بسم الله الرحمن الرحيم
أسماء الله الحسنى
(6) المقدمات في الأسماء الحسنى: المجلس السابع
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل هذا المجلس خالصاً لوجهه الكريم، ومقرباً إلى مرضاته، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، لا زال الحديث عن أهمية الإيمان بأسماء الله الحسنى، وذكرنا في ذلك أمرين.
وأما الأمر الثالث مما يدل على أهميتها: فهو أن إحصاءها والعلم بها أصل للعلم بكل معلوم، فإن المعلومات سوى الله -تبارك وتعالى- إما أن تكون خلقاً له، وإما أن تكون أمراً، ومصدر الخلق والأمر جميعاً ناشئ عن أسمائه الحسنى، ومرتبط بها، فالأمر كله مصدره أسماء الله --، والخلق كله كذلك، فإذا أحصى الإنسان أسماء الله كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم بهذا الاعتبار، وذلك أن إحصاء أسمائه إحصاء لكل معلوم، لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، فما نشاهده في هذا الكون مما يتعلق بالخلق فإنه ناتج عن أسمائه -تبارك وتعالى-، وإذا تأملت هذا ظهر لك كل الظهور، وإذا نظرت إلى ما أمر به وشرعه فإنه ناتج أيضاً عن أسمائه الحسنى، انظر إلى اسم الله مثلاً: الخالق، أو الرازق، أو الكريم، وانظر إلى ما تشاهده من هذه المخلوقات، انظر إلى أسمائه: العليم، والخبير، واللطيف، انظر إلى أسمائه -تبارك وتعالى- التي تدل أيضاً على علمه كالسميع، والبصير، فتجد ذلك الأمر الذي ذكرته ظاهرًا في هذا كله، فكل ما شرعه -تبارك وتعالى- يدل على أنه عليم، وأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها، ويوقعها في مواقعها.
وإذا تأملت في أحوال هذا الخلق الدقيق والجليل سواء في العالم العلوي كسير الأفلاك والكواكب وما جرى مجرى ذلك، أو نظرت إلى خلق الإنسان وما فيه من الدقة العجيبة، أو نظرت إلى تصريف أمر الكائنات من الدواب بجميع أشكالها وأنواعها وصنوفها رأيت أن ذلك صادر عن أسمائه -تبارك وتعالى-
إذا تأملت في أحوال هذا الخلق الدقيق والجليل سواء في العالم العلوي كسير الأفلاك والكواكب وما جرى مجرى ذلك، أو نظرت إلى خلق الإنسان وما فيه من الدقة العجيبة، أو نظرت إلى تصريف أمر الكائنات من الدواب بجميع أشكالها وأنواعها وصنوفها رأيت أن ذلك صادر عن أسمائه -تبارك وتعالى-
من الذي يرزقها؟ من الذي يقيمها؟ من الذي يدبر شئونها؟ من الذي أوجدها ابتداءً؟، من الذي يعلم أحوالها وتقلبها؟ ومن الذي أعطى هذا العطاء ومنح هذه المنح فصار الخلق يتقلبون بألوان الإفضال والنعم التي يغدقها الله عليهم صباح مساء؟، من الذي علمهم العلوم والمعارف حتى صار الإنسان يسخر كثيراً مما في هذا الكون، ولا يزال يكتشف أشياء وأشياء فيكون ذلك سبيلاً إلى مزيد من الانتفاع بما وهب الله ومنح؟، كل هذا صادر عن أسمائه الحسنى --.
الأمر الرابع: أن معرفتها وفهمها وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمحبة والمهابة إلى غير ذلك مما يمكن أن نعبر عنه بتحقيق العبودية كما سيأتي شرحه وإيضاحه في الكلام على الثمرات بشيء من البسط، ولكن هنا نشير إلى جانب يتعلق بهذا يدل على أهمية معرفة الأسماء الحسنى.
فالله -تبارك وتعالى- خلق الخلق من أجل أن يعبدوه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِالذاريات:56، ولا يمكن للخلق أن يعبدوه إلا بعد أن يعرفوه، فلابد من معرفته؛ لتتحقق الغاية المطلوبة من الخلق والحكمة من إيجادهم وهي أن يعبدوا ربهم وفاطرهم --، فالاشتغال بمعرفته -- اشتغال العبد بما خلق له، وإذا ترك العبد هذا وضيعه فإنه يكون قد أهمل ما خلق له، والوسائل لها أحكام المقاصد، وكثير من الناس يسألون عن سؤالات تتعلق بإصلاح أحوالهم وقلوبهم وأعمالهم، وتتعلق بسيرهم إلى الله والجد والتشمير في طاعته، فيقال لهم: اعرف ربك معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، أولئك الذين يتعلقون بالمخلوقين تعلقًا لا يصلح إلا أن يكون بالله -تبارك وتعالى- فيشغلهم ذلك التعلق عن ربهم، ويصير ذلك المخلوق يهيمن على تفكيرهم، ويجدون من انشغال القلب وألمه مالا يقادر قدره، مثل هؤلاء نقول لهم: العلاج بمعرفة الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، الذين يخافون من المخلوقين خوفاً لا يصلح إلا لله أيًّا كان هذا المخلوق من الناس من يقول: أنا أخاف من الظلام، ما السبيل؟ أذهب إلى الأطباء النفسيين؟، أو أحضر في هذه الدورات التي تعالج جوانبًا للشخصية؟ أو أقرأ في الكتب المنتشرة في المكتبات التي يقولون: إنها تعالج هذه الجوانب السلبية في نفس الإنسان؟، يقول: مع أني قرأت الكثير من هذه الكتب ولا أجد كتاباً في المكتبات إلا قرأته ومع ذلك لم أنتفع بشيء، فالسبيل هو أن يعرف الله --، ولهذا وجد بعض السلف وهو نائم في مكان خالٍ موحش في ظلام الليل في البرية، فقيل: أتنام هنا وحدك؟ فقال: من عرف الله لم يلتفت إلى من سواه.
