الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
أهم الكتب - الوحي
تاريخ النشر: ٢٧ / ذو القعدة / ١٤٢٣
التحميل: 1848
مرات الإستماع: 1692

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فكنا نستعرض سابقًا بعض المؤلفات في علوم القرآن، وتوقفنا عند القرن العاشر للهجرة، وقلنا: إن السيوطي -رحمه الله- المتوفى سنة 911 هـ، ألّف كتابين مشهورين في هذا الفن، الكتاب الأول هو كتاب: التحبير في علوم التفسير، وهذا الكتاب طبع في مجلد، ويحتوي على اثنين ومائة من الأنواع، وأما الكتاب الثاني وهو أوسع منه بكثير فهو كتابه: الإتقان في علوم القرآن، وهذا الكتاب حسب ما أعرفه وحسب ما بلغنا من المؤلفات في هذا الفن يعد أوسع المؤلفات، وهو: خزانة هذا العلم حقيقة، وتجد فيه ما تفرق عن غيره، وأستطيع أن أقول: إن المؤلفات في هذا الفن أهمها وأجلها وأعظمها كتابان:

الكتاب الأول: هو كتاب: البرهان للزركشي، الذي سبق ذكره، ويحتوي على سبعة وأربعين نوعًا.

والكتاب الثاني: هو كتاب: الإتقان للسيوطي، ويحتوى على ثمانين نوعًا.

وأما ما ذكره السيوطي في كتابه: التحبير من الأنواع التي زادت على المائة فإنما ذلك يرجع إلى أنه مولع بالتشقيق، فهو يشقق الموضوعات، فيجعل الموضوع الواحد موضوعات شتى، وهذا أمر فني لا يؤثر في مضمون الكتاب، فكثرة هذه الموضوعات التي ذكرها بحسب العناوين لا تدل على أن كتاب التحبير أوسع من كتاب الإتقان، بل إن كتاب الإتقان أوسع وأعظم وأنفع وأجل، ولا مقارنة بينه وبين كتاب التحبير.

وحقيقة الأمر: أن السيوطي -رحمه الله، مع أنه ذكر في مقدمة الكتاب جملة من الكتب التي وقف عليها، وذكر أنها صغيرة، وأنها لا تفي، لم يذكر معها كتاب البرهان، ثم ذكر بعد ذلك أنه وقف عليه بعدما فرغ من تأليف كتابه الإتقان[1]، فنحن نقول بأنه -رحمه الله- بعدما فرغ من كتابه الإتقان، ووجد كتاب البرهان، أعاد الكرة ثانية، فأخذ كتاب البرهان وضمنه في كتابه الإتقان، فكتاب البرهان في علوم القرآن للزركشي هو في الواقع في بطن كتاب الإتقان، ومن أراد أن يحصِّل مرجعًا موسوعيًّا واحدًا فعليه بكتاب الإتقان، وليس بحاجة إن كان من غير أهل الاختصاص إلى كتاب البرهان؛ لأنه في الواقع مضمن في كتاب الإتقان، فالسيوطي جمع ما في البرهان وزاد عليه.

وهذه الموضوعات الكثيرة التي بلغ بها ثمانين نوعًا يمكن أن تختزل في نصف هذا العدد تقريبًا، كما فعل الزركشي -رحمه الله- حيث جعل كتابه في سبعة وأربعين نوعًا، وإذا أردت أن تعرف حقيقة ذلك فهو مثلا: يذكر في النوع الأول: معرفة المكي والمدني، وفي الثاني: معرفة الحضري والسفري، وفي الثالث: النهاري والليلي، وفي الرابع: الصيفي والشتائي، والخامس: الفراشي والنومي، والسادس: الأرضي والسمائي، والسابع: معرفة أول ما نزل، والثامن: معرفة آخر ما نزل[2]، مع أن هذه الموضوعات كما ترون يمكن أن يُدمج بعضها في بعض تحت عنوان متقارب، فيمكن أن نقول: معرفة أول ما نزل وآخر ما نزل في نوع واحد، فهو يجعل أول ما نزل في نوع، وآخر ما نزل في نوع آخر، وهكذا يقول: النوع التاسع: معرفة سبب النزول، العاشر: فيما أنزل من القرآن على لسان بعض الصحابة، النوع الحادي عشر: ما تكرر نزوله، النوع الثاني عشر: ما تأخر حكمه عن نزوله، وما تأخر نزوله عن حكمه، النوع الثالث عشر: ما نزل مفرقًا، وما نزل جمعًا، الرابع عشر: ما نزل مشيعًا، وما نزل مفردًا، الخامس عشر: ما أنزل منه على بعض الأنبياء، وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي ﷺ، السادس عشر: في كيفية إنزاله، السابع عشر: في معرفة أسمائه، وأسماء سوره[3]، وأنا أذكر هذه لفائدة؛ لتتصور كثرة الموضوعات التي تعالج في هذا الفن، وأنا أذكر أغلبها فيما أذكره في هذه المجالس، وإن لم أجعل لها عنوانًا خاصًّا.

الحاصل: أنه ذكر على هذه الطريقة، إلى أن قال مثلا: النوع الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والسابع والعشرون: معرفة المتواتر، والمشهور، والآحاد، والشاذ، والموضوع، والمدرج[4]، فجعل كل نوع من هذه الأنواع، جعله نوعًا مستقلا قائمًا بذاته، مع أن هذه جميعًا يمكن أن تجعل تحت نوع واحد، وهكذا، فهذا كتاب الإتقان للسيوطي، وهذا الكتاب يصلح مرجعًا لهذا العلم، وجمع فيه السيوطي ما هب ودب ودرج، فجمع فيه بين الغث والسمين، ففيه أمور قيمة نافعة مفيدة، وفيه أمور لا تصلح من العقائد الفاسدة، ومن الأقوال الساقطة، وفيه من الروايات الشيء الكثير، من الروايات الصحيحة، والروايات الضعيفة، بل والروايات الموضوعة، بل فيه بعض الأخبار الإسرائيلية، فهذا الكتاب هو كتاب موسوعي، يجمع الغث والسمين، لم ينقحه، والكتاب بحاجة إلى تهذيب، وقد اختصره بعض طلبة العلم، ولكن هذا الاختصار لا يحصل به المقصود في ظني، والله تعالى أعلم.

وجاء بعد السيوطي -رحمه الله- شمس الدين الحنفي، المعروف بابن عقيلة، المتوفى سنة 1150 هـ، فألّف كتابًا سماه: الزيادة والإحسان في علوم القرآن، وهذا الكتاب أيضًا مختصر لكتاب الإتقان للسيوطي.

