الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(30) الديان
تاريخ النشر: ٢٦ / ذو الحجة / ١٤٣١
التحميل: 1544
مرات الإستماع: 3395

بسم الله الرحمن الرحيم

الأسماء الحسنى

(30) الديان

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وقيوم السموات والأرضين، ومالك يوم الدين، الذي لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا غنى إلا في الافتقار إلى  رحمته، ولا هدى إلا في قربه، ولا صلاح للقلب، ولا فلاح إلا في الإخلاص له، وتوحيده، الذي إذا أطيع شكر، وإذا عُصي تاب وغفر، وإذا دعي أجاب، وسبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، وصلى الله وسلم وبارك علي نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فحديثنا عن اسم كريم من أسماء الله -تبارك وتعالى- وهو: (الديان)، ويأتي الحديث عن هذا الاسم الكريم امتداداً للحديث عن جملة من الأسماء التي مضى الكلام عليها، أعني: اسمه -تبارك وتعالى- (الحكيم، والحكم، والفتاح)، فهذه الأسماء مع هذا الاسم تشترك في معنى الحُكم، وإن كان لبعض تلك الأسماء كما لهذا الاسم من المعاني الزائدة على هذا القدر من المعنى، عن الحُكم.

وحديثنا عن هذا الاسم ينتظم أربعة أمور:

الأول: في بيان معنى هذا الاسم الكريم.

الثاني: في ذكر دلائله من الكتاب، أو السنة.

الثالث: في ذكر ما يدل عليه هذا الاسم.

 الرابع: في الكلام علي آثار الإيمان به.

أولاً: ما يتصل بمعنى هذا الاسم الكريم:

معناه في اللغة: أصل هذه المادة (الدال، والياء، والنون)، يرجع إلى معنى واحد، كما يقول ابن فارس -رحمه الله-: وهو "الانقياد، والذل"([1]).

وأنفع، وأجدى، وأسهل في التعليم: أن يعاد اللفظ إلى أصل المعنى الكلي، الذي غالباً ما يكون واحداً، فهذا خير من تشتيت الأذهان بتفريق المعاني، وتجزئتها، وتفكيكها بطريقة تشوش أفهام المتعلمين.

وهذا تجده كثيراً في التعريفات، في الرسائل الجامعية، ونجده لدى الكثيرين ممن كتب في معاني الأسماء الحسنى، يذكرون جملة من المعاني، ولكنهم لو ذكروا المعنى الأصل، والأساس الذي ترجع إليه جميعاً، ثم يكون على سبيل التمثيل، والتفريع من هذا المعاني الكبيرة فهذا أفضل، والله تعالى أعلم.

فنقول: إن هذه المادة (الدال، والياء، والنون)، ترجع إلى معنى واحد في الأصل، وهو: الانقياد، والذل، تقول: الدِّين، يعنى: الطاعة، دان له أي: انقاد، وأطاع، قال -تعالى-: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ يوسف:76؛ أي: في طاعته، أو في حكمه، والمحكوم منقاد للحاكم، ومطيع له.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ الفاتحة:4، يعنى: يوم الحكم، أو يوم الجزاء، والحساب، وكلاهما يحصل فيه الانقياد.

فالحكم: الناس ينقادون فيه لحكم الله -تبارك وتعالى-، والجزاء، والحساب: الله -تبارك وتعالى- بيده نواصي الخلق، يجازيهم، ويحاسبهم، ولا يخرج أحد منهم عن حكمه، وجزائه، وحسابه، فكل ذلك مما ينقاد له، وقل ما شئت.

حينما تقول مثلا: المدينة، فإنها ترجع في الأصل إلى هذا المعنى، والجارية المملوكة، الأمة حينما يقال لها: مدينة، ويقال للمملوك: مدين، كل ذلك يرجع إلى الانقياد.

فالمدينة أهلها يرجعون إلى نظام يحكمهم، وقانون يرجعون إليه، ويصدرون عنه، ليست أمورهم فوضى، وهكذا حينما يقال عن الجارية: إنها مدينة أي: مطيعة، ومستعبدة، وذليلة، ومحكومة بحكم سيدها، وهكذا المملوك حينما يقال: إنه مدين.

وحينما نقول: الديان، فهذه صيغة مبالغة، فيقال للملك المطاع: ديان، ويقال للحاكم، والقاضي، فهو الذي يدين الناس إما بمعنى أنه يقهرهم، أو بمعنى أنه يحاسبهم، فالديان هو الذي يقهرهم على الطاعة، يقال: دان الرجل القوم، إذا قهرهم، فدانوا له إذا انقادوا.