ملأ الخوف من الله قلبه فلم يعد فيه محل لهذه المخاوف والأوهام التي يتوهمها كثير من الناس، أولئك الذين يتحسسون أبدانهم كأنه مريض، كأنه فيه علة، فيه مرض، فيه ورم، وليس به بأس، من الناس لا يكاد يوم يمر إلا وهو يرسل رسالة يطلب الدعاء من أشياء موهومة ليست حقيقية، ليس به علة، ولا بأس، لكنه يتوهم هذا ويبكي، هؤلاء يحتاجون إلى معرفة الله –-، وأن الله إذا أراد أن يمس العبد بضر فلا كاشف له إلا هو، وإذا أراده بخير فلا راد لفضله، إلى غير ذلك مما يطول وصفه، وسيأتي -إن شاء الله- الحديث عنه بشيء من البسط في الكلام على ثمرات الإيمان بأسماء الله الحسنى.
فالمقصود: أن معرفة هذه الأسماء الحسنى والصفات العلى يُحدث خشية ورهبة في قلب العبد، من علم أن الله بكل شيء عليم، وأنه لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد، وآمن بذلك فإنه يكون أكثر مراقبة لله وخوفاً ورجاءً ممن لا يعلم هذا، أولئك الذين يعانون من ذنوب في الخلوات، كيف السبيل إلى التخلص منها؟ إنما هو بمعرفة الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، فمن عرفه اتقاه؛ ولهذا قال الله: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُفاطر:28، وقد فسر ذلك كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري -رحمه الله- بقوله: "إنما يخاف اللهَ فيتقي عقابه بطاعته العلماءُ بقدرته على ما يشاء من شيء، وأنه يفعل ما يريد؛ لأن من علم ذلك أيقن بعقابه على معصيته، فخافه ورهبه خشية منه أن يعاقبه"([1])، ولهذا قالوا: العلم الخشية، يعني الذي يورث العبد خشية المعبود -تبارك وتعالى-، كما ذكر العز بن عبد السلام -رحمه الله- قريباً من هذا المعنى: وهو أن فهم معاني أسماء الله -تبارك وتعالى- يكون وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل([2]).
الأمر الخامس مما يدل على أهميتها وينبئ عن شدة الحاجة إليها: هو أنه لا شيء أطيب للعبد ولا ألذ ولا أهنأ ولا أنعم لقلبه وعيشه من محبة فاطره وبارئه ودوام ذكره والسعي في مرضاته، وهذا كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- هو الكمال الذي لا كمال للعبد بدونه، وله خُلق الخلق، ولأجله نزل الوحي، وأرسلت الرسل، وقامت السموات والأرض، ووجدت الجنة والنار، ووضع البيت الحرام، ووجب حجه على الناس إقامة لذكره الذي هو من توابع محبته والرضا به وعنه، وعلى هذا الأمر العظيم أُسست الملة، ونصبت القبلة، فكل من عرف الله أحبه، وكلما كان حبه أقوى كانت اللذة أعظم([3]).
والحب نابع من العلم بالمحبوب، ومعرفة جماله الظاهر والباطن، فأعرف الخلق بالله أشدهم حبًّا له، ولا سبيل للحصول على هذه المعرفة إلا من باب العلم بأسماء الله وصفاته، ومن كان في قلبه أدنى حياة أو محبة لربه وإرادة لوجهه فطلبه لهذا العلم بالأسماء والصفات وحرصه على معرفته وازدياد التبصر فيه وسؤاله واستكشافه عنه يكون أكبر مقاصده، وأعظم مطالبه، وأجل غاياته، فهو كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "ليست القلوب الصحيحة والنفوس المطمئنة إلى شيء من الأشياء أشوق منها إلى معرفتها هذا الأمر، ولا فرحها بشيء أعظم من فرحها بالظفر بمعرفة الحق فيه"([4])، وكل ذلك يضفي على القلب النور والبصيرة التي تحصنه من الشبهات والشهوات، فأين أصحاب القلوب المشوشة، والقلوب الفارغة، والقلوب المشغولة عن الله -تبارك وتعالى-، إما بحب المال، أو بحب امرأة، أو بغير ذلك مما تتعلق به القلوب فيصرفها ويشغلها عن المالك المعبود -؟!.
السادس: أن معرفة أسماء الله وصفاته هي الأساس الذي يبنى عليه عمل الإنسان، ومن خلالها تتحدد العلاقة التي تربط بين العبد وربه، وعلى ضوئها يعبد المسلم ربه، ويتقرب إليه؛ ولهذا كان أصل علم السلف وعملهم يقوم على أمرين:
الأول: العلم بالله.
والثاني: العمل لله.
السابع: أن هذا الطريق -وهو طريق معرفة الله معرفة صحيحة بأسمائه الحسنى وصفاته العلى- هو طريق الكُمَّل من الناس؛ ولذا كان ذلك طريق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهم أكمل الخلق وأعلمهم بالله، ثم على نهجهم صار الصديقون، والسابقون، والمقربون، والعلماء، وكل من سلك صراط الله المستقيم فإنه على هذه الجادة وهذا المَهْيع، وهذا الطريق الموصل إلى الله --، فهذه طريقة الكُمّل من السائرين إلى الله كما يقول الحافظ ابن القيم وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن([5])، فالله يقول: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاالأعراف:180 والدعاء بها يتناول دعاء المسألة ودعاء العبادة والثناء، والله -تبارك وتعالى- يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "أما الخواص فعمدة إيمانهم محبة تنشأ من معرفة الكمال، ومطالعة الأسماء والصفات"([6]).
