بسم الله الرحمن الرحيم
الأسماء الحسنى
الشافي
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ آل عمران:102.
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا النساء:1.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا الأحزاب:71-72.
أما بعد:
فسيكون الحديث بإذن الله -- عن اسم الله (الشافي، والطبيب)، وسيكون هذا الحديث منحصراً في أمور أربعة:
أولاً: معنى هذا الاسم.
ثانياً: ورود هذا الاسم في الكتاب، والسنة.
ثالثاً: ما يدل عليه هذا الاسم.
رابعاً: آثار هذا الاسم وثمرات الإيمان به.
أولاً: ما يتصل بمعنى هذا الاسم الكريم:
وسيكون الكلام فيه من جهة اللغة، ومن جهة المعنى الذي يليق بالله -تبارك وتعالى.
أما في اللغة: فالشفاء هو البرء من المرض([1])، ويقال: الشفاء -أيضاً- لما يحصل به البرء من المرض؛ ولهذا قال الله -تبارك وتعالى- عن العسل: يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ النحل:69، وهنا ملحظ بلاغي يذكره بعض أهل العلم، يقولون: قال: فِيهِ شِفَاءٌ، ولم يقل فيه دواء؛ لأن الدواء قد يتخلف أثره، بخلاف الشفاء، وإذا أردنا المعنى الظاهر فيقال: إن الشفاء بما يحصل به البرء، ويقال -أيضاً- للبرء نفسه، ويقال -أيضاً-: أشفى على الشيء، أي: أشرف عليه، أشفى على الهلكة يعني: أشرف عليها، وقيل للشفاء شفاء؛ لغلبته للمرض، وإشفائه عليه فيما ذكره بعض أهل العلم.
وحينما يقال: الشفاء، وأنه البرء من المرض يدخل في ذلك كل مرض من أمراض القلوب، وأمراض النفوس، وما يسمى بالأمراض الروحانية، وكذلك أمراض الأجسام.
وأما الطبيب: فإن الطَّبَّ في اللغة: يقال للماهر الحاذق بعلمه أيًّا كان هذا العلم، فلان طَبٌّ، هذا في أصل اللغة، تقول: هو طَب بهذا الأمر؛ أي: عالم به، ويقال -أيضاً- بالضم، والكسر: طَب، وطِب، وطُب، فلان طِب بهذا الأمر، وفلان طُب بهذا الأمر؛ أي: حاذق، وعارف، وعالم، والطَّب: هو الحاذق، العالم، وأما بالحركات الثلاث فهو يقال لعلاج الجسم، والنفس، والسحر، علم الطِّب، وعلم الطَّب، وعلم الطُّب -بالحركات الثلاث- لما يحصل به العلاج، أو هو علاج الجسم، والنفس، والسحر، وما شابه ذلك.
أما المعنى في حق الله -تبارك وتعالى- فالله -- هو الشافي الحقيقي لأمراض الأبدان، والقلوب، والنفوس، والأرواح، لا شفاء إلا شفاؤه، ولا يكشف الضر، ويرفع البأس، ويدفع العلة إلا الله -تبارك وتعالى-، فلا يأتي بالخير، والحسنات إلا هو
الله -- هو الشافي الحقيقي لأمراض الأبدان، والقلوب، والنفوس، والأرواح، لا شفاء إلا شفاؤه، ولا يكشف الضر، ويرفع البأس، ويدفع العلة إلا الله -تبارك وتعالى-، فلا يأتي بالخير، والحسنات إلا هو
، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ يونس:107، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّفَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، و"كاشف" نكرة في سياق النفي، وذلك للعموم، فلا يرفع ذلك -كما سيأتي- الطبيب، ولا غير الطبيب، إنما الذي يرفعه هو الله --، وما عداه من الأطباء، والمعالجين والأدوية إنما هي أسباب جعلها الله -تبارك وتعالى- سبباً يتوصل به إلى البرء إذا أذن الله -تبارك وتعالى- بذلك، وشاء، وإذا لم يأذن تعطل ذلك جميعاً، فلا يرجع الإنسان منه بطائل، وكم من إنسان ذهب إلى الأطباء، وأعياه الطلب، وتعاطى ألوان الأدوية، وما سمع بشيء إلا قصده، ومع ذلك لم يخرج بشيء؛ لأن الله -تبارك وتعالى- لم يأذن بالبرء، ولم يشأ ذلك.
والمقصود: أن الله -- هو الشافي الذي يشفي الصدور، يشفيها من الشبه، والشكوك، والأوهام، ويشفيها -أيضاً- من الغيظ، والحنق، والحسد، والغل، كما أنه يشفي الأبدان من الأمراض، والآفات، لا يقدر على ذلك غيره، وأما الطبيب فالله هو الطبيب، العالم بجميع أنواع الطب، الخبير بها؛ لأنه -تبارك وتعالى- هو خالق كل شيء، وهو العالم بكل شيء، وهو الخبير بكل شيء، هو الذي يعلم الآلام، والآفات، والأمراض، وأنواع العلل، والأوصاب، وهو الذي ينزل من ذلك ما يشاء، وهو الذي يدفعها، ويرفعها، وهو الذي يعلم الطرق التي يحصل بها مدافعتها، وعلاجها، فهو القادر على الشفاء، إنه طبيب الأبدان، والقلوب، وأنزل هذا القرآن، وهذه الشريعة التي هي طب البشرية، وعلاج أدوائها، ومصدر خيرها، وصلاحها -كما سيأتي.
ثانياً: ورود هذا الاسم في الكتاب والسنة:
وأما ورود هذين الاسمين في الكتاب والسنة فإن ذلك لم يرد في كتاب الله -تبارك وتعالى- على سبيل التسمية لله -جل شأنه-، ولكن جاء الفعل يشفي فيما قصه الله -تبارك وتعالى- من قِيل ابراهيم ﷺ: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ الشعراء:80، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ التوبة:14، ولكن كما عرفنا في القواعد المتصلة بالأسماء الحسنى: أن ذلك لا يؤخذ منه التسمية، لا نسمي الله -تبارك وتعالى- من مجرد الفعل الوارد (ينزل ربنا -تبارك وتعالى- كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر)([2])، فلا نأخذ من (ينزل) اسم النازل، فنقول: من أسمائه النازل، لا، وقد مضى الكلام على ذلك.
