الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(09) الرب
تاريخ النشر: ١٥ / صفر / ١٤٢٩
التحميل: 8618
مرات الإستماع: 5746

بسم الله الرحمن الرحيم

الأسماء الحسنى

الرب

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على النبي المصطفى، وآله، وصحبه ومن اقتفى، أما بعد:

فسيكون الحديث عن اسم الله (الرب)، وسيكون منحصراً في أربع قضايا:

الأولى: في معنى هذا الاسم الكريم من ناحية اللغة وكلام العرب، ومن ناحية معنى هذا الاسم في حق الله -تبارك وتعالى-.

الثانية: ورود هذا الاسم في الكتاب، والسنة، وتنوع هذا الورود.

الثالثة: ما يدل عليه هذا الاسم الكريم.

الرابعة: الآثار المترتبة على الإيمان  بهذا الاسم.

أولاً: ما يتعلق بهذا الاسم من الناحية اللغوية:

فإن العرب تطلقه على معانٍ، أو تطلقه بإطلاقات متعددة، وهذا ينبغي أن يراعى عند الكلام على الأسماء الحسنى -الدلالة اللغوية-، على أي شيء تطلق العرب هذه اللفظة؟  

فالعرب تطلق هذا الاسم على جملة معانٍ، والعلماء -رحمهم الله- منهم من يذكر ثلاثة، ويقتصر عليها، ويرى أن غيرها يرجع إليها، ومنهم من يذكر أربعة, ومنهم من يذكر خمسة، والأمر في هذا يسير.

فمن هذه المعاني: أن الرب يطلق على المصلح للشيء، فتقول: ربَّبت الشيء، وربَبْته أربُّه إذا أصلحته، وقمت عليه، وهذا له تعلق بمعنى آخر -سنذكره- وهو ما يتصل بالتربية، وإنما أشير إلى ذلك؛ تنبيهاً لما ذكرته من أن من أهل العلم من يقول: إن بعض هذه المعاني يرجع إلى بعض، فالمصلح للشيء يقال: له رب.

المعنى الثاني: أنه يقال: للمالك، فكل من ملك شيئاً فهو ربه في لغة العرب، فتقول: هذا رب الدار، وهذا رب السيارة، وهذا رب الثوب، وهذا رب الدابة، ونحو ذلك؛ يعني: صاحب الشيء، ومالك الشيء.

المعنى الثالث: أنه الذي يسُوس غيره، ويدبر شئونه، ويصرفه، فسياسة الشيء تربيب له، تقول: ربَبتُ القوم؛ أي: سستهم، ومنه قول صفوان بن أمية حينما خرج في يوم حنين، حينما رأى المسلمين قد انهزموا، فقال رجل معه: "بطل سحر محمد، والله لا يرد هزيمتهم إلا البحر"، فقال له صفوان بن أمية -وهو أخوه لأمه-: "اسكت، فض الله فاك، فوالله لأن يَرُبّنِي رجل من قريش أحب إليّ من أن يَرُبّنِي رجل من هوازن"([1]).

 ومعنى أن يربني: أي يسوسني، وأن يدبر شئوني، وبهذا الاعتبار يلتقي معنى الرب على أنه الذي يسوس غيره مع معنى السيد.

والله -تبارك وتعالى- ذكر عن قيل يوسف ﷺ حينما فسر الرؤيا، فقال: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا}[يوسف:41]، يعني: يسقي سيده، الملك، وبهذا الاعتبار يلتقي معنى اسم الرب مع معنى اسم المَلِك؛ لأن المُلك: هو التصرف المطلق.

المعنى الرابع: وهو: المربي؛ ولهذا قال بعضهم -كالراغب الأصفهاني-: "إن الرب في الأصل من التربية"([2])، وهو إنشاء الشيء حالاً، فحالاً إلى حد التمام.

هذه أربعة معانٍ، وقد اقتصر على الثلاثة الأولى دون الأخير -هذا الذي بمعنى: التربية- جمع من أهل العلم، كابن الأنباري، والزجّاجي، والخطّابي، والقرطبي، وأبو جعفر الطبري -صاحب التفسير-، وجعل أبو جعفر الطبري -رحمه الله- سائر المعاني الأخرى التي يذكرها العلماء في معنى الرب تعود إلى هذه الثلاثة فقط، وهذا توجيهه ما ذكرت عند الكلام عليها.

وزاد بعضهم -كابن الأثير- "القيم على الشيء"([3])، والواقع أن القيم على الشيء يدخل في معنى الذي يسوسه، ويدبر شئونه، ونحو ذلك.

وهكذا المنعم: فإن هذا عائد إلى معنى التربية؛ لأن التربية يدخل فيها تربية الأبدان بالغذاء، والنماء، والتخليق، طوراً بعد طور، ويدخل فيه المعنى الآخر، وهو تربيتها بالإيمان، والعلوم الصحيحة النافعة.

وزاد غيره: "المعبود"([4])، جعله من معاني الرب، وأخذ ذلك من البيت المعروف:

أربٌّ يبول الثعلبان برأسه *** لقد هان من بالت عليه الثعالبُ([5])

رب بمعني: معبود، فإذا أردنا أن نتكلم على (الرب) فإن هذا يقتضي أن نتكلم على اسمه -تبارك وتعالى- الآخر وهو (السيد).

وإذا تحدثنا عن (السيد)؛ فإن ذلك يقودنا ولابد لنتكلم على الاسم الآخر، وهو (الصمد)؛ لأن من معاني الصمد: السيد.

وإذا تكلمنا على (الرب)؛ فإن هذا يقودنا لنتكلم على اسمه الآخر (الملِك)؛ لأنه داخل فيه، ثم إنه يقودنا إلى الكلام على الاسم الآخر، وهو (المالك)، كما يقودنا ذلك -أيضاً- للكلام على (الخالق)؛ لأن ذلك من معاني الربوبية -كما سيأتي.

وإذا تكلمنا عن (الخالق)، فلابد من أن نتكلم عن (البارئ)؛ لأن (الخالق)، و(البارئ) بينهما ارتباط لا يخفى، فهما يرجعان إلى أصل واحد في المعنى.

ويأتي الخلق بمعنى: التقدير –أحيانًا-، فانظروا إلى هذا الترابط؛ ولذلك رأيت أن أقتصر على الكلام على اسم (الرب)؛ من أجل ألا أضغط على هذه المعاني، ومن أجل أن لا أثقل عليكم بكثرة ما أورده، ثم في الدرس القادم أتحدث عن (السيد)، و(الصمد)، ثم بعد ذلك نتحدث عن (الملك)، و(المالك)، ثم نتحدث عن (الخالق) و(البارئ)، و(المصور)؛ لأن من معاني الخلق: التصوير، والتشكيل؛ فلابد من الكلام على هذه الثلاثة.

