح.

فيكون الإنسان متخبطاً، كالأعمى الذي يسير في طريق لا يهتدي فيها، ولا يعرف كيف يتجه.

وبناء على ذلك صارت بصائر الناس في هذا النور الباهر تنقسم ثلاثة أقسام:

القسم الأول: مَن عَدِم البصيرة بالكلية، فصار في حال من العمى، فاضمحلت بصيرته، فهو في ظلمات، كما ذكر الله خبر المنافقين في سورة البقرة، في المثل المضروب لهم: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ [البقرة: 19].

فهؤلاء لا يرون من هدايات القرآن، ومن أنواره، وإشراقاته إلا الظلمات، والرعد، والبرق، فهو يجعل أصبعه في أذنه من الصواعق، ويجعل يده على عينه من البرق خشية أن يخطف بصره.

فهو لا يجاوز نظره ما وراء ذلك من الرحمة، وأسباب الحياة الأبدية.

فهذا القسم أصحابه أولئك الذين لم يرفعوا لهذا الدين رأساً، ولم يقبلوا هدى الله الذي هدى به عباده، ولو جاءتهم كل آية لما انتفعوا بها؛ لأنه سبقت لهم من الله الشقاوة.

وإنما فائدة إنذار هؤلاء هي إقامة الحجة عليهم - والله المستعان -.

القسم الثاني: هم أصحاب البصائر الخفاشية، البصائر الضعيفة، الذين أصابهم في بصائرهم شيء من الضعف لأسباب معلومة، سيأتي ذكر بعضها - إن شاء الله تبارك، وتعالى -.

فهؤلاء نسبة أبصارهم إلى هذا النور، والهدى الذي جاء به الرسول ﷺ كنسبة بصر هذا الإنسان الضعيف إلى هذه الأشياء التي نشاهدها من الأمور المتشخصة، التي نراها في هذه الدنيا.

فهؤلاء هم الذين نشأوا على دين الأسلاف، فدينهم دين العادة، الذين ورثوا ذلك وراثة من غير أن يكون لهم معرفة، وبصر، وقناعات، وعلم بما جاء به الرسول ﷺ  

فإذا عرضت لهم الشبهات تزلزلوا، وحرّكتهم، وأورثهم ذلك ريباً، وشكاً، وكان ذلك سبباً لارتكاسهم، وتراجعهم، وردتهم عن دينهم.

القسم الثالث: هم خلاصة هذا الوجود، وهم لباب بني آدم، وهم أولو البصائر النافذة، الذين عرفوا الحق بدلائله، فأبصروه على حقيقته، فهؤلاء هم الذين يثبتون إذا تواردت الشبهات، أو لاحت، وعرضت لهم الشهوات، لما عندهم من اليقين الثابت الكامل، الذي لا يتزعزعون معه حينما ترد مثل هذه الأمور التي تعصف بكثير من الناس، كما نشاهد في مثل هذه الأيام. 

 
الطريق إلى البصيرة

ما هي الأمور التي تنجلي معها البصيرة في نفوسنا، وقلوبنا، فنكون من أصحاب البصائر؟

أولاً: الإيمان:

والله - تبارك، وتعالى - يقول: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأنعام: 99].

فالإيمان هو الذي يفتح القلب، فيستنير، وتستنير البصيرة، وينبه أجهزة الاستقبال عند الإنسان، فينتفع ببصره، وينتفع بسمعه، وينتفع بحواسه، وتستجيب فطرته، ويكون الإنسان في حال من التأثر، والاعتبار، والانتفاع بكل ما يشاهده.

بخلاف أصحاب البصائر المطموسة، الذين يمرون على هذه الآيات، وقد انتكست فطرهم فلا ينتفعون بشيء من ذلك، ولا يتأثرون به.

ثانياً: تقوى الله - تبارك، وتعالى - والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال: 29].

فهذا الفرقان هو البصيرة التي يفرق الإنسان بها بين الحق، والباطل، وبين معدن الحق، ومعدن الشبهات.

ومعلوم أن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وهذا هو الحكم الذي رُتب على هذا الوصف، وهو تقوى الله فهذا الحكم يكون لهم بقدر ما يكون عندهم من الوصف المتقدم، وهو التقوى، فإذا كان الإنسان متقياً لله انفتحت بصيرته، ويكون له من البصيرة على قدر ما يكون عنده من التقوى، الحكم المرتب على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه.

فعلى قدر تقوانا لله يكون عندنا من البصيرة، ولهذا جاء عن سليمان بن عتيق - رحمه الله - أنه قال: لما وقعت الفتنة قال طلق بن حبيب: اتقوها بالتقوى.

قالوا: وما التقوى؟

قال: أن تعمل بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله، والتقوى ترك معاصي الله على نورٍ من الله، خوف عقاب الله[1].

وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: بادروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا، ويمسي كافرًا، و يمسي مؤمناً، ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا[2].

وهكذا في قوله ﷺ لما ذكر الفتن: ماذا أُنزل الليلة من الفتن؟ ماذا أُنزل من الخزائن؟ من يوقظ صواحب الحجرات - يعني أزواجه - عليه الصلاة، والسلام - من يوقظهن لماذا؟ من يوقظهن لقيام الليل، يبادرون بالأعمال، وذلك لأمرين:

الأول: أن الناس ينشغلون حال الفتن عن العبادة.

والأمر الثاني - والله تعالى أعلم -: أن العبادة لها أثر في التوفيق، والهداية، والتسديد، والثبات على الصراط المستقيم إذا وقعت الفتن.

وكثير من الناس إذا وقعت الفتنة بدءوا يضطربون، ويسألون ما العمل؟ ما المخرج؟ ما دورنا؟ ما هو المطلوب؟

وكان ينبغي على هؤلاء أن يعدوا أنفسهم للفتن قبل وقوعها برصيد من تقوى الله وطاعته، ولزوم عبادته، والإقبال عليه ظاهراً، وباطناً.