ويقول في موضع آخر: "باب الأسماء والصفات الذي إنما يدخل منه إليه خواص عباده وأوليائه، وهو باب المحبين حقًّا الذي لا يدخل منه غيرهم، ولا يشبع من معرفته أحد منهم، بل كلما بدا له منه علم ازداد شوقًا ومحبة وظمأً"([7])، "وهذا هو سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم، إنه طريق سهل قريب موصل آمن، أكثر السالكين في غفلة عنه، ولكن يستدعي رسوخًا في العلم، ومعرفة تامة به"([8]).
"فالإيمان بالصفات ومعرفتها، وإثبات حقائقها، وتعلق القلب بها، وشهوده لها هو مبدأ الطريق ووسطه وغايته، وهو روح السالكين، وحاديهم إلى الوصول، ومحرك عزماتهم إذا فتروا، ومثير هممهم إذا قصروا، فإن سيرهم إنما هو على الشواهد، فمن كان لا شاهد له فلا سير له، ولا طلب ولا سلوك له، وأعظم الشواهد: صفات محبوبهم، ونهاية مطلوبهم، وذلك هو العلم الذي رُفع لهم في السير فشمروا إليه"([9])، وبهذا نكون قد انتهينا من القضايا الدالة على أهمية معرفة الأسماء الحسنى.
الأمر السابع عشر: وهو الأمر الأخير من هذه المقدمات، وهو ما يتصل بثمرات الإيمان بالأسماء الحسنى، وهذا من أجل وأهم وأفضل ما يذكر في هذه المقدمة.
للتعبد بأسماء الله وصفاته آثار كثيرة على قلب العبد وعمله، فمعرفة الذات والصفات مثمرة لجميع الخيرات العاجلة والآجلة، ومعرفة كل صفة من الصفات تثمر حالاً عليّة وأقوالاً سنية، وأفعالاً رضية، ومراتب دنيوية، ودرجات أُخروية، فمثل معرفة الذات والصفات كشجرة طيبة أصلها -وهو معرفة الذات- ثابت بالحجة والبرهان، وفرعها -وهو معرفة الصفات- في السماء مجد وشرف، تؤتي أٌكلها كل حين من الأحوال والأقوال والأعمال، منبت هذه الشجرة القلب الذي إن صلح بالمعرفة والأحوال صلح الجسد كله، كما يقول العز بن عبد السلام -رحمه الله-([10]).
ثمرات الإيمان بالأسماء الحسنى:
فأولها: تحقيق التوحيد: وقد ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- في كتابه "التوحيد" باباً قال فيه: "باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب"([11])، وذلك أن من أعطى هذه الأسماء حقها فإنها تقوده إلى التوحيد ولابد، ثم هو أيضاً سيأتي بلوازمها ومقتضياتها، فالألوهية والربوبية من مقتضيات تلك الأسماء الحسنى، وتحقيق التوحيد هو معرفته، والاطلاع على حقيقته، والقيام بها علماً وعملاً وحقيقة ذلك هو انجذاب الروح إلى الله محبة وخوفاً وإنابة وتوكلاً ودعاء وإخلاصاً وإجلالاً وهيبة وتعظيماً وعبادة، وبالجملة فلا يكون في قلبه شيء لغير الله، ولا إرادة لما حرم الله، ولا كراهة لما أمر الله به، وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود.
الأمر الثاني من ثمراتها: هو زيادة الإيمان، ومن عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، يزيد بالعلم والعمل، فكلما علم العبد عن الله وآياته شيئاً ازداد إيماناً، وكذلك أيضاً إذا استجاب العبد لما أمره الله به ازداد إيماناً، وينقص الإيمان بنقص العلم والعمل، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَالتوبة:124-125، ولا شك أن من أعظم ما جاءت به النصوص وبينته هو أسماء الله وصفاته، فمن آمن بها وفهم معناها وعمل بمقتضاها ازداد إيمانه زيادة عظيمة ولابد، وذلك أن معرفة الأسماء والصفات أعظم روافد الإيمان، وأجل الموصلات لحلاوته، ولذا كان من تحقق بمعانيها ووعاها بقلبه ووجدانه فإنه يجد لها من التأثيرات المختلفة على قلبه ما يهذب روحه ويسمو بنفسه حتى يصير كأنه في رياض من الجنة؛ ولهذا قال ﷺ فيما يُوجِد حلاوة الإيمان: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)([12]).
وقد ذكر الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- أن من أعظم روافد الإيمان: معرفة أسماء الله الحسنى الواردة في الكتاب والسنة، والحرص على فهم معانيها، والتعبد لله فيها([13])، ثم ذكر حديث: (إن لله تسعة وتسعين اسماً)([14])، ثم قال: "الجنة لا يدخلها إلا المؤمنون، فعُلم أن ذلك أعظم ينبوع ومادة لحصول الإيمان وقوته وثباته، "من أحصاها دخل الجنة"، الكافر لو عرف عدها وحفظ هذه الأسماء فإنه لا يدخل الجنة، فدل ذلك على أن المؤمن يرتقي بمعرفة هذه الأسماء سواء قيل: إن المراد هو حفظها مجرد الحفظ، أو قيل: فهم المعاني، أو قيل: العمل أيضاً بمقتضاها، فهذا كله يدل على أن ذلك من أعظم روافد الإيمان، ويكون ذلك أيضًا سببًا لقوته وثباته، فمعرفة الأسماء هو أصل الإيمان، والإيمان يرجع إليه، ومن انفتح له هذا الباب انفتح له باب التوحيد الخالص، والإيمان الكامل الذي لا يحصل إلا للموحدين، فالعلم بهذه الأسماء والاشتغال بفهمها والبحث عنها هو اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد من أشرف المواهب، وكلما ازداد العبد معرفة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقص نقص.
