الثلاثاء 01 / جمادى الآخرة / 1446 - 03 / ديسمبر 2024
المحكم والمتشابه – جمع القرآن
تاريخ النشر: ٠٢ / ذو الحجة / ١٤٢٣
التحميل: 1543
مرات الإستماع: 1967

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فبقي موضوعان:

الموضوع الأول: المحكم والمتشابه.

والثاني: جمع القرآن.

أما المحكم والمتشابه، فالمحكم: أي المتقن، وهذه الكلمة الإحكام تدور في استعمالاتها في كلام العرب على معنى واحد وهو المنع، فالكلام الإحكام فيه هو المنع هو منعه من الشطط والخطل، والغلط وما إلى ذلك، ومن ذلك إحكام القول، فلا يكون فيه غلط ولا شطط، ومن ذلك أيضًا الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من وقوع الخطل في رأيه، فيقع رأيه على الصواب، وكذلك أيضًا الحكمة وهي حديدة توضع في فم الدابة تمنعها من الانفلات، ومنه الحكم، وقيل له ذلك؛ لأنه يحكم بين الخصوم فيمنع أحدهما من التعدي على حق الآخر، فقيل له: حكم، وحاكم، وحكّام، وما إلى ذلك فهذه اللفظة تدور في جميع استعمالاتها على هذا المعنى، وهو المنع، فكلام الله حينما نقول: إنه محكم أي: متقن لا يداخله خلل ولا نقص، ولا يعتوره تناقض.

وأما في المعنى الاصطلاحي للمحاكم فنقول قبل أن نعرّفه: إن الإحكام أو المحاكم في كتاب الله  على نوعين اثنين، لكل واحد منهما معنى يخصه، وهذا يصلح له عنوان: وهو (أنواع الإحكام)، ويأتي بعده أنواع التشابه، فالله  وصف كتابه بأنه محكم فقال:  كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1]، فوصف الجميع بالإحكام، ووصف بعضه الإحكام، وبعضه بالتشابه فقال:  مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ  [آل عمران:7]، فصل بين هذه الآيات النافض وتعارض؟

الجواب: لا، الموضع الأول الذي حكم الله فيه على كتابه بأنه محكم يختلف عن الموضع الآخر الذي قال: منه ومنه، فما معنى الأحكام في استعمال الأول الذي وصف الله جميع القرآن بأنه محكم؟

نقول: هو المعنى اللغوي، المتقن، فهو محكم في ألفاظه، محكم في معانيه، ليس فيه تعارض ولا تضارب ولا خلل ولا نقص في فصاحته ولا بلاغته وتراكيبه ومعانيه، هذا حينما نجد وصف القرآن جميعًا، بأنه أحكمت آيات.

والموضع الآخر الذي يصف القرآن بأنه محكم وأن بعضه متشابه هذا هو الإحكام والتشابه الخاص، الأول: هو الإحكام العام يعني المتقن.

والثاني: هو الإحكام الخاص، ومعنى الإحكام الخاص أي: ما ذكره الله في آية آل عمران: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فهذا الذي يسمونه بالإحكام الخاص والتشابه الخاص، فما معنى الإحكام الخاص؟

نقول: ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى غيره البيان معناه، هذا الإحكام الخاص أما التشابه العام الذي يقابل الإحكام العام، فهو الذي درن قوله تعالى: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ... [الزمر:23]، فوصف جميع القرآن بأنه متشابه فما معنى هذا التشابه؟!

نقول: هذا هو التشابه العام أي: يشبه بعضه بعضًا في الحسن والفصاحة والبلاغة والإتقان.

وأما التشابه الخاص الذي ورد في آية آل عمران، وهو مقابل للإحكام الخاص فهو ما لم يستقل بنصه ببيان معناه إنما يحتاج إلى غيره؛ ليفهم المراد منه، فما استقل بنصه فهو محكم، ما احتاج إلى غيره في بيان معناه هذا متشابه مثال: الله حينما يقول: اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ [آل عمران:2]، هل هذه نحتاج نرجعها إلى آية أخرى حتى نفهم معناها؟!

الجواب: لا، فهذا محكم لكن حينما نجد قول الله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام:3]، قد يقول: إنسان الله موجود في السماوات والأرض في كل مكان، نقول: أرجعها إلى الآيات الأخرى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، فإذن ليس على ما فهمت فإذا أرجعتها إلى الآيات اتضح لك المعنى، فهذا معنى كونه يحتاج إلى غيره ليفهم معناه، يحتاج أن نرجعه إلى آيات أخرى إلى أحاديث ليتضح المقصود منه، ويزل الالتباس.