فمثل هؤلاء يُرجى للواحد منهم أن يثبت، ويرجى للواحد منهم أن يسدد، وأن يستقيم، وإلا فإن الآخرة دار لا تصلح للمفاليس، كما أن الفتن لا يثبت، ولا يقف أمامها أولئك المفاليس، إلا من لطف الله به، ورحمه، وانتشله من حمأتها.

ولذلك تسمع في أوقات الفتن عن أولئك الذين يتساقطون، وتكثر هذه الظواهر في مثل تلك الأوقات، فتجد هذا لربما ينتسب إلى شيء من العلم، لكنه كان خاويًا من العبادة، ثم بعد ذلك ينحرف، ويسلك طريقاً آخر، بل قد يكون معول هدم، يشكك في الثوابت، ولربما يدعو إلى أمور بخلاف ما كان يدعو إليه قبل ذلك.

وهذا لربما كان يشتغل بنوع من الاشتغال، بنوع من الأعمال يظن أنها مما تقربه إلى الله، وقد لا تكون كذلك، ثم بعد ذلك ينتكس انتكاسة كبيرة يرفع الناس إليها أبصارهم.

ثم يظهر على بعض القنوات يتبجح، وأنه كان على حال، ثم أبصر خيراً منها، وأنه لربما لم يكن يعرف من حقائق الدين ما عرفة الآن.

فصارت هذه الشهوات، والانحرافات، والضلالات، تغلف بلبوس الشبهات، فصار ذلك إلى حالٍ من الاستحلال لهذه المعاصي، والذنوب، والمحرمات، بل لربما الكبائر، بل لربما لبعض الأمور المعلومة من دين الله بالضرورة.

والله - تبارك، وتعالى - يقول عن أهل الإيمان: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201].

قد يقع المؤمن بالمعصية، لكنه سرعان ما يتذكر، ويستيقظ إيمانه، وتبقى بصيرته حية، فيرجع إلى ما كان عليه من لزوم الصراط المستقيم، والجادة الصحيحة، ويرجع إلى طاعة ربه - تبارك، وتعالى -.

أما الفئة الأخرى وَإِخْوَانُهُمْ فهؤلاء شيءٌ آخر، يعني إخوان الشياطين يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف: 202].

يعني: أن الشياطين تمدهم في الغي، فيبقى الواحد منهم مسترسلاً مع جرائمه، وجرائره، وانحرافاته، وضلالاته، فلا يرجع عنها، بل يُزيَّن له ذلك، ويسأل ربه التثبيت، وغالباً ما يكون ذلك في لونٍ من الانحرافات، وهي التي كانت بسبب الشبهات.

وكما قلت: صارت كثيرٌ من الشهوات اليوم تغلف، وتلبس بلبوس الشبهات، فصار أصحابها يسترسلون معها، ويقولون: إن ذلك هو الحق الذي جاء به الرسول ﷺ

وهذه الآية العظيمة أفادت أن مس الشيطان يعمي، ويطمس البصيرة، ولكن تقوى الله - تبارك، وتعالى - ومراقبته، وخشيته تصل القلوبَ بربها، وبارئها، ومليكها وتقدست أسماؤه - فتوقظها من الغفلة.

فأهل التقوى يتذكرون، فإذا تذكروا تفتحت بصائرهم، وتكشفت الغشاوة عن عيونهم، فإذا هم مبصرون.

فمس الشيطان عمى يطمس هذه البصائر، أو يضعفها، ولذلك إذا استرسل الإنسان مع هذه المعاصي، والذنوب فإن ذلك يؤدي إلى انطماس بصيرته، وإلى تتابع الذنوب على قلبه، فتنكت فيه نكتة سوداء.

كما جاء في الحديث: تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأيّ قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأيُ قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات، والأرض، والآخر أسود مُربادًّا كالكوز مُجَخِّيًا لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه[3].

يكون كالكأس مقلوباً، لا يبقى فيه شيء من المائع، ولا يستقر فيه، فينتكس قلب الإنسان إذا تتابعت عليه الذنوب.

فينبغي على العبد إذا أراد أن يواقع معصية الله أن يتذكر هذا المعنى أولاً، أن هذا الذنب يعني أنه ستُنكت في قلبه نكتة سوداء، والذنب الآخر يتلوه، ويتبعه، فهي كالحصير تعرض على القلوب عوداً عوداً، متجاورة، متتابعة، متعاقبة.

فإذا وقع في الآخر دعاه إلى الذي بعده، حتى يسود القلب، وإذا اسود القلب فإن العبد لا يبصر الحق بعد ذلك،

ولذلك تجد أن الكثيرين لا يريدون أن يتوبوا، ولا يفكرون في التوبة.

وهذا هو السر الذي يفسر حال الكثيرين لربما كان يعاني من مرض عضال، فرجله في القبر، ومع ذلك لا يتوب، ولا يرجع عن المظالم، ولا عن الفساد، والإفساد الذي تسبب فيه، ويبقى على ذلك إلى أن يفارق الدنيا.

السبب في ذلك هو أن هؤلاء تمدهم الشياطين في الغي، ثم لا يقصرون، لا يرعوي، ولا يرجع، ولا تحصل له توبة، ولا يراجع نفسه، ويندم على ما وقع منه.

كيف تتحقق التقوى؟

الأمر الأول: تتحقق بفعل الطاعات، فإن الطاعة تؤثر في القلب تأثيراً عجيباً، فهي تنور القلب، وتجلوه، وتصقله، وتقويه، وتثبته، حتى يصير كالمرآة المجلوة في جلائها، وصفائها، فيمتلئ نوراً، فإذا دنا الشيطان منه أصابه من نوره ما يصيب مسترق السمع من الشهب الثواقب، كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[4].

ولذلك كان عمر إذا سلك طريقاً سلك الشيطان طريقاً آخر[5].

فالشيطان يَفْرق، ويخاف من هذا القلب، أشد من فرق الذئب من الأسد، حتى إن صاحبه ليصرع الشيطان.

فالطاعات تنور البصائر.

الأمر الثاني: هو ترك المعاصي؛ لأن الظلمة تحصل للقلب بتتابع هذه الذنوب.

