الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
(01) لماذا نتحدث عن الاختلاف ؟ ومن المَعْنِي بهذا الحديث ؟ والنصوص الواردة في الأمر بالاجتماع والنهي عن الاختلاف
تاريخ النشر: ٠٥ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 20601
مرات الإستماع: 5114

المقطع المرئي

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:   

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحبًا بكم جميعًا أيها الإخوة والأخوات، وأسأل الله -تبارك وتعالى- أن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.

في البداية أقول: لا جديد فيما يتعلق بموقفي من التصوير، ولكن كما كنت أذكر بعدد من المناسبات أن تعليم الناس، والخروج في هذه الفضائيات من فروض الكفايات، فيُرتكب أخف الضررين لدفع أعلاهما، وأما توسع الناس بهذا التصوير فهذا من المنكر، والذي ينبغي أن يراجع الإنسان فيه نفسه.

الإخوان أكثروا عليّ في هذا، وما زلت أستخير إلى ما بعد صلاة العصر من هذا اليوم.

حديثنا في هذه الليالي عن الاختلاف وموقفِنا منه، وسيجيب هذا الحديث -إن شاء الله- عن تساؤلات متعددة:

فأول ذلك: لماذا نطرح هذا الموضوع؟

والثاني: من المخاطَب بذلك؟

ثم نتحدث عما ورد من النصوص بالأمر بالاجتماع والنهي عن التفرق والاختلاف.

ثم بعد ذلك يَرِد الكلام على السؤال الآخر: هل حققت الأمة ذلك وامتثلت فجانبت الاختلاف واجتمعت على الحق؟.

ثم بعد ذلك يأتي الكلام على نتيجة ما يُذكر في الجواب عن هذا السؤال بعد أن نستعرض التاريخ، ونرى ما آلت إليه أحوال الأمة، فيكون الكلام بعد ذلك عن العلة والسبب، أو الأسباب التي أدت إلى التفرّق والاختلاف.

ثم بعد ذلك يأتي الكلام على سؤال آخر مع جوابه، وهو عن كيفية التعامل مع الاختلاف، كيف نتعامل معه؟

ثم بعد ذلك يأتي الكلام على سؤال آخر وجوابه، وهو الطريق إلى الاجتماع، ما الطريق؟ ما السبيل إلى ذلك؟

هذه مجامع هذه القضايا التي نتحدث عنها في هذه الليالي، وسأذكر في مضامين هذا الحديث - إن شاء الله - أشياء من كلام أهل العلم، وأشياء أخرى من التاريخ فيها من العبر والعظات ما الله به عليم.

نبدأ أولاً  في السؤال الذي أشرت إليه آنفًا.

لماذا نتحدث عن الاختلاف؟

نتحدث عن الاختلاف لما وصلنا إليه، وصارت حالنا عليه مما يعرفه العدو والصديق من كثرة التفرق، والانقسام والتشرذم والاختلاف، والتنازع والتناحر على جميع المستويات.

تجد ذلك في المنتسبين إلى العلم على قدم وساق، وتجد ذلك في المنتسبين إلى الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، وتجد ذلك في المشتغلين بالجهاد، وتجد ذلك في طوائف الأمة على اختلاف اهتماماتهم، وأعمالهم وأحوالهم، إلا من رحم الله -تبارك وتعالى.

هذا بالإضافة إلى أمر آخر، وهو هذا الإعلام بأنواعه، لاسيما الإعلام الجديد، الأمر الذي أدى إلى زيادة التنازع والشر، وكثرة الاختلاف والتفرق والتشرذم، وذلك من جهتين:

الأولى: أن ذلك صار بيد كل أحد، قديمًا أو قبل سنين كان لا يستطيع الأكثرون أن يعتلوا المنابر، ولا أن يخرج منهم الواحد في قناة فضائية؛ لأنه لا يجد ما يؤهله لهذا التصدّر، فيبقى منطويًا على نفسه، أو متحدثًا بين زملائه، وماذا عسى أن يبلُغ هذا الحديث؟!.

وأما اليوم فقد وُجد منبرُ من لا منبرَ له، فصارت هذه الآلات والوسائط والوسائل بيد الصغار، حيث يتمهّرون بها أكثر من الكبار.

وصار كل أحد لا يمنعه من الكلام الذي يلقيه، ويسجله بصورته وصوته، أو الكلام الذي يكتبه لا يمنعه سوى نفسِه، لا يحجبه ولا يحجزه عن ذلك أحد، كل أحد صار يكتب ما شاء، ويقول ما شاء، يتفوّه بما شاء، يريد أن يُبدي رأيًا في كل قضية تقع، وأن يُنظِّر، وإذا تكلّم كل أحد وبهذه الطريقة من غير شرط ولا قيد، لا بقيد علمٍ، ولا بقيد ورع، ولا بقيد عقلٍ، ولا بقيد حكمة يراعي فيها المصالح والمفاسد، ولا بقيد نيةٍ وقصدٍ صالح.

ولربما كان الدافع لدى بعضِنا أن يُثبتَ الواحد حضورًا، وأن يُسجل هذا الحضور بتعليق هشٍّ ركيك يُنبئ عن ضحالة في التفكير، وضحالة في العلم، وضحالة في الرأي، وضحالة في الثقافة، وضحالة في معرفة الواقع . المهم أن نكتب، المهم أن نتحدث، المهم أن نُبدي رأيًا في كل واقعة تقع.

المشكلة الأخرى: أن ذلك صار يبلغ الآفاق، وبمجرد ما يكتب، ثم يُرسله بعد ذلك يقرؤه مَن بأقطارها، والمشكلة الأخرى أيضًا أن العدو والصديق العاقل، وغير العاقل كل هؤلاء يكتبون تحت أسماء حقيقية، أو أسماء مستعارة، أو يُخفي الاسم الذي يكتب تحته بالكلية فلا يُدرَى هل هذا من أهل الإسلام؟ هل هذا الذي يكتب من أهل السنة؟ هل هذا من أعداء المسلمين؟

لقد صرنا إلى حال لا نميّز معها بين المعتوه والمدسوس، لا نميز، لا ندري هذه الكتابة كتبها عدو مندس من أعداء الإسلام يريد الإفساد والإيقاع بين المسلمين، أو أن الذي كتبها رجلٌ من المسلمين، لكنه لم يسعفه عقله، ولا رأيه، ولا دينه وورعه وتقواه، فجاءت كتابته مدمرةً مفسدة.