بعد ذلك أنتقل إلى الكلام على معنى هذا الاسم الكريم في حق الله --؛ أي: هذه المعاني التي سمعنا سواء الثلاثة التي قال كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير -رحمه الله-: إن سائر المعاني ترجع إليها، أو كان ذلك باعتبار المعاني الأخرى التي ذكرها غيره، هذه المعاني يفسر بها هذا الاسم الكريم.

فإذا أُطلق على الله هل نقول: هو المالك؟، أو نقول: الرب هو المربي، خلقه بألوان الفيوض، والنعم الحسية، والمعنوية؟، أو نقول بأن الرب -- هو السيد، أو الملك الذي يتصرف في خلقه تصرفًا مطلقاً؟

الواقع أن جميع هذه المعاني السابقة صحيحة، وكل ذلك داخل في معناه، وثابت في حق الله -تبارك وتعالى-، وهذا الذي ذهب إليه المحققون، كابن جرير، وابن كثير، وغير هؤلاء.

فالله -- هو السيد الذي لا شبه له، ولا مثيل له في سؤدده، وهو المصلح، أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، وهو المالك الذي له الخلق، والأمر، وهو المعبود وحده لا شريك له، كما أنه المربي الذي يربي عباده بنعمه تربية مادية بالأغذية، والأقوات، وتربية روحية بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والشرائع التي تهذب نفوسهم، وأخلاقهم، وأعمالهم، وترتقي بإنسانيتهم، وكرامتهم، فيكون الإنسان على أكمل الأحوال، وأحسنها.

فالمربي -كما يقول بعضهم-: له صفتان أساسيتان: الأولى: الإمداد، والثانية: الرعاية.

فالذي يعطينا، ويمدنا بما نحتاج إليه هو الله --، هو ربنا، المالك، المعبود --، والذي يربي نفوسنا، ويهدينا إلى صراطه المستقيم هو الله --.

الذي يعطينا، ويمدنا بما نحتاج إليه هو الله --، هو ربنا، المالك، المعبود --، والذي يربي نفوسنا، ويهدينا إلى صراطه المستقيم هو الله --.

 

أما المربي من الخلق فهو الأب، فحينما يقال: فلان يربي أولاده، هذه التربية تكون بما يعطيهم من الغذاء، والكساء، وما يحتاجون إليه من المراكب، والمسكن، وبما يلقنهم، ويعلمهم، وبما يهذب به نفوسهم، وأخلاقهم، فهذا كله داخل في هذا المعنى.

وهكذا كل من يقوم على تربية شيء؛ فإنه يدخل في تربيته هذان الأمران؛ ولهذا قال من قال كالراغب -كما سبق- "إن الربوبية: مشتقة من التربية"([6])، ولا شك أن لها تعلقاً بهذه المادة، فذلك يرجع إلى شيء واحد، فالأب مربي، والمعلم مربي، ونحن حينما يربينا ربنا -- فإن ذلك يعني أنه أوجدنا، وأنه الذي ينقلنا من طور إلى طور، وأنه الذي يعطينا، ويمدنا بهذه الأقوات.

فمن أين يأتي هذا الرزق المدرار؟ هذه الألبسة التي نلبسها من أين؟ من الله --، فنعمة الإمداد، ونعمة الهدى، والإرشاد، وكل ما بنا من نعمة فهي من الله -تبارك وتعالى.

فالله حينما خلقنا، ونقلنا من طور إلى طور، وأفاض علينا ألوان النعم، لم يتركنا هملاً، بل أرسل إلينا الرسل، وأنزل علينا الكتب، فهدانا، وأرشدنا، ووفق من شاء إلى ما شاء من ألوان الهدايات؛ ولهذا قيل بأن الرب هو المبلِّغ كل ما أبدع حد كماله، يبلِّغه حد الكمال شيئاً فشيئاً.

فإذا نظرت إلى التربية المادية المحسوسة -تربية الأجسام- فالله -تبارك وتعالى- يسلّ النطفة من الصلب، ثم يجعلها علقة، ثم مضغة، ثم يخلق المضغة عظاماً، ثم يكسو العظم لحماً، ثم بعد ذلك يخلق هذه الروح، تُنفخ الروح في هذا البدن؛ فتبدأ الحياة، والحركة، ويتحول ذلك الجسد إلى مخلوق آخر، ثم يخرجه الله إلى هذه الدنيا في حال من الضعف، والصغر، والضآلة، فلا يزال ينميه، وينشئه حتى يجعله رجلاً، بعدما ينتقل من طور إلى طور، الطفولة, ثم الشباب، ثم الكهولة، ثم يكون شيخاً، وهكذا كل شيء خلقه الله فهو القائم عليه، المبلغ إياه الحد الذي وضعه له، وجعله نهاية ومقداراً له.

فهذه تربية للأبدان، تربية حسية، ينقله من طور إلى طور حتى يكتمل، تقول: فلان يربي فُلوّه -فرسه الصغير-، فلان يربي دابته، فلان يربي ولده.

وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم -رحمهما الله- إلى أن الربوبية ترجع إلى معنى: الخلق، والتقدير، وأن هاتين الصفتين غالبتان على معنى الربوبية، على معنى اسم الرب -تبارك وتعالى-، وعللا ذلك بأن الخلق، والتقدير من أخص صفات الربوبية التي وصف الله -تعالى- بها نفسه في آيات كثيرة من القرآن([7]).

ولهذا قلت: إن ذلك يقودنا إلى الكلام على معنى الخالق، وإن من معاني الخالق الموجد، المنشئ من العدم، وكذلك المقدر.

ومما سبق ندرك بأن الرب هو: الذي يخلق، ويدبر ما خلق، كما قال الله عن قيل موسى ﷺ عندما بين حقيقة الربوبية ومعناها لفرعون لما سأله: فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَىطه:49، فأجابه: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى طه:50.

فأجاب موسى ﷺ عن معنى الربوبية بهذين المعنيين الجامعين:

الأول: إفراد الله بتخليق الأشياء، وتكوينها، وإنشائها من العدم، حيث أعطى كل شيء خلقه، ووجوده، ومن ذلك الصورة، أعطاه صورته؛ ولهذا أقول: لابد من الكلام على اسم الله المصور.  

الثاني: إفراد الله بتدبير الأمر في خلقه، وهدايتهم إلى قيام شئونهم، وتصريف أحوالهم، والعناية بهم، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَالزمر:62-63.

فهذا الاسم الكريم هو من أصول الأسماء الحسنى التي ترجع إليها كثير من الأسماء؛ لأنه متضمن لصفات الخلق، والرزق، الذي يعطي، ويغدق النعم، ويمد، هذا هو الرزق الحسي، والمعنوي.

