الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(02) تتمة النصوص الواردة في الأمر بالاجتماع والنهي عن الاختلاف وهل حققت الأمة ما أمرها الله به
تاريخ النشر: ٠٥ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 11727
مرات الإستماع: 2814

المقطع المرئي

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فنواصل الحديث، وما زال الكلام فيما ورد في صلاح ذات البين.

قد قال النبي ﷺدبّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم[1].

"دبّ إليكم داء الأمم" يعني: سار إليكم. 

"داء الأمم قبلكم" يعني: عادة الأمم الماضية، الاختلاف، التفرق، الشحناء، البغضاء، فإن الشحناء والبغضاء هي من آثار الاختلاف كما سيأتي، كما أنها أيضًا تُورِثه وتسبِّبه في بعض الحالات. 

وهنا سماه داءً " دبّ إليكم داء الأمم " هذا مرض وعلة، يحتاج إلى معالجة.  

فهذه يقول عنها النبي ﷺ: الحالقة، حالقة الدين لا حالقة الشعر.

يعني: الخَصلة التي من شأنها أن تحلق دين المرء، أن تأتي على دينه وعمله وحسناته، فيحصل منه الفجور في الخصومة، ومالا يحل في حق إخوانه المسلمين، مما يتصل بقلبه، أو لسانه، أو جوارحه. 

ولاحظ هنا في نفس هذا الحديث: والذي نفس محمد بيده، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا هل نحن كذلك؟ هل نحن في حال من التحابّ؟. 

الذي أدركْنا عليه الناسَ قبل أكثر من عشرين سنة: أن الإنسان إذا رأى من على سيماه الصلاح والخير أحبه، وهو لا يعرفه.

كان الناس، بمجرد ما يرى من سيماه الصلاح والخير ينجذب إليه، ويشعر أنه يُكمّله، وأنه جزء منه، ولكن تبدّلت الأحوال لدى الكثيرين، حتى نشأ جيل لم يعرف إلا هذا الشقاق والنزاع والتدابر والتناحر والتقاطع، فظنوا أن هذا هو الأصل، وأن هذا هو الأمر الطبيعي، وهذا غير صحيح إطلاقًا. 

فصار الواحد يطلب السلامة لنفسه، لا يُؤثِر الخُلطة بالآخرين، وما ذلك إلا لتغيّر القلوب، ما كان الناس هكذا أبدًا. 

فهذه من نتائج هذا الاختلاف. 

وفي بعض الألفاظ من حديث أبي هريرة إياكم وسوءَ ذات البين فإنها الحالقة[2]. هذا عند الترمذي وغيره. 

وفسّر الترمذي -رحمه الله- سوء ذات البين بالعداوة والبغضاء، وأن الحالقة هي التي تحلق الدين.

فهذا كله فيه ما فيه من الترغيب في إصلاح ذات البين، واجتناب كل ما يؤثر في ذلك سلبًا، فيكون أهل الإيمان على حال من الترابط والتواد والمحبة، والعمل على تلافي كل ما يورث الشر، وفساد ذات البين والتفرق، فهذه ثُلمة في الدين لا يصح أبدًا أن تُقر.   

فمن نال هذه المرتبة وهي تعاطي الإصلاح بين المسلمين، ورفع الفساد والشر عنهم فإنه يكون قد نال تلك المرتبة التي ذكرها النبي ﷺ وهي أن ما يناله من الأجر أعظم مما يكون لدرجة أهل الصيام والصلاة والصدقة، والمقصود بذلك ما زاد عن الفرائض.

سفيان الثوري -رحمه الله- قرأ على ابن الحسن، وجاء في ذلك -وهو كلام طويل لكن الشاهد منه- "... وإياك والشحناء فإنه لا تُقبل توبة عبد يكون بينه وبين أخيه شحناء، وإياك والبغضاء فإنما هي الحالقة، وعليك بالسلام لكل مسلم يَخرج الغلُّ والغشُّ من قلبك، وعليك بالمصافحة تكن محبوبًا إلى الناس ..."[3]. إلى آخر ما جاء فيها.

السلف أخلاق، ويتواصون بهذا، وسيأتي مزيد إيضاح لهذه القضية. 

كما جاء النهي عن كل الذرائع المُفضية إلى العداوة والتفرق والبغضاء بين المسلمين، حتى في الأمور المادية، والتعاملات الدنيوية.

نهى الشارع عن خطبة الرجل على خطبة أخيه، خطب امرأة ما يأتي آخر ويخطب هذه المرأة، لماذا؟ لأن ذلك يوغر صدره، فمُنع من هذا ليبقى التصافي. 

لماذا حُرّم أن يجمع الرجل بين المرأة وأختها، والمرأة وعمتها، والمرأة وخالتها؟ ما هي العلة؟ لِمَا يقع من الشحناء فيودي بذلك إلى قطيعة الرحم، فحُرِّم. 

سوم الرجل على سوم أخيه، يقول له: بكم تبيع هذه الساعة؟ تبيعها بعشرة؟ يقول الآخر: أشتريها منك بخمسة عشر، لا يجوز. 