ثم بعد ذلك حصل للتأليف شيء من الضعف والفتور، أو ما يشبه الانقطاع، ثم بعد ذلك في هذا العصر الحديث جاءت كثير من المؤلفات التي منها: كتاب التبيان في علوم القرآن للشيخ طاهر الجزائري، المتوفى سنة 1268 هـ، وكتاب منهج الفرقان في علوم القرآن للشيخ محمد سلامة، المتوفى سنة 1362 هـ، وكذلك الزرقاني في كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن، وهو من أجل هذه الكتب، ومن أنفعها، وقد اقتصر فيه على الأنواع المهمة في هذا العلم، إلا أنه أدخل فيه شيئًا كثيرًا من المباحث الكلامية، والعقائد الأشعرية، وكذلك أيضًا حشا هذا الكتاب ببعض الأشياء المرجوحة، فهو بحاجة أيضًا إلى تنقيح وتحرير، وهناك كتب أخرى كثيرة تملأ المكتبات.

وهكذا نجد العلماء في كثير من الأحيان يذكرون مسائل هذا الفن في مقدمات كتبهم في التفسير، كما فعل جماعة، كابن جرير الطبري -رحمه الله، والراغب الأصفهاني، والأخير كتابه في التفسير غير موجود، ولكن وُجدت منه قطعة فيها المقدمات التي تتعلق بعلوم القرآن، وفيها تفسير سورة الفاتحة، وقد حققت، وهي مطبوعة ومفيدة ونافعة، وكذلك من المقدمات المفيدة: مقدمة القرطبي على تفسيره الجامع لأحكام القرآن، وكذلك ابن عطية في مقدمته لتفسيره المحرر الوجيز، وهكذا السيوطي الذي جعل كتاب الإتقان هذا الكتاب الكبير جعله مقدمة ومدخلا لتفسيره الكبير الذي شرع في تصنيفه وما أتمه، وسماه: مجمع البحرين ومطلع البدرين، قال عنه السيوطي -رحمه الله: "وقد جعلته -أي: الإتقان- مقدمة للتفسير الكبير الذي شرعت فيه، وسميته بمجمع البحرين ومطلع البدرين، الجامع لتحرير الرواية، وتقرير الدراية"[5]، فهذا الكتاب مقدمة لهذا التفسير، فلك أن تتصور ضخامة هذا التفسير لو أنه اكتمل، وهكذا القاسمي -رحمه الله- وضع مقدمة كبيرة لربما زادت على ثلاثمائة صفحة، جعلها مقدمة لكتابه محاسن التأويل، وجعل لها عنوانًا: مقدمات خطيرة، وفي الواقع هذه المقدمات مأخوذة من كلام الشاطبي -رحمه الله- في كتابه الموافقات، ومأخوذة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مثل كتابه الإكليل في المتشابه والتأويل، وكذلك في كتاب مقدمة أصول التفسير، وهكذا تلك المقدمة الحافلة الكبيرة النافعة التي هي من أجل المقدمات وأنفعها لكتاب هو من أجل كتب التفسير، وهو: كتاب أضواء البيان للعلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله تعالى، فهذه المقدمة من قرأها حصَّل علمًا وفيرًا، ومن أراد أن يعرف قدر هذا العالم، وقدر هذا الكتاب -أعني: أضواء البيان- فليقرأ مقدمته التي ذكر فيها ألوانًا من المسائل التي يحتاج إليها المفسر.

ومن خلال هذا الاستعراض نعرف أن التأليف في علوم القرآن بهذا المعنى الخاص الذي بيناه وعرفناه إنما جاء متأخرًا عن نظائره من التأليف في قواعد العلوم، كأصول الفقه الذي ألف فيه الإمام الشافعي -رحمه الله- كتاب الرسالة، وكعلوم الحديث التي ألف فيها مثل الرامهرمزي، وكذلك علوم العربية، والقراءات، وغير ذلك، فعلوم القرآن جاء التأليف فيها متأخرًا مقارنة بغيرها من العلوم، يقول السيوطي -رحمه الله: "ولقد كنت في زمان الطلب أتعجب من المتقدمين إذ لم يدونوا كتابًا في أنواع علوم القرآن، كما وضعوا ذلك بالنسبة إلى علم الحديث"

يقول السيوطي -رحمه الله: "ولقد كنت في زمان الطلب أتعجب من المتقدمين إذ لم يدونوا كتابًا في أنواع علوم القرآن، كما وضعوا ذلك بالنسبة إلى علم الحديث"[6]، يذكر ذلك تعليلا لتأليفه لكتاب الإتقان، وقال أيضًا في مقدمته لكتاب التحبير: "وإن مما أهمل المتقدمون تدوينه حتى تحلَّى في آخر الزمان بأحسن زينة: علم التفسير الذي هو كمصطلح الحديث"[7].

بعد ذلك نوجه سؤلا، وهو: ما هو الكتاب الذي أُلف أولًا في هذا العلم بالمعنى الذي ذكرناه؟، الجواب: الأحسن في مثل هذه المسألة أن نقول: إنه من الصعب أن نحكم بأن هذا الكتاب أو ذاك هو أول ما أُلف؛ لأن هذه المؤلفات التي وقفنا عليها التي من أولها كتاب: فنون الأفنان، هذه المؤلفات جاءت متأخرة، فمن الصعب أن نقول: هذا أول مؤلف في هذا الفن، لكن غاية ما نستطيع أن نقوله: هو أن هذا الكتاب مثلا أول ما وقفنا عليه من المؤلفات في هذا العلم، وهناك أقوال كثيرة جدًّا في أول من أَلف في هذا العلم، وهذه الأقوال كثيرٌ منها لا يصح، فبعضهم يقول: هو الزركشي[8]، وبعضهم يقول: أبو الحسن الأشعري في كتابه المختزن في علوم القرآن، وعرفتم أنه ليس من كتب هذا الفن، وبعضهم يقول: هو كتاب عجائب علوم القرآن المنسوب لابن المرزبان، وهذا الكتاب في الواقع هو كتاب فنون الأفنان، وقد اطلعت على نسخته الخطية، وهي موجودة في المكتبة البلدية في الأسكندرية، فإذا هو كتاب فنون الأفنان، وإن كان قد كتب عليه كتاب عجائب علوم القرآن لابن المرزبان، وهكذا كثير من الكتب التي سمعتم عنها تحت هذا العنوان والتي أُلفت قبل فنون الأفنان هي في الواقع كتب في التفسير.

وبعد هذا نكون قد انتهينا من هذه المقدمات، وأنتقل بعد ذلك إلى الموضوع الآخر، وهو: الكلام على الوحي، فإذا نظرت في كتاب من كتب المعاجم اللغوية التي تفسر هذه الكلمة -كلمة: الوحي- تجد أنهم يذكرون لها معانيَ كثيرة، يقولون: تأتي بمعنى الكتابة، ولا شك أنه معنى صحيح، ومنه قول رؤبة بن العجاج:

وَحَى لها القرارَ فاستقرتِ وشدَّها بالراسياتِ الثُّبَّتِ

يعني: أن الله وحى لها، أي: الأرض، ومعنى: وحى لها، أي: أنه ألهمها، أو أمرها، أو كتب لها القرار فاستقرت، كما قال الله يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:4-5]، وكذلك أوحى الله لها بأن تستقر، وتكون ثابتة.