لكن اسم (الشافي) ورد فيما صح من حديث رسول الله ﷺ كما في حديث أنس –- في الصحيح، في رقية النبي ﷺ: (اللهم رب الناس، مذهب الباس، اشف أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً)([3]).
والشاهد: (اشف أنت الشافي)، هذا فيه التسمية، سماه (الشافي)، وكما عرفنا أن أسماء الله -تبارك وتعالى- تؤخذ من الكتاب والسنة.
وفي حديث عائشة -ا-، أن رسول الله ﷺ كان إذا أتى مريضاً، أو أُتي به إليه قال -عليه الصلاة والسلام-: (أذهب الباس رب الناس، اشف وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا)([4])، أخرجه الشيخان، والشاهد: (وأنت الشافي).
وأما الطبيب فقد جاء في حديث أبي رِمثة قال: انطلقت مع أبي نحو النبي ﷺ، فقال له أبي: أرني هذا الذي بظهرك -كأنه يريد أن ينظر إلى خاتم النبوة-، فإني رجل طبيب، فقال النبي ﷺ: (الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها)([5])، ومعنى رفيق: تترفق بالمريض، وتتلطف به، وهذا فيه تسمية الله -تبارك وتعالى- بهذا الاسم (الطبيب)، وهل يدل ذلك على أنه يحرم أن يقال لواحد من الأطباء: طبيب؟ الجواب: لا، وما ذكره النبي ﷺ إنما هو من باب الأدب، وليس ذلك بمحرم، ومن تتبع الأحاديث الواردة عرف أن ذلك جائز، لا إشكال فيه.
وقيل لأبي بكر الصديق في مرضه: ألا ندعو لك الطبيب؟ فقال: "لقد رآني الطبيب"([6])، هم يقصدون الطبيب من بني آدم، فقال: لقد رآني الطبيب، يعني ربه -جل شأنه-، قالوا: فأي شيء؟ قال: إنه فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ البروج:16، هم فهموا أن الطبيب من البشر قد رآه، وهو قصد: الرب -تبارك وتعالى-.
ثالثاً: ما يدل عليه هذا الاسم الكريم:
معلوم أن الاسم يدل بدلالة المطابقة على الصفة، والذات، ويدل بدلالة التضمن على أحدهما، وهنا إذا قلنا: (الشافي)، فهو يدل بدلالة المطابقة على الذات الإلهية المسماة بهذا الاسم، ويدل -أيضاً- على صفة الشفاء، فهي من أوصافه -تبارك وتعالى-، يدل عليهما معاً، فيكون ذلك من قبيل المطابقة، بمعنى دلالة الاسم على تمام معناه، فإن استعمل في بعض معناه أريد به الصفة فقط، أو أريد به الذات فقط، فهذه دلالة التضمن.
وأما دلالة اللزوم فكما هو معلوم لا يقال له: الشافي، أو الطبيب إلا أن يكون حيًّا، وأن يكون قادراً، وأن يكون متصفاً بالعلم، والمشيئة، والإرادة، والقوة، والكمال، إلى غير ذلك، فصفة الشفاء هل هي من صفات الذات أو من صفات الفعل؟، من صفات الفعل، صفة فعلية.
رابعاً: ثمرات الإيمان بهذا الاسم:
ومن ثمرات الإيمان والاعتقاد بأن الله هو الشافي: دعاؤه به، قال -تعالى-: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاالأعراف:180، وعرفنا من قبل أن الدعاء يشمل النوعين المعروفين: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، فدعاء المسألة: أن يقول الإنسان: يا شافٍ اشفني، يا طبيب اشفني، داوني، ونحو ذلك، وفي حديث عائشة -ا- أن النبي ﷺ كان يعوِّذ بعض أهله، يمسح بيده اليمنى، ويقول: (اللهم رب الناس أذهب الباس، اشفه وأنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا)([7])، هذا تعبد بالسؤال، دعاء المسألة بهذا الاسم الكريم.
وجاء عن أنس لما شكا له ثابت البناني -رحمه الله-، قال له: ألا أرقيك برقية رسول الله ﷺ؟ قال بلى، قال: (اللهم رب الناس، مذهب الباس، واشفِ أنت الشافي، لا شافي إلا أنت، شفاء لا يغادر سقماً)، فإذا دعوت الله بهذا الاسم ليرفع عنك الضر، فهذا تعبد له بهذا الاسم بالسؤال، والطلب، وعرفنا من قبل: أن من الآداب المتعلقة بالدعاء: أن يدعو الإنسان في كل حاجة بما يناسبها من أسماء الله -تبارك وتعالى-، وإن كان ذلك ليس بلازم، فيمكن للإنسان أن يقول: يا رب، فإن من المعاني الداخلة تحت الربوبية -كما سبق، وهي من أوسع الأوصاف-، الشفاء، رفع الضر، دفع البلاء، وما شابه.
النوع الثاني من الدعاء وهو: دعاء العبادة، ويدخل فيه سائر ما أذكره بعده، فمن ذلك اعتقاد أن الله -تبارك وتعالى- هو الشافي، الشافي الحقيقي هو الله، يجب أن يترسخ هذا الأمر في قلب الإنسان، فلا يلتفت يمنة، ولا يسرة، ولا يتشتت قلبه، ويتفرق عليه، ويظن أنه يحصِّل مطلوبه، ومقصوده عند المخلوقين الضعفاء الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً، ولا ضرًّا، الطبيب قد يجري للمريض عملية، فيصاب الطبيب بجلطة، ويسقط، هذا حصل، قد يموت الطبيب قبل المريض، وكم مرة حصل فيها مثل هذا؟!، كثير، فالشافي الحقيقي هو ربنا --، الذي يشفي جميع الأسقام، والأمراض النفسية، والقلبية، والبدنية، فالنبي ﷺ يقول: (اشف أنت الشافي)، فهو الشافي على الإطلاق، فيجب على كل مكلف أن يعتقد ذلك اعتقاداً راسخاً، والنبي ﷺ يقول: (لا شافي إلا أنت).