ثالثاً: هداية الله للعبد، وتوفيقه:

فالعبد بحاجة إلى أن يسأل ربه دائماً أن يرزقه بصيرةً في الدين، وأن يهدي قلبه، وذلك لا يحصل إلا بمنّ الله وكرمه، وهدايته، وتوفيقه لعبده.

وإلا فإن الشبهات، والشهوات غلابة، والشبه، والفتن خطافة، فتختطف العبد، وهذا الصراط الذي في الدنيا عليه كلاليب، كما أن الصراط المنصوب على جسر جهنم، أو على متن جهنم عليه كلاليب تختطف الناس.

فالعبد بحاجة إلى أن يسأل ربه دائماً: "اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السموات، والأرض، عالم الغيب، والشهادة، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، فإنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم".

فيكثر من هذا السؤال، والدعاء، والتضرع.  

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ربما طالعت على الآية الواحدة نحو مائة تفسير، ثم أسأل الله الفهم، وأقول: يا معلم آدم، وإبراهيم علمني، وكنت أذهب إلى المساجد المهجورة، ونحوها، وأمرغ وجهي في التراب، وأسأل الله، وأقول: يا معلم إبراهيم فهمني"[6].

فنحن بحاجة إلى مثل هذا، وأن نكثر من دعاء الله والضراعة إليه.

ويوسف، وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم دعا ربه، وقال: وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ۝ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [يوسف: 33 - 34].

وكذلك أيضاً لما خلصه الله ونجاه من فتنة امرأة العزيز، قال الله - تبارك، وتعالى -: كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف: 24] وفي قراءة متواترة: (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ).

فدل ذلك على أن الإخلاص سببٌ للخلاص من الفتن بأنواعها، فتن الشبهات، وفتن الشهوات.

رابعاً: الدليل الهادي مع السلامة عما يعارضه:

فالعبد بحاجة إلى الدليل الهادي، مع السلامة عما يعارضه، والقرآن، والسنة هي أدلة هادية، ولكن قد يعرض لذلك شبهات تصرف الإنسان عن الحق، فمن الناس من لا يقف على الدليل أصلاً الذي يوصله إلى مطلوبه من الحق، لربما خفي عليه ذلك، ولربما قصر في طلبه، فيقرأ في بعض الفلسفات المترجمة، يقرأ في بعض كتب الغربيين التي ترجمت في فلسفاتهم، ويطلب الكمالات من تلك الفلسفات، فمثل هذا كيف يهتدي؟

فالعبد بحاجة إلى معرفة الأدلة الهادية، كما أنه بحاجة إلى أن يتخلص، وينفك من كل ما يعارضها من الشبه التي تحول بين العبد، ومعرفة الحق، ولزومه.

ومن أدار النظر في أعلام الحق، وأدلته، وتجرد لله - تبارك، وتعالى - من هواه استنارت بصيرته، ورزق فرقاناً يفرق به بين الحق، والباطل كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في المدارج[7].

ولهذا أطلقت البصيرة على الدلالة التي توجب إبصار النفوس، كما في قوله - تبارك، وتعالى -: قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا، وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ [الأنعام: 104]. 

جَاءَكُمْ بَصَائِرُ أي: ما تبصرون به الهدى من الضلال، والإيمان من الكفر، وهي الحجج البينة الظاهرة.

فمن أراد الحق فإن القرآن هو مورده، ومصدره، ومعينه الذي لا ينضب، ومن طلب الهدى في غيره أضله الله .

وقال الله في حق موسى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص: 43] أي: أنه سببٌ للبصيرة.

خامساً: التفكر في آيات الله، ومخلوقاته، وأن يعتبر في ذلك كله:

فحسن التأمل لما نرى، ونسمع من الآيات المشهودة، والمتلوة يثمر صحة البصيرة، كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله -[8].

القرآن: أن نتدبره، وأن نتفكر في معانيه، وأن نعتبر بما فيه من القصص، والمواعظ، والعبر، والأمثال، وأن نستخرج ألوان الهدايات، وأن نقرأه بهذا الاعتبار، أنه كتاب هداية، وأن نطلب الهداية منه، وأن نقبل عليه بكليتنا.

أن نقبل عليه إقبالاً صادقاً بقلوبنا، لا أن نقرأ لمجرد تحصيل الأجر، والثواب، فإن ذلك من المطالب التي يُقرأ كتاب الله لتحصيلها، ولكنه أيضاً نزل لهداية القلوب، والنفوس من أجل أن تسلك صراط الله المستقيم.

والله - تبارك، وتعالى - يقول في الآيات المشهودة: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ۝ إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 5، 6].

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -: "في هذه الآيات الحث، والترغيب على التفكر في مخلوقات الله، والنظر فيها بعين الاعتبار، فإن بذلك تنفتح البصيرة، ويزداد الإيمان، والعقل، وتقوى القريحة، وفي إهمال ذلك، تهاون بما أمر الله به، وإغلاق لزيادة الإيمان، وجمود للذهن، والقريحة"[9].

سادساً: أكل الحلال:

فإن أكل الحلال له تأثير عجيب في التوفيق، والهداية للصواب، والحق، ومن الحرام يتولد عمى البصيرة، وظلام السريرة، كما يقول ابن الجوزي - رحمه الله -[10]

  1.  الزهد الكبير للبيهقي (ص: 351)، رقم: (965).
  2.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن (1/110)، رقم: (118).
  3.  أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبًا وسيعود غريبًا، وأنه يأرز بين المسجدين (1/128)، رقم: (144).
  4.  الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء (ص: 94).
  5.  انظر: صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب التبسم والضحك (8/23)، رقم: (6085)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة - باب من فضائل عمر - رضي الله تعالى عنه - (4/1863)، رقم: (2396).
  6.  رأس الحسين (ص: 176).
  7.  مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/148).
  8.  المصدر السابق (2/30).
  9.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 358).
  10.  بحر الدموع (ص: 146).
التقلل من الفضول بأنواعه

فضول النظر، فضول الكلام، والأكل، والشرب، والخلطة، والنوم، فهذا الفضول كله يورث الغفلة إذا كان في المباح، فكيف إذا كان ذلك فيما حرمه الله ؟.