ويأتي بمعنى المحاسب، والمجازي الذي لا يضيع عمل عامل من عباده، فهو الذي يلي المجازاة لهؤلاء العباد، ومن ذلك قول خويلد بن نوفل الكلابي، للحارث بن أبي شمر الغساني، الملك المعروف من الغساسنة، وكان ملكاً ظالماً جائراً عاتياً، فخاطبه قائلاً:

يا أَيُّها المَلِكُ المهِيبُ أما ترى *** ليلاً وصُبحاً فِيكَ يختلِفانِ

هل تستطيعُ الشَّمسُ أن تأتي بِهَا *** مشياً وهل لكَ في الصَّباحِ يَدانِ

اعلمْ وأيقِنْ أنَّ مُلككَ زائِلٌ    ***    واعلمْ بأنَّ كما تدِينُ تُدانُ ([2])

فهذا مما جرى به كلام العرب في شعرهم، ونثرهم، أي: أنك كما تجازِي تجازَى، وكما تعامل الناس تعامل عند الله -تبارك وتعالى-، تقول: دانه إذا جازاه، والله -تعالى- يقول عن الكافرين بأنهم قالوا: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ الصافات:53؛ أي: لمجزيون، محاسبون.

وجاء من حديث أبي هريرة ، مرفوعاً إلى النبي ﷺ: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء)([3])،يعنى: التي كانت تنطحها.

وفي رواية: (إن الله ليدين الناس يوم القيامة بعضهم من بعض حتى الشاة الجماء من القرناء)([4])، وهذا هو الشاهد هنا: يدين بمعنى: يقتص، والقصاص هو من قبيل المجازاة.

أما المعنى في حق الله -- فبعض أهل العلم -كالخطابي- يقول: الديان هو: المجازي([5])، وهذا معنى صحيح.

قال الحليمي: "هو المحاسب، والمجازي، ولا يضيع عملاً، ولكنه يجزي بالخير خيراً، وبالشر شرًّا"([6])، ولكن الخطابي -أيضاً- زاد معنى آخر على هذا يأتي ذكره بعد قليل -إن شاء الله تعالى-.

فالله -- هو الديان الذي يجازي العباد بأعمالهم، وينصف المظلوم من الظالم، ويقضي بين الخلائق، هذا معنى، وهو معنى صحيح.

الله -- هو الديان الذي يجازي العباد بأعمالهم، وينصف المظلوم من الظالم، ويقضي بين الخلائق، هذا معنى، وهو معنى صحيح.

 

وذكر بعضهم -كابن الأثير- معنى آخر، وهو: القهار([7]).  

وبعضهم يقول: الحاكم، والقاضي، أنه فعال من دان الناس، أي: قهرهم علي الطاعة([8]).

فهذه المعاني كلها صحيحة، فالله هو الديان يعنى: المجازي، الذي يجزي كل فريق بما عمل، وكل عامل بما أسلف، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ  الروم:14-16، وإِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الزلزلة:1-8.

وأُتي لمعاوية بن قرة -رحمه الله- بطعام، فأكل منه في العشاء، ثم تركه بعد ذلك، فلما أصبح، وجده قد اسود من الذر، فوزنه بالذر، ثم أماط الذر عنه، فوزنه، فوجد أن وزنه لم يتغير([9])، والله -تعالى- يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الزلزلة:7-8.

 وذكرت لكم -أيضاً- خبر أبي العباس الخطاب: جاء بخردلة، ووضعها في كفة الميزان، وجاء بنحو عشرين ذرة -وفي بعض المنقولات: أكثر من هذا-، فوضعها في الكفة الأخرى؛ فرجحت الخردلة على الذر([10])، والله -تعالى- يقول: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ الزلزلة:7-8، فما يضيع عنده شيء -تبارك وتعالى.

ولما قرأ النبي ﷺ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَاالزلزلة: 4، كما في حديث أبي هريرة ، قال: (أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد، أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا)([11]).

فأخبارها قائمة طويلة، كل الحركات، والسكنات التي يترتب عليها الجزاء تسرد، وتحدث بها الأرض.

وهكذا تشهد بها الألسن، والجلود، والأعضاء، قال -تعالى-: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ النور:24-25.

وهكذا في قوله -تعالى-: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إلى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا فصلت:19-20، يوزعون يعنى: يرد بعضهم إلى بعض، حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فصلت:20-23.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً الكهف:49.

وقال -تعالى-: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ الأنبياء:47، ثم تكون العاقبة: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ المؤمنون:102-103.

فهذا هو الديان --، الذي يحكم بين العباد، ويحاسبهم، وهو القاهر فوقهم، وكلهم مستذل، مستعبد له -تبارك وتعالى-، كلهم آتيه يوم القيامة فرداً، لا يخرج أحد عن حكمه، ولا عن قضائه، ولا عن تدبيره.