وهكذا يذكرون من معانيه: الإشارة والرمز، وهو أيضًا معنى صحيح من معاني الوحي، كما قال الشاعر:

فأوحى إليها الطَّرْفُ أني أحبُّها فأثّر ذاك الوحيُ في وجناتها

يعني: أنه أشار إليها بعينه إشارة معينة، فهمت منه رسالة معينة، فظهرت الحمرة على وجناتها من الحياء، يقول:

فأوحى إليها الطَّرْفُ أني أحبُّها فأثّر ذاك الوحيُ في وجناتها

فهذا معنى صحيح، ومنه قول العرب في المثل المشهور: من لا يعرف الوحي أحمق، والمقصود به: من يتواحى الناسُ -أي: يتكلمون بينهم في أمر يتعلق به- وهو لا يفقه ولا يفهم تلك الرموز، من لا يعرف الوحي أحمق، فهذا بمعنى: الإشارة والرمز.

ومن معانيه التي يذكرونها في كتب اللغة: الإلهام، وهو أحد التفسيرات لقول رؤبة السابق:

وَحَى لها القرارَ فاستقرتِ وشدَّها بالراسياتِ الثُّبَّتِ

أي: ألهمها ذلك.

ومنه: الإعلام -أيضًا- في سرعة وخفاء، وأيضا من المعاني الأخرى: المكتوب، والبعث، كذلك الأمر، وبه فسر بعضهم قول رؤبة أيضًا:

وَحَى لها القرارَ فاستقرتِ وشدَّها بالراسياتِ الثُّبَّتِ

أي: أمرها بالقرار.

وكذلك: الإيماء، والتصويت شيئًا بعد شيء، وقيل: أصل الوحي: التفهيم، وكل ما دللت به من كلام، أو كتابة، أو رسالة، أو إشارة فهو وحي.

فلاحظوا هذه المعاني لربما بلغت اثني عشر معنى، وقد ذكرتها قصدًا، وهي موجودة في كتب اللغة، وذكرها الحافظ ابن حجر -رحمه الله- في كتابه الفتح[9]، وذكرتها قصدا؛ لأبين لكم قضية وفائدة ذكرتها سابقًا، وهي: أنه من أراد أن يرجع إلى أصل المعنى الذي تدور عليه المعاني الكثيرة فليرجع إلى كتاب يجمع له ما تشتت وتفرق منها، فيعيد ذلك إلى أصل واحد، فلو رجعنا في هذه المعاني التي زادت على العشر، لو رجعنا إلى كلام ابن فارس في كتابه مقاييس اللغة، فماذا نجد؟ نجد أنه يقول بكل وضوح: "الواو والحاء والحرف المعتل"، وحى، وحرف العلة هو: الألف المقصورة، "الواو والحاء والحرف المعتل أصل يدل على: إلقاء علم في إخفاء أو غيره إلى غيرك .."[10]، يعني: الإلقاء بخفية، أو الإلقاء من غير خفية إلى غيرك، إلى أن قال: ".. وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان، يعني: بخفية أو بغير خفية، وكل ما في باب الوحي فراجع إلى هذا الأصل الذي ذكرناه"[11].

والخلاصة: أن الوحي يدل على إلقاء علم بخفية أو غيرها، وأكثر ما يستعمل في كلام العرب في الإلقاء السريع الخفي، فهذا معناه في كلام العرب.

وأما في كتاب الله فقد جاءت هذه اللفظة بمختلف الاستعمالات في اثنين وتسعين موضعًا، ولو أردنا أن نفرق هذه المواضع، ونجمع المتماثلات مع بعضها، وننظر في المعنى الذي دلت عليه في كل موضع، فإننا نجد أنها تدور على نحو عشرة معانٍ في كتاب الله :

فهذه الكلمة في كتاب الله ، أطلقت وأريد بها: الوحي بالمعنى الخاص، وحينما نقول: الوحي بالمعنى الخاص فهو الوحي إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وذلك في مواضع كثيرة من كتاب الله -تبارك وتعالى، كما قال الله إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، وكما قال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الشورى:13]، وكقوله: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وكقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ [يوسف:3]، وكقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، وكقوله: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا [الشورى:7]، وكذلك: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:73]، فهذه الآيات التي قرأنا وغيرها كثير، منها: ما يصرح الله فيها بالوحي إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، ومنها: ما يصرح فيها بأنه أوحى إلى النبي ﷺ، وكل ذلك من الوحي بالمعنى الخاص.

والمعنى الثاني، أو الاستعمال الثاني الذي ورد في القرآن، وهو: الوحي إلى بعض الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قبل النبوة، وهل هذا من الوحي بالمعنى الخاص؟، لا، ليس من الوحي بالمعنى الخاص؛ لأنه قبل النبوة، فهو كالإيحاء لغيرهم، وإنما هو وحي ببعض المسائل، وليس من جنس وحي البلاغ، مثاله: قول الله عن يوسف فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يوسف:15]، أوحى الله إليه ذلك، وهو غلام صغير، ولم يكن نبيًّا في ذلك الوقت؛ لأن الله آتاه النبوة بعد ذلك، كما قال الله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا [القصص:14]، فهذا الوحي الذي حصل ليوسف ﷺ في ذلك الحين يمكن أن يقال: إن الله  أنزل اليه ملكًا يثبته في وقت الشدة، ويمكن أن يقال: إن الله ألهمه ذلك، ألهمه بأن هذه المحنة ستنجلي، وأن الله سيرفعه بعد ذلك على إخوته، كما قال الله بعد ذلك: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76]، فهذا ليس من الوحي بالمعنى الخاص، ويمكن أن يلحق بذلك ما ذكر الله عن يحيى ، أنه قال في حقه: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12]، والحكم يمكن أن يفسر بسياسة الملك، ومعلوم أن يحيى لم يلِ ملكا، بل قُتل واستضعف، فإذن: يمكن أن نفسر الحكم الذي أُعطيه يحيى وهو صبي بأنه الحكمة، ويمكن أن يلحق بذلك أيضًا قول الله أيضًا عن عيسى وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:46] يعني: وفي كهولته، وعيسى أخبر الله عنه: أنه تكلم فعلا في المهد، فقال تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ۝ وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ [مريم:30-31]، مع أن عيسى لم يُنبَّأ إلا بعد ذلك، حينما بلغ الثلاثين، وهذا يكون من قبيل الإخبار بالماضي عن الأمر الذي يكون في المستقبل؛ لأنه متحقق الوقوع، فقال تعالى: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا، فعبر بالماضي لتحقق ذلك؛ لأنه سيتحقق في المستقبل، كما قال الله أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1]، مع أن الساعة لم تأتِ بعد، لكن لما كانت متحققة الوقوع عبر عنها بذلك، ثم قال عيسى وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:31]، ومعلوم أن عيسى ويوسف قبله -عليهما السلام- لم يُنبَّأا في ذلك الحين، وإنما نُبِّئا بعد ذلك، فإذن: هذا وحي إلى بعض الأنبياء في بعض الأمور الخاصة قبل النبوة.