وكذلك الملك، والتدبير، والحفظ، ونفوذ المشيئة، والحكم، وغير ذلك من شئون الربوبية المختصة به --، ولا شك أن الإقرار بهذه المعاني أمر مركوز في فطر الخلق، فكما سيأتي أنه حتى المشركون الذين حاربوا النبي ﷺ، وردوا دعوته كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، والله يقول: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُيونس:31، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ العنكبوت:61.

 وقد ذكر ابن القيم -رحمه الله-: "أن هذا الاسم الكريم (الرب) له الجمع الجامع لجميع المخلوقات، فهو رب كل شيء، وخالقه، والقادر عليه، لا يخرج شيء عن ربوبيته، وكل من في السموات، والأرض عبد له في قبضته، وتحت قهره"([8]).

فربنا -جل وعلا- هو مالك هذا الوجود، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِالصافات:5، وهو المتولي خلقه بالإنشاء، والتربية، والرعاية، والإصلاح.

وإبراهيم ﷺ قال -كما أخبر الله عنه-: أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَالشعراء:75-77، ثم قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ الشعراء:78-82، كما أنه -تبارك وتعالى- هو السيد المطاع، صاحب السلطة النافذة، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ الأعراف:54، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَالأنبياء:23، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ هود:107.

وهكذا بالنسبة للمُلك، وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَاالمائدة:17، لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّالمائدة:120، فهو الملك، المالك، المستغني في ذاته، وصفاته عن كل شيء، ولا يستغني عنه شيء.

ثانيا: ورود هذا الاسم في الكتاب والسنة:

هذا الاسم من أكثر الأسماء وروداً في القرآن، وقد جاء مفرداً، وجاء غير مفرد، فمن الأمثلة على سبيل الإفراد: قوله -تعالى- : بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ سبأ:15، وقوله -تعالى-: سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ يس:58، يعني: لم يأتِ مضافاً.

ويقول النبي ﷺ كما في حديث ابن عباس -ا-: (فأما الركوع فعظموا فيه الرب -)([9]).

ويقول ﷺ: (أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر)([10])، فالرب هنا على سبيل الإفراد.

أما إضافته: فهي كثيرة جدًّا، وذلك أكثر من ذكره على سبيل الإفراد، فقد جاء مضافاً إلى الْعَالَمِينَ الفاتحة:2، وغيرها، وإلى كُلِّ شَيْءٍالأنعام:164، وإلى مُوسَى وَهَارُونَ الأعراف:122، وإلى الْعَرْشِ الْعَظِيمِ التوبة:129، وإلى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِالرعد:16، وإلى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِالشعراء:28.

وقد ذكر بعضهم: أن المضاف في القرآن من ذلك يزيد على مائة وثلاثين موضعاً.

كما أنه جاء مضافاً إلى بعض الضمائر، مثل: ربك، ربكما، ربنا، ربهم، ربي، وقد ذكر بعض من عد ذلك أنه يزيد على أربعين وسبعمائة موضع في القرآن، ولم أحصِ هذا، ولكن هكذا ذكر بعضهم، ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةًالأعراف:55، قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَاسبأ:26، والآيات في هذا كثيرة جدًّا.

ثالثا: ما يدل عليه هذا الاسم الكريم:  

تقدم في المقدمات أن الأسماء الحسنى تدل بالمطابقة على الذات والصفات التي تضمنتها تلك الأسماء، وتدل بالتضمن على أحدهما، وتكلمنا على دلالة اللزوم، فإذا أردنا أن نطبق هذا على كل اسم من هذه الأسماء الحسنى فنقول: إن اسم الرب يدل على ذات الله، ويدل على صفة الربوبية معاً بالمطابقة، فإذا أطلقناه، وأردنا الذات، والصفة فهذه هي دلالة المطابقة، دلالة اللفظ على تمام معناه، هكذا عرفها الأصوليون.

وإذا أردنا واحداً منهما، أطلقنا اسم الرب وأردنا فقط الذات فهذه دلالة تضمن، أو أطلقنا اسم الرب وأردنا الصفة -الربوبية- فإن هذه دلالة تضمن، ويدل باللزوم على الصفات اللازمة لقيام الربوبية.

فلا يمكن أن يكون ربًّا وليس متصفاً بالحياة، فالحياة من لوازم الربوبية.

ولا يمكن أن يكون ربًّا وليس بمتصف بالقيومية.

ولا يمكن أن يكون ربًّا وليس بمتصف بالعلم، والمشيئة، والقدرة، والإرادة، والغنى، والقوة، والرزق، والعزة، والإحاطة، وهكذا كل ما يلزم من صفات الذات، وصفات الأفعال، بتخليق الشيء، وإيجاده، وصنعه، وهكذا لتربيته، ونقله من حال إلى حال حتى يكتمل؛ فهذا يحتاج إلى علم محيط، وإلى غنى واسع.

لو قيل لأحد من الناس: ما عليك إلا شيء واحد فقط هو الدواب التي تعيش في البحر، عليك أن تطعمها من رزق الله، لا يستطيع، ولا يمكنه فعل هذا.

ولو قيل لواحد من الناس: عليك أن تُقيت، وأن تطعم أهل منى كلهم، فإنه لا يستطيع، وهم يُطعَمون، ويمشي كل واحد منهم وهو ضاحك، مستبشر.

من الذي يعطيهم، ويطعمهم، ويكسوهم، ويكفيهم؟ هو الله --.

بل لو طلب من الإنسان ما هو أدنى من هذا، لو قيل للإنسان: هذه الرئة -كما سيأتي إن شاء الله عند الكلام على اسم الله الخالق- ما عليك إلا أن تنفخ فيها في اليوم والليلة فقط، لا يوكل بك شيء غير هذا، فهل يستطيع أن يتكلم مع الناس؟ هل يستطيع أن ينام؟ هل يستطيع أن يأكل؟ هل يستطيع أن يقوم بأعماله، ومصالحه وهو ينفخ في هذه الرئة؟

من الذي يدبر ذلك جميعاً لهذه المخلوقات؟ هو الله --، فهذا يحتاج إلى قدرة عظيمة، هائلة، وغنى واسع، وإلى علم محيط بهذه المخلوقات على انتشارها، وتنوعها، واختلاف صنوفها، فمنها الدقيق، ومنها الكبير، ومنها ما هو بين ذلك، على تنوع مصالحها، وحاجاتها.

فتنفس الإنسان غير تنفس الأسماك، غير تنفس الجنين في بطن أمه، الجنين في بطن أمه لا يتنفس بأنفه، فكيف يأتيه الأكسجين؟ من الذي يقيم هؤلاء الأجنة في البطون، ويدبرهم حتى يخرج الواحد منهم إلى هذه الدنيا؟ هو الله -.