ثانياً: ما يدل على هذا الاسم الكريم من الكتاب والسنة:  

لم يرد هذا الاسم في القرآن، ولكنه جاء في الحديث المشهور الذي رواه جابر بن عبد الله في القصة المعروفة، لما سافر إلى الشام، أو إلى مصر -كما جاء في بعض الروايات-، لما بلغه حديث عن عبد الله بن أنيس ، أنه سمعه من النبي ﷺ، فاشترى بعيراً، حتى أتى داره، فقال للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال ابن عبد الله؟ قال: نعم، فخرج يطأ ثوبه، يقول: فاعتنقني، واعتنقته، فقلت: حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله ﷺ في القصاص، فخشيت أن تموت، أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (يحشر الناس يوم القيامة -أو قال: العباد- عراةً، غرلًا، بهمًا)، قال: قلنا: وما بهما؟ قال: (ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه مَن بعُدَ كما يسمعه من قرب: أنا الديان أنا الملك)، وهذا هو الشاهد: أنا الديان، (ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق، حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق، حتى أقصه منه، حتى اللطمة)، قال: قلنا: كيف وإننا نأتي عراةً، غرلاً، بهماً؟، قال: (الحسنات والسيئات)([12]).

وجاء في رواية: (وتلا رسول الله ﷺ: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ...) غافر:17([13]).

فهذا الحديث هو الذي ورد فيه هذا الاسم الكريم عن النبي ﷺ.

وجاء في أثر -الأرجح وقفه-: (البر لا يبلى، والإثم لا ينسى، والديان لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تدان)([14]).

وجاء عن عمر أنه قال: "ويل لديان من في الأرض من ديان من في السماء يوم يلقونه, إلا من أَمّ العدل –يعني: قصد العدل-، وقضى بالحق، ولم يقضِ على هوى، ولا على قرابة، ولا على رغب، ولا على رهب، وجعل كتاب الله مرآة بين عينيه"([15]).

ديان الأرض يعنى: الحاكم، والقاضي.

ثالثاً: ذكر ما يدل عليه هذا الاسم الكريم:

هذا الاسم يدل بدلالة المطابقة على الذات، وعلى الصفة، والصفة التي تضمنها هذا الحكم، بحسب ما سبق من المعنى، إذا قلت: هي صفة القهر، أو الحكم، والقضاء، والحساب، والجزاء، وما أشبه ذلك، أنه يحاسب عباده، والمداينة، فهذه كلها من صفات الأفعال.

فإن أطلق وأريد به أحد هذين، بمعنى: أنه أريد به الذات، فتلك دلالة التضمن، أو أريد به الصفة دون الذات، فهذه دلالة التضمن.

فدلالة التضمن -كما عرفنا- هي: إطلاق اللفظ مراداً به بعض معناه، ويدل باللزوم على جملة من الصفات، كالحياة، والعلم، والقيومية، والقدرة، والملك، والعظمة، والعزة، والحكمة، وما إلى ذلك.

كما تقول: القاهر، الحاكم، القاضي، المجازي، المحاسب، هذه لابد لها من علم، لابد لها من صفة الحياة، لابد من جملة من الأوصاف التي لا يحصل هذا الوصف أو هذه الأوصاف التي انتظمها هذا الاسم الكريم إلا بتحققها، فهذه دلالة اللزوم.

رابعاً: ذكر آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم:

يقول الله -تبارك وتعالى-: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا الأعراف:180، وعرفنا أن الدعاء ينتظم نوعين اثنين:

الأول: دعاء المسألة، تقول: يا رب، في كل مقام بما يناسبه من الأسماء.  

والثاني: دعاء العبادة.

إنسان ظُلم، وأخذ حقه، واضطهد، وصودر، وانتهك عرضه، أو ماله، أو غير ذلك، يقول مثلاً: يا لله، يا رب، يا ديان, يا حكم, ويدعو ربه بما يناسب ذلك، اللهم إني أسألك بأنك أنت الديان أن تجازي من ظلمني بما يستحق، اللهم إني أسألك بأنك أنت الديان أن تحكم بيني وبين فلان بالحق, اللهم إني أسألك بأنك أنت الديان أن تنتقم لي ممن ظلمني.

ولسنا بصدد الحديث عن العفو، والصفح، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ الشورى:43، لسنا نتحدث عن هذا، وإنما نوضح كيف يدعو الإنسان بهذا الاسم الكريم دعاء مسألة؟

أما دعاء العبادة: فإنه ينتظم أموراً كثيرة، عبادة القلب، واللسان، والجوارح، فأول ما يدخل تحت دعاء العبادة أنه إذا عرف العبد أن ربه هو الديان، يجازي، ويحاسب، ويحكم بين العباد، وهو مالك يوم الجزاء، يوم الحساب، يوم الدين فإن الإنسان يحاسب نفسه قبل أن يحاسب، يحاسب نفسه على كلامه، يحاسب نفسه على كسبه، يحاسب نفسه علي معاملاته، وما يأتي ويذر، يحاسب نفسه على كل ما يصدر منه، ما يخطو خطوة إلا وقد حاسب نفسه عليها؛ لأنه سيسأل عنها، والأرض ستنطق: مشى اليوم الفلاني، والخطوة الفلانية يريد كذا وكذا، وإذا حاول الإنكار نطقت رجله، ويختم على فيه، ثم تشهد الألسن.