والمعنى الثالث، أو الاستعمال الثالث الذي ورد في كتاب الله لكلمة الوحي، وهو الوحي إلى بعض أمهات الأنبياء -عليهم السلام، وهذا الوحي ليس بكتاب، ولا رسالة، إذن: ليس هو من الوحي بالمعنى الخاص، وحينما أذكر هذه الأشياء أذكرها؛ لأنها تفيد طالب العلم، فتنحل عنه بعض الإشكالات في التفسير، فمن ذلك: أن الله أوحى إلى أم موسى، فقال: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، وليست نبية، وكذلك مريم رحمها الله، قال الله عنها: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم: 17]، أرسل لها جبريل، وليست نبية، فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا ۝ قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا ۝ قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [مريم: 17-19]، فكلمها جبريل .

والاستعمال الرابع وهو بمعنى: الإشارة والرمز، وذلك في قوله -تبارك وتعالى- عن زكريا حينما قال: رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، بمعنى: أنك لا تستطيع الكلام ثلاث ليال من غير علة، ولا عاهة، ولا مرض، لا تستطيع الكلام، يحبس لسانه عن الكلام من غير اعتلال، هذه علامة ذلك، أنه سيرزق بالولد، وكذلك قال قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا [آل عمران:41]، وهذا هو الشاهد، وقال الله عقب الآية الأولى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11]، فمعنى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ، أي: رمز إليهم، ويفسر ذلك الآية الأخرى، فقوله: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ يفسرها: قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا، فخرج عليهم فرمز إليهم بهذا الرمز، وأشار إليهم بهذه الإشارة.

والاستعمال الخامس وهو التعبير بالوحي وإطلاق الوحي والمراد به: الوحي إلى الملائكة -عليهم السلام، وهو نوعان:

الأول: وحي تبليغي، أي: أن الله يأمرهم فيه بالبلاغ.

والثاني: وحي تكليفي، أي: أن الله يوحي إليهم؛ ليكلفهم ببعض التكاليف.

فمن الأول وهو الوحي التبليغي: قوله -تبارك وتعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75] أي: يصطفي رسلا فيرسلهم إلى الرسل والأنبياء من البشر، يبلغون رسالات الله ، ومن التبليغي أيضا: قوله -تبارك وتعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ [الشعراء:193]، وهو جبريل ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ [الشعراء:194]، ومنه أيضًا: قوله -تبارك وتعالى- عن جبريل -فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10] أي: أوحى جبريل إلى النبي ﷺ، وكذلك قوله -تبارك وتعالى: يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [النحل:2]، فينزلهم بالروح يعني: بالوحي، وسمى الله الوحي: روحًا؛ لأنه به حياة القلوب، ومن الوحي التبليغي: قوله -تبارك وتعالى: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ۝ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:4-5]، وهو جبريل .

وأما الوحي التكليفي فكما في قوله -تبارك وتعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ [الأنفال:12]، فهذا وحي تكليفي، فالله  يكلف الملائكة بتثبيت قلوب المؤمنين، وبضرب أعناق الكافرين، وتقطيع طرفهم، فلا يستطيعون حمل السلاح، وكذلك كما في قوله -تبارك وتعالى: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا [البقرة:34]، فهذا وحي تكليفي، وكذلك كما في قوله: عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ [التحريم:6] أي: ما كلفهم به.

والاستعمال السادس وهو الوحي إلى الحواريين، وهم خلاصة أصحاب عيسى  ، بعضهم يقول: هم اثنا عشر رجلا، وبعضهم يوصلهم إلى أكثر من ذلك، حيث يبلغون السبعين، ولا يثبت في ذلك شيء، ويمكن أن يجمع بين هذا وهذا، فيقال: لربما بلغوا السبعين، وصفوتهم وخلاصتهم ورءوسهم هم هؤلاء الاثنا عشر، فالله يقول: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:111]، فما معنى هذا الوحي إلى الحواريين؟ يمكن أن يقال: أوحى إليهم عن طريق عيسى ، أمر الله عيسى أن يبلغهم: أن الله يأمرهم بذلك، ويمكن أن يقال: إن الله ألهمهم ذلك، وقذف في قلوبهم صدق عيسى ، فآمنوا به.

والاستعمال السابع وهو الوحي الإلهامي التسخيري لبعض المخلوقات، وهو خاص وعام.

فالعام: يمكن أن يقال: إن كل ما في الوجود مسخر بأمر الله .

والخاص: ما ورد فيه أن الله -تبارك وتعالى- أوحى إلى بعض المخلوقات فيما أخبرنا، كما قال الله عن النحل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68]، فأوحى إلى النحل ما معناه؟ هل معنى ذلك: أنه أرسل إلى كل نحلة الملك؟ الجواب: لا، وإنما معنى ذلك -والله تعالى أعلم: أنه ألهمها، وغرس في فطرها هذا الأمر.

والاستعمال الثامن وهو نوع آخر من استعمالات الوحي، وهو الوحي التسخيري لبعض الجمادات، كقوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ۝ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ [فصلت:11-12]، هنا كلمها مباشرة، كما هو ظاهر هذه الآية: فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، وهذا من أنواع الوحي، ثم أيضًا قال الله في تمام هذه الآية: وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت: 12]، فيحتمل أن يكون: أوحى إليها ما يقوم به أمرها ونظامها، أو أنه أوحى إلى ملائكة كل سماء، أوحى إليهم بأوامره إليهم، فهذا محتمل، فيكون على تقدير، ويمكن أن يجمع بين المعنيين، فيقال: إن الله أوحى إلى كل سماء ما يقوم به نظامها، وما يقوم به أمرها، وأوحى أيضًا إلى ملائكة كل سماء بما شاء مما كلفهم به من التكاليف، وقال الله عن الأرض: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة: 4]، هذه الأرض تحدث أخبارها: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:5]، أي: تحدث أخبارها بسبب وحي الله لها، فالباء يمكن أن تكون: سببية، فقوله: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 4-5]، أي: تحدث أخبارها بسبب أن ربك أوحى لها، أو أنها تنطق بما أوحى الله إليها، فقوله: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ۝ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 4-5]، أي: بما أوحى الله إليها، فعلى الثاني: تكون محدِّثة بالموحى إليها، وعلى الأول: تتحدث بسبب أن الله أوحى إليها أن تتحدث، أي: أمرها أن تتحدث، فتخبر بما عُمِل عليها، وهذا هو الأقرب، والله تعالى أعلم.