بيع الرجل على بيع أخيه، يقول له: أبيعك هذا بكذا، ويقول له البائع الآخر: أنا أبيعك بكذا، بأقل من ذلك. فتقع الشحناء، فهذا حرام. 

لاحظ بين اثنين من الباعة، ليُحفظ الود والصفاء بين المسلمين. 

فكيف بهذا الذي يحمل قلمًا ناريًّا شِهابًا يُحرِق فيه المودة والإخاء بين المسلمين، في كتابات يرسلها عبر حسابه في تويتر، أو في غير ذلك؟!. 

هذا كما قلت: خط أحمر، لا يجوز أن يصدر من الإنسان، ما يكون سببًا للشر بين أهل الإيمان.

جاء في حديث أبي هريرة وهذه الأحاديث هي من أول ما درسنا، ومن أول ما تعلمنا ولكني أراجع نفسي فيها كثيرًا طويلًا مليًّا، أنظر فيها وأقول: هل نحن فعلًا نطبق هذه المبادئ التي تعلمناها؟ ولربما ندرس من نهايات العلوم، ومن دقائقها في أبواب مختلفة في الأصول وفي غيرها ونترك هذه المبادئ!. 

كلنا درس هذا الحديث:لا تحاسدواوالنهي للتحريم، ولا تناجشوا النَّجَش معروف، يأتي هذا يعرض سلعة، من يزيد؟، يُحرَّج عليها ثم يأتي آخرون يتواطئون معه فيرفعون السعر ليُغرّ أحد الحضور، فيشتريها بسعر أعلى، ولا تباغضوا قد يقول قائل: البغضاء تقع في القلب من غير إرادة، يقال: القاعدة في هذا أن خطاب الشارع إذا توجه إلى المكلَّف فيما لا يدخل تحت طَوقه فإنه ينصرف إلى سببه أو إلى أثره. 

البغضاء، ينظر في الأسباب التي تورث البغضاء، فيتجنّبها، وينظر فيما تورثه هذه البغضاء من الوقيعة في الأعراض، فيتقي الله ويمسك لسانه، وما تورثه هذه البغضاء من سوء الظن إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات: 12]وما تورثه هذه البغضاء من العدوان بأنواعه على المسلمين. 

ولا تدابروا يلقى هذا أخاه فيولّيه دبره، الأصل أن الإنسان حينما يلقى صاحبه يلقاه بالبِشر والطلاقة  بوجهه، والتدابر هو أن يوليه دُبُره وظهره، بمعنى أنه يهجُر أخاه، ويُعرِض عنه، فهذا لا يجوز، هذا حرام. 

ولا يبع بعضكم على بيع بعض وهذا فقط؟ لا، وكونوا عباد الله إخوانًاقد يقول: أنا ما أبيع على بيعه، ولا أسوم على سومه، وإذا لقيته لن أوليه ظهري سأسلّم عليه، لا، ما يكفي، وكونوا عباد الله إخوانًاتكون الأخوة الإيمانية قائمة وثابتة.  

ثم قال: المسلم أخو المسلم لا يظلمه وهذا الظلم قد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب بسوء الظن، وقد يكون بالجوارح، وقد يكون بالنظر إليه بعين الاحتقار، بالبهتان، بما يكتب عنه، بما يرميه به من الألقاب القبيحة التي لا يرضاها، أو نسبته إلى ما لا يرضى بالانتساب إليه، هذا كله من الظلم.  

بخس الناس، إذا اختلفنا مع شخص قبل مدة كان من أعلم أهل الأرض عندنا بمجرد ما اختلفنا معه صار هذا الإنسان ليس من العلم في قليل ولا كثير، ليس بشيء، ما عنده علم، جاهل، كيف تحول إلى جاهل بعدما اختلفنا وقبل ذلك كان من الفطاحل، العلماء، المحققين، العلّامة، البحر، الفهّامة، تحول إلى شيطان رجيم وجاهل، تبخّر العلم؟!.

قبل ذلك، هل كنا مبالغين في هذه الأحكام، ونقول كذبًا وزورًا، ونعطي الناس الألقاب التي لا يستحقونها، فنقول: فلان عالم وليس بعالم؟ فلان علّامة وليس بعلّامة؟ ثم حينما اختلفنا معه تحول إلى جاهل؟ ففي أي الحالتين كنا جاهلين أو ظالمين؟ أولًا أو آخرًا؟ كيف يتحول العلم ويتبخر العلم بعدما نختلف؟ هذا لا يجوز. 
والله نهانا أن نبخس الناس أشياءهم، ومن البخس البخس في مثل هذه الأحكام

وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ يعني: العداوة عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوااعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة:8] الذي يبخس الناس أشياءهم يدخل في التطفيف الذي توعّد الله أصحابه وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۝ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3].

يُطفِّف، يبخس الناس حقهم، وما يليق بهم من المراتب، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يَكذِبُه يكون صادقًا معه، ولا يحقره، التقوى هاهنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسْبِ امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلمبحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه، فلان جاهل، فلان كذا، فلان كذا، هذا كله من التحقير.

انظر إلى اللمز، والهمز والغمز الذي تجده على تلك الحسابات، وتلك الصفحات في مواقع ومدوّنات، انظر إلى التعليقات.  