ولهذا ذكر الله في جملة الشهادة في بعض المواضع شهادة الألسن، مع أن الله ذكر في موضع آخر: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْيس:65، ففي مقام يختم على فيه حينما ينكر، فإذا شهدت هذه الجوارح، فإنه لا مجال للإنكار، فيقر بلسانه بعد ذلك.  

فلا يستطيع الإنسان أن يقول: ما حصل، أين الدليل؟ أين الإثبات؟ الإثبات!! تنطق اليد، والرجل، ثم ينطق اللسان، تنطق الأرض، والله شاهد عليه، والملك قد كتب ذلك.

فالإنسان سيلقى ربه -تبارك وتعالى-، ويحاسبه، ويجازيه، فإذا ظلم -ولو شيئاً يسيراً- في هذه الحياة الدنيا فإنه سيدفع الثمن غالياً غداً، قد تكون هذه المظلمة ريالاً، قد تكون شيئاً يسيراً لا يبالي به، تقدَّم على أحد، ركب بغير إذن, جلس مكان فلان، هذا كله سيدفع ثمنه غداً من الحسنات، والسيئات.

قال كلمة، أشار بحاجبه، أو بعينه، أو بشفته، أو نحو ذلك إشارة تدل على الانتقاص، هذا كله سيدفع ثمنه.

قد يستطيع الإنسان أن يفلت من حكم المخلوقين، وقد يكون له لسان، وحجه، وبيان، ولكن ذلك لا يخلصه من بين يدي الله -تبارك وتعالى.

وفي حديث أبي هريرة مرفوعاً: (أتدرون ما المفلس؟) قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: ((إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة، وصيام، وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم، فطرحت عليه، ثم طرح في النار))([16]).

هذا هو العلاج لكثير من مشكلاتنا، بعض الناس يقول: ما أستطيع، حاولت ترك الغيبة، فما استطعت، ما هو الطريق؟ ليس هناك حلول سحرية -كما يقال-، هناك تربية إيمانية، وأعظم ما تكون هذه التربية الإيمانية بهذه الأسماء الحسنى، والذي لا تربيه مثل هذه المعاني التي تضمنتها هذه الأسماء الحسنى، فمن الذي سيربيه؟  

إذا كانت هذه لا تزرع المراقبة، والخوف من الله في نفوسنا فما الذي يمكن أن يوجد ذلك؟

الله تعرف إلينا بهذه الأسماء، فهذا الإنسان الذي جلس، وتمدد بعد الإفطار، وهو صائم ذلك اليوم في رمضان، أو في نفل، أو نحو ذلك، ثم غمز فلانًا لما ذكر في المجلس، وتكلم فيه، وقال كلمة يعبر فيها عن احتقاره له، أو عن وصف غير محمود، هذا الإنسان مباشرة يمكن أن يقال له: هذه الكلمة التي قلتها ستدفع الثمن.

قد يكون الثمن هو ثواب هذا اليوم الذي صمته، يذهب إليه، تعبت، وصمت يوماً كاملاً، ثم يذهب ثوابك من أجل هذه الكلمة، وقد يكون الثمن أكبر من هذا، (لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته)([17]).

فما حاجتك لهذه الكلمة؟ ما الفائدة من هذه الكلمة التي أطلقتها؟ ماذا استفدت؟ لا شيء، ولكن الشيطان هو الذي أغراه، فتكلم، وما علم أنه هو الخاسر.

لو أن الإنسان نظر بهذه الطريقة، وحاسب نفسه لما احتاج الناس إلى محاكم، ولما احتاج الناس إلى  قضاة، ولما احتاج الناس إلى  زواجر، وروادع، وقوارع في الدنيا من تعزيرات، وما إلى ذلك.

كل إنسان يعرف ما له، وما عليه، ويؤدي ما له، ويترك ما عليه، ولكن الإنسان إذا غفل رحلت التقوى من قلبه، فافترى، فإذا كان الإيمان منعدماً، أو ضعيفاً فإنه قد لا يبالي حتى وإن ذكِّر بهذه المعاني؛ ولهذا أوصى النبي ﷺ بالتحلل من الحقوق، وردها إلى أصحابها قبل يوم القيامة، كما جاء في حديث أبي هريرة (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه، وماله فليستحله اليوم قبل أن يأخذه به حين لا دينار، ولا درهم، فإن كان له عمل صالح أُخذ منه بقدر مظلمته، فإن لم يكن أُخذ من سيئات صاحبه، فجعلت عليه)([18]).