والاستعمال التاسع وهو وحي الشياطين إلى أوليائهم، وجاء ذلك في قوله -تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام: 112]، فهؤلاء يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، فشياطين الجن توسوس لشياطين الإنس، وتوحي لهم، وتقذف في قلوبهم الشبهات التي يبرزونها ويظهرونها، فيشككون فيما جاء به الأنبياء -عليهم السلام، ويوحون إليهم بالأمور التي يحصل بها الإفساد للخلق، وقد جاء عن ابن عمر ، وكان زوجًا لأخت المختار الثقفي الذي ادعى النبوة في آخر أمره، ثم قتله مصعب بن الزبير ، فقيل لابن عمر: إن المختار يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق، ثم قرأ هذه الآية: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121][12]، فهو يوحى إليه، لكن من الذي يوحي إليه؟، يوحي إليه الشيطان، فالشياطين توحي إلى الآدميين.

وأما آية الأنعام: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [الأنعام:112]، فمما كانوا يوحونه إليهم: أنهم كانوا يقولون لهم: ما ذبحتموه بأيديكم تقولون: حلال، وما ذبحه الله تعالى بيده الكريمة تقولون: حرام -يعنون: الميتة، إذن أنتم أحسن من الله، فألقوا إليهم هذه الشبهة، فقال الله وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121] يعني: أطعتموهم في استحلال ما حرم الله، في استحلال الميتة إنكم لمشركون[13]، وهذا النوع هو من الأنواع التي وردت في كتاب الله ، وهي من الوحي بالمعنى العام.

وأما الوحي بالمعنى الخاص فهو الذي يعنينا، وهو المهم؛ لأن إثبات الرسالات يتوقف عليه، ولما قال اليهود على سبيل المكابرة: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91] احتج الله  عليهم بحجة ألقمتهم حجرًا، فقال: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى [الأنعام:91]، فلما قالوا على سبيل المكابرة؛ ردًّا لنبوة محمد ﷺ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:91]، فعمموا؛ لأن كلمة: "شيء" هذه اللفظة نكرة جاءت في سياق النفي، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، يعني: ولا بشر، فقال الله تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى، فمعنى ذلك: أنكم تنكرون نبوة موسى .

فالوحي بالمعنى الخاص يمكن أن يفسر بأن يقال: هو إعلام الله لأنبيائه ورسله بما يريد إبلاغه لهم من شرع أو كتاب، بالكيفية التي يريدها، وعرفه بعضهم كالحافظ ابن حجر بأنه: الإعلام بالشرع[14].

فقولنا أولًا: بالكيفية التي يريدها، فهذا ما يطلق عليه: أنواع الوحي بمعناه ومفهومه الخاص إلى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وهذا النوع من الوحي أجمع آية وردت فيه هي: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى:51]، فكم نوعًا ذُكر؟ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا هذه واحدة، أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ هذه الثانية، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا هذه الثالثة، فانظروا: كيف جمعت هذه الآية عامة أنواع الوحي!

فقوله -تبارك وتعالى: إِلَّا وَحْيًا ما الذي يدخل تحته؟ كيف ندخل أنواع الوحي تحت هذه الآية؟ انظروا: في قوله: إِلَّا وَحْيًا، يشمل أمورًا متعددة من أنواع الوحي، أولها: الرؤيا الصادقة، وهي من أنواع الوحي، تقول عائشة -ا- كما في الصحيحين: أول ما بُدِئ به رسول الله ﷺ الرؤيا الصادقة -أو الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح[15]، فأول ما بُدِئ به النبي  ﷺ هي: الرؤيا الصالحة، وقد استمرت ستة أشهر، والنبي ﷺ كان يرى رؤى صالحة، لكن قبل نزول الملك بقي ستة أشهر يرى هذه الرؤى التي تأتي مثل فلق الصبح، وقد صح عن النبي ﷺ: أن الرؤيا الصالحة جزء أو شعبة من ست وأربعين شعبة من شعب النبوة[16]، وهنا سؤال: ما وجه قول النبي ﷺ عن الرؤيا الصالحة بأنها جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة؟ والجواب يتبين من خلال ما سأذكره، فقوله: جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، يتبين بالآتي: مدة بقاء النبي ﷺ في مكة كم؟ عشر سنوات، وفي المدينة على الأرجح: ثلاث عشرة سنة، فالمجموع ثلاث وعشرون سنة، فثلاث وعشرون سنة لو قسمتها، فالسنة اثنا عشر شهرًا، فلو قسمت هذه الثلاث والعشرين على ستة أشهر، كم يكون فيها من ستة أشهر؟ سيكون فيها ستة وأربعون قسمًا، فالرؤيا الصالحة استمرت ستة أشهر، فهي: جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، فهذا يمكن أن يفسر به الحديث، والعلم عند الله ، ولا يقطع به، ولكنه احتمال، فلو قسمنا السنة إلى فصلين دراسيين، ففي ثلاث وعشرين سنة كم فصلا دراسيًّا فيها؟ فيها ستة وأربعون فصلا دراسيًّا، فلو فرضنا: أن كل فصل دراسي ستة أشهر، فكم فصلا دراسيًّا سيكون عندنا؟ سيكون عندنا ستة وأربعون فصلا، فالستة الأشهر الأولى إذن: هي جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، فيمكن أن يفسر الحديث بذلك، والله تعالى أعلم.

ومما ورد في كتاب الله من هذا النوع من الوحي -وهو الرؤيا الصادقة- قول الله عن إبراهيم فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ [الصافات:102]، يعني: إسماعيل ، قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ [الصافات:102]، فهنا قال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ، فهذا موضع يستشهد به من الآية، فاحتج بالرؤيا، وبنى عليها العمل، وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصافات:103]، وقال الله عنه: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصافات:105]، وكذلك استجابة إسماعيل بقوله: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ، وفي قوله: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ دل على أنه أمر من الله ؛ ولهذا قال الله وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ ۝ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات:104-105]، وكذلك قال في حق النبي ﷺ: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء:60]، وهذه الرؤيا بعض العلماء يقولون: هي ما رآه النبي ﷺ ليلة الإسراء والمعراج، فهي رؤيا عين، وليست رؤيا في المنام، والقول الآخر -وهو الأقرب- هو أنها تفسر بقوله -تبارك وتعالى- في سورة الفتح: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا [الفتح:27]، وهو فتح خيبر، فالآن هذه الرؤيا التي رآها النبي ﷺ، رأى نفسه يطوف آمنًا مع أصحابه بالبيت، وتعلقت قلوب الصحابة بمقتضى هذه الرؤيا، ومضمونها، ورؤيا الأنبياء لا شك أنها حق.