فعلى المسلمين أن يعرفوا أسماء الله وتفسيرها، فيعظموا الله حق تعظيمه، ومن أيقن بهذا الباب ولم يتأثر إيمانه بالشبه الباطلة، والإيرادات المبتدعة فقد وصل إلى درجات البصيرة في الأسماء والصفات، والبصيرة نور يقذفه الله بقلب العبد يرى به حقيقة ما أخبرت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام- كأنه يشاهده رأي عين، وبذلك ينتفع بما دعا إليه الشرع من الاعتناء بهذا الباب العظيم، ومن أعرض عن الإيمان بهذا الباب وعطل أسماء الله وصفاته كان من أعظم الصادين عن معرفة الله وعبادته، والقاطعين طريق الوصول إليه، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "الجهال بالله وأسمائه وصفاته المعطلون لحقائقها يبغِّضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريق محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون"([15])، يعني يقولون: ربكم لا يوصف بالرحمة، ولا يُحِب ولا يُحَب، ولا يرضى، إلى غير ذلك من أوصاف الكمال التي يعطلونها، يقولون: لا يتكلم، ولا ينزل إلى السماء الدنيا، ويقول: (من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه)([16])، فهؤلاء لا شك أنهم قطاع طريق يصدون عن الله وعن صراطه المستقيم.
الثالث من هذه الثمرات: أن العبد يبلغ بذلك ويصل إلى مرتبة الإحسان، وهي أعلى المراتب، وقد فسرها النبي ﷺ بقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([17])، والعلماء اختلفوا في ذلك على قولين منهم من يرى أنهما مرتبتان: منهم من يقول: (أن تعبد الله كأنك تراه) هذه هي المرتبة الأعلى، ثم انحط به ونزل إلى المرتبة التي دونها، يعني إن لم تصل إلى هذا المستوى أن تعبد الله كأنك تراهكأنك تشاهده فاعلم أنه يراك، تستشعر رقابته عليك، من أهل العلم من عد ذلك على مرتبتين.
ومن أهل العلم من فهم أنها مرتبة واحدة لكنه ذكّره بهذا المعنى الثاني: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه)، فاستشعر نظره إليك ورؤيته لك، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- مشى على أنهما مرتبتان، وعد المرتبة الأولى وهي مرتبة الاستحضار، استحضار مشاهدة الله واطلاعه عليه وقربه منه، وإحاطته بأمره، وهي مرتبة الإخلاص؛ لأن استحضاره ذلك في عمله يمنعه من الالتفات إلى غير الله وإرادته بالعمل، يلتفت إلى من وهو يستشعر هذا المعنى؟! يرائي من؟! ولذا كان من أعظم ما يخلص العبد من دنس الرياء ملاحظة أسماء الله وصفاته، فمن لاحظ من أسماء الله الغني دفعه ذلك إلى الإخلاص لماذا؟ وكيف؟ لأن الله غني عن عملك وأنت فقير إلى الله، والله -- أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معه سواه تركه الله وشركه([18])، فإذا عرف العبد هذا المعنى وتأمله أخلص لله --، إذا تذكر أن الله هو الغني وأن العباد فقراء يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُفاطر:15 فكيف يتوجه إليهم ويلتفت إليهم ويطلب المحمدة منهم؟، كيف يُتصور أن يقوم يعبد ربه -تبارك وتعالى- بذكره أو بالصلاة أو بقراءة القرآن أو نحو ذلك ثم هو يطلب من مخلوق ضعيف لا يملك لنفسه ضرًّا ولا نفعاً يطلب منه أن يرفعه، وأن ينفعه، وأن يعظمه، وأن يجله، أو ما أشبه هذا؟!، تطلب من الفقير العاجز وتنصرف عن الغني الكامل -؟!.
وهكذا من تأمل اسم الله العليم فإنه يعلم أن ما أخفاه عن أعين الناس وعن نظرهم ومشاهدتهم فإن الله -تبارك وتعالى- يراه ويشاهده، فإذا استحضر العبد أن الله يراه وأنه يعلم السر وأخفى، وأنه سميع بصير فإنه يستحي أن يقارف ما لا يليق، والله -- يرى ذلك منه، والملك يشاهده ويكتب عمله هذا، وهكذا من تأمل اسم الله الحفيظ حمله ذلك على ترك الرياء؛ لأن من معاني الحفيظ أنه يحفظ على العباد أعمالهم، يحصيها، ويكتبها ثم يوافيهم بعد ذلك بها، وإذا صنع ذلك في سائر الأشياء كان العمل كله لله -تبارك وتعالى-، فحبه لله، وبغضه لله، وقوله لله، ولحظه لله، وعطاؤه لله، ومنعه لله، فلا يريد من الناس جزاء أو شكوراً، ولسان الحال: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا الإنسان:9، وماذا عند المخلوقين؟ وهذا دواء في كثير من القضايا التي يسأل عنها الناس، إنما يجابون عنها بمثل هذا، يقال له: اعرف ربك معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، بعض الناس يقول: أقوم بأعمال دعوية وأشياء ولكن أجد قلبي يتفلت عليّ، ونيتي شرود، فنقول: اعرف ربك معرفة صحيحة، فإذا عرفته بأسمائه وصفاته لم تلتفت إلى الآخرين، ماذا ترجو وماذا تنتظر عند هؤلاء الناس العجزة المساكين الفقراء إن أحبوك مدحوك بما ليس فيك، وأن أبغضوك رموك بما ليس فيك؟، وما قيمة ثناء الناس، وما قيمة تقدير الناس، وما قيمة محبة الناس إذا كان العبد يتقلب بسخط الله --؟، ما قيمة هذا؟، لهذا يحتاج العبد أن يراعي هذه المعاني، لو قلت: إن جميع المشكلات التي نقع فيها فيما يتعلق بالسلوك، ما يتعلق بالإخلاص، ما يتعلق بعلاقاتنا ترتبط بهذا المعنى لم يكن ذلك مبالغة، كيف لا والعلم بالأسماء والصفات أصل للعلم بكل معلوم؟.