هنا يقول النبي ﷺ: كل المسلم على المسلم حرام، دمه، وماله، وعِرضه[4] والحديث مخرج في صحيح مسلم. 

نسأل أحيانًا عن أشياء دقيقة في العلم، ونترك هذه الأشياء الواضحة، ولا نلقي لها بالًا. 

هذا الكلام كما قلت أوجهه لنفسي قبل أن أوجهه إلى من يستمع إليه، وإنما الدين النصيحة، ولو كان ما يتكلم إلا من كمّل نفسه، فمن يتكلم بعد النبي ﷺ؟!.

لكني أحتسب عند الله أن مثل هذا الحديث هو من أعظم ما يُتقرَّب به إلى الله في مثل هذه الأوقات، وينبغي أن نشيع الحديث في مثل هذه القضايا، إصلاح ذات البين، النهي عن الشر والتفرق والاختلاف والتشرذم، وقالة السوء، والعداوة بين المسلمين.

فهنا لا تباغضوايقول ابن رجب -رحمه الله: "نهيٌ عن التباغض في غير الله بل على أهواء النفوس".

المشكلة حينما يقول لك قائل: إن هذا التباغض في الله ولله، لكن على ماذا؟ على ماذا؟ اختلطت الأهواء بالآراء. 

قد يحصل هذا التباغض على أهواء النفوس، ويُلبّس بلَبوس الدين، وقد يكون ذلك بعيدًا عن أهواء النفوس وميلها ولكن مبناه على الجهل في أمور لا توجب هذا التباغض والتفرق كما سيأتي في الكلام على الأسباب -إن شاء الله تعالى.

فهنا على المسلمين أن يكونوا كما أمر الله إخوة، والإخوة يتحابّون فيما بينهم، ولا يتباغضون، والله يقول: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ[المائدة: 91].

وهكذا في النصوص التي قد مضى الكلام عليها، ولهذا حرّم الله علينا المشي بالنميمة لما فيها من إيقاع العداوة والبغضاء، وهي تشبه السحر تمامًا في إيحاش النفوس، وتغييرها وتنكُّرها لبعضها، والله المستعان.  

يقول ابن رجب -رحمه الله[5]: "لمّا كثُر اختلاف الناس في مسائل الدين، وكثُر تفرقهم، كثُر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يُظهر أنه يُبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورًا، وقد لا يكون معذورًا، بل يكون متبعًا لهواه مقصّرًا في البحث عن معرفة ما يُبغض عليه، فإن كثيرًا من البغض كذلك، إنما يقع لمخالفة متبوع يظن أنه لا يقول إلا الحق، وهذا الظن خطأ قطعًا".

يعني: هو خالف فلانًا، شيخنا يقول كذا، شيخنا يقول خلاف ذلك، شيخنا يرى غير هذا. 

وهل شيخك نبي مرسل؟! شيخك يخطئ كغيره من الناس، شيخك يقابله قول شيخ آخر، وإنما العبرة بقال الله قال رسوله، وما كل ما قال شيخك يطابق ما قاله الله ورسوله، فهو يخطئ ويصيب، وإن أخطأ فإن كان مجتهدًا فهو معذور يُغفر له خطؤه، وإن كان مصيبًا فله أجران.   

يقول: "وإن أُريد أنه لا يقول إلا الحق فيما خولف فيه فهذا الظن قد يخطئ ويصيب، وقد يكون الحامل على الميل مجرد الهوى والإلف أو العادة، وكل هذا يقدح في أن يكون هذا البغض لله، فالواجب على المؤمن أن ينصح نفسه ويتحرز في هذا غاية التحرز، وما أشكل منه فلا يُدخل نفسه فيه خشية أن يقع فيما نُهي عنه من البغض المحرم" هذا كلام ابن رجب -رحمه الله.

ثم يذكر أمرًا خفيًّا، وأنه يجب التفطُّن له "وهو أن كثيرًا من أئمة الدين قد يقول قولاً مرجوحاً، ويكون مجتهدًا فيه، مأجورًا على اجتهاده فيه، موضوعًا عنه خطؤه فيه، ولا يكون المنتصر لمقالته تلك بمنزلته في هذه الدرجة" يعني الذي ينتصر لمقالته ينتصر لها على سبيل مثلًا التعصُّب والحميّة، فلا يكون معذورًا وإنما يكون ذلك لهواه. 

وهكذا في النهي عن التدابر، وإنما قيل للإعراض تدابر؛ لأن من أبغضته فإنك تُعرِض عنه، ومن أعرضت عنه فقد وليته الدّبر، وكذلك هو يصنع، كما قال الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله. 

وفي بعض الروايات: سيصيب أمتي داء الأمم، قالوا: يا نبي الله، ما داء الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر والتنافس في الدنيا، والتباغض والتحاسد حتى يكون البغي، ثم الهرج[6]والهرج هو القتل.

يقع التباغض والتحاسد، ثم بعد ذلك -نسأل الله العافية- يكون البغي والعدوان على الناس فيكون الهرج. 

وفي بعض الألفاظ: والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تُسلموا، ولا تُسلموا حتى تحابّوا، وأفشوا السلام تحابوا، وإياكم والبغضة فإنها الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين[7]. تحلق الدين! 