فالأعمال قليلة، ثم بعد ذلك ستذهب إلى الآخرين، فإذا فنيت الحسنات أخذ من سيئاتهم، وطرحت على الإنسان، فما حاجة الإنسان لمثل لهذا؟ إنه العدوان، والظلم.

وفي الأثر المنقول عن عمر : "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم، تزينوا للعرض الأكبر،يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ الزمر:30-31([19]).

ولما نزل قول الله -تبارك وتعالى-: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ الزمر:30-31، قال الزبير بن العوام : "يا رسول الله، أتُكرَّر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا؟! -اختصمنا في الدنيا على أرض، أو مال، أو غير ذلك، فهل نختصم أيضاً في الآخرة؟!-، قال النبي ﷺ: (نعم)، قال الزبير: إن الأمر إذاً لشديد"([20]). 

ففي القيامة تكون خصومة، لكنها غير الخصومة في الدنيا، الخصومة في الدنيا تكون بين قاضٍ من البشر، بين حكم من البشر، لكنها في الآخرة بين يدي الله -تبارك وتعالى-، استشعر هذا الموقف، خصومة بين يدي الله، هل يستطيع الإنسان أن يتكلم بغير الحق، أو يكذب، أو يصر على المطالبة بما لا يحل له ولا يحق له من أموال الناس؟، أبداً.   

وفي حديث عائشة -ا-: "أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ جلس بين يديه، فقال: يا رسول الله، إن لي مملوكين يَكْذبونني -يعني إذا حدثوني كذبوا-، ويخونونني ويعصونني، وأضربهم وأسبهم، فكيف أنا منهم؟ -يعنى هل هذه بهذه؟- فقال له رسول الله ﷺ: (يحسب ما خانوك، وعصوك، وكذبوك، وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك عليهم، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم، كان كفافاً، لا لك، ولا عليك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قِبَلك)، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله ﷺ، ويهتف، فقال رسول الله ﷺ: (ما له ما يقرأ كتاب الله: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ الأنبياء:47، فقال الرجل: يا رسول الله، ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء -يعني عبيده- إني أشهدك أنهم أحرار كلهم)([21]).

فهذا الحديث يجعل الإنسان يقف، وكثيراً ما يسأل الناس: لدي خادمة، وتقصر في عملها، وأخذت من متاع الدار، وعندنا رواتب متأخرة لها، وقد سافرت، أو هربت، هل نعطيها هذه الرواتب أم لا؟

قال: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ الأعراف:8، الوزن عند الله -تبارك وتعالى- بمثاقيل الذر، فبقدر المظلمة، أما أن يظلم الإنسان إذا ظُلم فلا، ولربما كان ظلمه في دعائه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-([22]).

الإنسان قد يُظلم، فيدعو على ظالمه بدعاء يظلمه فيه، يعني: المظلمة قد تكون يسيرة، لكن الدعاء عظيم جدًّا لا يستحقه هذا الظالم بحسب مظلمته، وهذه قلما نتفطن لها.

فالمقصود: أن الخصومة بين يدي الله -تبارك وتعالى- التي دلت عليها هذه الآية تدل دلالة صريحة واضحة أننا سننتقل من هذه الدار لا محالة، وسنجتمع بين يدي الله في الآخرة، ونختصم فيما كنا نختصم فيه في الدنيا.

ليست الخصومة في المظالم فقط، بل حتى في التوحيد، فيختصم أهل الإيمان، وأهل الشرك، ويختصم-أيضاً- أهل القبلة فيما اختلفوا فيه من المذاهب، والآراء، ويفصل الله بينهم، ويفتح بالحق، وهو الفتاح العليم.

فالله هو الديان وهو الحكم - وتقدست أسماؤه-، ينجى المؤمنين المخلصين، الموحدين، ويعذب الكافرين، المشركين.

يقول ابن كثير -رحمه الله-: "هذه الآية وإن كان سياقها في المؤمنين، والكافرين، وذكْرِ الخصومة بينهم في الدار الآخرة فإنها شاملة لكل المتنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الآخرة"([23]).

هذا على مذهب، وهذا على مذهب، بينهم خصومة، هذا على رأي، وهذا على رأي مما يتعلق بالدين، وبينهم اختلاف، وخصومة، هذا يقول: هذا على خطأ، وضلال، وذاك يقول: هذا على خطأ، وضلال، سيكون موقف بين يدي الله يحكم فيه بين العباد، ويعرف صاحب الحق حقه، وصاحب الباطل باطله.