أما الدواء، والطبيب فغاية ما هنالك أنهما من جملة الأسباب التي قد تتخلف إذا لم يرد الله كشف الضر، ورفع البلاء، وقد يحصل الشفاء من غير سبب يباشره الآدمي، كم من إنسان برئ ولم يتعاطَ شيئاً من الأسباب، فذكر ابن خلدون، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهما الله- أشياء في هذا([8])، ومن جملة ذلك أن أهل البوادي حاجتهم إلى الأطباء أدنى([9])، وأقل من حاجة أهل القرى، والأمصار، والمشاهد أن عافية أهل البوادي أكمل، وأتم من عافية أهل القرى، مع وجود الأطباء عند أهل القرى، والمقصود بالقرى: المدن، وما شابه، فعافية أهل البوادي أوفى، وأكمل، وهذا يعرفه كل أحد، بل يضرب به المثل، فمع وجود الأسباب عند أهل المدن، وأهل القرى من المستشفيات، والأدوية، والتحضر المادي إلا أن الشفاء، أو البرء، أو العافية التي يطلبها الناس في البادية أعظم، وإذا أراد الله للعبد العطب فلابد أن يقع ذلك لا محالة في البادية، أو في أكبر مستشفى، وأرقى مستشفى، فها نحن نشاهد الناس يذهب الواحد منهم لأكبر المستشفيات التي تذكر له في أرض الله -تبارك وتعالى-، ثم يؤتى به، وهو جثة هامدة، يموت حيث طلب الشفاء، وبعضهم قد يعاني من نفس العلة، ولا يذهب، ولا يتعاطى كبير سبب، ويُمتَّع، ويعيش، وقد يموت من سبب آخر، وقد يبرأ، وكلكم شاهد من ذلك أشياء.
وقد ذُكر أن أعرابيًّا رأى جنازة، فسأل، فقيل له: إن الموت يكثر في القرى، وإن العافية في البوادي، فخرج إلى البادية فرارًا من الموت، فرأى قبرين عند هضبة، وكثيب، فقال:
وخبّرتماني أنما الموتُ بالقرى *** فكيف وهاتا روضةٌ وكثيبُ([10])
يقول: لست في قرية أنا الآن في الصحراء، فما الذي جاء بالموت هنا؟! فكل الناس إذا جاءهم أمر الله وقع بهم مقدوره لا محالة، فالأمور كلها بيده، وكم من إنسان جاءه الشفاء لربما من غير ما يحتسب، ولربما وقع عليه من غير قصد، هذا إنسان يغتسل بالماء الحار؛ لأنه أعمى، لا يتفطن، فيصب على رأسه الماء الحار جدًّا وإذا به يبصر، وقد عجز الأطباء عن علاجه، ولربما سقط الإنسان فكان سقوطه سبباً لبرء من علة تطاول زمانها، وأعيت الأطباء، وأعرف من هذا أمثلة، سقط سقطة فكان ذلك سبباً للبرء، والأمثلة كثيرة.
فالله لو شاء لخلق الشفاء من غير سبب، ولكنه أجرى العادة الغالبة في هذه الحياة الدنيا على أسباب اقتضتها حكمته --، جبريل ﷺ نزل على الرسول -عليه الصلاة والسلام- لما سحر، فقال: (باسم الله أرقيك،... الله يشفيك)([11])، الرقية من جبريل -عليه الصلاة والسلام، والشفاء من الله، فانظر رقية جبريل ﷺ، ليس الشفاء صادرًا منها، ولا عنها، فكيف بعامة الرقاة؟ ولربما كان كثير منهم يجهل أموراً كثيرة تتصل بالرقية، فضلاً عن غيرها، فكم من المرضي يتعلق قلبه بالراقي، ويذعن له غاية الإذعان، وينقاد له قلبه، بل تنقاد جوارحه أحياناً -لا سيما ضعفاء القلوب-، وذلك يكون غالباً في النساء؛ ولهذا فإن المشاهد يرى أن النساء أكثر من يرتاد تلك المحافل التي كثرت، وانتشرت، يرتادها الناس للرقية، ويتجمعون فيها من كل حدب، وصوب، يأتون من أماكن بعيدة، ويحكون القصص، والأخبار، والحكايات، وربما حفظوا واحدة، وفاتتهم الألوف، وجيء به في بطانية، عولج في لندن، وفي ألمانيا، وفي أمريكا، وجيء له ببطانية، فرجع يمشي على رجليه، قد يحصل هذا، نحن لا ننكر هذا، لكن لا يعني أن هذا الراقي على رأسه ريشة، وأن الشفاء عنده، فيتهافت عليه الناس، ويعتقدون أن زيداً بعينه إذا جاءوا إليه تلاشت الأوجاع، والأوصاب، وقد رأيت واحداً من كبار الرقاة الذي علّمهم هذا، وتفشى فيهم حتى صاروا يعقدون تلك المجالس، ويقرءون بالجملة وأشياء وأشياء، قد رأيته يقف، ويخنق الناس واحداً بعد الآخر، ويقرأ بالجملة على الناس قراءة واحدة، ثم كل من مر به نفث عليه، ثم يخنقه، فيتساقط كثير منهم، ويضرب صدره، ويقوم، فلما انتهى قال: رأيت هؤلاء! عامة هؤلاء أو كلهم ليس بهم بأس، قلت: فهؤلاء الذين يتساقطون؟ قال: أضغط على هذا العرق، فأي إنسان أضغط عليه فلابد أن يغمى عليه، فهو يعتقد حينما يأتي إليّ أنه لن يبرأ حتى يأتي إلى فلان، -سمى نفسه-، فيأتي الناس من كل مكان، فيفعل بهم هذا، ثم يضرب صدره، ويقول: اخرج يا عدو الله، اخرج يا عدو الله، ثم يفيق ذلك المسكين، ويتصور أن العفاريت قد خرجت، ويقوم يمشي ليس به بأس، ويقال: ما شاء الله، أخرج العفاريت، وعالجه.