وهذا أمر نشاهده جميعًا، فصار ذلك سببًا إلى مزيد من التفرق والانقسام والتشرذم، والاختلاف حتى صرنا إلى الحال التي نعرفها جميعًا، ولا تحتاج إلى مزيد من التوصيف.

ومن ثَمّ يأتي الكلام على السؤال الآخر وهو:

من المَعْنِيّ بهذا الحديث؟

في هذا الحديث لا أخاطب شخصًا بعينه، ولا أعني به طائفة بعينها، وإنما المقصود به أولاً، وقد أحضرتُ هذا ليالي وأيامًا في نفسي أن أول من يُقصد بهذا الحديث هو نفسي، أن أعظ به نفسي، وأن أذكّر بذلك نفسي، وأستحضر الوقوف بين يدي الله فيما أقول أن الله سيحاسب الإنسان على ما يقول، ويعرض عمله على قوله.

وكلنا سنحاسب بهذه الطريقة، الخطب، والكلام كثير، والكتابات كثيرة جدًّا، لكن هذه نصيحة أنصح بها نفسي، وأنصح بها من شاء الله أن ينتفع بها، وأن تَبلُغه، لعل ذلك يكون سببًا للمراجعة والمحاسبة، وأن نفكر مليًّا في حالنا، وأعمالنا وأقوالنا وكتاباتنا، وما صرنا إليه، أن نراجع مواقفنا، فكل واحد منا مَعنيٌّ بذلك، ومخاطَب به.

فلا يصح بحالٍ من الأحوال أن يتوجه الذهن إلى قومٍ آخرين، يُفرَّق عليهم أجزاء هذا الحديث، فيقال: هذه الجُمل يُقصد بها الطائفة الفلانية، وهذه الجمل يُقصد بها فلان، وهذه الجمل يُقصد بها فلان، ليس هذا هو المراد، وإنما هذا الحديث متوجه إلى كل واحد منا بعينه، وأول ذلك أنه متوجه إلى المتحدِّث به، فهي نصيحة مشفق، نصيحة محب، ليس هذا بكلام متحامل، ولا حانق، ولا شامت، وإنما هو كلام محب مشفق، يحب الخير لإخوانه المسلمين جميعًا، وينصح لهم بما ينصح به لنفسه، ولا يزكي نفسه بحال من الأحوال.

كلنا نخطئ، وتقع منا الزلّة والعثرة، ولكن العاقل المُسدّد هو الذي يراجع نفسه دائمًا، يراجع مواقفه حتى يلقى الله على حالٍ مرضيّة.

هي نفس واحدة، كما قال بعض السلف، فإذا ذهبت فلا سبيل إلى الاستدراك، والرجوع بنفس أخرى.

ولا يصح بحال من الأحوال أن يجعل الإنسان نفسه بمنأى عن هذا كله، وأن يُنزّه نفسه، ويرى البلاء والخطأ والانحراف في غيره.

بهذه الطريقة لا يمكن أن يصل الإنسان إلى حق، ولا أن يصحح الخطأ والزلل، كلنا يقصر، وكلنا يخطئ، وكلنا يذنب، وكلنا يقع منه ما يقع في قلبه أو في لسانه، أو في جوارحه، ولكن نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحفظنا وإياكم بالسنة والاعتصام بها، وأن يميتنا على ذلك، وأن يعيذنا ويجنبنا مُضلات الفتن.

الشياطين تتخطف الناس منذ القدم، ولكن في هذا العصر صار التخطّف أعظم وأكبر، وصار الشر والفتنة أقرب إلى الواحد منّا من اليد للفم.

فتن الشهوات، ويكفي في ذلك هذه الأجهزة التي يصل بها إلى أنواع الشرور في الدنيا، في باب الشهوات، بعد أن كان ذلك يتعذّر على من طلبه، وأراده قبل سنين قريبة.

وكذلك فتن الشبهات، يستطيع الواحد وهو في بيته أن يقرأ في مذاهب الأرض، من الكفار بطوائفهم من المشركين، ومذاهب أهل الكتاب والملاحدة، ويقرأ في مذاهب أهل البدع والأهواء بأنواعهم، وأن يلج في كل مدوّنة وموقع يُلبِّس ويُشكّك، ويثير الشبهات.

فالشياطين كُثر، وأبواب جهنم مُشرَعة، وعلى كل باب شيطان يدعو إليه، فمن له ميل إلى العلم والثقافة يجد من الشياطين من يقول : إليَّ، إليَّ.

ومن يكون في طبعه نوع غلظةٍ وشدة يجد من الشياطين من يقول: إليَّ، إليَّ، ومن يكون في طبعه شيء من اللين يجد من الشياطين من يوافق ذلك، ويجذبه إلى بابٍ من أبواب جهنم، من يميل إلى الشهوات بأي نوعٍ منها فهناك أبواب وشياطين قد تخصصوا في هذه الأبواب.

المقصود أن هذا الاختلاف الذي تعاني منه الأمة منذ القِدم قد استفحل.

لا يخفى على أحدٍ منكم أن الاختلاف منه ما يكون من قبيل اختلاف التنوع، ومنه ما يكون من قبيل اختلاف التضاد.

وهذه جملة لا تحتاج إلى شرح، ولكن للأسف الشديد أصبحنا نختلف الاختلاف المذموم الذي يحصل معه التدابر والتقاطع والتهاجر والعداوة والبغضاء، في أمور هي من قبيل اختلاف التنوع والتي لا يجوز الافتراق عليها.

هذا فُتِح له أبواب من الخير والعمل الصالح، وهذا فُتِح له أبواب من الخير والعمل الصالح بعد الفرائض، فهو يُعنَى بها.