وفي المسند من حديث أبي ذر أن رسول الله ﷺ رأى شاتين تنتطحان، فقال: (يا أبا ذر، هل تدري فيم تنتطحان؟)، قال: لا، قال: (لكن الله يدري، وسيقضي بينهما)([24]).

وجاء عن ابن عباس -ا- في هذه الآية: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ الزمر:31، قال: "يخاصم الصادق الكاذب، والمظلوم الظالم، والمهتدي الضال، والضعيف المستكبر"([25])، يعنى: هذا المظلوم يأتي مع ظالمه بين يدي الله، ويختصم معه، يقول: ربي هذا ظلمني.

وجاء عن ابن عباس –ا- أنه قال: سمعت نبيكم ﷺ يقول: (يجيء المقتول بالقاتل يوم القيامة ناصيته ورأسه بيده، وأوداجه تشخب دماً، فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟)([26]).

وجاء -أيضاً- من حديث ابن عمر -ا- قال: "نزلت هذه الآية، وما نعلم في أي شيء نزلت"، يعنى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ الزمر:31، قال: قلنا من نخاصم؟، ليس بيننا وبين أهل الكتاب خصومة، فمن نخاصم؟ حتى وقعت الفتنة، يقول ابن عمر: هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه"([27]).

وعن أبي سعيد الخدري في هذه الآية: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَالزمر:31، قال: كنا نقول: ربنا واحد، وديننا واحد، ونبينا واحد، فما هذه الخصومة؟، فلما كان يوم صفين، وشد بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا([28]).  

هذا القتال الذي يحصل بين أهل الإيمان الله يفصل بينهم يوم القيامة، ويحكم بين عباده.

فالصحابة ، تأولوا، واجتهدوا - وأرضاهم-، لكن الويل ثم الويل لمن تعدى على حقوق الناس، وأموالهم، وأعراضهم، وظلمهم في هذه الحياة الدنيا، فإنه يأتي يوم القيامة يحمل أوزاراً، يأخذون من حسناته، فإن فنيت، طرحوا من سيئاتهم عليه.

فكل واحد منا يحتاج أن يتذكر هذا دائماً، فيكون ذلك حرزاً له من الظلم، والعدوان بجميع صوره، وأنواعه.

وقد جاء عن الشافعي -رحمه الله- أنه قال: "بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد"([29]).

بعض الناس قد يظهر عليه سمة الخير، والصلاح، والتدين، وأثر التوبة، لكن سرعان ما يتحول ذلك إلى  شيء آخر، إلى نوع من العدوان، والظلم، فيصير تدينه هو: الوقيعة في أعراض أهل الفضل، والدين، والخير، والصلاح، وطلبة العلم، والدعاة إلى  الله -.

"بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد"، فلا تكن بضاعة الواحد منا إلى الله، والدار الآخرة هي: العدوان، فيأتي يوم القيامة، وما ترك أحداً إلا فرى في عرضه، ما الحاجة لمثل هذا؟

ينبغي للإنسان أن يتزود للآخرة من الأعمال الصالحة، من قيام الليل، وصيام النهار، وقراءة القرآن، وذكر الله، والدعوة إلى الله، والإصلاح.

ينبغي للإنسان أن لا يلبِّس على نفسه، ولا يغرر بنفسه تحت صورة، أو قشرة من التدين، يكون العدوان بمثل هذا، تجد التدين عند البعض هو الوقيعة في الأعراض، أو الغلو في الدماء -نسأل الله العافية-، والأموال، واستباحة ذلك تحت تأويلات، وشبهات، وأمور لا يوافقه عليها أهل العلم، "بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد".  

فالأصل في حقوق الله: المسامحة، والأصل في حقوق العباد المشاحة، فليتحلل اليوم قبل أن يأتي في الآخرة ولا درهم، ولا دينار، إنما هي الأعمال على قلتها.

تنظر إلى حال بعض الناس -أحياناً- فتجد هذا لا يصلي الفجر إلا في وقت الضحى، ولسانه يفري في الأحياء، والأموات، هذا لما يأتي يوم القيامة، كيف سيلقى الله؟ إن لم يكن هناك نفع، وعمل، فلا أقل من كف الشر، فهي صدقة كما أخبر النبي ﷺ.  

الثاني من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم: هو أن العبد إذا عرف أن ربه هو الديان، فإن ذلك يكون سلوة له، يتسلى به المظلوم، والمكروب، والمهضوم، والذي قد صودر حقه، وانتهك عرضه، أو نحو ذلك من المقهورين في هذه الحياة الدنيا، الذي لم يستطع أن يقتص من ظالمه، فإنه يوقن أنه سيأتي يوم ولابد، هي مسألة وقت، وسيؤتى بهذا الظالم، ويجلس بين يديه.