نحن لا ننكر أن الجن يتلبسون، ولا ننكر أنه يعالج بالرقية، وإنما نقصد تعليق القلوب بغير الله، هذا القدر الذي أتحدث عنه، لا تعتقد في أحد من الناس أنه يملك الشفاء، وأنك إذا أتيته تلاشت عنك الأمراض، هذا خطأ، هذا القدر الذي أريد أن أصل إليه، الذين يبالغون، وينكرون أثر الرقية كما يقول بعضهم: هذا بصاق –أعزكم الله-، وبعضهم ينتسب للعلم، هذا غلط، الرقية وآثارها ثابتة بسنة رسول الله ﷺ، لا يجوز لأحد أن ينكرها، لكن المُنكَر هو أن ينعقد القلب على اعتقاد فاسد، وهو: أن الشفاء يمكن أن يملكه فلان من الناس، إذا أتيناه حصل البرء، فيحصل خضوع كامل لهذا المعالج، أو نحو ذلك، ولذلك ترى –أحياناً- أموراً غير جيدة، ومظاهر غير محمودة، هذه المريضة لربما يتزوجها الراقي، ولربما تزوج عشرات، والسبب هي تريد أن تمت إليه بنسب، أو سبب؛ لأن البرء بيده، وإن لم تنطق هذا بلسانها، ولكن الحال يدل على ذلك، فهذا خطأ، ويمكن للإنسان أن يرقي نفسه، والله جعل هذا القرآن شفاء.
والحديث عن هذا يطول، وليس ذلك بمقصود، ولكن الذي نحتاجه: أن لا ترتبط قلوبنا بأحد سوى الله، بعض الناس لربما يأتي بقدر من الماء من فلان رقى فيه، فيُكاثَر بالمياه، يُصب على جوالين، هذا قرأ فيه فلان، جبريل ﷺ يقول: (بسم الله أرقيك،... الله يشفيك)، أتصل بنا البساطة أحيانا إلى هذا الحد؟!، وإبراهيم ﷺ يقول: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِالشعراء:80، يعني: إذا وقعت في مرض كما يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر -تبارك وتعالى- من الأسباب الموصلة للشفاء"([12])، وهكذا كان النبي ﷺ يعلم أصحابه، ويربيهم على هذا الاعتقاد، كما في صحيح مسلم عن عثمان بن العاص أنه اشتكى إلى رسول الله ﷺ وجعاً يجده في جسده -منذ أسلم-، فقال له النبي ﷺ: (ضع يدك على الذي تألم من جسدك، وقل: باسم الله ثلاثًا، وقل سبع مرات: أعوذ بالله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر)([13])، هذه لا تحتاج إلى راقٍ، يتعلمها الإنسان، وإذا كان قلبه قويًّا، واثقاً، مع قوة في التوكل على الله -تبارك وتعالى- فإن البرء لا يتخلف -بإذن الله -، وقد جاء في حديث ابن عباس -ا-، عن النبي ﷺ أنه قال: (من عاد مريضاً لم يحضر أجله، فقال عنده سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا عافاه الله من ذلك المرض)([14])، هذه لا تحتاج إلى راقٍ.
وثبت عنه ﷺ أنه قال لسعد : (اللهم اشف سعدًا، اللهم اشف سعدًا)([15])، أخرجه الشيخان، طلب الشفاء من الله.
وكان يرقي بعض أصحابه الرقية المعروفة، كما جاء في حديث عائشة –ا- أن رسول الله ﷺ كان يقول في الرقية: (بسم الله، تربة أرضنا، بِريقة بعضنا، يُشفى سقيمنا، بإذن ربنا)([16])، هذا مخرج في الصحيحين.
(يشفى سقيمنا بإذن ربنا) وهذا أمر يعالج به الجروح، والقروح، والدمامل، وما شابهها، ونستيقن ذلك، ولا نتردد فيه طرفة عين؛ لأن النبي ﷺ هو الذي أخبرنا عنه، وقد ذكر ابن حزم -رحمه الله-: أن الدمامل عادة تحتاج إلى دورة، تمر بأطوار: انتفاخ تحت الجلد، احمرار، ثم بعد ذلك يصير إلى أطوار حتى ينفقئ، ثم بعد ذلك يبدأ بالتضاؤل، والتلاشي، لابد له من دورة، فإذا قلت ذلك وهو في طوره الأول برئ -بإذن الله-، وإذا قلته وهو في طوره الثاني، أو الثالث برئ -بإذن الله-، يقول ابن حزم: "وقد جربت ذلك وجربه غيري"، وأنا أقول: جربته كثيراً في الطور الأول قبل أن يخرج، وفي اليوم الثاني يتلاشى، وأسأل الذي قد ظهر له ذلك فيُخرج الرجل الأخرى التي ليس بها بأس، يخطئ، بل في بعض الحالات التي تفاقمت، وظن صاحبها أن القضية تحتاج إلى جراحة، وأن الموضوع لم يعد مجرد دمامل، قلت له: جرب.
أستاذ عندنا في الكلية جاء وهو في غاية التعب، وما استطاع أن يجلس محاضرة واحدة، فلما سألته ذكر هذا، فقلت له: افعل كذا وكذا، وكتبت له هذا، فقال: الوضع أكبر من أن أجرب، الوضع الآن أصبح متفاقماً، عندي التهابات، وعندي كذا وكذا، قلت له: جرب، وبإذن الله تأتي في الغد ليس بك بأس، اخرج الآن من الكلية، وخذ رملاً نظيفاً، وقل هذا الكلام، وتأتي في الغد -بإذن الله- ليس بك بأس فجرب، وجاء في الغد، قلت له كيف رأيت؟ قال: الحمد الله، كنت في كرب، وجُرب هذا على أناس فيهم قروح، وذهبوا إلى الأطباء، والمستشفيات.