في بعض الألفاظ: لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابواثم قالألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم[8].

وعن واثلة بن الأسقع عن النبي ﷺ قالكل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله، والتقوى هاهناوأومأ بيده إلى القلبوحسْب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم[9].

وفي الصحيحين من حديث ابن عمر - أن النبي ﷺ قالالمسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يُسلمه[10].

وفي لفظ: المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، وبحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم[11].

وفي حديث أنس في الصحيحين: لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا[12]"هذه من المُحكَمات.

وفي حديث ثوبان عند الإمام أحمد وغيره: لا تؤذوا عباد الله، ولا تُعيّروهم، ولا تطلبوا عوراتهم، فإن من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته[13].

وفي حديث أبي هريرة مرفوعًا:إنّ أحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقًامن هم؟، قال: المُوطَّئون أكنافًا الذين يألفون ويُؤلَفون[14] يألف ويُؤلف، ليس بهمّاز عيّاب قتّات، إذا جالسه جليسه لا يدري ما الذي يصل إليه منه من الأذى والشر والهمز والغمز واللمز.

هنا قال:  إن أحبكم إليّ أحاسنكم أخلاقًا المُوطَّئون أكنافًا الذين يألفون ويُؤلَفون، وإن أبغضكم إليّ المشّاءون بالنميمة، المُفرِّقون بين الأحبة الملتمسون للبرآء العيب[15]، هذه كلها أحاديث ثابتة.

وفي حديث عبد الرحمن بن غنم يبلغ به النبي ﷺخيار عباد الله الذين إذا رُءُوا ذُكِر الله، وشرار عباد الله المشّاءون بالنميمة، المفرِّقون بين الأحبة الباغون للبرآء  العنت[16].

يبحثون عن العيوب، يبحثون عن النقائص، يبحثون عن الزلات، فهي عندهم فضائح يُبشِّرون بها الناس.

أين نحن من هذا؟، عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- في أيام خلافته جاءه رجل ونصحه بنصيحة جاء فيها "اجعل كبير المسلمين عندك أبًا" هذه نصيحة نوجهها أيضًا إلى أنفسنا، "اجعل كبير المسلمين عندك أبًا، وصغيرهم ابنًا، وأوسطهم أخًا، فأي أولئك تحب أن تُسيء إليه؟"[17]ضع نفسك مكان هؤلاء.  

وفي كلام يحيى بن معاذ الرازي: "ليكن حظ المؤمن منك ثلاثة؛ إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغُمّهُ، وإن لم تمدحه فلا تذُمه"[18].

كف الأذى صدقة، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ.

المقصود أن هذه النصوص استخلص منها العلماء -رحمهم الله- أن الجماعة والأُلفة أصل من أصول الدين يُضحّى في سبيله بالفروع حينما نختلف عليها.

يقول شيخ الإسلام –رحمه الله: الاعتصام بالجماعة والأُلفة أصل من أصول الدين، والفرع المُتنازَع من الفروع الخفيّة، فكيف يُقدح في الأصل بحفظ الفرع؟[19].

نبي الله هارون لمّا خلّفه موسى  في بني إسرائيل، وذهب إلى ميقات ربه فعبدوا العجل، فرجع غاضبًا، وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه ماذا قال هارون معتذرًا بعد أن سأله موسى: يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ۝ أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 92، 93].

قال: يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94].

قال له: وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف: 142]، قال: خشيت أن أتخذ قرارًا، أو موقفًا ينتج عنه انقسام، فيلحقني اللوم بعد ذلك وتقول: فرّقت بين بني إسرائيل. هذه قضية تُراعَى.

شيخ الإسلام له عبارة قريبة أيضًا مما سبق يقول: "وهذا الأصل العظيم، وهو الاعتصام بحبل الله جميعًا، وألا يتفرق الناس فيه هو من أعظم أصول الإسلام" يقول: "ومما عظُمت وصية الله تعالى به في كتابه، ومما عظُم ذمُّه لمن تركه من أهل الكتاب وغيرهم، ومما عظمت به وصية النبي ﷺ في مواطن عامّة وخاصة".

لاحظ يقول: هذا الأصل العظيم هو من أعظم أصول الإسلام.

فهل أعطينا هذا الأصل حقّه؟ وهل راعينا هذا الجانب؟.

بحثتُ عن الأديانِ في الأرض كلِّها  وجبتُ بلادَ الله غربًا ومشرِقا
فلم أرَ كالإسلام أدعى لأُلـفـةٍ ولا مثـلَ أهْلِـيه أشـدَّ تفرُّقا

لللأسف! مع كثرة هذه النصوص إلا أن الانقسام والتفرق على أشُدِّه، على أشُدِّه فيما يوجب الانقسام والتفرق، وما لا يوجب ذلك.

حينما نستعرض التاريخ والخلافات التي وقعت نعرف الجواب عن ذلك.

بقي الوحي القرآن ينزل على النبي ﷺ ثلاثًا وعشرين سنة، أو عشرين سنة على الاختلاف في المدة التي بقيها النبي ﷺ بعد بعثته، والنبي ﷺ  يبلغ الدين للناس حتى أتم الله النعمة، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَام [المائدة: 3].