فإن من أكثر من هذا الفضول ضعفت بصيرته، وتلاشت، وصارت الغفلة غالبة عليه.

ولذلك ذكروا مثلاً من فوائد الجوع: صفاء القلب، وإيقاد القريحة، وإنفاذ البصيرة، قالوا: فإن الشبع يورث البلادة، ويعمي القلب، ويكثر الأبخرة في الدماغ، فهو شبيه بالسكر، فيثقل القلوب، فلا تجري في الأفكار التي كان ينبغي أن تجري فيها، ولا يكون لها من سرعة الفهم، والإدراك.

بل قالوا: إن الصبي إذا أكثر من الأكل بطل حفظه، وفطنته، وذهنه، وصار بطيء الإدراك، والفهم، والمعرفة.

 
أن يكون العبد راغباً فيما عند الله - تبارك، وتعالى -

اجعل أمرك لله ليكن تطلعك، وإقبالك على ربك، وخالقك .

فحينما يعمل الإنسان الأعمال الصالحات من الأمور القاصرة، أو الأمور المتعدية، يكون أمره لله لا يريد عرضاً من الدنيا، لا يريد منزلة، وحظوة من المخلوقين، لا يريد منهم تقديراً، واحتراماً، وإشادةً، وتقديماً، وما إلى ذلك.

فمن كانت نيته الدنيا أُعطي منها، ونقص من آخرته أضعافه، وتفرق عليه الهم، وكثر بالحرص، والرغبة شغله.

ومن كانت نيته الآخرة أعطي من البصيرة، والحكمة، والفطنة، وفتح له من التذكرة، والعبرة بقدر نيته، وجمع له همه كما ذكر ذلك بعض أهل العلم.

أمور مكملة للبصيرة:

فمن ذلك: الصبر، كما ذكر ابن القيم - رحمه الله - فذلك لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما[1].

يقول الحسن البصري - رحمه الله -: إن شئت أن ترى بصيراً لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت صابراً بصيراً فذاك[2].

وهكذا العزيمة فإنها لقاح البصيرة، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا، والآخرة، وبلغت به همته من العلياء كل مكان، فتخلُّف الكمالات إما من عدم البصيرة، وإما من عدم العزيمة.

يعني: يبصر الحق، يعرف الحق لكن لا عزيمة له على سلوك طريقه، والعمل بمقتضاه.

أمور تضعف البصيرة:

أما ما يضعفها فأشير إلى جملة من الأمور تبلغ خمسة:

أولاً: الكفر بالله - تبارك، وتعالى - :

فهو يطمسها بالكلية فتظلم بصيرته، والله ضرب المثل لهذا بقوله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُور [النور: 40].

فالكفر ظلمة منقطعة عن نور الله  وضلال، لا يرى فيه القلب أقرب علامات الهدى، فهذه بلية، ومصيبة إذا بُلي العبد بها فإنه لا يبصر الطريق إلى الحق بحال من الأحوال.

ثانياً: النفاق:

فزرع النفاق ينبت على ساقيتين، كما ذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله[3]:

الأولى: الكذب، والثانية الرياء، ومخرجهما من عينين - يعني: أن هاتين الساقيتين تخرجان من عينين - الأولى: ضعف البصيرة، والثانية: ضعف العزيمة، فضعف البصيرة يجعل هذا الإنسان يقبل على ما يضره، يرائي الناس، فيضيّع أعماله، ويضيع نصيبه عند الله، ولا يزيده ذلك في قلوب الخلق إلا مقتاً، ولا يزيده من الله - تبارك، وتعالى - إلا بعداً، وهو لا يشعر.

وهكذا حينما تضعف بصيرته فإن عزيمته تكون ضعيفة خامدة، فإذا تمت هذه الأركان الأربعة استحكم نباتُ النفاق، وبنيانه، والله قال عن المنافقين: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 9].

فهذا يدل على أن العمل السيئ قد يعمي البصيرة، والإنسان لا يشعر بما حوله، وما يقع له، هنا: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فنفى عنهم الشعور، فلا يشعر بما حوله.

وهذا أمر عظيم، ولا يكون إلا بسبب انطماس البصائر.

ثالثاً: المعاصي:

وقد قال البخاري - رحمه الله - في الصحيح: باب ما يحذر من الحدود، وقال ابن عباس: ينزع منه نور الإيمان في الزنا[4].

وأورد البخاري - رحمه الله - حديث أبي هريرة مرفوعاً: لا يزني الزاني حين يزني، وهو مؤمن، ولا يشرب الخبر حين يشربها، وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق، وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم، وهو مؤمن[5].

قالوا في شرحه كما جاء في قول المهلب: ينزع منه نور الإيمان[6].

يعني ينزع منه بصيرته في طاعة الله لغلبة الشهوة عليه.

الشهوة تكون مثل السكر، يكون على بصرة مثل الضباب إذا غلبت الشهوة، فيقع في هذه المعصية، لكن المؤمن سرعان ما يفيق، ويندم، ويتراجع، وتتحرك النفس اللوامة، فتلومه على مواقعة المعصية، أو الفاحشة.

فهذه البصيرة حال المواقعة للمعصية كأنها نور أطفأته هذه الشهوة من قلبه.

ويشهد لهذا قوله - تبارك، وتعالى -: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14].

وقد قال مالك للشافعي - رحمه الله - حينما رآه لأول وهلة، قال: إني أرى الله تعالى قد ألقى على قلبك نوراً، فلا تطفئه بظلمة المعصية[7].

فهذا النور لا يزال يضعف، ويضمحل مع مواقعة المعاصي، ومع ظلماتها حتى يصير القلب في مثل الليل البهيم.

يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في حال هؤلاء: فكم من مُهلَكٍ يسقط فيه، ولا يبصر كأعمى خرج بالليل في طريقٍ ذات مهالك، ومعاطب، فيا عزة السلامة، ويا سرعة العطب، ثم تقوى تلك الظلمات، وتفيض من القلب إلى الجوارح فيغشى الوجهَ منها سوادٌ بحسب قوتها، وتزايدها، فإذا كان عند الموت ظهرت في البرزخ، فامتلأ القبر ظلمة.