هذا يُعنى بالدعوة إلى الله، وهذا يُعنَى بالجهاد في سبيل الله، وهذا يُعنَى بالعلم، فهذا كله من قبيل اختلاف التنوع، الاختلاف في العمل المشروع، ولكن للأسف الشديد حتى هذا النوع صرنا فيه إلى حالٍ يحصل بسببها التنازع المذموم.

اختلاف التنوع مثل: صيغ العبادات المشروعة، أنواع القراءات الصحيحة الثابتة، فهذا لا إشكال فيه، كله حق، أنواع الأذكار المشروعة.

فإذا تحول هذا إلى نوع من الاختلاف المذموم، فماذا عسى أن تصير إليه الحال في اختلاف التضاد؟ اختلاف التضاد الذي يوجد فيه الراجح والمرجوح، الصواب والخطأ.

واختلاف التضاد هذا في أصله -كما هو معلوم- منه ما لا يوجب العداوة والبغضاء؛ لأن له من المسوغات والأسباب ما يبرره، وقد كتب فيه العلماء.

ومن أبرز هذه الكتب ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه: "رفع الملام عن الأئمة الأعلام"، ذكر أسباب اختلاف العلماء، لماذا يختلفون.  

والصحابة اختلفوا، ولم يوجب ذلك بينهم العداوة والبغضاء، ولكن هذا الاختلاف إذا اختلط مع الأهواء فإنه يتحول إلى شيء آخر، يتحول إلى اختلاف مذموم يحصل بسببه التدابر الذي نهانا الله عنه، التقاطع، تغيّر القلوب، تحصل معه العصبيات، والحمية الجاهلية، وهذا أمر مشاهد للأسف على نطاق واسع بين طوائف الأمة.

تحصل العداوات بسبب اختلافٍ في الاجتهادات، اجتهادات لا توجب التفرّق والاختلاف، ثم بعد ذلك تتحول إلى نزاعٍ لا يرضاه الله ولا يرضاه رسوله ﷺ.

أما الاختلاف غير السائغ في أصله، وهو اختلاف أهل الأهواء فهذا باب واسع، الذي يُبنى على أصول منحرفة، على قواعد غير صحيحة، تُحاكم إليها النصوص من الكتاب والسنة، الذي يُبنى على غير أصل، الذي لا يكون قائله منطلقًا من قاعدةٍ صحيحة في العلم والفهم والنظر والاستدلال.

هذا خلاف أهل البدع والأهواء، وهو الخلاف الذي لا يُعتدّ به، بهذا انحرفت الطوائف منذ وقتٍ طويل، هذا الذي أوجب الاختلاف الحقيقي بين طوائف الأمة.

لكننا في هذا العصر أصبحنا نختلف على الاجتهادات، أصبحت الطائفة الواحدة تنقسم على نفسها، وتتشرذم على أمور اجتهادية، سواء كان ذلك في مسائل العلم، أو في قضايا العمل والتطبيق، أو تحقيق المناط، أو كان ذلك في أمور أخرى كالكلام في توثيق زيدٍ أو عمرو، أو تجريحه، نختلف في قضايا مثل هذه، كان ينبغي أن يكون الاجتهاد في مثل هذه القضايا سائغًا، وهذا له رأيه وهذا له رأيه، وهذا له نظره وهذا له نظره، ثم ماذا؟ تحولت الحال إلى شيء آخر.

نريد من الآخرين أن يوافقونا على كل شيء، وإذا وافقتَ هذا لم توافق هذا، وسيأتيكم في التاريخ عجائب وغرائب.

وللأسف، نحن كثيرًا ما نترك الاعتبار بالتاريخ والنظر فيما مضى وكان، فإن ذلك يتكرر في واقعنا حتى إنه لربما يشبهه تمامًا ولم يبقَ إلا الأسماء.

الأسماء فقط تتغير، وسأورد لكم في مضامين هذا الحديث من العجائب، والغرائب ما يعجب منه العاقل كيف يوجد بين البشر فضلاً عن أهل الإيمان؟!، ستجد في التاريخ أشياء، ستجد أقوامًا كأنهم خُلقوا للاختلاف، وستجد من الأفكار والآراء والانحرافات والضلالات ما لا يمكن أن يُتابَع عليه صاحبه، إلا أن ذلك يُذكِّر بأن لكل ناعقٍ تبعًا، وتجد مصداق ذلك فعلاً في هذا التاريخ الطويل.

ننتقل بعد ذلك إلى الكلام على:

النصوص الواردة في الأمر بالاجتماع والنهي عن الاختلاف:

وهي نصوص كثيرة، فالشارع تارة يذكرنا بنعمة الله علينا بالاجتماع وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103].

تذكير بهذه النعمة من أجل أن تُحفظ، من أجل أن نُحافظ عليها؛ لأنه إذا حصلت العداوة بين الناس والشر تفرّقت القلوب، وتلاشت القوى، واشتغل الناس ببعضهم، إلى غير ذلك من الآثار التي سنذكرها بعد ذلك.

وتارةً يأمرنا بالاجتماع، كما قال النبي ﷺ: عليكم بالجماعة[1] يعني: الزموا الجماعة، وقال: فإن يد الله على الجماعة[2].

بمعنى أن الناس إذا تفرّقوا وتشرذموا فإن يد الله لا تكون معهم، وفي الحديث الآخر: فإن الشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد[3].

وفي الحديث: فإنه من فارق الجماعة قيد شبرٍ فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه[4] قيد شبر! ، فكيف بالذي يخالف ويفارق أميالاً وفراسخ؟!.

وتارةً ينهانا عن التفرق صراحةًوَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].

يعني: قوتكم وجماعتكم ونصركم. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى: 13] إلى أن قال الله أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ۝ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [الشورى: 13، 14].

هذا الذي شرّعه لنا من الدين على لسان نبينا ﷺ وما أوحى به إلى الأنبياء من لدن نوح -صلى الله عليه وآله وسلم وعلى سائر الأنبياء.

وفي الحديث: إن الله يرضى لكم ثلاثًا وذكر منها: أن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا[5].

والمقصود -أيها الأحبة- أن الاختلاف منافٍ لما بعث الله به رسوله ﷺ.