وقد ذكرت هذا لبعض الأطباء من المتخصصين في الأمراض الجلدية: تتعبون في تجارب من المراهم، والأدوية، ولربما يحوي بعضها أشياء لها آثار جانبية من "الكرتوزون"، وغير ذلك، أما هذا فضع عندك قليلا من التراب، ودع المريض يفعل هذا بنفسه، علمه التوكل على الله، لا يتعلق بك، وسيبرأ -بإذن الله-، فالنبي ﷺ يخبر أن الشافي هو الله: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)([17])، فهو الذي ينزل الشفاء، تعرفون حديث صهيب في قصة الملك، والراهب، والساحر، فذلك الأعمى الذي رد الله إليه بصره، لما دعا له الغلام ماذا كان يقول؟ وعده، وجاءه بالهدايا، وقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: "إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله، فإن أنت آمنت بالله دعوت الله، فشفاك، فدعا له، فشفاه الله لما آمن، ولما سأله الملك من رد عليك بصرك -كما في الحديث المشهور-؟ أخبر أن الله هو الذي رد عليه بصره، ثم امتحنه، وعذبه، إلى آخره، حتى دل على الغلام، فقال له الملك: أي بني، قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه، والأبرص، وتفعل، وتفعل، فقال: إني لا أشفي أحداً، إنما يشفي الله"([18]).
هذه قضية نحتاج أن نعلمها الناس، وأن الأطباء في المستشفيات يجب أن يوجهوا الناس إلى هذا المعنى، أما أن يبقى القلب يرفرف مع هذا الطبيب، وإذا أراد الطبيب أن يأخذ أجازة بدأ هذا المريض يتحير من سيتولاه؟ وإلى أين سيفر إذا ذهب عنه هذا الطبيب؟.
ومما يؤثره الإيمان والاعتقاد بأن الله هو الشافي: أن يحب العبد ربه -تبارك وتعالى-، فالشاهد: أن كثيراً من الناس لما يجري له طبيب عملية، ولربما تكون خطرة، عملية قلب، أو نحو ذلك، يبدأ يسأل، وكلٌّ بحسبه، بعضهم من الأثرياء، وبعضهم دون ذلك، يقول: أنا أريد أن أقدم لهذا الطبيب شيئاً، هذا الطبيب له فضل كبير جدًّا عليّ، أريد أن أقدم له شيئاً، ونسمع أن هدايا العمال غلول، فماذا نصنع؟،
فيبقى يحفظ اسم هذا الطبيب طيلة عمره، لا ينساه، ولربما يحفظه أولاده، وذووه، ويعرفون له هذا المعروف، ويحرصون على مكافأته، فلماذا هذه المحبة؟ لأنه تسبب في العلاج، الله -تبارك وتعالى- هو الشافي، فإذا عرف العبد أن الشفاء الذي نزل إنما هو من الله، وأن الله هو الذي رفع عنه الضر، وعافاه فإنه يحبه سواء كان ذلك في أمراض الأبدان، أو كان في أمراض النفوس، الأمراض النفسية التي أعيت الأطباء، هذا يعاني قلقاً، واكتئاباً، وهذا يجهش بالبكاء من غير سبب مدرك، وذاك يعاني من رهاب، يتخوف مجامع الناس، ويتقيها حتى الجامعة تركها؛ لأنه لا يستطيع أن يقترب، ويحاول، فإذا وصل إلى باب الكلية، أو الجامعة رجع، لا يستطيع أن يصلى مع الناس في المسجد؛ لأنه يتخوف الناس، وغير ذلك من الأمراض العقلية، كالانفصام العقلي.
إذا رأيت هيئة الرجل؛ قلت: هذا ليس به بأس، فإذا تكلم، قال: أنا المهدي، وأنا كذا، ويرى أشياء، ويرى نوراً، ويرى كذا، وأن روح إبراهيم نزلت فيه، أو روح جبريل، أو يشك أحياناً هل الذي نزل به روح ملك الموت، أو روح جبريل ﷺ، فتقول: هل هذا الرجل جاد، أو يمزح، أو في عقله شيء؟ إذا رأيت هيئته الظاهرة قلت: ليس به بأس، تدرك نعمة العافية، والعقل، وتقف أحياناً متحيراً أمام هذا، يذهب إلى الأطباء فلا يجد عندهم العلاج، إلا بعض العقاقير التي لربما تخفف من وطأة هذه الحالة، فلا يخرج عن طوره، ثم بعد ذلك يصبح مجنوناً كالبهيمة تماماً، أما العلاج، أو البرء فهم لا يعرفونه إلى الآن.
فالقلب يتعلق، ويحب من يكون سبباً في برئه، وعلاجه، وشفائه، سواء كان شفاء علته هو، أو من يحب، تجد الولد يحتف به أهله، ترى أحياناً مناظر في الإسعاف، الأم، والأب، والإخوان، وبعضهم يمشي حافياً، رأيت أشياء من هذا، جاءت كل الأسرة مع هذا الولد الذي لدغ، أو نحو ذلك، بعضهم حفاة ليس عليهم نعال من شدة ما نزل بهم من الضيق، والألم، والحزن، فمن الذي ينزل الشفاء؟ هو الله، فإذا برئ الإنسان فبمن يغتبطون؟ بمن يفرحون؟ يحبون من؟، فهو -تبارك وتعالى- الشافي، الذي يشفي علل الأبدان، كما أنه هو الذي يشفي صدور المؤمنين بقتال أعدائهم الكافرين، وقتلهم والانتصار عليهم قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ التوبة:14.