فحينما يوجدهم في بطون أمهاتهم يخلقهم شيئاً فشيئاً، فإذا آن أوان خروجه يكون قد اكتمل له يدان، ورجلان، وعينان، وأذنان، إلى غير ذلك من الأجزاء، والأبعاض التي يحتاج إليها بعد خروجه، وهو في بطن أمه ما يحتاج إلى الرجل، ولا يحتاج إلى اليد، ولا يحتاج إلى الفم، ولا إلى الأنف، ولا إلى العين في ظلمات ثلاث، لكن الله أوجد له ذلك؛ لأنه سيخرج إلى مكان آخر.

ثم إذا خرج هو لا يحتاج إلى الأسنان؛ لأنه لا يأكل، وإنما سيحتاج إليها بعد ذلك، فتبدأ بالظهور في أول وقت الحاجة شيئاً فشيئاً، فإذا اكتملت حاجته تكون أسنانه قد اكتملت، فمن الذي يدبر هذا التدبير العجيب اللطيف؟

ولا تجد التفاوت، لا تجد أحداً في بطن أمه تخرج أسنانه جميعاً، وذاك لا تخرج له أسنان طيلة حياته، وهذا لا تخرج يداه إلا بعد ولادته، والآخر تخرج في بطن أمه، لا، الأطوار يمر الخلق بها جميعاً.

أقول: إذا عرفنا الآن هذه المعاني في حق الله، وما دل عليه هذا الاسم الكريم بدلالة المطابقة، والتضمن، والالتزام، بقي الآن أن نعرف هل الربوبية -وهي الصفة التي تضمنها هذا الاسم الكريم- صفة ذات، أو صفة فعل؟

نحن ذكرنا أن الصفات: منها ما هي صفة ذات، ومنها ما هي صفة فعل، ومنها ما يقال لها: إنها مركبة، فهي صفة ذاتية فعلية.  

فالآن الربوبية هل هي صفة ذات، أو صفة فعل؟ حينما تُسأل هذا السؤال هل الربوبية صفة ذات، أو صفة فعل؟ ماذا تقول؟، تقول: إذا نظرنا إليها باعتبار معنى التربية، والخلق، والإمداد، وما أشبه ذلك فهذه صفة فعلية، وإذا نظرنا إلى الرب باعتبار أنه بمعنى السيد، والمالك فهذه صفة ذات، السيد صفة ذات، فإذن صفة الربوبية هي صفة ذات باعتبار، وصفة فعل باعتبار.

رابعاً: آثار الإيمان بهذا الاسم الكريم:  

الثمرة الأولى: أن ندعو الله به، فالله -كما سبق في أول الكلام على هذه الأسماء الحسنى- يقول: وَلِلَّهِ الأسماء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَاالأعراف:180، وعرفنا أن الدعاء بها ينتظم دعاء المسألة، ودعاء العبادة، وأرجو أن تتذكروا هذا؛ لأني ذكرت عند الكلام عن المقدمات أننا سنحتاج إليها دائماً في الكلام على هذه الأسماء الحسنى، فهي الأساس الذي ننطلق منه، دعاء مسألة، ودعاء عبادة.

كيف ندعو الله؟، كيف نتعبد بهذا الاسم الكريم بدعاء المسألة، ودعاء العبادة؟

دعاء المسألة: أن نذكر هذا الاسم في دعائنا، وتضرعنا إلى الله -تبارك وتعالى-، كما كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- يفعلون ذلك، فآدم -عليه الصلاة والسلام- مع زوجه قالا: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَاالأعراف:23، وهذا نوح ﷺ يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًانوح:28، وهذا إبراهيم وإسماعيل -عليهما الصلاة والسلام-: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُالبقرة:127، وهذا موسى -عليه الصلاة والسلام- يقول: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِيالأعراف:151، وهذا عيسى -عليه الصلاة والسلام- يقول: اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِالمائدة:114، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- وكذا أمته: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَالبقرة:285، إلى أن قال الله في هذا الدعاء: رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِالبقرة:286.

وكثيراً ما يتكرر في القرآن الدعاء باسم الرب -تبارك وتعالى-، فتارة مع ياء النداء، وتارة بحذفها للإشعار بقربه من الداعين، قال الله -تعالى-: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِالبقرة:186، كما يقول الشاطبي -رحمه الله- في كتابه "الموافقات".

وهكذا هذا الدعاء يتكرر في القرآن كثيراً، هذا تعليم من الله لعباده أن يدعوه، وأن يتعبدوا له بهذا الاسم، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- في "الموافقات" توجيهاً حسناً لهذا المعنى.

لماذا الدعاء يكون باسم الرب --؟، يذكر أن ذلك جاء للتنبيه، والتعليم، من أجل أن يأتي العبد في دعائه بالاسم المقتضي للحال المدعو بها، وذلك أن الرب في اللغة -هذا كلام الشاطبي-: "هو القائم بما يصلح المربوب"([11]).

يقوم بما يصلح المربوب، فالإنسان إذا دعا ربه فهو يطلب ما يصلح شأنه، أيًّا كان هذا الأمر الذي يصلح شأنه، إن كان مريضاً يطلب العافية، وإن كان فقيراً يطلب الغنى، وإذا كان ضالا في أمر من الأمور يطلب الهداية، وهذا كله من معاني الرب، فيُدعى باسم الرب؛ لأن الإعطاء والمنع، والدفع، والنفع، وما إلى ذلك كله من معاني الربوبية.  

فيقول الإنسان: يا رب، يا سيدي، ومالكي، وخالقي، والمنعم علي، والقائم على شئوني، والمربي لخلقه، أصلح قلبي، وعملي، وحالي، ونيتي، أصلح لي شأني كله، وارزقني، واجبرني.

يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في هذا المعنى: "الرب هو المربي جميع عباده بالتدبير، وأصناف النعم، وأخص من هذا تربيته لأصفيائه بإصلاح قلوبهم، وأرواحهم، وأخلاقهم؛ ولهذا كثر دعاؤهم بهذا الاسم الجليل؛ لأنهم يطلبون منه هذه التربية الخاصة"([12]).

هذه تعليلات لكثرة ما جاء في القرآن من دعاء المسألة بهذا الاسم الكريم (الرب).

أما دعاء العبادة: فإننا نتعبد لله -تبارك وتعالى- بهذا الاسم، بأن يظهر العبد بمظهر العبودية، ويخلع عن نفسه أوصاف الربوبية؛ لعلمه أن المنفرد بها هو الله --، فيثبت أوصاف العظمة لله، ويفرده بالعلو، والكبرياء، ولا ينازع رب العالمين في أمره، أو في تدبيره، وتقديره، بل يرضى، ويسلم، فإذا ساق الله له المصيبة، وإذا أصابه الفقر، وإذا مات له قريب، وإذا أصابه المرض لا ينازع ربه -تبارك وتعالى-، ويقول: لماذا يا رب؟ -نسأل الله العافية-، كما يفعل بعضهم، فلا يتخلف عن اتباع شريعة الله، فدعاء العبادة عمل، وتربية، وتنفيذ لأوامر الله الشرعية.  