فإذا عرف الإنسان قدر النفس وأنه عبد يصلح له ما يصلح للعبد، وعرف الرب --، وعرف الخلق فإنه لا بأس عليه يجتهد في طاعة الله، ولا يلتفت إلى المخلوقين أن يعطوه، أو يمنعوه، أو يكرموه، أو يمنحوه، أو يرضوا عنه، أو يسخطوا عليه، لكن من لم يعرف ربه معرفة صحيحة تضخمت عليه نفسه فتعاظم وصار يطلب من الناس أن يبرزوه، أن يقدموه، أن يكرموه، أن يعطوه الدروع، أن يجعلوه في صدر المجالس، أن ينوهوا بذكره في كل مناسبة بل وبدون مناسبة، وإلا فإنه يغضب عليهم ويسخط عليهم ويلومهم، ولربما حقد عليهم.
لماذا تتعاظم النفس؟، إذا تلاشت معرفة الرب -تبارك وتعالى- في القلب، لماذا يتعاظم الناس في عين الإنسان تجده دائماً ملهوفًا يريد أن يعرف ماذا قال الناس عن عمله ومشروعه الفلاني؟ ماذا قال الآخرون حينما ألقى كلمة في هذا الحفل؟ أو حينما تصدق بصدقة؟ أو حينما قام بعمل معين؟.
فهذا يجعله يُقبل أو يحجم! باعتبار نظر الناس، فهذا انحراف، وخلل كبير بسبب أن هذا الإنسان ما عرف الله، فتعاظم المخلوق في عينه فاشتغل به، وصوب نظره إليه فصار عطاؤه ومنعه من أجل رضا المخلوق، أو اتقاء لسخطه، ولا يبالي بعد ذلك أَسَخِط الله عليه أو رضي عنه، وتأملوا هذا في أنفسكم، ويمكن أن تعالج جميع أدواء القلوب بمثل هذا النظر والمعرفة والعلم الصحيح الذي هو من أجلّ العلوم، فالعبد إذا قصر في معرفة الله وقع في الرياء وضعف عنده الإخلاص فيقصد غير الله، ولربما عبد غيره أصلاً يعبد حجراً أو شجراً أو بشراً، فمن امتلأ قلبه بعظمة الله فإنه يستصغر كل من سواه، فلا يرجو قرباً بعمله ولا رزقاً بقوله، ولا يتعلق بغير المالك المعبود --، فالله له الأمر كله فلا يكون شيء في الكون إلا بأمره وعلمه، فلماذا نلتفت إلى المخلوق؟ ولماذا نشتغل بالمخلوق؟!.
والأمر الثاني الذي ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فيما يتعلق بمرتبة الإحسان الأولى: الاستحضار، والثانية: المشاهدة، وفسرها بأن يعمل العبد على مقتضى مشاهدته لله تعالى بقلبه، فيستنير قلبه بالإيمان وتنفذ البصيرة في العرفان حتى يصير الغيب كالعيان، هذه عبارة الحافظ ابن القيم -رحمه الله-([19])، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته تحصلت له مرتبة الاستحضار، فإن ترقى إلى معرفة الحق تحصلت له مرتبة المشاهدة، باعتبار الانقسام الذي ذكرته آنفاً، وأن ذلك على مرتبتين، ومرتبة المشاهدة هي التي يوصف الإنسان فيها بالتعبد المطلق بجميع الأسماء والصفات، كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "إن مشهد الإحسان هو مشهد المراقبة وهو أن يعبد الله كأنه يراه، وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته حتى كأنه يرى الله -- فوق سمواته مستوياً على عرشه يتكلم بأمره ونهيه، ويدبر أمر الخليقة، فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه، وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه، فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أسماءه وصفاته، ويشهد قيومًا حيًّا سميعاً بصيراً عزيزاً حكيماً، آمراً ناهياً، يحب ويبغض، ويرضى ويغضب، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد، ولا أقوالهم، ولا بواطنهم، بل يعرف خافية الأعين وما تخفي الصدور.
ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها، فإنه يوجب الحياء، والإجلال والتعظيم، والخشية، والمحبة، والإنابة، والتوكل، والخضوع لله -سبحانه-، والذل له، ويقطع الوسواس وحديث النفس، ويجمع القلب والهم على الله، فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان، وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض، وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد([20])، كما يعبر الحافظ ابن القيم -رحمه الله.