الصحابة كانوا يتلقّون المسائل العلمية والعملية بالإذعان والانقياد والتسليم؛ لأن ذلك هو القاعدة والأصل والأساس الذي ينبغي أن يكون عليه المؤمن، وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب: 36].

إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون [النور: 51].

فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا  [النساء: 65].

هذا هو شأن المؤمنين، ولا يصح بحال من الأحوال أن يوجد عند المؤمن تردد أو تخيُّر، أو أن يبقى في صدره حرج -مجرد الحرج- عن القبول والإذعان.

بقوا هكذا إلى وفاة النبي ﷺ واستمرت الحال على استقامةٍ وصلاحٍ إلى أواخر عهد عثمان - وعن أصحاب رسول الله ﷺ إلا من أظهر وِفاقًا وأضمر نفاقًا، فهؤلاء يُعاملون بحسب ما يُظهرون كما هو معلوم.

نعم، وقعت هناك مواقف لكنها عولجت في حينها، وقُضي على دابر الشر في وقتها، وأنا دائمًا أتأمل هذا أقول: لو كان هذا في زماننا، في وقتنا، في أيامنا ما الذي يحصل؟ كيف ستكون النتائج؟.

خُذ على سبيل المثال في حديث الإفك الطويل، وفيه أن النبي ﷺ قام على المنبر، لاحظ في وقت كرب وشدة، يُرمى أطهر عِرض، عِرض النبي ﷺ عِرض عائشة، عِرض أبي بكر.

قام على المنبر، فاستعذر من عبد الله بن أُبيّ بن سلول، قال وهو على المنبريا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عنه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي[20].

جاء في هذه الرواية أنه قام سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس، وهذا فيه إشكال؛ لأن سعد بن معاذ كان قد توفي قبل ذلك، استُشهد -كما هو معلوم- بعد أن حكم في بني قريظة.

وقد أُصيب يوم الأحزاب، فما أدرك هذا، لكن لعله قام بعض سادات الأوس، فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.

هنا أخذت الحميّة سعد بن عُبادة وهو سيد الخزرج.

تقول عائشة -ا: وكان رجلًا صالحًا. يعني: غير مُتّهم، نحن الآن لو حصلت مواقف انظر إلى التُّهم التي ستُوجّه، وما سيكون من مغبّة ذلك.   

تقول: وكان رجلًا صالحًا، لكن احتملته الحميّة. بينهم منافسات ومنافرات في الجاهلية، ومعلوم أن عبد الله بن أُبَيّ الذي تولى كِبر هذا الإفك كان من الخزرج، وأم حسان بن ثابت كانت من الخزرج.

فقال سعد -في الرواية- لسعد بن معاذ -لكن كما قلت- قال: لعَمر الله لا تقتله، ولا تقدِر على قتله، فقام  أُسيد بن حُضير وهو ابن عم سعد بن معاذ، فقال لسعد بن عُبادة: كذبت لعَمرُ الله لنقتُلنّه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين.

النبي ﷺ على المنبر، فتثاور الحيّان -الأوس والخزرج- حتى همّوا أن يقتتلوا، الموقف ما يحتمل.

النبي ﷺ يريد أن يؤدب هذا المنافق، ثم تتحول القضية إلى مشكلة بين الأوس والخزرج، حتى همّ هؤلاء أن يقتتلوا، ورسول الله ﷺ قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله ﷺ يُخفّضهم حتى سكتوا وسكت رسول الله ﷺ، تقول عائشة: وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي.

لاحظ كيف تحولت القضية، لو كان في مثل أيامنا هذه ما الذي يحصل؟، نسأل الله العافية، نسأل الله العافية.  

هناك موقف آخر، وهو أن شأس بن قيس، وكان شيخًا عظيم الكفر، شديد الضَّغَن على المسلمين، شديد الحسد لهم.

مر على نفر من أصحاب النبي ﷺ من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه على المحبة وبينهم الألفة، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجَمَعَتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية.

فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيلة بهذه البلاد -يعني الأنصار، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتىً شابًّا من يهود كان معهم، فقال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بُعاث.  

لاحظ يوم بُعاث هذا يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظَّفَر فيه يومئذ للأوس على الخزرج، وكان القائد -قائد الأوس- هو حُضير بن سِماك الأشهلي، حضير الكتائب، لقب لشدة شجاعته وقوته وبأسه، والد أُسيد بن حُضير هو سيدهم، وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البَياضي، فقُتل حُضير، وقُتل عمرو بن النعمان في هذه المعركة التي انتصر فيها الأوس.

فجاء هذا اليهودي، وبدأ يردد بعض الأشعار في المجلس التي قالها الفريقان في يوم بُعاث، فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا.  

حضرت الآن الحمية حتى تواثب رجلان من الحيين على الرُّكب، كل واحد جثا على ركبته، أوس بن قَيظي من الأوس، وجبّار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جَذَعة -نسأل الله العافية- يعني الحرب- تقولون فعلنا وفعلنا؟.