وقد جاء عن عمر الخليفة الراشد المُحدَّث أنه قال: "لا تختلفوا فإنكم إن اختلفتم كان مَن بعدكم أشدَّ اختلافًا"[6]يخاطب أصحاب النبي ﷺ.

وانظر إلى هذا الموقف منه لما سمع أُبيَّ بن كعب وابن مسعود يختلفان في صلاة الرجل في الثوب الواحد أو الثوبين، مسألة فقهية، الرجل يلبس الإزار فهل يُطالب بأن يلبس الرداء فيستر عاتقيه، أو منكبيه حال الصلاة؟ اختلف أُبي وابن مسعود وهما من علماء الصحابة في مسألة سائغ الاختلاف فيها.   

مسألة فرعية كما يُقال، فماذا كان موقفه  صعد المنبر، وقال: رجلان من أصحاب النبي ﷺ اختلفا، فعن أي فُتياكم يصدُر المسلمون، لا أسمع اثنين اختلفا بعد مقامي هذا إلا صنعت وصنعت[7].

مسألة فقهية بين اثنين من علماء الصحابة الكبار أُبيّ وابن مسعود، ويقف عمر على المنبر ويتوعد ولا يستثني أحدًا لا عالمًا ولا متعلمًا، يتوعّد من يختلفون.

فكيف لو رأى عمر الحال التي نحن عليها؟ وكيف لو اطّلع على ما نكتب في هذه الوسائط والوسائل الجديدة؟ كل واحد يريد أن يُبدي رأيه، وأن يتكلم بما شاء.

عليٌّ في أيام خلافته قال لقضاته، وكانت له آراء في بعض المسائل، خالف فيها من قبله، مسائل فقهية يسوغ الخلاف فيها، وهو الخليفة، فماذا قال للقضاة هؤلاء؟، قال: "اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف، وأرجو أن أموت كما مات أصحابي"[8] لاحظ ما قال: أنا الخليفة، وأنا مسئول عن هذا ولا يمكن أن يُقضَى بين الناس إلا بما أتبناه وأدين الله به.  

مع أنه من علماء الصحابة، ومن قضاتهم وهو الخليفة، إمام مجتهد، وهو أيضًا من أهل القضاء ومع ذلك يقول مثل هذا الكلام: "اقضوا كما كنتم تقضون فإني أكره الخلاف".

ما قال: أنا أدين الله بهذا، ولا يمكن أن يمضي في هذا العهد في أيام خلافتي إلا ما أدين الله به. ما قال هذا، أشياء هو يرى أنها غير صحيحة، ومع ذلك يأمرهم أن يقضوا بما كانوا يقضون به منها، كل ذلك كراهيةً للاختلاف.

وتارةً ينهانا الشارع عن مشابهة أولئك الذين تفرقوا واختلفوا وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران: 105] فنحن منهيون عن التشبه بهم.

وشيخ الإسلام -رحمه الله- في اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم ذكر أنواعًا من التشبه التي ضاهت فيها هذه الأمةُ، وشابهت من كان قبلها مصداقًا لقول النبي ﷺ: لتتبعنّ سَنن من قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع...[9].

فذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- من هذه القضايا التي تابعت فيها هذه الأمة الأمم قبلها: التفرق والاختلاف، التنازع[10].

وتارةً يذم أهل التفرق: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [البقرة: 176].

يذمهم من أجل ألا نقع فيما وقعوا فيه، من أجل ألا يصدر عنا ما حصل منهم، والله -تبارك وتعالى- يقول عن أولئك: فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53].

يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله: "الزُّبر: الكتب، يقول: أيْ كل فرقة صنفوا كتبًا أخذوا بها، وعملوا بها ودعوا إليها دون كتب الآخرين"[11].

كما هو الواقع الذي نعيشه الآن، يعني: هذا الذم الذي ذكره الله لهؤلاء الذين تقطَّعوا أمرهم بينهم زُبرًا، هل يختص بأولئك من أهل الكتاب، أو من المشركين ممن ذمهم الله -تبارك وتعالى؟.

الجواب: أن هذا الذم يلحق من وقع في ذلك من هذه الأمة، وذلك أنه كما قيل: "على قدر المقام يكون الملام".

هذه الأمة أشرف ونبيها أكمل وكتابها أعظم، فإذا وقع منهم هذا التفرق والاختلاف كان الذم الذي يلحقهم أعظم من الذم الذي يلحق مَن قبلهم، فلا يجوز للأمة بحال من الأحوال أن تتقطع أمرها بينها زُبرًا.

هؤلاء لهم شيوخ، وهؤلاء لهم شيوخ، هؤلاء لهم مواقع، وهؤلاء لهم مواقع، هؤلاء لهم مصنفات وكتب يرجعون إليها ويتتلمذون ويتربون عليها ويتلقون عنها، وهؤلاء لهم مصنفات وكتب يتلقون عنها، هذا لا يجوز، هذا مما ذمه الله -تبارك وتعالى- وحذّر منه.

والله -تبارك وتعالى- يقول: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106]، يقول ابن عباس -ا: "تبيضّ وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسودّ وجوه أهل البدعة والفرقة "[12].

لاحظ "تبيض وجوه وتسود وجوه"، المعنى أعم من ذلك؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قال: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [آل عمران:106].

فهذا فيمن وقعوا في الكفر، لكن ابن عباس -رضى الله عنهما- وجماعة من السلف حملوا ذلك على ما يشبهه فأدخلوه تحته.

إن الكثيرين يدّعون في خاصة أنفسهم أو فيما هم عليه بأنهم أهل السنة والجماعة، وأن من خالفهم فليس كذلك، فحينما يرد مثل هذا النص عن ابن عباس -ا- فإن السامع قد يقول: نعم نحن أهل السنة والائتلاف، وهو يمزق الصف ويشتت الشمل، ويعادي إخوانه المسلمين على قضايا اجتهادية.

أهل السنة والائتلاف! فهل نحن من الائتلاف أم أننا من أهل الاختلاف؟ هل نعرف ما هي الأمور التي ينبغي أن نختلف عليها وماهي الأمور التي ينبغي أن نجتمع عليها؟.   