هذا معنى شريف يحتاج إلى عناية، أن نعالج هذه النفوس، ونسعى أيضاً إلى رفع الآخرين إلى أن يصلوا إلى هذه المرتبة -مرتبة الإحسان-، ولا يمكن أن يصل إليها إنسان لا يعرف الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته، ارفع نفسك تتخلص من كثير من الأوضار، إذا أردت أن تعالج الآخرين فارفعهم، علق قلوبهم بالله عرفهم به، فتنتهي من كثير الأمور التي تقلق النفوس، ويضطرب على الإنسان فيها قصده ونيته، وعند ذلك تفسد أعماله، ولربما يقع النطاح والصراع بين الكثير من الناس وهم في عمل واحد في خير ودعوة، ويتفرق الجمع الواحد، ولا يلتئم اثنان على شيء، كل ذلك بسبب هذا الفساد الذي يعشش في القلوب، هو يريد أن يكون له حضرة، يريد أن يكون له وجود، يريد أن يكون في الأمام لماذا أهمَّش؟ لماذا أحيَّد؟ لماذا أبعد؟ لماذا لا يلقى لي بال؟ لماذا الذكر لغيري؟ لماذا التنويه بغيري وأنا الذي أقمت هذا، وأنا الذي فعلت هذا، وأنا صاحب الفكرة، وأنا صاحب الاقتراح؟، كل هذه أمراض تعشعش فتجد بعد أن كان رأساً في هذا الباب من أبواب الخير، ويدعو الناس إليه ويحثهم عليه أصبح معوقاً ومثبطاً ومنتقداً يذكر عيوبهم ويتتبع أخطاءهم، ويلمزهم ويعوق الناس عن الانتفاع بهذا العمل وبهذا المشروع الذي كان هو أول الداعين إليه، ما الذي تغير؟
لماذا تحولت أعمالهم الجيدة إلى أخطاء؟
لماذا ضُخمت هذه الأخطاء؟
الأخطاء موجودة في كل مكان لكن لماذا تُتتبَّع؟
ولماذا النجوى؟
يبحث عن أناس يوافقونه ويرخون آذانهم، يسمعون لما يلقيه في قلوبهم فإذا وافقه الواحد بعد الواحد ما يلبث أن يجتمع حوله مجموعة إما من السذج، أو ممن في قلوبهم شيء على إخوانهم ويظنون أنهم إنما يقومون بالله ولله غيرة على دينه، وهم إنما يقومون انتصاراً لأنفسهم وحظوظهم، وذواتهم، وما أكثر هذا، هذا الذي فرق الناس، وهذا الذي شتتهم، ويتحول بسبب هذا البَرُّ التقي الصالح الذي هو من أفضل العباد يتحول إلى شيطان رجيم في نظر هؤلاء، ولربما يتحول الطالح البطال الذي لا ينهض بعمل من أعمال الخير يتحول إلى رمز، وإلى منظر، وإلى كبير، وإلى قدوة يتكلم ويهرف بما لا يعرف، من أين هذا؟.
من هذه الأمور، وهذه البلايا، وهذه الآفات، وهذه الشوائب التي تعشعش في القلوب، فتجد الإنسان في نفسه أشياء كثيرة على إخوانه، وإذا سنحت له الفرصة قام وتحركت عزيمته وهمته ووثب وثوب الأسد على الفريسة، وصار -نسأل الله العافية- فتنة لغيره، وصادًّا عن سبيل الله --، وهذه بلية لا يسلم منها إلا من خلص قلبه من هذه الشوائب، وعرف ربه معرفة صحيحة، وعند ذلك لا يبالي بأحد، يقول: المهم أن ينتشر الخير، أن يكثر البر والمعروف على يدي أو على يد غيري، كل من سار في هذا الطريق فأنا عون له، وإذا أساء الناس فكفوا عن إساءتهم، ولا أريد أن أحدًا يعرف أنني قدمت في هذا قليلاً ولا كثيراً، ولا يعرف أحد أنني تصدقت، أو أنني اقترحت، أو أنني صاحب الفكرة الأساسية -كما يقول- في المشروع، أو نحو ذلك، من الناس مَن إذا جلست معه تستحي تريد أن تصلح بينه وبين بعض إخوانه تستحي، كلام أطفال، ترضيه الكلمة وتسخطه الكلمة، فإذا أعطيته بعض الاعتبار وأنت ومثلكم ما شاء الله وجرى على يديه كثير من الخير والبر والنفع، وأنتم وأمثالكم، وأنتم انشرح صدره واستراح ووجد أن مثل هذا من أعظم ما يقويه ويدفعه إلى مزيد من العمل معهم، يمكن أن يستمر بهذه الطريقة، وإذا وجد فتوراً أو انقباضاً أو لم يُذكر أو نحو ذلك، أو شعر أن أحدًا ينافسه سخط وغضب، وأشغل الناس بمشكلاته وإزعاجه وقلقه وما يورده عليهم ويشوش على أعمالهم به، هذا كثير، تجلس مع ناس أحياناً مثل الأطفال تماماً أبو خمس سنوات وأبو ست سنوات، تحاول أن ترضيه وتطيب خاطره، وأنت ما أحد نسيك، كيف تُنسى؟ مثلك لا يُنسى، ما شاء الله، تبارك الله، أنت أصل في هذا العمل، فيفرح وينبسط ويسر، ترضيه الكلمة، وتسخطه الكلمة، لكن لو كان الأمر لله كان لا يحتاج إلى مثل هذا، بل يقول: "أنا المُكدَّي وابن المُكدَّي"([21])، كما كان يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، ما أنتظر منكم شيئًا، لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا، إذا حضرتُ أجلس في آخر المجلس، وإذا أقمتم تعريفاً لهذا العمل أو لغيره لا أُذكر فيه، هذا هو الصحيح، لكن هذا يحتاج إلى مجاهدات وصبر، ويحتاج إلى معرفة بالنفس، ومعرفة بالخلق، ومعرفة بالخالق -.