فالحنق الذي في قلوب أهل الإيمان على الكافرين، كل ذلك يزيله الله، ويرفعه، ويداويه بنصر المؤمنين، وبإدالتهم على أعداء الله الكافرين، فيذهب الغم، والهم، والألم الذي في قلوب أهل الإيمان تجاه هؤلاء المعاندين، الكافرين، المحادين لله ورسوله ﷺ، وهذا يدل على عظم عناية الله بأهل الإيمان، وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَالتوبة:14، وهكذا -أيضاً- ما يقدره الله -تبارك وتعالى- على الإنسان من الأمور المكروهة من المصائب والآلام، كل ذلك يكون شفاءً لمن عقل عن الله، فإذا حصل لنفسه شيء من الغفلة، أو الزهو، أو الترفع فإن الله يكسره بما يسوق إليه من المصائب، ونحو ذلك، فيحصل له برء القلب، وسلامته، وعافيته، بما ساقه إليه من هذا الأمر الذي يكرهه، ولو بقي به ذلك الداء لأعطبه وأهلكه، كثيراً ما يغفل الإنسان في حال الغنى، والعافية، فإذا نزل به الضر؛ بدأ يتذكر ربه -تبارك وتعالى- لاسيما حينما تنقطع الأسباب، فيلجأ إليه، ويدعوه، ويجتهد، وتتغير حاله، وينكسر قلبه، ويدرك لذة المناجاة، ويعرف ما كان فيه من الغفلة، والإعراض عن الله -جل شأنه-، وقد ذكرت في الكلام على الصبر من الأعمال القلبية أشياء من هذا.
وقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- جملة منها في الحكم التي عددها من وجود المصائب، ومن ذلك: "أن يعلم أن هذه المصيبة هي دواءٌ نافع، ساقه إليه الطبيب، العليم بمصلحته، الرحيم به، فليصبر على تجرعه، ولا يتقيؤه بتسخطه، وشكواه، فيذهب نفعه باطلاً، ثم ذكر: أنْ يعلم أن في عقبى هذا الدواء من الشفاء، والعافية، والصحة، وزوال الألم ما لم تحصل بدونه، فإذا طالعت نفسه كراهة هذا الدواء، ومرارته فلينظر إلى عاقبته، وحسن تأثيره، والله -تعالى- يقول: وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ البقرة:216، ويقول: فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاالنساء:19([19])،فما يحصل من المكروهات للأفراد، والمجتمعات مما ينزله الله من الأدواء، والمصائب، ونحو ذلك، كل ذلك يكون فيه من الحكم، والمصالح مما يحصل به دواء كثير من العلل.
ومن هذه الآثار والثمار: الفرح بهذا الدين العظيم الذي تضمن كل خير مما يحتاج إليه الناس، ففيه شفاء الصدور، وفيه دواء العلل من الشبهات، والشهوات، والله –- يقول عن هذا القرآن: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا الإسراء:82، فينبغي أن نفرح بهذا الدين، وأن نشكر الله على هذه النعمة الجزلى التي حبانا الله -تبارك وتعالى- بها، وهذا كله من آثار هذا الاسم الكريم الشافي، وهو من رحمته -تبارك وتعالى-، ولطفه بعباده اختار لهم أفضل رسول، وأشرف كتاب، وأنزل لهم كل ما يحتاجون إليه، مما يحصل به صلاح الحال في العاجل، والآجل، شريعة كاملة، إذا استقام عليها العبد استقامت أحواله، واطمأنت نفسه، وهدأت، وذهبت عنه الأوهام، وانقشعت عنه الشكوك، والشبهات، وصار في غاية السكون، والطمأنينة، والرضا القلبي، فتتوجه همته لما فيه نفعه، وصلاحه، ولا يتفرق قلبه في أمور لا يد له فيها، ولا يدفع عنه ذلك الاهتمام، والاشتغال، لا يدفع عنه مقدوراً، وإنما يقبل على ما ينفعه، ويرفعه، ولك أن تتصور حال أولئك الذين يتمرغون في جاهليتهم ظهراً لبطن، لم يهتدوا بهذا النور، تقتلهم الحسرات، والقلق، فيلجئون إلى بشر؛ ليخلصوهم، ولربما إلى الشياطين، وانظر ما عم وطم من الذهاب إلى السحرة، والكهنة، وما تُعرض به هذه الأيام هذه البلايا، والرزايا بثوب لربما يتقبله بعض الجهلة من المسلمين بما يسمونه بالروحانيات، ويقدم لهم لربما على شكل دورات، يخالط ذلك سحر، وكهانة، وكذب، ودجل، وأشياء من الشعوذة، وبعض الأمور التي يستعان عليها بالشياطين، روحانيات، علاج بالروحانيات، ويخدعونهم بهذه القوة، القوة الكامنة الخفية، القوة هي قوة الله، أما قوة الشياطين فيلعبون بالناس وللأسف ترى أحيانا بعض الصور في بعض ما يكتب عن هذا ممن يستحسنونه، أو على الأقل يعرضونه كخبر، وناس يدخلون في مثل الكهف، ونار موقدة، وكاهن، ومجموعة من البائسين، من الغربيين، رجال، ونساء قد أسندوا ظهورهم إلى جدار ذلك الكهف، مكان مظلم، تملؤه الشياطين، جاءوا ليشبعوا نهمتهم، ويزيلوا وحشتهم، والظلمة التي تعمر قلوبهم، -نسأل الله العافية.
يبحثون عن شيء، فجاء عبدة الشيطان، وظهر ما يسمى بـ"الإيمو"، نحن لا نستغرب إن وجد في العالم الغربي، أو في العالم الشرقي من البائسين الذين لم يعرفوا ربهم -تبارك وتعالى-، أما أن يوجد في بلاد إسلامية، لربما جرحوا أنفسهم؛ ليتخلصوا من الآلام النفسية والأحزان بآلام جسدية، يلبسون السواد، ويضعون لهم شعارات عبدة الشيطان، ويعبدون الشيطان، ويظهر عليهم الحزن، والاكتئاب، ويتلذذون بهذا، ويميلون إلى العزلة، ويلعب بهم الشيطان، حتى أوقعهم في مخازي في الاعتقاد، والأخلاق، كيف يقع هذا لدى قوم قد اصطفاهم الله، واجتباهم، وأنعم عليهم بهذا النور المبين؟، إنه الإفلاس، والجهل، والبعد عن الله -.