المسألة ليست بالدعاوى، الكل يدّعي أنه على هدى، جميع الطوائف حتى أولئك الذين عدّهم العلماء من الخارجين عن الثنتين والسبعين فرقة، يقولون: إنهم على الحق والهدى، وإن من عاداهم فهو على الضلالة. العبرة بماذا؟ هل العبرة بالأسماء والألقاب؟ هل العبرة بالدعاوى العريضة؟

ليست العبرة بذلك، فقد يتسمّى الإنسان بالأسماء الشريفة الشرعية، ولكن واقعه أبعد ما يكون عن هذا.

العبرة بما يكون عليه الإنسان من الاستقامة، ولزوم الكتاب والسنة والصراط المستقيم، نعم نحن لا نُقر غير الأسماء الشرعية، ولا يجوز لأحدٍ أن ينتسب إلى اسم غير شرعي.

انتسب إلى الإسلام هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج: 78] انتسب إلى الإسلام هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ على القولين للسلف: أن الذين سمانا هو الله، أو أن الذي سمانا هو إبراهيم ﷺ، ننتسب إلى أهل السنة والجماعة، ولا ننتسب إلى غير ذلك.

ولكننا أيضًا في الوقت نفسه لا نتعامل مع الناس انطلاقًا من تلك الأسماء التي نسميهم بها أو التي يسمون أنفسهم بها مع أننا لا نُقر غير الأسماء الشرعية، وإنما ننظر في حقيقة ما هم عليه من الاعتصام بالكتاب والسنة ولزوم الصراط المستقيم قولاً وعملاً.  

المُعوَّل على هذا، الله خلق الموت والحياة لماذا؟ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود: 7].

ليست العبرة بأعمال كثيرة على غير الوجه المشروع، وليست العبرة بأسماء وألقاب أو دعاوى طويلة ندّعيها، العبرة بلزوم الحق الذي جاء به الرسول ﷺ.

النبي ﷺ خاطبنا بقوله: لا تختلفوا فتختلف قلوبكم[13]هذا في أي سياق؟ تسوية الصفوف في الصلاة، إذا كان مثل هذا الاختلاف في الوقوف في الصف يورث اختلافًا في القلوب، فكيف بما هو أعظم من ذلك؟ كيف بما هو أعظم من هذا؟ ماذا عسى أن يُورث من الشر، والعداوات في القلوب؟ أمور يسيرة كان يراعيها النبي ﷺ لجمع الكلمة، ودفع أسباب الشر والاختلاف، وكان ﷺ يقول: اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا[14].

خرج ﷺ على أصحابه وهم يتنازعون في آيات من كتاب الله -تبارك وتعالى- يتنازعون في مسائل وقضايا، فغضب حتى احمر وجهه، حتى كأنما فُقئ في وجنتيه الرمان، فقال: أبهذا أمرتم؟، أم بهذا أرسلت إليكم؟[15].

نقاش وجدال بين أصحاب النبي ﷺ فيكون موقفه ﷺ هو الزجر عن ذلك والغضب والنهي عنه.

 فكيف بمجادلاتنا، من يُحسن ومن لا يُحسن عبر هذه الوسائل والوسائط، وما يتلو ذلك من التراشق، وتبادل التهم والتضليل، بل والتكفير؟!.

وتارةً يُرغبنا في الصلح: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 114].

وفي الاقتتال بين طوائف المسلمين، هؤلاء الذين يتنازعون على شيء من الدماء أو يتنازعون على شيء من الأرض أو الأموال أو نحو ذلك: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا [الحجرات: 9] لا تقف مع هذا دون هذا بكلمة ولا بممارسة أو محاباة أو غير ذلك، هذا خط أحمر، جَمْع الكلمة، ترك أسباب الشر والتنازع والتفرق إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10].

جاء بهذه الصيغة التي هي من أقوى صيغ الحصر إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ولا يصح أن يكون حالهم على غير هذا.

الأخوّة الإيمانية يجب أن تكون متحققة، وهذه الأخوة لها مقتضيات من النصرة والمحبة، لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيهما يحب لنفسه[16].

هل نحن كذلك حينما نختلف؟ هل هذه الأخوة الإيمانية، وحفظ مقتضيات الأخوة واقع ومتحقق، أو أننا ننسى جميع هذه الحقوق، وندير ظهورنا نحوها؟.

فلا تبقى إلا القطيعة والتربص، كل طائفة تتربص بالأخرى الدوائر، بل أكثر من هذا، لربما صار ذلك إلى حال من الاقتتال، بل لربما صار إلى حال من التكفير، الرمي بالكفر، من أجل ماذا؟

من أجل أننا اختلفنا في اجتهاداتنا في بعض الأمور، والله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1].

قدّم الأمر بالتقوى؛ لأن القلوب إن لم تكن متحققة بالتقوى فمعنى ذلك أنها لا تصغي لنصح ناصح، ولا يؤثر ذلك فيها.

والقلوب قد اعتراها ما اعتراها، وحصل لها من أنواع القسوة ما نعلمه جميعًا، وإذا أردتم أن نقرّب لكم هذا بمثال يوضحه، فهذا الإنسان الغافل المُعرِض الذي قد انغمس في شهواته، وسَكِر في لذاته حينما يسمع نصح الناصحين، ووعظ الواعظين، فإن ذلك قد لا يؤثر فيه.

يدخل ويسمع خطيب الجمعة، ويخرج كما دخل، وإذا قيل له: اتق الله، لربما يأنف ويغضب، والآخر لربما يسمع الكلمة، والآية والموعظة، فيرق قلبه ويلين ويبكي، ويتأثر ويستجيب، وينتصح.

ما الفرق بين هذا وهذا؟ الفرق أن هذا قد وُجد في قلبه من التقوى ما يحمله على القبول والامتثال، والآخر لم يوجد في قلبه من تقوى الله ما يدعوه إلى قبول نصح الناصحين، ووعظ الواعظين، والتذكر بآيات الله -تبارك وتعالى.

ننتقل من هذه الصورة إلى حالنا التي ألفنا فيها هذا الاختلاف، والشقاق والنزاع، فما صار مثل هذا الكلام يؤثر فينا.