الأمر الرابع من الثمرات: هو أن العلم بالله -تبارك وتعالى- على هذا المنهج يرسخ العقيدة الصحيحة والمعرفة الصادقة في قلب الإنسان، ويسلك به صراط الله المستقيم، وهذا يقرب العباد من ربهم وخالقهم وباريهم -- فينزل عليهم رضوانه، وتنزل بركاته، ويكون هذا سببًا لرفعتهم ونصرهم وتأييدهم وتمكينهم في الأرض: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًاالنور:55، و"شيئاً" نكرة في سياق النفي، نفي لكل إشراك بجميع صوره وأشكاله وأنواعه، وأما الذين لا زالت حظوظ النفوس عندهم قائمة فقد يجاهدون لحظوظ هذه النفوس، فلا يكون جهاده أو أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر لا يكون لله، وإنما يكون لهذه النفس، وهؤلاء قد يحصل لهم خلاف في مقصودهم كما ذكر أهل العلم؛ لأن مثل هذا قد يسلط عدوه عليه إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ونفسه حاضرة، يريد إما أن ينتصر لنفسه أو يُعرف بهذا، أو يعرف أنه جريء وشجاع، وقد يسلط هؤلاء عليه فيحصل له من الأذى والإذلال والضرر ما لم يحسب له حساباً، والله المستعان، وإذا حاد العباد عن الدين الذي ارتضاه الله لهم فإن ذلك يكون سبباً لانقراض ملكهم وسلطانهم وإدالة عدوهم عليهم.
الخامس من الثمرات: وهو تنزيه الله عن كل ما لا يليق به، فلا يظن بربه ظنًّا سيئاً، ولا يصفه بما لا يليق، ولا يسميه بغير الأسماء التي سمى بها نفسه -تبارك وتعالى-، فالله -- من أسمائه القدوس، والسبوح، وهذه تدل على التنزيه، على تنزيه الله عن كل عيب ونقص، يعلم أن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌالشورى:11 فلا ينسب إليه نقيصة، ولا يسيء الظن به، ولا يقول لماذا يا رب؟ ما ذنب هذا يا رب؟!.
الأمر السادس من هذه الثمرات -وهو أمر جليل يحتاج العبد أن يتفطن له-: وهو الاستدلال بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله ويشرعه، هذه طريقة الخواص من أهل الإيمان، أهل المراتب العالية، يعني أكثر الناس يستدلون بما يشاهدونه ويرونه على أمور تتعلق بالله، يستشهدون بهذا الخلق على وجود الخالق، يستشهدون بانتظام هذا الخلق وبسيره هذا السير الدقيق على أن المدبر واحد فلا يشركون به أحداً سواه، هذه طريقة أكثر الخلق، وهي الطريقة الشائعة في القرآن؛ لأن مدارك غالب الناس إنما تدور عليها، لكن الطريقة الثانية هي طريقة راقية أكمل من هذه لا يصل إليها إلا القلة من الناس الأفذاذ، من فتح الله بصيرته، لسان حال هؤلاء الذين وصلوا إلى المرتبة العالية يقول: أفي الله شك؟، يقول:
وليس يصح في الأذهان شيءٌ *** إذا احتاج النهارُ إلى دليلِ([22])
مثل المرأة التي مر بجوارها رجل من أهل الكلام ومعه كوكبة من تلامذته، امرأة عامية جالسة في الطريق قالت: من هذا؟ قالوا: هذا الذي يعرف على وجود الله ألف دليل؟ فقالت على البديهة: لو لم يكن في قلبه ألف شك لما عرف على وجود الله ألف دليل!.
قضية وجود الله قضية بدهية، قضية لا تحتاج إلى استدلال ونظر وإثبات، ولهذا لا تجد الأدلة في القرآن تقرر هذا المعنى، وإنما ينتقل منها؛ لأنها بدهية، وهذا من خصائص الاستدلال القرآني ينتقل منها مباشرة إلى تقرير الإلهية، لا يحتاج أن يقول: الله موجود، وإنما مباشرة يقررهم بما يقرون به، هذا الذي تقرون بأنه خلق السموات والأرض، وهو الذي يرزقكم، ويعطيكم يجب أن تعبدوه وحده وأن توحدوه، تفردوه بالعبادة لا تشركوا معه أحدًا سواه، هذه الطريقة التي جرى عليها القرآن، لكن هؤلاء من المتكلمين يتعبون أنفسهم في إثبات قضية لا ينكرها الذين بعث فيهم النبي ﷺ من العرب أهل الإشراك، كانوا يعرفون أن الله موجود وهو الخالق، الرازق، المعطي، المانع، وإنما يعبدون هذه الآلهة يقولون: لأنها تقربنا إلى الله زلفى.
الطريقة الأعلى من هذه هو أن من عرف الله معرفة صحيحة بأسمائه وصفاته استدل بهذه الأسماء والصفات -ما عَرف منها- على ما يجري في هذا الخلق، وما يكون أيضاً في الشرع، فالعالم بالله -تبارك وتعالى- يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله، وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل، والفضل، والحكمة
العالم بالله -تبارك وتعالى- يستدل بما علم من صفاته وأفعاله على ما يفعله، وعلى ما يشرعه من الأحكام؛ لأنه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل، والفضل، والحكمة
، كذلك ما يشرعه من الأحكام إلا على حسب ما اقتضاه حمده وحكمته وفضله وعدله، فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه عدل وحكمة.