كما قال النبي ﷺ : إن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة، وإن الله ينورها بصلاتي عليهم[8].

فإذا كان يوم المعاد، وحُشر العباد، علت الظلمة الوجوه علوًّا ظاهراً، يراه كل أحد، حتى يصير الوجه أسود مثل الحممة.

فيا لها من عقوبة لا توازن لذات الدنيا بأجمعها من أولها إلى آخرها، فكيف بقسط العبد المنغص، المنكد، المتعب، في زمن إنما هو ساعة من حلم - والله المستعان -[9].

لحظة المعصية، مع أن هذه المعاصي إن كانت من المطعومات فهي في ثوان، في وقت المضغ فقط يلتذ بها مع ما يحصل من التنغيص قبلها، وبعدها.

وإذا كانت هذه الذنوب، والمعاصي من قبيل مواقعة لون آخر من الشهوات كالوقاع مثلاً، فإنها لحظات، ثم بعد ذلك تنطفئ بالكلية، فهذه حال هذه الشهوات لو كانت مباحة فكيف بالمحرمة؟!.

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فوائد غض البصر، وأنه يورث نور القلب، والفراسة، واستشهد بقوله - تعالى - عن قوم لوط - عليه الصلاة، والسلام - : لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72][10].

فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل، وعمى البصيرة، وسكر القلب، بل جنونه، وذكر - تبارك، وتعالى - آية النور عقب آيات غض البصر، فقال: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ [النور: 35].

وهذا فيما يعرف بعلم المناسبة، يعني: وجه الارتباط بين هذه المذكورات المتتابعة في كتاب الله قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ، وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور: 30] فذكر هذا، ثم إن الله - تبارك، وتعالى - ذكر بعده قوله: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ، وَالْأَرْضِ [النور: 35].

مما يدل على أن غض الأبصار يورث انفتاح البصائر، فكيف بأولئك الذين يسرِّحون أبصارهم، ويجلسون ليلاً طويلاً أمام بعض المواقع الإباحية، وينظرون إلى ما لا يحل لهم النظر إليه؟ كيف تكون البصائر مع هذه الحال؟.

إذا كان جُريج الراهب دعت عليه أمه أن لا يموت حتى يرى وجوه المومسات، فرأى وجه مومس واحدة، فكيف بمن يرى وجوه العشرات، أو المئات، أو الآلاف في أقبح الصور، والمزاولات؟.

وكان شاه بن شجاع الكرماني لا تخطئ له فراسة، وكان يقول: من عمر ظاهره باتباع السنة، وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، واعتاد أكل الحلال لم تخطئ له فراسة[11].

شيخ الإسلام - رحمه الله - يقول: إن الله يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله[12].

فغض البصر عما حرم الله يعوض العبد به من جنسه بما هو خيرٌ منه، فيطلق الله نور بصيرته، ويفتح عليه باب العلم، والمعرفة، الجزاء من جنس العمل. 

وقد ذكر نحو هذا الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في الجواب الكافي[13].

وذكر أيضاً في بعض كتبه في سياق بيان آثار مقارفة الفواحش، والنظر إلى الحرام، وذكر أن من أشد العقوبات: العقوبة بسلب الإيمان، وأن دونها العقوبة بموت القلب، ومحو لذة الذكر، والقراءة، والدعاء، والمناجاة من هذا القلب، وربما دبت عقوبة القلب فيه دبيب الظلمة إلى أن يمتلأ القلب بها، فتعمى البصيرة، وأهون العقوبة ما كان واقعاً بالبدن في الدنيا، وأهون منها ما وقع في المال، وربما كانت عقوبة النظر في البصيرة، أو في البصر، أو فيهما[14].

يعاقب بسبب النظر إلى الحرام بانطماس بصيرته، وقد يعاقب ببصره في الدنيا فيصيبه العمى.

أمَا يخشى الإنسان ربه - تبارك، وتعالى - حينما يطلق بصره فينظر إلى ما حرم الله أن يصاب ببصره، أو أن يصاب ببصيرته؟.

رابعاً: اتباع هوى النفوس:

فإذا غلب العقل النفس ارتدع الإنسان، وقمع عوارضه المدخولة، واستضاء بنور الله - تبارك، وتعالى - واتبع الحق، والعدل، وإذا غلبت نفسه عقله عميت بصيرته، ولم يفرق بين الحسن، والقبيح، وعظم عليه الالتباس، وتردى في هوّة الردى، ومهواة الهلكة، كما يقول ابن حزم - رحمه الله -[15]

يقول ابن القيم: فزوبعة الهوى إذا ثارت سفت في عين البصيرة، فخفيت الجادة[16].

خامساً: التعصب للباطل، وإحسان الظن بأهله:

فإن المتعصب للباطل لربما يكون ذلك سبباً لصرفه عن الحق، وإعراضه عنه، فيكون مشوهاً في عينه، ويكون أرباب الحق في حالٍ من التشويه في نظره، ومقاييسه، ومعاييره، ويكون الباطل في نظره مبررًا، ويُزيَّن له سوء عمله، ويرى أولئك الذين يمثلون الباطل الذي هو من قبيل البدع، والأهواء التي تعود إلى الشبهات، يرى أن هؤلاء على الحق فيدافع عنهم، ويلتمس لهم المعاذير، ويحسِّن أفعالهم، ويحملها على أحسن المحامل، وهكذا إذا كان هؤلاء من أصحاب الشهوات، والجرائم، والذنوب، والمعاصي.

والتعصب له أثر لا يخفى، ولذلك كم من إنسان ترك الحق، ودلائله، وأهله بسبب تعصبه للباطل، وأهله.

فهذا أمر يؤثر في البصيرة.

آثار البصيرة، وثمراتها:

بعد ذلك ننتقل إلى الحديث عن آثار هذه البصيرة، وعن ثمراتها إذا وُجدت، ورزق العبد بها.

أولاً: الانتفاع بالمواعظ، والتذكير، والله يقول: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا [يس: 70].

والمقصود كما قال قتادة: حي القلب، حي البصر[17].