قد لا يستطيع في هذه الحياة الدنيا أن يكف ظلمه عنه، قد يتسلط الإنسان على من هو تحت يديه، من موظف عنده، أو على خادم في بيته، أو نحو ذلك، ممن لا يستطيع دفع مظلمته، لكن وإن من يدٍ إلا يد الله فوقها، فالله -تبارك وتعالى- سيحضر هذا الظالم، ولو كان قويًّا في هذه الحياة الدنيا.

إنسان قتل له قتيل، ولا يدرى من قتله، إنسان سرق بيته، جاء ولم يجد في بيته شيئاً، جاء محتال، فغرر به، وسرق أمواله، استطاع أن يأخذ كل أمواله، ثم ذهب، ولم يدرِ أين هو، سيأتي في الآخرة.  

الله -تبارك وتعالى- يعلم هذا الظالم، وسيأتي به، فيقف بين يديه، ويقتص منه، فما يضيع شيء إطلاقاً، فإذا علم العبد المظلوم هذا حصل له سلوى؛ لأنه أدرك أن هذه الحياة ليست هي نهاية المطاف.  

فلا داعي أن يبقى الإنسان في حال من البؤس، حينما يتذكر مرارة الظلم الذي وقع عليه يجب أن لا يكتئب؛ لأنه سيأتي يوم يقتص فيه من هذا الظالم، سواء دعا المظلوم على الظالم، أو لا، فالله -تبارك وتعالى- سيأخذ الحق من الظالم وافياً، فلا يضيع عنده -تبارك وتعالى- شيء، وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ إبراهيم:42.

 فإذا جلست تريد أن تتعامل مع إنسان، كانت أمور هذا الإنسان تحت يديك، تستطيع أن تقرر فيها بما يحصل له به نفع، أو ضرر، فاعلم أن يد الله فوق يدك، وأنه كما تدين تدان، وقد ترى ذلك في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة.

وكم من الوقائع في مثل هذا الذي يحسن إلى الناس، ويفرج عنهم الكروب، كيف أن الله يفرج كربته، والذي يظلمهم، ويورثهم همًّا، وغمًّا، وأذى، كيف أن الله يجازيه بمثل عمله.

وقد شاهد الناس من هذا أشياء، ولولا خشية الإطالة، ومداهمة الوقت لذكرت لكم من الوقائع في الحياة الدنيا، التي يصلح لها هذا العنوان: كما تدين تدان، وقائع معاصرة في أيامنا هذه، ووقائع قديمة.  

الثالث من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم: هو أن يتوخى الإنسان العدل مع الناس، ممن ابتلاه الله -تبارك وتعالى- بالحكم بينهم، الحكم عليهم، فيشيع العدل، ويحكم بينهم بالحق، ويتقى الله فيما يأتي وما يذر.

وقد دخلت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز -رحمها الله-، دخلت عليه، فوجدته في مصلاه، يده على خده، تسيل دموعه، فقالت: يا أمير المؤمنين لشيء حدث؟، هل من جديد؟، هل هناك مصيبة جديدة؟،

قال: يا فاطمة، إني تقلدت أمر أمة محمد ﷺ، فتفكرت في الفقير، والجائع، والمريض، والضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمي دونهم محمد ﷺ، فخشيت أن لا تثبت لي حجة عند خصومته، فرحمت نفسي، فبكيت.      

هذا هو التفكير الصحيح، إذا كان للإنسان نوع ولاية، فإنه ينبغي أن يتذكر: أن كل ما يقع من خلل هنا، وهناك، وتعثر، وما يكون لأهل الضر، والمسغبة، والضعف، والعجزة، وما إلى ذلك، أن الله سيحاسبه على هؤلاء جميعاً إذا قصر في حقهم.

إذا كان للإنسان نوع ولاية، فإنه ينبغي أن يتذكر: أن كل ما يقع من خلل هنا، وهناك، وتعثر، وما يكون لأهل الضر، والمسغبة، والضعف، والعجزة، وما إلى ذلك، أن الله سيحاسبه على هؤلاء جميعاً إذا قصر في حقهم.

 

ولما حبس الرشيد أبا العتاهية، الشاعر المعروف، شاعر الزهد، قال أبياتاً، وهذه الأبيات أيضاً تروى عن علي -:

أمَا واللهِ إن الظلم شؤم *** وما زال المسيءُ هو الظلومُ

إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصومُ ([30])

 وقال آخر:

إذا خان الأميرُ وكاتباه *** وقاضي الأرض داهنَ في القضاءِ

فويلٌ ثم ويل ثم ويل *** لقاضي الأرض من قاضي السماءِ ([31])

الأمر ليس بالسهل.

الرابع من آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم: هو الرضا بحكم الله تعالى الشرعي، والقدري، والجزائي؛ لأن من معانى الديان: الحَكَم، وقد مضى الكلام على ذلك عند الكلام على اسمه الحكم -تبارك وتعالى-، أن يرضى الإنسان بحكم الله الكوني، والقدري، وأن يرضى بحكمة الشرعي.