ويمكن أن نمثل بمثالين:
الأول: فيما يتعلق بما يفعله الله في هذا الخلق.
والثاني: فيما يشرعه الله -تبارك وتعالى.
أما الأول: فهو موقف خديجة -ا-، الموقف المشهور لما جاء النبي ﷺ وهو يرتعد لما رأى الملك، ونزل عليه الوحي أول مرة، فجاءها في غاية الخوف فقال لها: إني قد خشيت على نفسي، فماذا قالت خديجة؟ قالت: "كلا والله لا يخزيك الله أبدًا"، كيف حكمت وحلفت أن الله لا يمكن أن يخزيه؟ قالت: "إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكَلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق"([23]).
فهذه الأشياء التي ذكرتها كان مجبولاً عليها ﷺ من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد عُلم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة، ونزهه عن الأخلاق المذمومة فإن الله لا يخزيه([24])، ترى الإنسان محسنًا على الآخرين، وتقيًّا، وصالحًا، يقوم الليل ويصوم النهار ونحو ذلك هل يمكن أن الله يخذل هذا إذا كان له نية صحيحة في هذه الأعمال؟
لا يمكن، نعم قد يبتلى فترة، يمحص ويرفع، لكن أن يخذل هذا لا يكون، الكفار الذين يظلمون وأكثروا الفساد في البلاد، وقارفوا ألوان الجرائم التي أهلك الله من أجل واحدة منها أمة من الأمم، مثل هؤلاء الناس نحن نعلم بما نعرف وما نعلم من أسماء الله وصفاته أن هؤلاء لا يمكنون، إنما يكون لهم ظهور مؤقت؛ لحكمة وأمر يعلمه الله ثم بعد ذلك ينكسرون وينتهون ويتلاشون، نحن نعرف أن من سنة الله كما أخبر النبي ﷺ: (حق على الله أنه ما ارتفع في الدنيا شيء إلا وضعه)([25])، وكل ما ارتفع سيأتي يوم ويتّضع إلا ما كان لله، وفي الله، وفي سبيل الله، فهذا الذي لا يوضع، وإنما يرفع.
وأما فيما يتعلق بالتشريع فقد ذكر الحافظ ابن القيم -رحمه الله- مسألة فقهية وهي مسألة: بطلان التحليل مثلاً، الحيلة على تحليل الزوج بعد الطلقة الثالثة، المحلل، وكذلك أيضاً الحيل الربوية يقول: يستحيل على الحكيم أن يحرم الشيء ويتوعد على فعله بأعظم أنواع العقوبات، ثم يبيح التوصل إليه بنفسه بأنواع الحيل، فأين ذلك الوعد الشديد وجواز التوصل إليه بالطريق البعيد؛ إذ ليست حكمة الرب تعالى وكمال علمه وأسمائه وصفاته تُنتقض بإحالة ذلك وامتناعه عليه، فهذا استدلال بالفقه الأكبر في الأسماء والصفات على الفقه العملي في باب الأمر والنهي.
والذين يقولون: ما في شيء، هذا يجوز، أنك تتوصل إلى هذه المعاملة بهذه الطريقة في الربا، الحيل الربوية الكثيرة يتعامل بها من يتعامل فالله يحرم الربا ويقول: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِالبقرة:279، والنتيجة هي النتيجة لكن بطريقة ملفوفة، بإدخال سلعة أو نحو ذلك ثم تقولون: هذا حلال، فحكمة الله تأبى ذلك، وإلا لما حرم الربا، فنحن نعرف من حكمته -- في تشريع هذا، مقاصد الشريعة في تحريم الربا أن هذا موجود في المعاملة الأخرى التي احتالوا بها على هذا الربا.
[1]- تفسير الطبري (19/ 364).
[2]- موسوعة الدين النصيحة (2/ 65)، بترقيم الشاملة.
[3]- انظر: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (1/ 87).
[4]- الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة (1/ 161).
[5]- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/ 420).
[6]- طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 322).
[7]- المصدر السابق (ص: 317-318).
[8]- المصدر السابق (ص: 215).
[9]- مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (3/ 327).
[10]- انظر: شجرة المعارف والأحوال (ص: 14-15).
[11]- انظر: فتح المجيد شرح كتاب التوحيد (ص: 57)، والقول المفيد على كتاب التوحيد (1/ 91).
[12]- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، برقم (16)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصالٍ من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، برقم (43).
[13]- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان (ص: 72).
[14]- أخرجه البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثُّنيا في الإقرار، والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، وإذا قال: مائة إلا واحدة أو ثنتين، برقم (2736)، وبرقم (7392)، كتاب التوحيد، باب إن لله مائة اسم إلا واحدًا، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم (2677).
[15]- الفوائد لابن القيم (ص: 159).
[16]- أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، برقم (1145)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل، والإجابة فيه، برقم (758).
[17]- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي ﷺ عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، وعلم الساعة، برقم (50)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان ما هو وبيان خصاله، برقم (9).
[18]- أخرجه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، برقم (2985).
[19]- انظر: مدارج السالكين (3/ 145).
[20]- رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 38-39).
[21]- مدارج السالكين (1/ 520).
[22]- انظر: الأمثال السائرة من شعر المتنبي (ص: 46)، ونهاية الأرب في فنون الأدب (3/ 106)، ونفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب ت إحسان عباس (4/ 141).
[23]- أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ؟، برقم (3)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، برقم (160).
[24]- شرح الطحاوية (ص: 153).
[25]- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ناقة النبي ﷺ، برقم (2872).