فأصبح بعضنا حينما يسمع مثل هذه النصوص، وهذه الآيات لربما يوجه ذلك إلى غيره، وأنه ليس بحاجة إلى مثل هذا الكلام.

هو ليس بحاجة إلى أن يسمع منك، ولا أن يقضي لحظة في الوقوف مع حديثك هذا، ما الذي حصل؟ ما الذي اعترى القلوب، ما الذي غيرها؟ ما الذي يجعل ذلك المنغمس في شهواته يصير في تلك الحال، فلا ينتفع بنصح الناصحين، وهذا الإنسان الذي ظاهره الاستقامة أيضًا في هذا الباب لا يقبل مِن عاذل، ولا ناصح، ولا مشفق، ولا محب إنما يريد من الآخرين أن يوافقوه بغير استثناء.

أن لا يستثنوا، أن يكونوا معه على طول الطريق في كل اجتهاداته وآرائه، وفهمه وأحكامه، هل هذا هو المراد؟ مَن الذي يدّعي لنفسه العصمة؟.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] الإنسان يتهم نفسه دائمًا، يقول ابن عباس -ا- في قوله -تبارك وتعالى: فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ: "هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا الله وأن يصلحوا ذات بينهم"[17]

والله -تبارك وتعالى- يقول: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ [النساء: 128].

وهذا عام، وإن كان هذا السياق في قضية معينة، لكن اللفظ عام مطلق -كما يقول القرطبي -رحمه الله- يقتضي أن الصلح الحقيقي الذي تسكن إليه النفوس، ويزول به الخلاف أنه خيرٌ على الإطلاق[18].

ويدخل في هذا ما جاء السياق فيه، الصلح بين الرجل وامرأته، فهذا خير من الفُرقة.

فالتمادي على الخلاف والشحناء والمباغضة يقول: هي قواعد الشر، وسيأتي في الحديث في البَغضة أنها الحالقة، الصلح -نبذ أسباب الشر- خير.

هنا ما قال: خير في الدنيا، خير في العاجلة، أو خير في الآخرة، خير في الباب الفلاني، وإنما أطلق ذلك، والأصل أن مثل هذا يُحمل فيه المُقتضَى -يعني: المقدّر المحذوف- على أعم معانيه، فإنّ حذف المُقتضَى -يعني المقدّر المحذوف- يُحمل على أعم معانيه المناسبة له وَالصُّلْحُ خَيْرٌ، ولم يُقيّد ذلك بباب من الأبواب، ولم يُقيّد ذلك في الدنيا، أو في الآخرة.  

بل قال النبي ﷺ: ما عمل ابن آدم شيئًا أفضل من الصلاة، وصلاح ذات البين، وخُلق حسن[19]، هذا حديث صحيح ثابت عن رسول الله ﷺ.

فذكر مع الصلاة التي هي الركن الثاني من أركان الإسلام صلاحَ ذات البين والخُلق الحسن.

كتاباتنا ومزاولاتنا وممارساتنا في هذا الشقاق والنزاع في تويتر، وغير تويتر، هل هذا من الإصلاح إصلاح ذات البين؟ وهل نسعى في هذا؟ وكذلك أيضًا الخلق الحسن، هل نحن نحمل أخلاقًا إسلامية كريمة فيما نكتب، وما نقول، وما نعلّق؟.

سباب وشتائم، قبل هذه الوسائل والوسائط الجديدة ما كنت أظن أن الحال بلغت هذا الحضيض، كنت أظن أن من عنده شيء من التدين أنه يحمل أخلاقًا صالحة.

صار الواحد منا يكتب لربما في بعض أهل العلم، وأهل الفضل، بعض أهل الدين عبارات لا تليق أن تقال في مسلم، ولو كان فاسقًا، يُرمى بالعظائم من أجل أننا اختلفنا معه في وجهة نظر في قضية من القضايا! هل يجوز هذا؟ هل يسوغ؟

عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله ﷺ: ألا أخبركم بأفضلَ من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة[20].

صلاح ذات البين يعني: صلاح الحال التي تكون بين الناس.

إصلاح أحوال البين حتى تكون أحوالكم أحوال صحة وألفة ومحبة واجتماع.

وبعضهم يقول: صلاح ذات البين، يعني: صلاح وإصلاح الإفساد والفتنة التي تكون بين الناس، لما في ذلك من عموم المنافع الدينية والدنيوية من التعاون والتناصر والتآلف، والاجتماع على الخير، حتى أُبيح فيه الكذب -كما هو معلوم- في الإصلاح بين المتخاصمين. نقول: فلان يُثني عليك، فلان يذكرك بالخير، لجمع القلوب.

مع أن الكذب حرام، وأبيح في هذه الحال بين اثنين، فكيف يكون الشأن إذا كان هذا التنازع بين طوائف من المسلمين؟.

لاشك أن السعي في ذلك لدفع الشرور، والمضار الدينية والدنيوية أعظم وآكد.

وهذا أمر لا ينبغي أن يختلف عليه اثنان، يقول ﷺ معللاً ذلك: وفساد ذات البين الحالقة، لماذا كان إصلاح ذات البين أفضل من الصيام، والصلاة والصدقة؟

باعتبار أن فساد ذات البين يأتي على الأخضر واليابس، فساد ذات البين الشر الذي يقع بين الناس، سوء ذات البين المخاصمة، المشاجرة، المشاحنة، الفرقة، الاختلاف، فهذه الخصلة هي الحالقة.

سوء ذات البين يدخل فيها التسبب في المخاصمات، والمعارك الكلامية، والجدلية، والفكرية، والحربية.

كل هذا يدخل فيه مما يورث الفساد والفرقة والتشرذم، فهذا كله من فساد ذات البين، فهذه هي الحالقة، هكذا سماها النبي ﷺ.

الحالقة تحلق ماذا؟ الحالقة فُسرت بالماحية للثواب المؤدية إلى العقاب، المُهلكة، يقولون: مأخوذة من قولهم: حَلق بعضهم بعضًا -نسأل الله العافية- يعني: استأصل بعضهم بعضًا كما يُستأصل الشعر، كما يُحلق.