حياة القلوب، أن يكون له قلبٌ، وقّاد ينتفع بالمواعظ، والتذكير، ويقبل على ما ينفعه، فيخرج من ذلك إذا سمع الخطبة، أو الموعظة، أو نحو هذا، يخرج بزيادة، وحال مرضية.

ثانياً: صحة البصيرة تورث اليقين في القلب فلا يتزعزع:

إنما أولئك الذين يتزعزعون هم أولئك الذين ضعفت بصائرهم بسبب غلبة الشبهة، أو غلبة الشهوة، فهؤلاء هم الذين يتساقطون في أوقات الفتن.

ثالثاً: أن يكون لهذا الإنسان بصر نافذ إلى ما وراء الأشياء:  

يعني: أن ينظر إلى العواقب، وأن يحسن النظر في ذلك، فحاله كما قيل:

ويكاد من نور البصيرةِ أنْ يرى في يومه فعلَ العواقب في غدِ

رابعاً: التمييز بين الأمور المشتبهة:

فالاشتباه يقع في كثير من الأشياء، يقع الاشتباه أحياناً في الطمأنينة إلى ما عند الله - تبارك تعالى - والسكون إليه، بالطمأنينة إلى المعلوم من ضيعته، ومصدر رزقه، ومؤسسته التي يعمل فيها، أو مزرعته، وما إلى ذلك، ويظن أنه في حال من التوكل، والرضا عن الله، والواقع أنه متوكل على ضيعته، أو على راتبه، أو على المكان الذي يرتزق فيه.

فهذا لا يميزه إلا أصحاب البصائر، كذلك يميز بين معدن الحق، ومعدن الشبهات، يميز بين المحبة الشرعية، والمحبة الأخرى التي تكون من قبيل التعلق المذموم، وهكذا يميز بين كثير من الأمور التي لربما تلتبس على الكثيرين.

خامساً: يكون الإنسان متحلياً متصفاً بصفات الكُمّل من هذه الأمة، أتباع النبي ﷺ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا، وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف: 108].

فأتباع النبي ﷺ هم أهل البصائر من بعده، فهذه صفة لأتباع الرسول - عليه الصلاة، والسلام - هؤلاء هم خلفاء الأنبياء، هم ورثة الأنبياء، هم أتباع الرسل حقًّا، وصدقاً، فزكت نفوسهم، واستنارت بصائرهم، فهم دائماً يبصرون الحق، ويدعون الناس إليه، لا يقع لهم تضعضع، ولا تزلزل، ولا يغير الواحد منهم مسلكه بين حين، وآخر، ففي كل يوم على مذهب، ورأي، ودين، وهوى، ثم بعد سنوات يغير، ويقلب للناس ظهر المِجَنّ، ويسلك طريقاً آخر يدعو الناسَ إليها، فهذا من ضعف البصائر.  

سادسا: بلوغ مرتبة الصديقية:

فالصدِّيق هو الذي كمل في هذا المقام، مقام الصديقية، يعني: الصدِّيق هو الذي كمل في تصديقه، وفي صدقه، وإنما يكون ذلك لمن كان على بصيرة من أمره، فيكون صادقاً.

أمّا أهل النفاق فإن مبنى ما هم عليه من هذا النفاق على الكذب - كما هو معلوم - فهم أبعد الناس عن البصيرة.

والصديقية إنما تحصل لأهل البصائر الكاملة، فإذا نقصت بصيرة العبد نقص من تصديقه.

فالصدِّيق الأكبر ما بلغه شيء عن رسول الله ﷺ إلا وقال: "إن كان قال ذلك فقد صدق".

والله يقول: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69] فهؤلاء أصحاب الدرجات العالية.

سابعاً: الثبات على الحق: 

يثبت الإنسان إذا تضعضع الناس، وحادوا عن الطريق.

وقد قال ابن الأعرابي في قوله تعالى: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف: 108] قال: البصيرة هي الثبات في الدين[18].

ثامناً: السلامة من الفتن بأنواعها:

فتن الشبهات، وفتن الشهوات، ففتن الشبهات إنما تكون من ضعف البصائر، وفتن الشهوات تكون من ضعف الصبر.

وقد يجتمع للعبد هذا، وهذا، وكما قلت: صارت كثيرٌ من فتن الشهوات اليوم تغلف بلبوس الشبهات، فيستحلها صاحبها، يتحول هذا من منشد إلى مغنٍّ، ثم يخرج، ويتبجح، ويقول: أنا الآن انتقلت من حسن إلى أحسن، فيكون مستحلاً للغناء.

وهذا يقوم أمام الملأ، ويقول بأن الربا ليس به بأس، ولا إشكال فيه، وأنه عوضٌ في مقابل هذا الأجل.

وما إلى ذلك من الأمور التي صار الواحد لا يتوارى بعد أن ينحرف، وينتكس، بل صار يخرج أمام الملأ، ويراه الملايين، ويتكلم عن انحرافه، ويبرره، ويخرج بصورة المتبجح المجاهر بمعصيته، فيكون قد زُين له سوء عمله - والله المستعان -.

  1.  الفوائد لابن القيم (ص: 200).
  2.  المصدر السابق.
  3. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/365).
  4.  صحيح البخاري (8/157).
  5.  أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب النهبى بغير إذن صاحبه (3/136)، رقم: (2475)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله (1/76)، رقم: (57).
  6.  شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/393).
  7.  الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء (ص: 52)
  8.  أخرجه أحمد (19/495)، رقم: (12517)
  9.  الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي = الداء والدواء (ص: 78).
  10.  مجموع الفتاوى (15/425).
  11.  إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/48).
  12.  مجموع الفتاوى (21/257)
  13.  الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي (ص: 179).
  14.  روضة المحبين ونزهة المشتاقين (ص: 440).
  15.  طوق الحمامة لابن حزم (ص: 268)
  16.  بدائع الفوائد (3/217)
  17.  تفسير ابن كثير (6/592)
  18.  رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 22).
النجاة من الشقاء، والضلال

فمن لا بصيرة له فهو من أهل الضلال بلا شك في الدنيا، والشقاء في الآخرة.