فالله -تبارك وتعالى- شرع للإنسان، فينبغي أن يكون موقفه كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ الأحزاب:36، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إلى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا النور:51، فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا النساء:65، هذا في الحكم الشرعي.

أما في حكمه -تبارك وتعالى- القدري: فإن الإنسان يرضى بما قدره الله -تبارك وتعالى-، فإن كان ذلك مما يمكن دفعه، دفعه بالتسبب بالأسباب المباحة، أو المشروعة، وإن كان ذلك مما لا يمكن دفعه، أو حاول دفعه، ولكنه لم يندفع، فما عليه إلا الرضا، والتسليم.

هذا المرض الذي حل، وهذه المصيبة، وهذه الجائحة التي اجتاحت المال، وهذه الوفاة التي حصلت لهذا القريب، أو نحو ذلك، هذا أمر قضاه الله، ولا سبيل إلى  رجوعه، فما على الإنسان إلا الرضا، والتسليم لحكم الله --.

هذا موقف المؤمن، وأما التسخط، والاعتراض على أحكام الله -- فإن ذلك لا يغني عن العبد شيئاً.

هذا آخر الكلام على هذا الاسم الكريم، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يفقهنا وإياكم في الدين، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.



([1]) انظر: معجم مقاييس اللغة (2/319).

([2]) انظر: خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب (10/91).

([3]) أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2582).

([4]) أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط، باب الميم من اسمه: محمد، برقم (5477).

([5]) انظر: غريب الحديث (1/240).

([6]) انظر: الأسماء والصفات للبيهقي (1/194).

([7]) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/148).

([8]) انظر: الفائق في غريب الحديث والأثر (1/450).

([9]) انظر: كتاب الورع لأحمد بن حنبل (ص:20-21).

([10]) انظر: المصدر السابق (ص:20).

([11]) أخرجه أحمد في المسند، برقم (8867)، وضعفه الألباني، انظر: ضعيف الترغيب، والترهيب (2/222).

([12]) أخرجه أحمد في المسند، برقم (16042)، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب، والترهيب، برقم (3608).

([13]) أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين، كتاب التفسير، تفسير سورة حم المؤمن بسم الله الرحمن الرحيم، برقم، (3638).

([14]) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات، باب جماع أبواب ذكر الأسماء التي تتبع إثبات التدبير له دون ما سواه، برقم، (132)، قال الألباني: وهذا إسناد رجاله كلهم ثقات؛ ولكنه مرسل، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة وأثرها السيئ في الأمة، (9/122).

([15]) أخرجه أحمد في الزهد، زهد عمر بن الخطاب ، برقم (663)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب آداب القاضي، باب إثم من أفتى, أو قضى بالجهل، برقم (20359)

([16]) أخرجه مسلم، كتاب البر، والصلة، والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2581).

([17]) أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الأدب، باب في الغيبة، برقم (4875)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (1647).

([18]) أخرجه ابن حبان في صحيحه، باب إخباره ﷺ عن البعث، وأحوال الناس في ذلك اليوم، برقم (7361)، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان (10/367).

([19]) أخرجه أحمد في الزهد، برقم (633)، قال الألباني: موقوف، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة، (3/346).

([20]) أخرجه الترمذي في السنن، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة الزمر، برقم (3236)، وحسنه الألباني، انظر: صحيح، وضعيف سنن الترمذي (7/236).

([21]) أخرجه أحمد في المسند، برقم (26401)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، برقم (3606).

([22]) انظر: الفتاوى الكبرى لابن تيمية (5/534).

([23]) انظر: تفسير ابن كثير (7/96).

([24]) أخرجه أحمد في المسند، برقم (21438)، وحسنه محققو المسند، وقال الألباني: وهذا إسناد صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أصحاب المنذر -وهو ابن يعلى الثوري- فإنهم لم يسموا، وذلك مما لا يضر لأنهم جمع من التابعين ينجبر جهالتهم بكثرتهم كما نبه على ذلك الحافظ السخاوي في غير هذا الحديث. انظر: السلسلة الصحيحة (4/117).

([25]) انظر: تفسير الطبري (21/287).

([26]) أخرجه أحمد في المسند، برقم (1941)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير، برقم (8031).

([27]) أخرجه النسائي في السنن الكبرى، سورة الزمر، قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَالزمر:31، برقم (11383).

([28]) انظر: الكشف والبيان عن تفسير القرآن (8/235).

([29]) انظر: سير أعلام النبلاء (10/41).

([30]) انظر: أدب الدنيا، والدين (ص: 138).

([31]) انظر: المستطرف في كل فن مستطرف (ص: 109).

مواد ذات صلة