فهذه تأتي على الدين فتُذهبه، تُذهب حسنات الإنسان، تُذهب أعماله الصالحة، فقد فُسرت في الحديث بأنها تحلق الدين، تحلق الدين بأي اعتبار؟.  

باعتبار أن الناس إذا حصل بينهم التنازع والشر والاختلاف فإن ذلك يؤدي إلى تنافر القلوب والتباغض والغل. 

والقلب إذا امتلأ بالغل اشتغل عما هو بصدده من ذكر الله وطاعته، وأظلم، فيتبعه بعد ذلك ظلمة الوجه، الوجه أسود بسبب الظلمة التي تغشى القلب، وجهه أسود لما في قلبه من الغل على إخوانه المسلمين.

ينبغي على الواحد منا أن يكرر ويعيد في كل يوم النظر إلى المرآة، ينظر في وجهه، كان بعض السلف يخشى أن يكون وجهه قد اسودّ.  

فإنّ ما يوجد في القلب يظهر على الوجه، والوجه مرآة تعكس حقيقة ما في القلب، فصاحب القلب المليء بالغل على إخوانه المسلمين يُظلم وجهه.

لا أعني سواد البشرة الذي خلقه الله عليه، فقد يكون هذا الوجه مشعًّا منيرًا مشرقًا، تُشرق فيه أنوار السنة، وأنوار الطاعة والاستقامة.

ولكن قد يكون القلب مليئًا بظلمة المعصية، أو ظلمة البدعة، أو ظلمة الغل، فيظهر هذا في وجه صاحبه، ثم بعد ذلك يظهر في جوارحه، فتظلم هذه الجوارح، فيشتغل هذا اللسان -نسأل الله العافية- بالوقيعة.

ليس له شغل إلا الوقيعة في إخوانه، فهو يحذّر من هذا، ويقع في هذا، ويضلِّل هذا، ويرمي هذا بالعظائم، ومجالسه دامرة -وليست عامرة- بِقَالة السوء في زيدٍ وعمروٍ من صلحاء الأمة وخيارها، وفضلائها.

ولو قيل له: هات ما يكون لك عند الله فيه برهان مِن قال الله، قال رسوله ﷺ فيما تضلل به هذا، أو ترمي به هذا بالكفر، أو البدعة، أو الزندقة، أو الضلالة.

هات قال الله، قال رسوله، اختلفتَ معه على زيد يزكيه، أو يذمه، أو يحسن الظن به، هذا يترتب عليه تضليل ورمي بالعظائم؟!.

لو قابلك الناس بمثل هذا لرموك بمثل ما رميتهم به، لو جارى الناس بعضهم بعضًا بالسفه لاستحل كل أحدٍ من الآخر ما استحل منه.  

فما يراه الإنسان في زيدٍ وعمرو، ويخالفه عليه الآخرون لو قابلوه بمثل هذا التضليل لما بقي شيء، فمثل هذا -أيها الأحبة- لا يحل بحالٍ من الأحوال.

فهذه الحالقة، بدلاً من أن يشتغل اللسان بالذكر وقراءة القرآن والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشتغل بِقَالة السوء وما يشتت ويُفرِّق.  

والعجيب أننا صرنا إلى هذه الحال في وقت قد أحدق بنا العدو، جميع الأعداء اجتمعوا كما تجتمع الأَكَلة، أو تتداعى الأكَلة إلى قصعتها في كل ناحية، هؤلاء الأعداء يتداعون ويتآمرون، ويتضاحكون بنا ونحن نشتغل ببعضنا في أسوأ الظروف، وأحلكها، وأشدها، وأصعبها.

إذا كنا لا نجتمع في وقت الشدائد والعدو قد أخذ بخناقنا فمتى سنجتمع؟ إذا كان بعضنا يعادي بعضًا في أصعب المواقف، العدو أمام نحورنا، الأعداء من اليهود والنصارى، وطوائف المشركين، والباطنية، وغير هؤلاء ويفعلون الأفاعيل، لا يرقبون في مؤمنٍ إلًّا ولا ذمة، ونحن نشتغل ببعضنا تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى [الحشر: 14].

قالها الله عن المنافقين واليهود على قول مشهور لعله الأقرب في تفسير الآية، وعلى القول الآخر أنها قيلت في اليهود.

لكن ذلك عُلل في النهاية سواءً كان هؤلاء أو هؤلاء بأنهم: قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [الحشر: 14]، هؤلاء الذين يتفرقون هذا التفرق لا يعقلون، لو كانوا يعقلون، لو كان عندهم من العقل المعيشي ما يُسعفهم لاجتمعوا من أجل دنياهم، من أجل الدنيا، من أجل حفظ بيضتهم، من أجل حفظ أعراضهم وحرماتهم ودمائهم، وأموالهم، فإذا اختلفوا هذا الاختلاف، وتشرذموا بهذه الطريقة والعدو قد احتنكهم فما ظنكم؟، هل سيجتمعون على الغنيمة، وفي الرخاء؟ صرنا إلى حال أن بعض المسلمين يقاتلون اليهود، والأصل أنه مهما اختلفت مع إخوانك المسلمين، هؤلاء مهما اختلفت معهم لا يجوز أن تشمت بهم، وأن تفرح لمصابهم، وأن تكون في صف واحد مع هؤلاء اليهود.   

أين ما أمرنا الله به من التناصر والتعاضد وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]؟

الموالاة: النصرة، ثم بعد ذلك نكون عونًا على إخواننا؟ مهما بلغ الخلاف، كيف نصل إلى هذا الحال؟.

فهنا تكون الحالقة، فيبدأ اللسان يشتغل، تارة يرمي بالفسق وتارة بالتهم الكاذبة، الإفك وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15] التنابز بالألقاب، التراشق بالتهم، وهكذا أيضًا تشتغل الجوارح.

يبدأ اللسان الآخر "القلم" يكتب، وتبدأ هذه الجوارح تعمل في إشعال هذا الخلاف، والانتصار من المخالفين، الأمر الذي قد يصل إلى الاحتراب، والقتال كما هو واقع، وليس بمتوقَّع.