الثمرة الثانية: وهي أن يرضى العبد بالله ربًّا، فالله -تبارك وتعالى- هو الرب على الحقيقة، فلا رب على الحقيقة سواه، هو رب الأرباب، ومالك الملك، وملك الملوك --، فهو معبود العباد، يملك الممالك، ويملك نواصي الخلق، ويصرفهم كما يشاء، وهو الذي يرزقهم.

وكل ما يقال عنه: إنه رب لكذا، فهو غير خالق، ولا رازق، بل هو مملوك ضعيف لله الواحد القهار، وذلك الملك الذي في يده مهما كثر، ومهما عظم فإن الله -تبارك وتعالى- سينتزعه منه لا محالة، إما وهو يشاهد في الدنيا بأن يسلب عنه ملكه، أو حينما يموت، ويفارق، ويئول إلى الضعف، وإذا قرأتم في التاريخ تجدون أشياء عجيبة جدًّا.

اقرءوا في سير بعض خلفاء بني العباس، ما كان أحد يجرؤ أن يتكلم معه، أو أن يراجعه في شيء، وفي مرض موته وقف إخوانه، وأبناء عمومته في خارج الحجرة التي هو فيها، ولم يجرؤ أحد أن يدخل، وينظر إليه، إلا رجل واحد من المقربين إليه، ممن كان يرجع إليهم، ويكل إليهم بعض الأعمال، فكانوا يبعثونه مرة، بعد مرة، هل خرجت روحه أم لا؟ فما أحد يستطيع.

وأظنكم تجدون في ترجمة الواثق، يقول: فأتيته؛ فوجدته حرك عينه، فنظر إليّ نظرة كاد قلبي أن ينخلع من مكانه؛ من شدة الهيبة، والخوف، يقول: فرجعت، وهبته، ولم أكلمه بشيء، يقول: وبقيت مدة، ثم بعثوني، فأتيت، وإذا بروحه قد خرجت، وإذا بتلك العين التي نظرت إليّ قد جاء فأرٌ فقضمها.

انظروا إلى الفأر، هذا المخلوق الضعيف، وانظروا إلى هذه العين التي أخافت هذا الرجل الذي اعتاد الدخول على هذا الخليفة، والجلوس معه، ومن اعتاد على الدخول عليه فإن هيبته تقل في نفسه، ومع ذلك هذا الفأر الضعيف يقضم هذه العين، وهذا لا يستطيع أن يرفع أصبعه، فضلاً عن يده؛ ليرد، أو يدفع عن نفسه، هذا هو المخلوق، ضعيف!.  

وحينما يوضع في قبره لا يستطيع أن يرد الدود عن نفسه.

فالحاصل: أن الله -تبارك وتعالى- هو الرب الذي له الربوبية المطلقة، ولما قال فرعون: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى النازعات:24، أخذه الله، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى النازعات:25.   

فالمؤمن الموقن بهذا عن علم، ومعرفه يدرك أن الله -تعالى- هو رب كل الأشياء، فلا خالق، ولا رازق، ولا معطي، ولا مانع، ولا مميت، ولا محيي، ولا مدبر لأمر المملكة ظاهراً وباطناً سواه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا تتحرك ذرة إلا بإذنه، ولا يجري حادث إلا بمشيئته، ولا تسقط ورقة إلا بعلمه، لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ سبأ:3، إلا وقد أحصاها علمه، وأحاطت بها قدرته، ونفذت بها مشيئته، واقتضتها حكمته.

فمن عرف ذلك، واستيقنه لم يطلب غير الله -تبارك وتعالى- ربًّا، وإلهاً، بل رضي به -- سيداً، وربًّا، ومن كانت هذه صفته ذاق طعم الإيمان، وحلاوته، كما جاء عن العباس بن عبد المطلب –- أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولا)([13]).

 يقول القاضي عياض -رحمه الله- في شرح هذا الحديث: "صح إيمانه، واطمأنت به نفسه، وخامر باطنه؛ لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشة الإيمان قلبه، لأن من رضي أمراً سهل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله -تعالى-، ولذّت له، وهان عليه القيام بوظائف العبودية"([14])، الذي عرف بأن نواصي الخلق بيد الله، وأن الملك كله له، وأن ما عداه فقراء، ضعفاء، عبيد مساكين، مربوبون لله --، فإنه لا يخافهم، ولا ينتظر منهم شيئا،ً ولا يعبأ بمدحهم، وإطرائهم، ولا يطلب المحمدة، والمنزلة في قلوبهم، يعرف قدر المخلوقين، وكذلك يعلم أن الله هو الرزاق، ذو القوة المتين، فلا يتوكل على المخلوق في رزقه؛ فيصانع هذا، ويداري هذا، فمصانعة وجه واحد أرفق بنا من مصانعة وجوه كثيرة، كل شيء بيد الله، والذي لا يتيقن هذه المعاني حقيقة يتخطف قلبه، ويلتفت هنا وهناك، ويبحث، ويطلب من ينصره، ويرزقه، ويعافيه.

المريض يتعلق قلبه بطبيب، ولربما تعلق قلب الفقير بالغنيّ، ولربما تعلق قلب الموظف بمدير الشركة، فيتصنع له، ولربما عصى الله من أجله، خشية أن يبعده، هل هذا يليق؟ هل هذا يكون قد عرف معنى الربوبية؟

الثمرة الثالثة: أن نحسن رعاية وتربية من استرعانا الله إياهم، فنحفظ الأبناء، والتلاميذ، وننشِّئهم على المعاني الصحيحة الطيبة شيئاً فشيئاً، كما أن الصغير يربى على اللبن في أول أمره حينما يكون حديث الولادة، ثم بعد ذلك ينقل من حال إلى حال، حتى يستطيع أن يأكل الطعام ولا يضره، فهكذا -أيضاً- في المعاني، والتربية، والتهذيب، والسلوك، والأخلاق، كونوا ربانيين.

ما معنى كُونُوا رَبَّانِيِّينَآل عمران:79؟ قال ابن عباس -ا-: "الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره"([15]).