وحينما نقول بأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة نقول: رؤى الأنبياء -عليهم السلام- مقطوع بها، وأما غير الأنبياء فلا يجوز أن يُبنى على الرؤى حكم من الأحكام، لا في الأمور الشرعية، ولا في غيرها من القضايا العلمية، أو العملية، بمعنى: أنه لا يجوز للإنسان أن يتعبد بعبادة بناء على رؤيا رآها، وهذه العبادة لم يشرعها الله ، ولا يجوز للإنسان أن يبني على ذلك قضية علمية، أو عملية، بمعنى: أنه مثلا: رأى في المنام أن تركيب الدواء الفلاني يفيد من المرض الفلاني، فهذا لا يُبنى عليه حكم، ولا يصح أن يعتمد عليه، وهكذا أيضًا فيما يتعلق بقضايا الحب والبغض، واعتقاد ولاية إنسان أو فساده، أو نحو ذلك، وهكذا حينما يرى أنه في المنام يؤمر بكذا وكذا من الأشياء التي يطالَب بفعلها، فإنه لا يُبنى على ذلك حكم، كأن يأتيه إنسان فيقول له مثلا: سافر إلى المكان الفلاني، أو لا تسافر، أو اذهب إلى فلان، أو اشترِ الشيء الفلاني، فهذا كله لا يُبنى عليه حكم من الأحكام.

وحينما نقول بأن رؤى الأنبياء حق، وأنه يقطع بها، ونحن نتحدث عن موضوع الوحي، وأن الرؤيا الصالحة جزء من الوحي، ونوع من أنواعه، فهل معنى ذلك: أن من رأى رؤيا صالحة أنه أوحي إليه وحي هو من نظير الوحي إلى الأنبياء؟ الجواب: لا، ثم أيضًا هناك سؤال آخر: حينما نقول بأن رؤيا الأنبياء حق، وأن الأنبياء -عليهم السلام- من أنواع الوحي إليهم: الرؤى، فهل معنى ذلك: أن شيئًا من القرآن قد نزل على النبي ﷺ وهو في حال النوم؟ الجواب: لا، نعم لقد أوحي إلى النبي ﷺ بأشياء وهو في حال النوم، لكن ليس منها القرآن، وقد يسأل بعضكم: ما تقول فيما صح عن النبي ﷺ، كما أخرج الإمام مسلم في صحيحه، من حديث أنس: بينما رسول الله ﷺ بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزل عليّ آنفا سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1] إلى آخرها[17]، فما الجواب؟ فنقول: هذه الإغفاءة كما عبر بذلك أنس بن مالك لم تكن نومة، ومعلوم أن الإغفاءة هي نومة يسيرة، نومة خفيفة، فالنبي ﷺ جالس بين أصحابه يحدثهم، ولا يتصور أنه ﷺ ينام بينهم في مجلسه، وإنما هذه هي الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، التي يقال لها: بُرَحاء الوحي، فقد كانت تعتري النبي ﷺ حالة يتربد لها وجهه، ويسيل منه العرق، يلاحظ ذلك أصحابه، فاعترته هذه الحالة، فعُبِّر عنها بذلك.

فإذن: ينبغي أن نفرق بين ثلاثة أشياء: بين دعوى ما نزل من القرآن منامًا، وبين أن الرؤيا نوع من أنواع الوحي، وبين أن بعض القرآن نزل عليه وهو في فراشه، فيمكن أن نقول: إن بعض القرآن نزل والنبي ﷺ في فراشه، ولكن وجود الإنسان في فراشه لا يعني أنه نائم، وهذا ما يسميه السيوطي فيما قرأناه من العناوين التي سردتها قبلُ: بالفراشي والنومي[18]، فنقول: نزل على النبي ﷺ بعض الآيات وهو في فراشه، كما في قوله -تبارك وتعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67]؛ لأن النبي ﷺ بات ليلة قلقًا، وتمنى أن يُحرس، فسمع قعقعة السلاح، فقال: من هذا؟ فقال: سعد بن أبي وقاص [19]، فهيأ الله له ما تمناه من حراسة سعد ، فأنزل الله عليه: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67]؛ فقال: انصرفوا[20]، فأمرهم أن ينصرفوا، وكذلك أيضا: الآية التي في توبة الله على الثلاثة الذين خلفوا، فقد جاء في الصحيح: أنها نزلت وقد بقي من الليل ثلثه -يعني: في آخر الليل- وهو ﷺ عند أم سلمة في فراشها[21]، فإذن كون النبي ﷺ في فراشه لا يعني أنه نائم، فيمكن أن ينزل شيء من القرآن على النبي  ﷺ وهو في فراشه، وأما وهو نائم فيوحى إليه بالرؤى الصالحة، ونحو ذلك، وأما بالقرآن فلم يرد.

وهنا سؤال، وهو أن هذا الحديث الذي في الصحيح: أن الآيات التي تاب الله فيها على الثلاثة الذين خلفوا نزلت عليه وهو في فراش أم سلمة -ا، وقد أخرج الشيخان من حديث عائشة -ا- أنها قالت: كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت: فاجتمعن صواحبي، يعني: أزواج النبي ﷺ اجتمعن إلى أم سلمة، فقلن لها: إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فقولي لرسول الله ﷺ يأمر الناس: أن يهدوا له أينما كان، فذكرت أم سلمة له ذلك، فسكت، فلم يرد عليها، فعادت الثانية، فلم يرد عليها، فلما كانت الثالثة قال: يا أم سلمة، لا تؤذيني في عائشة، فإنه والله ما نزل عليّ الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها[22]، فالآن الإشكال في: أن النبي ﷺ نفى أن يكون نزل شيء من الوحي وهو في لحاف امرأة غير عائشة، وفي الحديث السابق: نزل وهو في فراش أم سلمة، وذلك في أواخر حياة النبي ﷺ أي: حديث أم سلمة، لما نزل الوحي في توبة الثلاثة الذين خلفوا، وفي رواية أخرى في الصحيحين، قال فيه: لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأةٍ إلا عائشة[23]، فما الجواب؟ يمكن أن يقال: هذا قبل أن ينزل عليه في آخر الأمر، وهو في فراش أم سلمة -ا، ويمكن أن يجاب بجواب آخر، وهو: ما جاء عن عائشة من طرق متعددة لا تخلو من ضعف، وقد صحح بعض أهل العلم بعض هذه الطرق، ومنهم الذهبي -رحمه الله- والحاكم، فعن عائشة -ا- قالت: "لي خلال تسع -أي: خصال تسع، لم تكن لأحد إلا ما آتى الله مريم -عليها السلام، والله ما أقول هذا فخرًا على صواحباتي، وذكرت منها قالت: وكان يأتيه الوحي وأنا وهو في لحاف"[24]، أي: واحد، وأيضا جاء عنها أنها قالت: "لقد أعطيت تسعًا ما أعطيتها امرأة بعد مريم بنت عمران، وذكرت: وإنْ كان الوحي لينزل عليه وإني لمعه في لحافه"، وفي رواية عن أبي يعلى، وهي الشاهد: "وإن كان الوحي لينزل عليه وهو في أهله، يعني: وهو مع إحدى نسائه في فراشه، فينصرفون عنه، تنصرف عنه امرأته، وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه"[25]، فيكون هذا -لو صح- فيه جواب عن هذا الإشكال، فنجيب بهذا الجواب، فنقول: إنه ينزل عليه والمرأة في لحافه، فلما ينزل عليه تنصرف عنه، وأما عائشة -ا- فهي الوحيدة التي كانت تبقى معه في لحافه ﷺ والملَك ينزل عليه، هذا ما يتعلق بالرؤيا الصالحة، وهي النوع الأول الذي يدخل تحت قوله: إِلَّا وَحْيًا [الشورى:51].