فغضب الفريقان جميعًا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة، السلاحَ السلاحَ -أعوذ بالله- الظاهرة يعني الحَرّة، تواعدوا للقتال هناك، فخرجوا إليها، فبلغ ذلك النبي ﷺ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم، فقال: يا معشر المسلمين، اللهَ اللهَ أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية واستنقذكم به من الكفر وألّف به بين قلوبكم؟[21].

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيد من عدوّهم فبكوا وعانق بعضهم بعضًا، عانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله ﷺ سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس.

هذا موقف وُئد، لكن لو كان هذا في عصرنا الذي نعيشه، ماذا يمكن أن يقع لاسيما حينما نستصحب الحال التي صرنا إليها، وهي حال خطيرة، إن القامات تُدمّر وتُكسَّر، ما يوجد كبير، والمِعْوَل الكبير في هذا -نسأل الله العافية- هي هذه الوسائل الجديدة في الإعلام واتس اب، تويتر، وغير ذلك من المواقع والمدونات، وما يجِدّ، تُدمّر القامات، هذا الذي كان الناس يتمنون أنهم يرونه، ويجلسون إليه من أهل العلم والفضل والصلاح، يقال عنه -نسأل الله العافية- ما كنا نظن أن نعيش حتى نسمع مثل هذا الكلام.  

يقال: أبو جهل؟! أبو جهل؟!! هذا الرجل الذي شهدت له الأمة بالصلاح، والإصلاح والاستقامة والعلم والدين المتين يقال عنه هذا؟!

إذا كان هذا بهذه المثابة فماذا يقال عمن دونه من الأخيار، طلاب العلم، الدعاة إلى الله ؟!، ماذا يُنشر؟ ماذا يقال عنهم من مقاطع صوتية وأشياء مكتوبة وتغريدات وغير ذلك؟. فما يبقى كبير.

أحقر واحد وأصغر واحد ممن لا علم، ولا عمل ولا عقل، ولا رأي ولا أدب، ولا خُلُق يتكلم في قامات، يتكلم في أهل الخير والعلم والفضل والصلاح!.

والله ما ندري أحيانًا، والله ما ندري الكاتب هذا هو يهودي، هو نصراني، هو منافق، هو أحمق! ما تدري! وضعَ لقبًا، أو بيضة أو "أبو فلان الفلاني" "أبو شاس" أو "أبو هِزبر" أو "أبو فلان"، ويتكلم ويطعن الطعون العظيمة.  

أُطْلعت على حساب لأحد الأشخاص، اسم أول مرة أسمع به ما كنت أظن أن أحدًا من أهل الإيمان يكتب هذا الكلام أبدًا! قلت: أعداء الإسلام يكتبون مثل هذه القضايا للإيقاع بين المسلمين.

ثم فوجئت أن الاسم حقيقي، يتكلم في قضايا كِبار، هل يُعقل هذا؟ اسم حقيقي، ويتكلم بهذه الطريقة!، لا يكاد يُذكر أحد إلا وكفّره من الأخيار والصلحاء، والرمي بالعظائم والضلال، ونحو ذلك.

هل يُعقل هذا؟!.

فحينما تُكسّر هذه القامات الناس يرجعون إلى من؟ لمّا تحصل قضية مثل هذه النبي ﷺ موجود.

بعد النبي ﷺ -كما سترون- يوجد أبو بكر، عمر، أمثال هؤلاء ينهون هذه القضية في ساعتها، لكن الآن يأتي من؟ الكل متهم، هذا الطرف يُلغي الطرف الآخر تمامًا، أو يلغي كل من خالفه من الأطراف ومن الرءوس، ومن العلماء والأخيار والصلحاء والدعاة إلى الله ومن لهم قدم صدق في أي ميدان من ميادين الصلاح والإصلاح والخير والبر والمعروف.

وصلنا إلى حال لا أدري هل هي مقصودة، أو غير مقصودة، هل نحن نعي ما نفعل أو لا نعي نتصرف بدون وعي، حينما نهدم كل هذا البناء والأساس والأصل، ثم بعد ذلك ما يبقى عند الناس من يرجعون إليه؟.

ما الذي يحصل؟ لا يبقى فيها إلا غراب -نسأل الله العافية- ينعِب وينعق، لا يبقى إلا:

مشائيمُ ليسوا مُصلحين عشيرةً ولا ناعبٍ إلا بِبيْنٍ غرابُها

نصير إلى حال لا يوجد أحد يُرجع إليه، ولا يُقبل كلامه، مجرد ما يكتب كلمتين نصيحة أو توجيهًا أو عظة إلا كذا .. يُرشَق عن قوسٍ واحدة بالسب والشتم والقبائح، هذا يُعقل؟ الناس يرجعون إلى من؟ الناس كانوا يرجعون إلى علمائهم، لكن حينما نُسقط هؤلاء العلماء من يقود الناس غير الجُهّال؟ والجاهل لا يمكن أن يقود نفسه، الأعمى لا يمكن أن يقود الناس، وإلا فإنه سيقودهم إلى حتوفهم ولابد.  

خذ هذا الموقف الآخر الذي يذكره جابر بن عبد الله في غزوة المصطلق.