 
الاعتبار

فإذا تبصر اعتبر، ومن عدم العبرة فكأنه لا بصيرة له، في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر، فيعتبر حينما يرى الأموات، يعتبر حينما يرى النبات يخرج إذا نزل المطر، يعتبر حينما يرى الأرض بعدما صارت خضراء جميلة تجذب الناظرين، وفي حال من الزهو، والجمال تتحول بعد ذلك إلى هشيم، فيتذكر أن زينة الحياة مضمحلة.

حينما يرى الهلال يبدو صغيراً حتى يكتمل، ثم يبدأ يضمحل يدرك أن كل شيء في هذه الحياة من أعمارنا، ومتعنا الزائلة إنما هو كهذا الهلال، يبدو صغيراً، ثم بعد ذلك ينكمش.

ولهذا كان بعض السلف يعتبر في كل شيء، بعضهم جاء إلى روّاس يعني: - يبيع الرؤوس - فكان يصليها على النار، فبعضهم لربما كان يبكي بكاء شديداً؛ لأنه يتذكر قول الله - تبارك، وتعالى - في صفة أهل النار: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ [القيامة: 24.

والباسرة في بعض التفسيرات هي التي قد قَلُصت الشفاه فيها عن الأسنان، قلصت شفاههم عن أسنانهم، فهكذا الرأس إذا عُرض على النار، رأس هذه الشاة إذا عُرض على النار تقلص الشفاه فتظهر الأسنان.

فتذكروا هذه الآية.

بعضهم لربما كان صائماً، فطلب الشراب، وطلب ما يفطر به، فجيء له بماء بارد، فتذكر قول أهل النار: أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ [الأعراف: 50] فيبكي بكاءً شديداً، ولا يفطر[1].

وبعضهم لربما كان في مائدة، وطعام، ويطوف عليهم الخدم، فيتذكر قول الله في أهل الجنة يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة: 17] فيبكي.

وبعضهم لربما ينطفئ السراج، ثم لمّا يوقَد يجدون دموعه قد بلت لحيته، تذكّر ظلمة القبر[2].

فإذا أتيت على أرضٍ كانت غنّاء، ومزارع كانت عامرة بأهلها، وبأشجارها، ونخيلها، وثمارها، ثم رأيتها خاوية على عروشها فتذكر أن هذه تمثل نموذجاً من حقيقة هذه الحياة الدنيا، وسرعة تلاشيها، واضمحلالها، فهكذا ينبغي أن يعتبر الإنسان، ويتعظ بكل ما يشاهد.

وكان بعض السلف له خادم سيئ الخلق، وكان يؤذيه كثيراً، فتعجب بعض أصحابه من عظم صبره عليه، فقال: أتعلم عليه محاسن الأخلاق.

فإذا رأيت إنساناً سيئ الخلق، سيئ التعامل، إنساناً لا يرعوي عن معصية الله فلا تشمت؛ لأن الشماتة، والسخرية من الناس من فعل الجاهلين.

ولما قيل لموسى ﷺ : أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا [البقرة: 67].

قال: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [البقرة: 67].

فدل ذلك على أن الذي يستهزئ بالناس أنه من الجاهلين، فالمؤمن لا يسخر، وإذا رأى شيئاً مما يشين، ويعيب فإنه يتجاوز ذلك وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] ويتجنب هذه الأخلاق التي يكرهها، فيعتبر بكل ما يشاهد.

وتجد في أعمال الناس، وأخلاقهم، تجد فيها أشياء عجيبة من الأمور الصحيحة الكاملة، ومن النواقص، وما إلى ذلك، فيجمع الإنسان الكمالات، ويتجنب الإساءات.

الحادي عشر: وجود الفراسة: 

فإن البصيرة تنبتها في أرض القلب، فهي نور يقذفه الله في القلوب، يُفرَّق به بين الحق، والباطل، والصادق، والكاذب، قال الله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الحجر: 75].

قال مجاهد: يعني للمتفرسين[3].

والمتفرس لا شك أنه متوسم؛ لأنه يستدل بما يشاهد على ما غاب، وهذا أمر يطول الحديث فيه، ومن أراد أن ينظر في هذا فليراجع ما كتبة الحافظ ابن القيم - رحمه الله - في بعض كتبه كمدارج السالكين، والطرق الحكمية.

والله - تبارك، وتعالى - يقول عن أهل الذنوب، والمعاصي ممن انطمست بصائرهم، أو ضعفت: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14].

فيصير على القلب حجابٌ كثيف، فمثل هذا لا يبصر معه العبد، ولا يكون له أدنى فراسة.

ما الذي ينتج عن فقد البصيرة؟

أقتصر على ثلاثة أمور فقط على سبيل الإشارة.

النفس كما صورها بعض أهل العلم كالفارس، والبدن كالفرس، وعمى الفارس أضر من عمى الفرس.

تصور إنسانًا مبصرًا، يركب على فرسٍ أعمى، ما الذي يحصل له؟

وتصور هذا الإنسان الأعمى يركب على فرسٍ أعمى، يعني: من جمع بين عمى البصر، وعمى البصيرة - نسأل الله العافية - وتصور إنساناً أعمى يركب على فرسٍ مبصر.

البدن بمنزلة الفرس، والبصيرة بمنزلة الفارس، هي التي تقوده، فإذا كانت البصيرة منعدمة، والبصر مفتوحاً فإنه لا ينتفع بهذا البصر.  

إذا أبصر المرءُ المروءةَ والتُّقى فإن عمى العينين ليس يضيرُ

فالعمى الحقيقي هو عمى البصائر، فهنا يُعرض العبد في هذه الحال - نسأل الله العافية - إذا انطمست بصيرته - عما ينفعه، ويُقبل على ما يضره.

وتأمل قول الله وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر: 19].

فإذا أنسى الله - تبارك، وتعالى - العبد نفسه فلا تسأل عن حاله من اشتغاله بما يضره، وإقباله على ما يكون فيه عطبه، وهلاكه، وضرره في الدنيا، والآخرة.