ومن هذه الآثار: أن يتوكل العبد على الله، فإذا حصلت للعبد الثقة بالله، والعلم بأنه هو الشافي ركن إليه، يتعاطى الأسباب بيده، ولكنه يركن إلى القوي، العظيم الأعظم، الذي يملك البرء، والعافية، ويدفع الضر، ويجلب النفع، فيدعوه، ويلجأ إليه في كشف ما نزل به، أو بمحبوبه؛ لأنه هو الذي يملك الأسباب، ويجري المسببات، وهذا أمر لابد منه، بل هو أصل كبير في الاعتقاد، كما أنه ركن عظيم في التداوي، وطلب الشفاء، الثقة بالله، والتوكل على الله، سواء كانت رقية من أمراض بدنية، أو نفسية، أو كما يقال: روحية، الذي يعالج السحر، أو يستخرج الشياطين الذين تسلطوا عليه، أو نحو ذلك يكون بحسب قوة توكله، واعتماده على الله، يرهبه هؤلاء الأرجاس، الأدناس من الشياطين الذين يتسلطون على الناس، وقد سمعت من بعض من تركوا الرقية وأنا أشجعهم على تركها أعني المجالس هذه الحافلة التي يقصدهم فيها الناس، ونحو ذلك، لا بأس أن يرقي الإنسان لواحد، أو اثنين، أو نحو ذلك، لكن أن يجلس، ويتفرغ لهذا وكأنه مستوصف، أو عيادة، أو مستشفى، فبعضهم ترك هذا، وقد ذكروا أسباباً، فمن جملة ما يفيد هنا أن قدراً كبيراً من هذه الأمور يلحق بالأوهام، وقدرًا كبيرًا مما له حقيقة إنما يحصل به التسلط بسبب البعد عن الله، نفوس خاوية، ومعاصٍ، واشتغال بالملاهي، البيوت تملؤها الصور، والمعازف، والقنوات السيئة، فراغ روحي؛ فتتسلط عليهم الشياطين، فإذا كان الإنسان قوي القلب، مرتبطاً بالله، واثقاً به، متحصناً بالأذكار فإنه سيف ضارب، لا يقف في وجهه شيء، تخاف منه شياطين الإنس، وشياطين الجن، مما يوقع الله في قلوبهم من الرهبة من أوليائه، وهذا أمر لا يخفى.
فحينما نقول: لابد من التوكل فإن هذا لا يتنافى مع تعاطي الأسباب، بمعنى: أن الإنسان لا يجلس إذا نزل به الضر، ويقول: أنا لا أتداوى، ولا أتعالج، وقد سبق الكلام على هذا بشيء من التفصيل في الكلام على الأعمال القلبية عند الكلام على التوكل.
فيتعاطى الإنسان الأسباب، والنبي ﷺ يقول -كما سبق في الحديث-: (ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)، فكل العلل، والأدواء أنزل الله لها الشفاء، إلا الهرم، والموت -كما سيأتي-، سواء كانت العلة من العلل البدنية، أو غير ذلك، لها شفاء، لكن قد لا يقف عليه الأطباء، في حديث جابر مرفوعاً: (لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله)([20])، وفي الحديث الآخر: (إن الله أنزل الداء، والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بحرام)([21]).
ولما سأله بعض الأعراب: أنتداوى؟، فقال: (نعم يا عبد الله، تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد الهرم)([22]).
وفي حديث ابن مسعود: (ما أنزل الله داء إلا قد أنزل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله)([23]).
فالطبيب حينما يتكلم يقول: هذا مبلغنا من العلم، له دواء، لكن نحن لم نقف عليه إلى الآن، والمريض إذا سمع هذا قوي قلبه، وحسن ظنه بربه، ويبقى عنده الأمل ممدوداً، وإلا فإن التلاشي، والإحباط، والشعور بخيبة الأمل، وضعف القلب مما يزيد العلة، بل يضاعفها، والله -تبارك وتعالى- قد أنزل هذا القرآن، وجعله شفاء لعلل الأبدان، وعلل النفوس، وعلل القلوب، العلل الثلاث، قال -تعالى-: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا الإسراء:82، كما قال كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: "وننزل عليك يا محمد من القرآن ما هو شفاء يستشفى به من الجهل، ومن الضلالة، ويُبصَّر به من العمى للمؤمنين"([24]).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "عظم حاجة الناس للرسالة، وأن ذلك أعظم من حاجة المريض إلى الطب"، وذكر أن غاية ما هنالك إذا فقد العلاج، أو الدواء أنه قد يموت بدنه، لكن إذا لم يحصل له نور الرسالة، وحياتها مات قلبه موتاً لا ترجى الحياة معه أبداً، أو شقي شقاوة، لا سعادة معها أبداً([25])، والله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَيونس:57، فهذا هو الشفاء الحقيقي، يداوي الله به من داء الجهل، والغي، والسفه كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-([26])، وهذه الأدواء تؤلم النفوس، والقلوب أعظم من أدواء البدن، يقول: "ولكنها لما ألفت هذه الأدواء لم تحس بألمها"([27]).
إذا مات، ووضع في قبره أبصر بعد ذلك ما تحت قدميه على أي شيء كان من هذه الأدواء، والعلل التي تعشعش في قلبه، ثم يذكر: "أن البدن المريض يؤذيه ما لا يؤذي الصحيح من يسير الحر، والبرد، والحركة، لو مشى قليلاً، أو نحو ذلك يتأذى، فكذلك القلب إذا كان فيه مرض آذاه أدنى شيء من الشبهة، والشهوة"([28])، يعني: تلوح له شبهة تعلق به، تلوح له شهوة يقع بمرض قلبه، القلب ضعيف، لا يستطيع أن يدفع ذلك، أما القلب الصحيح فيطرقه، ويرد عليه أضعاف ذلك، ويدفعه، لكن كيف بمن ضعف علمه، ويقينه، وبصره، ثم بعد ذلك هو يتعرض للشبهات، فيبحث عنها في موقع الإنترنت، وهو قليل البضاعة، خالي الوفاض من العلم، ويريد أن يناظر الرافضة، والنصارى، وطوائف الضلال كيف يستطيع أن يدفع هذه الشبهات؟!.