يقول: كنا مع النبي ﷺ في غزاة فكسع رجلٌ من المهاجرين رجلاً من الأنصار، كسعه: يعني: أن هذا الرجل كان فيه دُعابة ومرح، كسعه بمعنى أنه ضربه بظهر قدمه على مؤخرته، هذا يُقال له كسع.   

والعرب تكره أشياء منها هذا، ومنها الضرب على القفا:

وكنتُ أُرَى زيدًا كما قيل سيِّدًا  إذا أنه عبدُ القَفا واللَّهَازِمِ

هذه أشياء تكرهها العرب، الضرب من القفا، أو الكسع بهذه الطريقة، فهذا الرجل عنده دُعابة وضحك ومزاح كثير فكسعه، وفي بعض الروايات أنهم استبقوا إلى الماء في غزوة المصطلق، فهذا الذي هو من موالي المهاجرين من غِفار، وهو مولى لعمر بن الخطاب لطم هذا الرجل الذي هو من موالي الأنصار من جُهينة، وهو مولى لأبيّ بن كعب، لطمه على وجهه. فماذا حصل؟

قال الأنصاري -أو هذا المولى للأنصار: يا لَلأنصار، وقال المهاجري: يا لَلمهاجرين، فماذا قال النبي ﷺ؟، قال: ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة[22]يمكن هنا أن تحصل قضية، تحصل مشكلة، تحصل حرب.   

فقال النبي ﷺ: ما بال دعوى الجاهلية؟، ماذا قالوا؟ هذا قال: يا معشر المهاجرين، وهذا قال: يا معشر الأنصار.

أسماء شرعية ذكرها الله في القرآن وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ [التوبة:100] لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8].

وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر: 9] فنعلم أن المهاجرين والأنصار أسماء شرعية، يحبها الله لكن لما استُعملت على سبيل العصبيّة والحميّة كان ذلك من دعوى الجاهلية.

بمعنى أننا حينما نستعمل الأسماء الشرعية أيضًا على سبيل العصبية والحمية فإن هذا يكون من دعوى الجاهلية.

إذا كان استعمال هذا الاسم يكون سببًا للحمية والتعصب والبغي والظلم فإنه لا يجوز، ويكون ذلك من قبيل دعوى الجاهلية.

ولذلك قد ننتسب أحيانًا إلى بعض الأسماء الصحيحة، لكن نستعمل ذلك على وجه الحمية والعصبية، فنكون بذلك قد أسأنا إلى هذا الاسم الذي ننتسب إليه كثيرًا.

وكما قلت: ليست العِبرة بما ندّعيه، ولكن العبرة بما نحن عليه من العمل والحال والتقوى والإيمان والصلاح والإصلاح، العبرة بهذا.

وإلا فباب الدعوى واسع، قد تجد الرجل من أكثر الناس تحذيرًا من التحزّب -وينبغي أن يُحذَّر من التحزب، التحزب لا يجوز حرام، ولكنك تجده من أكثر الناس انغماسًا فيه، هذا الذي يحذر الناس من خالفه لا يرقب فيه إلًّا ولا ذمة، ولا يرى له حُرمة ولا حقًّا من حقوق المسلمين، ويستحل عرضه، بل لربما يستحل دمه!.

لربما يحارب بعضنا التعصب أو التقليد، ولكن إذا نظرت تجد أنه منغمساً في التقليد والتعصب إلى النخاع.

هو يتعصب لشيخه الذي يقرأ كتبه وينشرها ويذيعها، وعند نفسه أنه مُتّبع.

الذي يقلد الإمام أحمد، أو يقرأ كتب الإمام أحمد، أو الروايات عن الإمام أحمد، الإمام أحمد عالم بالحديث وعالم بالسنة، وعالم بالعقيدة، وعالم بالفقه، وعالم بالتفسير، والقرآن وغير ذلك، إمام من أئمة المسلمين، الشافعي، مالك، هذا مُقلّد وأنت غير مقلد؟!.

فتجد الجمع من الناس صبّة واحدة في هيئتهم وعملهم وصلاتهم وحركاتهم في الصلاة، كل هؤلاء درسوا كل قضية من هذه القضايا، وكل جزئية من هذه الجزئيات على حِدة وخرجوا بنفس النتيجة؟! هذا لا يمكن! غاية ما هنالك أنهم قرءوا كتب هذا العالِم الإمام وتأثروا بها، وصاروا يُطبّقون ما فيها بحذافيره، وقد يخالفه علماء آخرون، فصار هؤلاء بهذا الاعتبار مقلدين له شاءوا أم أبوا، هذا الواقع، فإذا حصل مع هذا تعصب ووَحشة ممن لا يوافقهم فهذا هو التحزُّب.

الحزب ما هو في كلام أهل اللغة؟ الفروق اللغوية للعسكري، وما تجدونه في بعض كتب اللغة، وكتب التفسير في قوله: كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون: 53] مثلاً، الأحزاب، سورة الأحزاب ونحو ذلك: جماعة فيها غِلَظ

جماعة فيها غِلَظ، بمعني: ناس يجتمعون لبعضهم ويتناصرون فيما بينهم مع من يوافقهم، ومن لا يوافقهم يستوحشون منه، ينقبضون منه، لهم لربما مواقف سلبية تجاهه، هذا هو الحزب.