النوع الثاني الذي يدخل تحت قوله: إِلَّا وَحْيًا [الشورى:51]، وهو: النفث في الرُّوع، كما صح عن النبي ﷺ: إن روح القدس -يعني: جبريل - نفث في رُوعي: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب[26]، فالنفث في الرُّوع داخل تحت قوله: إِلَّا وَحْيًا.

والنوع الثالث الداخل تحت قوله: إِلَّا وَحْيًا، هو: الالهام، وهو يشبه النوع الثاني، وحقيقته: إلقاء المعاني في القلب، ولو من غير نزول الملك، يعني: حينما يلقي الملك المعنى في القلب يقال فيه: نفث في الروع، إن روح القدس نفث في روعي، وإلقاء المعنى في القلب ولو من غير نزول الملك يمكن أن يقال عنه: إلهام، وهما متقاربان، فهذا هو الفرق بين الإلهام والإلقاء في الروع، وهذه الكلمة -الإلهام- وردت في كتاب الله في موضع واحد، وهو قوله -تبارك وتعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، فذكر: الإلهام بالخير، والإلهام بالشر، وهذا فيه رد على من قال: إن الإلهام إنما يكون بالخير، إلقاء المعاني الخيِّرة، والآية تبطل ذلك، لكن يمكن أن يقال: إن الإلهام غالبًا يكون في عرف الاستعمال بإلقاء المعاني الطيبة في القلب، فيقال: فلان رجل مُلهَم، ألهمه الله رشده، ويمكن أن يقال: إن هذه الكلمة إذا أطلقت فقيل: إلهام فهي في المعاني الخيِّرة، وإذا قيدت فهي بحسب ما قيدت به، فيقال: ألهمه رشده، أو ألهمه فجوره، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ۝ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، ومعنى: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا: أنه بين لها طريق الخير وطرق الشر، كما قال الله وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10].

وأما أهل اللغة فهم يفسرون الإلهام بقولهم: لَهَم الفصيلُ ضرع أمه: إذا أخذه بنهم وامتص ما فيه، ويقولون: التَهَم الطعام يعني: أخذه وأكله بسرعة، ويقولون: منه أيضًا: إلقاء الشيء في الروع، وبعضهم يخصه بما كان من جهة الله  والملأ الأعلى، والإلهام يفسر بما ذكرت أولا -والله تعالى أعلم، فالله ألهم النفس فجورها وتقواها، أي: ألقى فيها إحساسًا تفرق به بين الهدى والضلال، وهذا يمكن أن يطلق عليه: الإلهام الفطري، أو يقال: بين لها طريق الخير وطريق الشر بما أرسل إليها من الرسل، وبما غرس فيها من الفطر، وبما أوجد فيها من العقل الذي تفرق به بين كثير من الأمور النافعة والضارة.

وأيضا من الآيات الواردة التي تفسر قوله: فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس: 8] قوله -تبارك تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [الإنسان:3].

ومما ورد في السنة حديث الشفاعة الطويل، المخرج في الصحيحين، وفيه: فأخرّ تحت ساق العرش ساجدًا، وأدعو ربي بما قد يلهمنيها، فيقال: ارفع رأسك، وسل تعطهْ، واشفع في هؤلاء[27]، وجاء في دعاء النبي ﷺ: اللهم ألهمني رشدي[28]، وجاء أيضًا في وصف أهل الجنة: أنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفَس[29]، وصح عن النبي ﷺ أنه قال: لقد كان فيمن قبلكم محدَّثون -أو قال: مُلهَمون، فإن يكن في أمتي فعمر[30]، ومعنى: فإن يكن في أمتي فعمر أي: على سبيل التحقيق، وهو أسلوب عربي معروف، تقول: إن كان فيهم نابغ فهو فلان، إن كان فيهم كريم فهو فلان، وأنت تقصد تحقيق الصفة في هذا المذكور، وهو أحد المعاني التي فُسر بها قول النبي ﷺ: لو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا[31].

فما معنى محدَّثون؟ يمكن أن يفسر: بأنهم يلهمون الشيء كأنهم حُدثوا به، يعني: خوطبوا به، ويمكن أن يكون: أن الملك يلقيه في قلوبهم، وهي أمور تُلقى في قلب هذا المحدَّث، وينشرح لها صدره، ويتبعها التوفيق في الأعمال والأقوال، وكان عمر من هؤلاء، فلما كان يستعرض الأجناد وهم يذهبون إلى العراق، فمروا بالمدينة، وكان يستعرضهم خارجها، فوصلت بعض الكتائب من الشباب، فلما بلغوا عمر وهو يستعرض الجيش كتيبة كتيبة، فلما بلغت تلك الكتيبة من الشباب عمر عند استعراضه للجيش أشاح عنهم بوجهه، أعرض عنهم، كأنه كره النظر إليهم، يقول بعض من شهد بعض هذا الموقف: فرأيت عامتهم يطاعنوننا يوم النهروان مع الخوارج، فعمر لما كان يستعرض الجيش الذي ذهب للجهاد مرت به كتيبة فكره النظر إليها، وأعرض عنها، فيقول بعض من شاهد: رأيت عامتهم يطاعنوننا يوم النهروان، يقاتلوننا يوم النهروان، فعمر من هؤلاء المحدَّثين الملهَمين، وهذا من الكشف الذي يذكره شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله، الكشف الصحيح، ليس الكشف الصوفي، إنما الكشف الذي يقره أهل السنة والجماعة، وليس معنى ذلك أنه معصوم، ومعلوم أن عمر أخطأ في أشياء، وجادل النبي ﷺ في قضايا الصلح[32]، كما تعلمون جميعًا، إذن: هذه ثلاثة أنواع تدخل تحت قوله -تبارك وتعالى: إِلَّا وَحْيًا [الشورى:51].

وأما قول الله أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51]، فكما كلم الله موسى ، وكما كلم محمدًا ﷺ، قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وقال: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143]، وقال: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [الأعراف:144]، وأما النبي ﷺ فقد وقع له الكلام الإلهي في ليلة المعراج، ويفهم ذلك من آية النجم، ومن حديث المعراج، ففي آية النجم قال الله ثُمَّ دَنَا يعني: جبريل، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ۝ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى [النجم: 8-9]، يعني: فكان قربه من محمد ﷺ قاب قوسين أو أدنى، أي: قرب جبريل من النبي ﷺ، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، أي: فأوحى جبريل إلى عبد الله، وهو محمد ﷺ ما أوحى، يعني: ما أمره الله أن يوحيه إليه، هذا المعنى المشهور، وهو الأرجح في تفسير الآية، ولا شاهد فيه، وإنما ذكرت هذه الآية بناء على التفسير الآخر، وهو أن قوله -تبارك وتعالى: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، الدنوُّ هو دنو النبي ﷺ من الجبار -تبارك وتعالى، فكان منه بالقرب القريب، وهذا توضحه رواية عند البخاري في النسخة اليونانية: ثم دنا للجبار فأوحى الله إلى عبده ما أوحى ، ففي هذه الرواية هذه اللفظة: ثم دنا للجبار، فلما دنا أوحى الله إلى النبي ﷺ ما أراد إيحاءه، وفي بعض النسخ: ثم دنا الجبار، والأقرب: أن النبي ﷺ دنا من جبريل، القرب كان من جبريل وترجحه القرينة التي في الآية، وهي قوله -تبارك وتعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النجم: 13]، رأى جبريل مرة أخرى على هيئته الحقيقية الملائكية.