وبعضهم يقرأ في كتب الشبه، يريد أن يقرأ بزعمه في كل علم، حتى علوم السحر، من باب الاطلاع والمعرفة يطلع على كل شيء، هو يسمع بعض الذين يلقون الدورات، اقرأ كل شيء، يعلمونه أن يقرأ في كل شيء، والسلف يقولون: القلب ضعيف، والشبه خطافة، كان الأئمة الكبار لا يسمح أحدهم لواحد أن يعرض عليه شبهه، أو كلمة، ولا حتى نصف كلمة، يأتيه أحد من أهل البدع، فيقول: إما أن تقوم، وإما أن أقوم، وعمر بن عبد العزيز يقول: "من جعل دينه غرضا للخصومات أكثر التنقل"([29])،يعني: كل يوم في مذهب، ويأتي شاب صغير يسمع هذا الكلام في بعض الدورات، ويريد أن يقرأ في كل شيء بلا استثناء حتى السحر هذا كلام! ربما الإغراب: يريد أن يتميز عن زملائه، بأنه يعرف أشياء لا يعرفونها، هذا بلاء، هذا لا تستبعد أن يقع في بحر الإلحاد في يوم من الأيام، وقد وقع فيه بعضهم، يقول: الأنبياء كذبة!!!، حديث رواه البخاري، قال: البخاري هذا كذاب، تحتجون لي بالبخاري، هذا شاب عندنا في إحدى الجامعات هنا واثق بنفسه، ويريد أن يقرأ في كل شيء بزعمه، ويطلع، ويجرب.
وهناك أمراض لا يشعر بها صاحبها، مثل: مرض الجهل لا يتألم بالحال بسبب الشبهة، إذا كان القلب ضعيفاً، وربما سكرة الجهل، والغفلة عن الحال تحول بينه وبين إدراك الألم، ثم بعد ذلك يهلك وهو لا يشعر
هناك أمراض لا يشعر بها صاحبها، مثل: مرض الجهل لا يتألم بالحال بسبب الشبهة، إذا كان القلب ضعيفاً، وربما سكرة الجهل، والغفلة عن الحال تحول بينه وبين إدراك الألم، ثم بعد ذلك يهلك وهو لا يشعر
، والرسل –عليهم الصلاة والسلام- هم أطباء هذا النوع من الأدواء بما جاءوا به من العلم الصحيح الذي يكشف سحب الجهالة، والعماية، والشبه، والرِّيَب، أما المرض الذي يحصل للقلب ويشعر به الإنسان في الحال، مثل: الاكتئاب، والحزن، والقلق، والهم، والغيظ، يشعر أن الغل يعصر قلبه، ينقبض، يأكل الطعام وكأنه يأكل الحصى، لا يهنأ بنوم، ولا يرقأ له جفن، فهذه تزول بزوال أسبابها.
ومن الناس من يداويها بما يزيدها، ويضاعفها، كالذي يريد أن يشفي غيظه بالظلم، والتسلط، والقهر، والعلو في الأرض، وما أشبه ذلك، أو الذي يريد أن يداوي الغل، والحسد بالفتك، أو التشفي بالوقيعة في العرض، فهذا يزيد العلة، والداء، أو الذي يريد أن يداوي الشهوة بالفجور مثلاً، فهذا كله مما يضاعف عليه علته، ويزيده بلاء على بلائه.
وهكذا أيضاً ألوان الأمراض التي تصيب القلوب، أما ما يصيب الأبدان ففي القرآن علاجه، ويقرأ على المريض، فيبرأ بإذن الله، وكذلك ذكر الله ألواناً من العلاجات، والأدوية كما ذكر عن العسل، لكن ما كل أحد يؤهل للاستشفاء بالقرآن، منهم من ينصرف عنه تماماً، ومنهم من يقل يقينه، ومنهم من قد لا يوفق للآيات التي تكون أكثر تأثيراً في هذه العلة، ومعلوم أن الرقى من باب الطب، وأن الطب الأصل فيه الإباحة ما لم يشتمل على محرم، فيمكن أن تختار بعض الآيات التي تؤثر في نوع من الأدواء، فتقرأ على الإنسان، يشعر بخوف، ورهاب، يقرأ عليه الآيات أو هو يقرأ الآيات التي فيها السكينة، والطمأنينة، ونحو ذلك، وهكذا.
فالأمراض بأنواعها في القرآن شفاء لها، أمراض القلوب، أمراض الأبدان، الأمراض النفسية، والروحية، والكلام في هذا يطول.
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل فيما ذكرت النفع، والكفاية، وأن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وشفاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار، على الوجه الذي يرضيك عنا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
([2]) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم (1145)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، والإجابة فيه، برقم (758)
([4]) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب دعاء العائد للمريض، برقم (5675)، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض، برقم (2191).
([5]) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الترجل، باب في الخضاب، برقم (4207)، وصححه الألباني في سنن أبي داود، وفي السلسلة الصحيحة، برقم (1537) .
([7]) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب رقية النبي ﷺ، برقم (5743)، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب رقية المريض، برقم (2192).
([14]) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجنائز، باب الدعاء للمريض عند العيادة، برقم (3106) ، وصححه الألباني.
([15]) أخرجه البخاري، كتاب المرضى، باب وضع اليد على المريض، برقم (5659)، ومسلم، كتاب الوصية، والسير، باب الوصية بالثلث، برقم (1628)، واللفظ لمسلم.
([16]) أخرجه البخاري، كتاب الطب، باب رقية النبي ﷺ، برقم (5745)، ومسلم، كتاب السلام، باب استحباب الرقية من العين، والنملة، والحُمة، والنظرة، برقم (2194)، واللفظ للبخاري.
([18]) أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب قصة أصحاب الأخدود، والساحر، والراهب، والغلام، برقم (3005).
([21]) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الطب، باب في الأدوية المكروهة، برقم (3874)، وضعفه الألباني، وقال في مشكاة المصابيح: شطره الأول صحيح، برقم (4538).