هؤلاء لهم شيوخهم، يعني في الاصطلاح المعاصر: قيادة وأتباع، هذا في الاصطلاح المعاصر، فقد يكون الإنسان ممن يحارب ذلك.   

نحن نقول: التحزُّب لا يجوز، ولا يجوز للإنسان أن ينتسب إلى غير الأسماء الشرعية، أنا مسلم وكفى.

أنا من أهل السنة والجماعة وكفى، لكن قد يكون الواقع على خلاف ذلك، بمعنى أن الإنسان تجد أنه لربما يوالي من يوافقه في الاجتهادات، أو في محبة شيخه ومتبوعه، ويستوحش ممن خالفه.

هذا الصنيع هو التحزُّب، ماله معنى غير هذا.

حاربتَ التحزب، أو دعوت إليه، أقررته، أجزته، ينبغي أن تعرف هذا القدر فقط، هذا القدر ينبغي أن يُعرف. حتى يعرف الإنسان موطِئ قدميه، فقد يملأ الدنيا كلامًا في التحذير من التحزب وهو واقع فيه! قد يملأ الدنيا نهيًا عن التقليد والتعصب، وما إلى ذلك، وهو منغمس فيه وهو لا يشعر، هو لا يشعر ويظن أن الآخرين هم الذين يقعون في التعصب والبلاء والتحزب والمشاكل هذه، وهو يقع فيه!.  

فنحتاج أن نفتش عن أنفسنا، أن نراجع أنفسنا، أن نكون متجردين لرب العالمين، لا نلتفت إلى شيء آخر، يكون الحق هو رائد الإنسان.

هناك أيضًا إثارة بعض القضايا في زمن النبي ﷺ وُجدت، هناك من الصحابة من حصل بينهم حوار ونقاش في القدَر، غضب النبي ﷺ ونهاهم.

كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ﷺ خرج وهم يتنازعون في القدَر، هذا ينزِع آية وهذا ينزِع آية، فكأنما فُقئ في وجهه حب الرمان، فقال: بهذا أُمرتم -أو بهذا وُكلتم- أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟، انظروا إلى ما أُمِرتم به فاتبعوه، وما نُهيتم عنه فاجتنبوه[23].

دعوا عنكم هذا الخوض، قطع هذا الطريق.

لكن هذا لو وقع لبعض المتأخرين كما سترون -إن شاء الله تعالى- في التاريخ عجائب وغرائب كلمة تقال تتحول الطائفة إلى طائفتين.

أشياء ما تدري هي محزنة، مضحكة، ناس هذه عقولهم؟

وهكذا بعد وفاة النبي ﷺ، وعند وفاته في مرضه أيضًا الصحابة اختلفوا في بعض الأشياء، لكن لم يورث ذلك التفرق.

أترك الكلام في هذه القضية -إن شاء الله تعالى- إلى الليلة الآتية، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/ 664)، رقم: (2510)، وأحمد (3/ 29)، رقم: (1412).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ (4/663)، رقم: (2508).
  3. انظر: حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (7/61).
  4. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله (4/ 1986)، رقم: (2564).
  5. انظر: جامع العلوم والحكم (3/ 979).
  6. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (9/ 23)، رقم: (9016).
  7. أخرجه البخاري في الأدب المفرد (ص:100)، رقم: (260).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، وأن محبة المؤمنين من الإيمان، وأن إفشاء السلام سبب لحصولها (1/ 74)، رقم: (54).
  9. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله (4/ 1986)، رقم: (2564).
  10. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب: لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه (3/ 128)، رقم: (2442)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (4/ 1996)، رقم: (2580).
  11. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم ظلم المسلم، وخذله، واحتقاره ودمه، وعرضه، وماله (4/ 1986)، رقم: (2564).
  12. أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر (8/19)، رقم: (6065)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن التحاسد والتباغض والتدابر (4/1983)، رقم: (2559).
  13. أخرجه أحمد (37/88)، رقم: (22402).
  14. أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط (7/ 350)، رقم: (7697).
  15. أخرجه الطبراني في الأوسط (7697)، والخطيب في تاريخ بغداد (5/ 263)، وابن عدي في الكامل (4/ 63)، وابن بشران في الأمالي (2/ 44)، وابن أبي الدنيا في الصمت (ص154).
  16.  أخرجه أحمد (29/ 521)، رقم: (17998).
  17. انظر: جامع العلوم والحكم (3/ 1000)، وسير أعلام النبلاء (8/ 429).
  18. انظر: جامع العلوم والحكم (3/ 1000).
  19. انظر: مجموع الفتاوى (22/ 254).
  20. أخرجه البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضًا (3/ 173)، رقم: (2661)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (4/ 2129)، رقم: (2770).
  21. تفسير الطبري (6/ 55- 56).
  22. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [المنافقون:6] (6/ 154)، رقم: (4905)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا (4/ 1998)، رقم: (2584).
  23. أخرجه أحمد (11/ 250)، رقم: (6668)، والترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في التشديد في الخوض في القدر (4/443)، رقم: (2133).

مواد ذات صلة