هذا شيء يشاهده الجميع، عدو لا يقف عند حد، وفي المقابل يشتغل بعضنا ببعض في الاختلاف، والوقيعة في الأعراض والقتل، هذه هي الحالقة.

فإذا وصل الأمر إلى الرمي بالكفر، أو إلى القتل واستحلال الدماء، فماذا بقي من دين الإنسان؟ ماذا بقي من دينه؟.

الإنسان لربما يكون في حال من سُكر الشهوة، فيشتغل ببعض الشهوات مما حرم الله عليه من الزنا وشرب الخمر، ولربما يكون مشتغلاً بألوان اللهو والمعازف، أو القمار أو المخدرات.

وهذه آثام تتفاوت، وجرائم ليست على حد سواء.  

ولكن أن يركب المراكب الصعبة في تدينه، يبتغي ما عند الله ثم بعد ذلك يلغ في الدماء، وفي رمي إخوانه بالكفر، بل لربما أقرب الناس إليه.

فهذه أعظم مما سبق، أعظم من هذه المعاصي التي سبقت من الزنا وشرب الخمر.  

يعني: لو بقي في تلك الأوحال لكان أهون وأسهل من أن يركب هذه المراكب الصعبة.

رأيتم كيف الشيطان يصل بكيده لنا حيث يوقعنا في هذه النهايات، والأعمال التي لربما لم تخطر لنا على بال قبل سنوات؟

يتوب الإنسان من ذنوب، يتوب من معاصٍ، يتوب من فسق، يتوب من غفلة، من تقصير.

ثم يتحول بعد ذلك إلى معول هدم في الأمة؟ يشتت شملها ويُفرّق جمعها ويقع في خيارها، ويضلّلهم، وليس له شغل إلا في هذا، هل هذا تدين؟ هل هذا تقوى لله ؟ هل هذا صلاح؟ هل هذه استقامة؟ هل يقال عن هذا الإنسان: إنه مستقيم وصالح ومتدين وملتزم كما يقال؟.

الجواب: أبدًا، لا يمكن، ليس هذا هو الدين الذي أمرنا الله به وجاء به رسوله ﷺ الدين طهارة للقلب وزكاء، الدين أخلاق تطهر اللسان والجوارح والبصر، الدين فضائل يتحلّى بها المؤمن، الدين تقوى وخشية وإخبات وخشوع، الدين محبة الخير للمسلمين كما يحب لنفسه، لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يحب لنفسه[21].

هذا هو الدين وهذا هو التدين الحقيقي، قلبه نظيف لإخوانه المسلمين، قلبه طاهر، يشفق عليهم ويحبهم، يحب لهم الخير، يحب لهم الصلاح، يحزن لحزنهم، يتألم لآلامهم، قد يختلف معهم، لطالما اختلف الناس، ثم ماذا؟

لكن أن يتحول التدين إلى شيء آخر، يتحول هذا الإنسان بدلا من أن كان خاملاً لا يُنتفع به في عمل دنيا ولا في عمل آخرة، يتحول إلى مارد يهدم ولا يبني؟!

معول هدم في المجتمع، وأعداؤه هم أهل الصلاح والخير، هذا لا يصح أن نفعله.

فهذه حال للأسف لا يرضاها الله ، وإنما يفرح بها الشيطان، ويفرح بها شياطين الإنس والجن فيطربون ويرقصون على جراحنا، ويضحكون من عقولنا وهذه الحال التي صرنا إليها، والله المستعان.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في لزوم الجماعة (4/ 465)، رقم: (2165)، والنسائي، كتاب الإمامة، التشديد في ترك الجماعة (2/ 106)، رقم: (847).
  2. أخرجه النسائي، كتاب تحريم الدم، قتل من فارق الجماعة، وذكر الاختلاف على زياد بن عِلاقة عن عرفجة فيه (7/ 92)، رقم: (4020).
  3. أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في لزوم الجماعة (4/ 465)، رقم: (2165)، والنسائي في السنن الكبرى (8/  284)، رقم: (9175)، وأحمد (1/ 268)، رقم: (114).
  4. أخرجه أبو داود، كتاب السنة، باب في قتل الخوارج (4/ 241)، رقم: (4758)، والنسائي، كتاب قطع السارق، تعظيم السرقة (8/ 65)، رقم: (4872)، وأحمد (35/ 364)، رقم: (21460).
  5. أخرجه مسلم، كتاب الأقضية، باب النهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، والنهي عن منع وهات، وهو الامتناع من أداء حق لزمه، أو طلب ما لا يستحقه (3/ 1340)، رقم: (1715).
  6. انظر: الشريعة للآجري (4/ 1784)، رقم: (1243)، وشرح السنة للبغوي (4/ 524)، والإبانة الكبرى لابن بطة (8/ 411)، ومصنف ابن أبي شيبة (1/ 85).
  7. انظر: إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 197).
  8. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن (5/ 19)، رقم (3707).
  9. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (4/169)، رقم: (3456)، ومسلم، كتاب العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى (4/2054)، رقم: (2669).
  10. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 138).
  11. انظر:إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 197).
  12. انظر: تفسير ابن كثير (2/ 92).
  13. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب تسوية الصفوف، وإقامتها (1/323)، رقم: (432).
  14. أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب كراهية الخلاف (9/ 111)، رقم: (7364)، ومسلم، كتاب العلم، باب النهي عن اتباع متشابه القرآن (4/ 2054)، رقم: (2667).
  15. أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر (4/ 443)، رقم: (2133).
  16. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1/ 12)، رقم: (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير (1/ 67)، رقم: (45).
  17. انظر: تفسير الطبري (11/ 26).
  18. انظر: تفسير القرطبي (5/ 406).
  19. أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (13/ 429)، رقم: (10579).
  20. أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب في إصلاح ذات البين (4/280)، رقم: (4919)، والترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 663)، رقم: (2509)، وأحمد (45/ 500)، رقم: (27508).
  21.  أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه (1/ 12)، رقم: (13)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير (1/ 67)، رقم: (45).

مواد ذات صلة