فالعالم الرباني هو: الذي يربي الناس بالعلم على مقدار ما يتحملون، ولا يحدثهم بما لا تطيقه عقولهم، أو ما لا تطيقه قُدرهم، وإمكاناتهم، أشياء لا يستطيعون تنفيذها أصلاً؛ لأن قُدرهم العملية لا تحتمل هذا، فلماذا يحدثهم؟  

ينبغي ألا يحدثهم بشيء يكون فتنة لهم؛ لأنهم لم يتأهلوا له، ولم يتهيئوا لسماعه، وفهمه، وقبوله، فيبذل لخواصهم جوهره، ومكنونه، ويبذل لعوامهم ما ينالون به فضل الله، ويدركونه بحسب ما أعطاهم الله من الإمكانات، والقُدر.

الثمرة الرابعة: التأدب مع هذا الاسم الكريم، فالنبي ﷺ، يقول مؤدباً، ومعلماً: (لا يقل أحدكم: أطعِمْ ربك، وضِّئ ربك، اسقِ ربك، وليقل: سيدي، مولاي، ولا يقل أحدكم: عبدي، أمتي، وليقل: فتاي، وفتاتي، وغلامي)([16]).

هذا نهي من أن يقول الإنسان مخاطبا لغيره: (وضئ ربك)؛ أي: سيدك، أو أن يتكلم هو عن نفسه، فيقول: ربي يعني: سيدي للمخلوق، وذلك فيما ذكره الحافظ ابن حجر -رحمه الله- بأن حقيقة الربوبية لله -تعالى-؛ لأن الرب هو المالك، القائم بالشيء، فلا توجد حقيقة ذلك إلا لله --([17]).

وقد ذكر الخطابي أن سبب المنع: "أن الإنسان مربوب، متعبد بإخلاص التوحيد لله، وترك الإشراك معه، فكره له المضاهاة في الاسم؛ لئلا يدخل في معنى الشرك"([18])، قال: ولا فرق في ذلك بين الحر، والعبد، لكنه فرّق -أعني: الخطابي- بين ما من شأنه التعبد، ومن ليس من شأنه التعبد، يقول: فأما ما لا تعبد عليه من سائر الحيوانات، والجمادات فلا يكره إطلاق ذلك عليه عند الإضافة، كما يقال: رب الدار، ورب الثوب([19]).

وقد رد الحافظ ابن حجر -رحمه الله- على من قال: إن هذه اللفظة (الرب) لا يجوز أن تقال للمخلوقين، فهماً من هذا الحديث، وبين الحافظ ابن حجر -رحمه الله- أن الذي يختص بالله -تعالى- هو إطلاق الرب بلا إضافة -الرب-، فلا يجوز أن نقول لمخلوق: الرب، فإن الرب بإطلاق هو الله -تبارك وتعالى([20]).

أما بالإضافة تقول: رب الدار، ورب الثوب فإن هذا لا إشكال فيه، ويوسف ﷺ قال: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَيوسف:42، ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَيوسف:50؛ يعني: إلى سيدك، وقال النبي ﷺ في أشراط الساعة: (أن تلد الأمة ربتها)([21]).

فالنهي الذي يختص بالله هو حال إطلاق الرب، هذا لا يصح أن يقال للمخلوق، أما بالإضافة فلا إشكال في ذلك، فالنهي الوارد في الحديث هو بالإضافة (أطعِمْ ربك، وضِّئ ربك)، ونحو ذلك.

ومن أهل العلم من أراد أن يجمع بين هذه النصوص التي ورد فيها الاستعمال مع النهي، فقال: دل ذلك على أن النهي للتنزيه، فهو من باب الأدب في الألفاظ، وإن ورد استعمال ذلك في بعض المواضع، إلا أن النبي ﷺ يبين ما هو الأكمل، والأفضل، والأحسن، فما ورد إنما هو لبيان الجواز، والنهي يكون للتنزيه، وبعضهم يذكر غير هذا، وتجدون الكلام على ذلك في "فتح الباري"([22]).

وممن قال بأن لفظة هذا الاسم الكريم (الرب)، هكذا بدخول "ال" عليه، لا يطلق إلا على الله جمع كثير من أهل العلم، كالزجّاجي، وابن قتيبة، وابن الأثير، وابن كثير، والراغب، وغير هؤلاء.

فالله -تبارك وتعالى- هو الرب حقيقة، المتكفل بخلق الموجودات، وإنشائها، والقائم على إصلاحها، وهو المنظم لمعايشها، وأقواتها، المدبر لأمورها، إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف:54، أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْالرعد:33، إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًافاطر:41.  

الثمرة الخامسة: هو أن يلتفت العبد، وينظر، ويتأمل في آثار هذا الاسم الكريم في هذا الخلق، فإنه إذا نظر بهذه النظرة سيجد أشياء عجيبة جدًّا، لو نظر الإنسان إلى الطعام، كيف يخرج هذا الطعام؟ كيف ينبت؟ كيف يكون هذا النبات في أوله؟ كيف يكون طعام سائر الحيوانات؟ وكيف يصل إلينا ذلك الطعام حتى يتحول إلى أجزاء من أجسادنا بعد مراحل، وعمليات طويلة، ومعقدة؟

الله يقول: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌالحج:63، وقد تكلم علماء النبات عن خضرة النبات، وأنه من خضرة النبات يتم صنع غذاء سائر الحيوانات على ظهر الأرض، تكلموا على الخلية الواحدة حينما تقوم ببناء عشرين مركباً عضويًّا في دقيقة واحدة إذا عرضت للشمس، وتلك المركبات مختلفة الأنواع، منها السكرية، والأحماض الأمينية، التي عجز العلم الحديث عن تحضيرها صناعيًّا بنفس الصفة، أو الصورة.

فما الذي يدفع النبات للقيام بهذه المهمة الشاقة غير الرب المتكفل بمصالح مخلوقاته، والذي يوصلها إليهم من حيث لا يشعرون.

وقد ذكر بعض علماء النبات الورقة الخضراء، يقول: هذه الورقة الخضراء -وعلى الأخص الخلية الخضراء- هي بمثابة البؤرة التي تتجه نحو الطاقة الشمسية، والتي تنشأ فيها من جهة ثانية كل فعاليات الحياة على ظهر الأرض، وتكلم عليها، وعلى آثارها، وفصل في ذلك.

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ الأنعام:99.

هذه المادة ماذا تصنع في جسم الإنسان الذي يتربى بهذا الغذاء؟ الإنسان أصله حيوان منوي، وبويضة، يقولون: هذا الحيوان المنوي، والبويضة لا يتجاوز حجمهما رأس الدبوس، ثم ينمو الجنين، وما أن يصل المرء إلى سن الشباب إلا ويبلغ وزنه بليون مرة تقريباً قدر وزن البويضة المخصبة التي هي أوله.