وأما من السنة فحديث مالك بن صعصعة الذي أخرجه البخاري في صحيحه، في قصة فرض الصلاة، وفيه: ثم فُرضت عليّ خمسون صلاة، فأقبلت حتى جئت موسى، فقال: ما صنعت؟ قلت: فُرضت عليّ خمسون صلاة، فقال: أنا أعلم بالناس منك، عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة...، إلى أن قال: فرجعت، يعني: إلى الله، فسألته، فجعلها أربعين، ثم كرر ذلك مع موسى، ثم يرجع النبي ﷺ إلى ربه -تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك نودي: أني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي، وأجزِي الحسنة عشرًا[33]، وفي رواية: فراجعت ربي فقال: هي خمس، وهي خمسون، يعني: خمس فرائض، والحسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في الميزان، لا يبدل القول لديّ، فظاهره: أنه كلام مباشر من الله ، فالله كلم موسى وهو في الطور بتكليم مباشر، وكلم النبي ﷺ وهو في السماء.

ومن النصوص المتعلقة بالكلام الإلهي المباشر وهي داخلة تحت الكلام من وراء حجاب ما ورد في كتاب الله في ثلاث سور، وهي أربع آيات لا خامس لها، ففي سورة البقرة قال الله -تبارك وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، وفي النساء: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] وآيتان في الأعراف: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143]، وكذا: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:144].

وأما قوله: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا [الشورى:51]، فيحتمل معنيين:

المعنى الأول: أنه يرسل رسولا ملائكيًّا إلى رسول بشري؛ لأن هذه عادة الله مع الأنبياء -عليهم السلام، يرسل إليهم الملَك.

والمعنى الثاني: يمكن أن يكون: أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا، أن يرسل رسولا من البشر إلى نظرائه من الآدميين؛ لأن الله لا يوحي إلى كل واحد من بني آدم، وإنما يرسل منهم رسولا؛ لينذرهم ويبشرهم، فهي تحتمل المعنيين، ولا تعارض بينهما، فكلاهما صحيح.

وهذا الملَك كيف يأتي للنبي ﷺ؟، يأتي للنبي ﷺ بصور متعددة، أذكرها في الدرس القادم بإذن الله ، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 23-27).
  2. انظر: المصدر السابق (1/ 27، 28).
  3. انظر: المصدر السابق (1/ 28).
  4. انظر: المصدر السابق (1/ 28، 29).
  5. انظر: المصدر السابق (1/ 27).
  6. انظر: المصدر السابق (1/ 16).
  7. انظر: المصدر السابق (1/ 19).
  8. انظر: المدخل إلى علوم القرآن الكريم (ص:52).
  9. انظر: فتح الباري لابن حجر (1/ 9).
  10. انظر: مقاييس اللغة (6/ 93).
  11. انظر: المصدر نفسه.
  12. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، (4/ 1379)، رقم: (7840)، وانظر: تفسير ابن كثير، ت سلامة (3/ 321).
  13. أخرجه ابن جرير الطبري في تفسيره = جامع البيان، ت شاكر (12/ 80)، رقم: (13815).
  14. انظر: فتح الباري لابن حجر (1/9).
  15. أخرجه البخاري، باب بدء الوحي، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم: (3)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ، رقم: (160).
  16. أخرجه البخاري، كتاب التعبير، باب: الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة، رقم: (6989)، ومسلم، كتاب الرؤيا، رقم: (2265).
  17. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة، رقم: (400).
  18. انظر: الإتقان في علوم القرآن (1/ 88).
  19. أخرجه البخاري، كتاب التمني، باب قوله ﷺ: ليت كذا وكذا، رقم: (7231)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب في فضل سعد بن أبي وقاص ، رقم: (2410).
  20. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة المائدة، رقم: (3046)، وقال: هذا حديث غريب، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (5/ 644)، رقم: (2489).
  21. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ... [التوبة:118]، رقم: (4677).
  22. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب فضل عائشة -ا، رقم: (3775).
  23. أخرجه البخاري، كتاب الهبة وفضلها والتحريض عليها، باب: من أهدى إلى صاحبه وتحرى بعض نسائه دون بعض، رقم: (2581).
  24. أخرجه أبو يعلى في مسنده، رقم: (4626)، والطبراني في المعجم الكبير (23/31)، رقم: (77)، وابن أبي شيبة في مصنفه (6/ 389)، كتاب الفضائل، ما ذكر في عائشة -ا، رقم: (32278)، والحاكم في المستدرك على الصحيحين (4/11)، كتاب معرفة الصحابة ، ذكر الصحابيات من أزواج رسول الله ﷺ وغيرهن -ن، فأول من نبدأ بهن الصديقة بنت الصديق عائشة بنت أبي بكر -ا، رقم: (6730)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، وضعفه الألباني في سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة (10/ 715)، رقم: (4970).
  25. أخرجه أبو يعلى في مسنده، رقم: (4626).
  26. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير (8/ 166)، رقم: (7694)، وابن أبي شيبة في مصنفه (7/ 79)، كتاب الزهد، ما ذكر عن نبينا ﷺ في الزهد، رقم: (34332)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (10/ 26)، ومسند الشافعي -ترتيب سنجر (4/64)، كتاب فضائل قريش وغيرهم وأبواب متفرقة، باب منه: والإجمال في الطلب، رقم: (1798)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (6/ 865)، رقم: (2866).
  27. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3]، رقم: (4712)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم: (194).
  28. أخرجه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، رقم: (3483)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع الصغير وزيادته (ص:597)، رقم: (4098).
  29. أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيًّا، رقم: (2835).
  30. أخرجه البخاري، كتاب أصحاب النبي ﷺ، باب: مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي ، رقم: (3689)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل عمر ، رقم: (2398).
  31. أخرجه البخاري، كتاب الصلاة، باب: الخَوخة والممر في المسجد، رقم: (466)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصديق ، رقم: (2382).
  32. أخرجه البخاري، كتاب الجزية، رقم: (3182)، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب: صلح الحديبية في الحديبية، رقم: (1785).
  33. أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة، رقم: (3207)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات، وفرض الصلوات، رقم: (162).

مواد ذات صلة