والله ضرب المثل في سورة البقرة: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة: 266].

من يريد أن يكون بهذه المثابة؟

فهكذا الإنسان حينما يكون معرضاً عن ربه - تبارك، وتعالى - حينما يكون له انتكاسة عن الحق، وارتكاسة عما كان عليه من سلوك الصراط المستقيم، حينما يضيِّع أعماله بالرياء، والسمعة، حينما يضيع عمله الصالح بالمن، والأذى، أو بالكفر، أو بالنفاق، فإن ذلك يبطلها، ويذهبها، فمن يُقبل على هذا إلا من كان أعمى البصيرة؟.

الأمر الثاني من هذه الآثار التي تحصل من عمى البصائر: هو أن يُزيَّن للإنسان الباطل - نسأل الله العافية - ويشوه في عينه الحق.

انظر إلى أصحاب الملل، والأهواء، والشبهات، والشهوات في الدنيا بكاملها.

في الأمس القريب كنت أفكر، أقول: لولا أن الصور حرام لعرضت في بعض الدروس على بعض الشباب صوراً يمكن أن تستخرج من الإنترنت، صور بشعة لبعض الشباب في مشارق الأرض، ومغاربها.

هذا قد حلق رأسه، ولم يبقَ فيه إلا شعرات، قد وضع لها مادة مقوية، وصبغها بألوان من الذهبي، والفضي، والأزرق، ونحو ذلك، وصارت واقفة، هو عند نفسه أجمل ما يكون من المنظر.

هناك صور إذا رأيتَها مثل صور هؤلاء - نسأل الله العافية - الذين يسمونهم بـ"الإيمو" وعبدة الشيطان.

هؤلاء حينما يشققون، وجوههم، وحينما يضعون الأشياء، والحِلق، وما إلى ذلك في آنافهم، وفي أيديهم، وفي أصابعهم، وفي آذانهم بكثرة، ويضعونها أحياناً في جباههم، ويضعونها في رءوسهم، وتظهر عليهم جميع علامات الشقاء، والردى.

هؤلاء عند أنفسهم أنهم في حالٍ من الكمال قد سبقوا فيه غيرهم أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ [فاطر: 8] هذا انطماس البصيرة، هذا الإنسان الذي يكون على ملة باطلة، أو على هوى، يكون على عقيدة فاسدة، هو يدعو ربه قائماً، وقاعداً أن يثبته الله على ذلك.

هذا الإنسان الذي يعبد بوذا، أو الهندوسي، أو هذا الإنسان النصراني، أو اليهودي، أو هؤلاء من أصحاب البدع، والأهواء من الرافضة، وغيرهم، هؤلاء ما الذي يبقيهم على ما هم عليه إلا الانطماس في البصائر؟.

زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ [التوبة: 37] فهم لا يرون الحق.

هذا الإنسان الليبرالي، هذا الإنسان العلماني، هذا الإنسان الزنديق، هذا الإنسان المنافق حينما يتكلم على الصلاح، والإصلاح، والمصلحين، ويشوه صورتهم بكتاباته المتعفنة في عموده المظلم، هؤلاء ما الذي جعلهم بهذه المثابة؟ وتوجه إليهم النصائح، ولا يقبلونها، ولا يرجعون عما هم عليه، إنما ذلك بسبب انغلاق - نسأل الله العافية - منافذ الإبصار التي يبصرون بها الحق، فصاروا يرون الحق باطلاً، صار مشوهاً في نفوسهم.

خفافيشُ أعماها النهارُ بضوئه ووافقها قِطعٌ من الليل مظلمُ

هؤلاء كما قيل:

مثلُ النهار يزيدُ أبصارَ الورى نوراً ويُعمي أعينَ الخُفاشِ

فكما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فنعوذ بالله من العمى في البصيرة، أو حول يرى الواحد اثنين؛ فإن الأعمى أسلم حالا في إدراكه من الأحول إذا كان مقلدا للبصير، والبصير صحيح الإدراك

نعوذ بالله من العمى في البصيرة، أو حول يرى الواحد اثنين؛ فإن الأعمى أسلم حالا في إدراكه من الأحول إذا كان مقلدا للبصير، والبصير صحيح الإدراك"[4].

الأمر الأخير:هو أن يَعمى هذا الإنسان - نسأل الله العافية - عن عيوب نفسه.

يعمى عن عيوب نفسه، من الناس من لا يبصر عيوبه، ومنهم من إذا بُصر بها فإنه لا يبصر، يكابر، ويجادل، ويدفع ذلك، ويقول: بالعكس، أنا أفضل من غيري، أنا أحسن من غيري، أنا لست كذلك، أنا لست كما تقولون.

ويقارن نفسه دائماً في معالي الأمور، والكمالات بمن هو دونه.

فمتى يرتقي بنفسه؟ ومتى يصل؟ ومتى يصلح حاله، وعمله، وقلبه؟

فنحن بحاجة إلى أن نصلح هذه القلوب - البصائر - في وقت كثرت فيه الشرور، والفتن، وكثر فيه المتساقطون في الطريق الذين صاروا في حال من اختيار العمى على الهدى، والضلالة على الهدى.

فنسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يثبتنا، وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

اللهم ارحم مواتنا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.

نسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يلطف بإخواننا في سوريا، وأن يحقن دماءهم، ويحفظ أعراضهم، وأن يداوي جرحاهم، ويشفي مرضاهم، ويرحم موتاهم.

اللهم عليك بعدوك، وعدوهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم رد كيدهم في نحورهم، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل الدائرة عليهم.

اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا.

وصلى الله، وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.

أشكركم على حسن إنصاتكم، وأشكر الإخوان الذين رتبوا هذا اللقاء، وأسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يتقبل مني، ومنكم، وأن يغفر لنا، ولوالدينا، ولإخواننا المسلمين، وأن يعفو عنا، وعنكم أجمعين - والله أعلم-.

  1. التخويف من النار والتعريف بحال دار البوار (ص: 158).
  2.  صفة الصفوة (2/330).
  3.  تفسير الطبري (17/120).
  4.  مجموع الفتاوى (31/106).

مواد ذات صلة