كيف نقله الله من هذا الجزء الصغير إلى هذا الجسم الكبير، يتحرك، ويتعجب، ويتأثر، وينظر، ويلتفت، ويتكلم، ويتعبد؟، فمن أين جاءت هذه الزيادة الضخمة؟ ومن الذي ساقها إليه لينمو بها، وهو لا يشعر؟

هذه تربية أبدان، هذه جاءت من الغذاء، فبعد عمليات من الهضم تتحول هذه الأغذية إلى أجزاء من هذا الجسم، بل لا تستطيع أن تميز ذلك الغذاء حينما ينصهر، ويتحول إلى دم، ولحم، وإلى أنسجة، وخلايا.

وقد تحدث بعض العلماء من أهل الاختصاص في هذه العلوم عن جسم الإنسان، وكيف يستفيد من الغذاء، يقول: أي شيء أعجب وأجمل من مكينة تعمر، وترمم نفسها بنفسها بلا انقطاع، يقول: الحيوان يضعف بالعمل، والكد، ولكنه على قدر ما يشتغل يحس بضرورة لتعويض قواه المفقودة بالأكل الغزير.

الماكينات، الآلات تتلف مع كثرة الاستعمال، أما هذا الإنسان فإذا عمل فهو يشعر بحاجة إلى الغذاء، فالأكل يرِد إليه كل يوم، ويرُدّ عليه ما فقده بالشغل؛ ولهذا تجد الناس الذين يعملون كثيراً يحتاجون إلى كمية أكبر من الطعام.

يقول: فإنه يُدخل إلى بطنه شيئاً غريباً عن جسمه، فلا يلبث أن يستحيل إلى جسمه؛ لأنه ينسحق أولاً، ثم يستحيل إلى سائل، ثم يتصفى حتى يصير كأنه مر من منخل، ليترك عنه الأشياء الغليظة، ثم يصعد إلى مركز العقل -أي: القلب-، وهناك يرق، ويصير دماً، ومنه يسيل، ويسري إلى سائر الأعضاء، ويسقيها بواسطة فروع العروق، والشعيرات الدموية لا عداد لها، فيصفَّى منها حتى يصير لحماً، وكل هذه الأغذية المختلفة في الهيئة، والتركيب ليست إلا لحماً للإنسان، فالغذاء الذي كان جسماً غير حي نراه يقيم أود الحياة في الإنسان، ويصير هو الحيوان نفسه، هذا التربيب، وهذا التصريف لا يمكن لأحد أن يقوم به سوى الله -تبارك وتعالى.

وقد يُذكر في هذا بعض النماذج الأخرى: هذا الجنين الذي يكون في بيضة الدجاجة -مثلاً-، يتكون في داخلها، ثم يثقبها، ويخرج منها، كيف يتم ذلك؟ وكيف يستطيع وهو ضعيف أن يثقب هذا الجسم الصلب المتكور عليه؟ كيف يستطيع هذا؟ وكيف يتنفس في داخل البيضة؟

الإنسان يأتيه الأكسجين عن طريق الحبل السري، لكن هذا الجنين كيف يحصل له مثل هذا؟

بعد أن تلقح البيضة، وتمر في قناة البيض، وبسبب حرارة الأنثى التي أوجدها الله -تبارك وتعالى- تنقسم الخلية الأولى، فيتكون بذلك "البلاستودروم"، وبعد ذلك يقف نشاطها بسبب برودة الجو، وما إن تحضن الأم بيضها إلا وتبدأ أعضاء الجنين بالنمو شيئاً فشيئاً، حتى يخرج الجنين من البيضة.

ولكن كيف يتنفس مدة نموه في داخل البيضة؟ لكل بيضة قطب مدبب، وآخر كليل، وعند هذا ينفرج غشاء قشرة البيض؛ ليكوِّن ابتداء وقبل خلق الجنين حجرة هواء؛ ليتنفس منها الجنين الهواء مدة نموه داخل البيضة.

يقولون: لو أخذت بيضة، وقصصتها برفق، ونظرت إلى الجنين في داخلها فإنك تجد رأس الجنين متجهًا إلى القطب الذي توجد فيه تلك الحجرة الهوائية يتنفس منها، أشياء عجيبة.

من الذي يفعل له هذا داخل هذا الجسم؟ وكيف يستطيع الخروج، وهو ضعيف كليل؟

ترون الجنين كيف يخرج بغاية الضعف، يهتز رأسه، وله شعيرات صغيرة صفراء، في حال من الوهن، والضعف، وفي اليوم الثامن من حضانة الجنين تنمو الطبقة القرنية التي ستكون المنقار فيما بعد، وفي اليوم التاسع تبدأ المخالب تظهر، وابتداء من اليوم الثالث عشر تتكون العظام جميعاً، ويبدأ جميع الجسم في النمو في اليوم العشرين، أي: قبل خروجه بيوم -تقريباً- تظهر نتوءات على رأس المنقار، تسمى الشاكوش، وهي آلة مدببة يثقب بها الجنين القشرة في اليوم الحادي والعشرين، تطلع هذه في اليوم العشرين، ثم يحطم بجسمه القشرة في اليوم الحادي والعشرين، ثم ينطلق إلى الحياة، فمن الذي ينشِّئه، ويربيه وهو في داخل هذه البيضة؟  

وهناك نوع من النحل يقال له: النحل الأفريقي، لا يتغذى صغاره إلا بغذاء حي، لابد أن يكون شيئًا فيه حياة، وهذه الصغار لو أنها أرادت أن تتغذى على شيء حي؛ لطردها عنه، فما الذي يحصل؟  

تأتي هذه النحلة، وتهجم على جرادة، وتلسعها بين جناحيها لسعة خفيفة بحيث لا تموت، ليست كلسعتها للإنسان، لسعة خفيفة، بحيث تكون كأنها مخدرة، لكن لا تموت، وعند ذلك تضع بيضها حينما تكون هذه الجرادة في حال شبه الغيبوبة لمدة خمسة عشر يومًا، فتضع بيضها تحت جناحي الجرادة، ثم تطير، فيجلس الصغار خمسة عشر يوماً في هذا المكان، وهذه الجرادة مخدرة، لكنها ما ماتت، فيتغذون على جسمها خمسة عشر يوماً، وبعد الخمسة العشر يوماً تفيق هذه الجرادة، يمكن أن تموت، ويمكن أن تبقى جريحة مصابة.

فمن الذي علم هذه النحلة أن تفعل هذا، وأن تلسع لسعة خفيفة، بحيث تسبب إغماء، وما تسبب موتاً؟، كيف يحصل مثل هذا؟، من علمها تضع هذه الكمية، وتدبر؟.

الثمرة السادسة: أن نفرد الله -تبارك وتعالى- بالعبادة، وأنتم تعلمون أن توحيد الربوبية يستلزم توحيد الإلهية، ونحن نقول: توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية، إذا قلت: إن الله هو الواحد الأحد، هو الإله المعبود وحده فهذا يتضمن أنه هو الرب، وإذا قلت: إن الله هو الرب وحده، الخالق، الرازق إلى آخره، إذن ما الحاجة لغيره؟

يجب أن يكون الله هو المعبود وحده، وهذا هو المنطلق في القرآن في كثير من المواضع لإثبات توحيد الإلهية، يكون الانطلاق من تقريرهم بتوحيد الربوبية، حيث جحدوا الإلهية، وأثبتوا الربوبية، وتوحيد الإلهية هو المقصود من دعوة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-، والله يقول: قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ الأنعام:162-163.

فاسم الرب -كما يقول الحافظ ابن القيم-: له الجمع، ما يخرج أحد من المخلوقات عن ربوبية الله، واسم الله له الفرق، اجتمعوا في ربوبيته، فالجميع مربوبون لله -تبارك وتعالى-، وافترقوا في إلهيته، فصار فريق إلى الجنة، وفريق إلى السعير، وقد تكلم ابن القيم -رحمه الله- على هذا المعنى بكلام جيد، وأطال فيه فيمكن أن يراجع([23]).  

أقول: المشركون ما كانوا ينكرون توحيد الربوبية، ولكن ذلك لم ينفعهم، وما أغنى عنهم: قال -تعالى-: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَالمؤمنون:84-89، قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَيونس:31، إلى غير ذلك من المواضع الكثيرة في القرآن.

وقد تكلم على هذه المعاني جمع من أهل العلم، كالحافظ ابن كثير -رحمه الله- عند تفسيرها([24]).  

وخلاصة ذلك: أن التوحيد الذي بعثت به الرسل، وتتوقف عليه النجاة: هو توحيد الإلهية، وأن من أقر بالربوبية فإن ذلك يستلزم الإقرار بالإلهية، ولم ينفع أهل الإشراك إقرارهم بربوبية الله، وأنه هو الخالق، الرازق، إلى آخره.

التوحيد الذي بعثت به الرسل، وتتوقف عليه النجاة: هو توحيد الإلهية، وأن من أقر بالربوبية فإن ذلك يستلزم الإقرار بالإلهية، ولم ينفع أهل الإشراك إقرارهم بربوبية الله، وأنه هو الخالق، الرازق، إلى آخره.

 

الكثير ممن يفسر كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" -للأسف- يقولون: لا رب، أو لا خالق سوى الله، وقد ذكر بعض من زاغ، وأضله الله في هذا العصر، تكلم بكلام في غاية القبح، وهو جاهل، تكلم بكلام قبيح، وهو أن كلمة لا إله إلا الله قد أضيف إليها إضافات، وقيد لها قيود، وضغط على هذه الكلمة؛ حتى صارت صعبة التحقيق، فهو يرى أن اليهود، والنصارى من أهل النجاة يوم القيامة، وأن هذه الزيادات التي زادها العلماء: "لا معبود بحق إلا الله"، غير صحيحة، إلى آخر ما ذكر، هدى الله الجميع.

يقول الله -تعالى-: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ الأنعام:164، فالله -تبارك وتعالى- رب كل شيء، فهو رب الذرة، والجُزَيئات التي هي أقل من الذرة، النواة شيء -كما يقولون-، والكُهيرب شيء، والإلكترون شيء، والمدار شيء، والفيروس شيء، والشمس شيء، والقمر شيء، والبعير شيء، والإنسان شيء، والأموال شيء، والله رب كل شيء.

فإذا خِفتَ الجراثيم، أو الفيروسات، أو النوع الفلاني من المرض، أو السرطان، الله رب كل شيء، إذا خفتَ الناس، فالله ربهم، إذا خاف الإنسان الجن، فالله ربهم، الله رب كل شيء، فتلجأ إليه -تبارك وتعالى-: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ الأنعام:164.  

وبهذا يكون الإنسان منطلقاً في الحياة، لا يلوي على شيء، يوجه همه، وقصده، وإرادته، وحاجته، وفقره إلى الله وحده، لا شريك له، إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف:54.

فالخلق، والأمر كله لله، فإذا أقررت بهذا تنقاد لشرعه، ولدينه، وتخضع لأقداره، وتكون مذعناً، مستسلماً، مسلمًا لله على الحقيقة، فصلاح أمر الإنسان إنما يكون بهذا الإذعان لربوبية الله، ولأمره الكوني، ولأمره الديني، الشرعي، لا نعترض، ما نقول: الله لماذا يحرم الاختلاط؟ لماذا يحرم السفور، والتبرج؟ لماذا يحرم الله الخمر، أو نحو ذلك؟، الله أعلم بنا، وبمصالحنا، وهو ربنا، ومدبرنا، وخالقنا، فنحن عبيده، ومماليكه، ليس لنا الاعتراض، أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف:54.  

هذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.



([1]) انظر: سيرة ابن هشام (2/444)، ودلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة (5/128).

([2]) انظر: تفسير الراغب الأصفهاني (1/54).

([3]) انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (2/179).

([4]) انظر: تفسير الطبري (1/137).

([5]) انظر: الأمثال، لابن سلام (ص: 122)، وأدب الكاتب (ص: 103).

([6]) انظر: تفسير الراغب الأصفهاني (1/55).

([7]) انظر: مجموع الفتاوى (1/89)، ومدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (1/58).

([8]) انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد، وإياك نستعين (1/58).

([9]) أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب النهي عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، برقم (479).

([10]) أخرجه الترمذي في سننه، أبواب الدعوات، برقم (3579)، وابن خزيمة في صحيحه، كتاب الصلاة، باب استحباب الدعاء في نصف الليل الآخر رجاء الإجابة، برقم (1147)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1173).

([11]) انظر: الموافقات (2/164).

([12]) انظر: تفسير السعدي (ص: 945)، وتفسير أسماء الله الحسنى (ص: 199).

([13]) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا، برقم (34).

([14]) انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (2/2).

([15]) انظر: تفسير البغوي (1/463).

([16]) أخرجه البخاري، كتاب العتق، باب كراهية التطاول على الرقيق، وقوله: عبدي أو أمتي، برقم (2552)، ومسلم، كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب حكم إطلاق لفظة العبد، والأمة، والمولى، والسيد، برقم (2249)، واللفظ للبخاري.

([17]) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (5/179).

([18]) المصدر السابق.

([19]) انظر: شرح السنة للبغوي (12/350).

([20]) انظر: فتح الباري شرح صحيح البخاري (5/179).

([21]) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، برقم (8).

([22]) انظر: فتح الباري لابن حجر (5/ 179).

([23]) انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/58).

([24]) انظر: تفسير ابن كثير (4/266)، وتفسير الطبري (1/394)، وتفسير البغوي (2/418، 419).

مواد ذات صلة