فإذن تعريف المحكم بالمعنى العام هو المتقن، وأما المحكم بالمعنى الخاص فهو ما استقل بنفسه ولم يحتج إلى غيره، وأما المتشابه فالتشابه في اللغة قريب من التماثل فهو توافق من بعض الوجوه، فإن كان التطابق من كل وجه قيل له: التماثل، فإن وجد فروقات مع وجود شبه مع ندر في التماثل قيل له: تشابه فالتشابه ليس التطابق مائه بمائه فإن هذا التطابق يقال له: التماثل، وأما إن كان هناك.

قدر من التماثل مع وجود بعض الفروقات فهذا الذي يقال له: التشابه.

إذن القرآن يوصف بأنه محكم جميعًا باعتبار، ويوصف بأنه متشابه جميعًا باعتبار، يعني على معنى، ويوصف بأن بعضه محكم وبعضه متشابه باعتبار آخر، فهذه الآيات ليس بينها تعارض.

مسألة أخرى، وهي: هذا القدر الذي قال الله عنه في آية آل عمران: مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ [آل عمران:7]، يعني هي الأصول التي يرجع إليها عند وجود الالتباس والاشتباه،  هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا [آل عمران:7]، فهذه الآية أصل في المحكم والمتشابه بالمعنى الخاص، وموضع الوقف فيها صح عن ابن عباس فيه القولان: صح عن ابن عباس الوصل، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ الآية، وصح عن ابن عباس: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا ما المعنى على كل تقدير؟

نقول: بأنه على الوصل لا إشكال مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ إلى أن قال:  وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا، فعلى هذا الوصل في القراءة يكون الله يعلم معنى المتشابه والراسخون في العلم يعلمون معناه كذلك.

وعليه: فلا يوجد شيء في القرآن لا يعرف أحد من الأمة معناه لماذا؟

لأن الله خاطبنا بلغة العرب، وأخبر عن هذا الكتاب بأنه كتاب مبين بين ظاهر واضح، فلا يمكن أن الله يخاطبنا بطلسمات، ورموز، وألغاز، وأمور لا يفهمها أحد، لا الرسول -ﷺ، ولا الصحابة، هذا لا يوجد في القرآن، فكل ما في القرآن يفهم معناه، لكن قد يلتبس على بعض الأمة من ناحية من جهة المعنى، وبناء عليه نقول: إن التشابه من جهة المعنى هو أمر نسبي، وقد يقول قائل: وهل هناك تشابه مطلق؟

نقول: نعم، التشابه قسمان: تشابه مطلق يعني لا أحد يعرفه إلا الله، وتشابه نسبي يخفى على البعض ويعلمه البعض الآخر.

من جهة المعنى على قراءة الوصل أن جميع ما في القرآن تعرف الأمة معناه، وإن خفي على بعضها، ولكن يوجد في الأمة من يعرف معناه، وهذا هو الصحيح، وهؤلاء الذين خفي عليهم بعض المعنى ماذا يكون هذا في حقهم؟

نقول: الذي أشكل عليهم يكون متشابهًا في حقهم فالتشابه من هذه الحيثية يعتبر أمر نسبي وعلى الوقف في الآية على قوله: إلا الله  وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، ثم نبدأ من جديد: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا فما المعنى نقول: إن المعنى على الأرجح، هو أن المقصود بهذا الموضع بمعنى الآية على الوقف هو التشابه المطلق لكن هل هو في المعاني أو في الكنه والكيفية والأمور الغيبية، بالضبط على الوقف نقول: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ أي: حقائق الأمور الغيبية ما هو معانيها حقائقها، وكنهها، وما تؤول إليه الأمور التي أخبر الله عنها من الغيوب فهذه غيب لا يعلمه إلا الله  فلا يعلمه إلا هو، اتضح لكم هذا وإلا ما اتضح؟ فمعنى الكنه؟ يعني حقيقة الشيء، كيف يد الله كيف وجهه كيف عينه لا ندري، لا نعرف كنه الصفة، لكن ما معنى الوجه ما معنى العين؟ ما  معنى اليد؟ نعرف معناها، فهذا لا يوجد فيه المتشابه، أما الكنه فهذا لا نعرفه في الأمور الغيبية، تقول: الجنة ترابها المسك يأتي واحد يقول: مسك أبيض وإلا مسك أسود؟

نقول: لا نعرف إذا دخلناها علمناك إن شاء الله، أو يأتي ويقول: ترابها المسك، هل هو تربة مثل: التربة الرملية أو مثل: التربة الطينية؟

نقول: لا نعرف، لكن إذا دخلناها علمناك إن شاء الله، هذا الكنه والكيفية في الأمور الغيبية لا نعرف حقائقها، هذا معنى كونه تشابه مطلق، فإذا وقفت صح الوقف في آية آل عمران: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ  يعني يفوضون حقائق هذه الأشياء وكيفياتها إلى عالمها ، فهم لا يعلمونها؛ لأنها غيب.

إذن إذا سئلت التشابه المطلق هل يوجد في معاني القرآن فماذا تقول؟

تقول: لا، لماذا؟ لأن الله خاطبنا بلغة العرب، ولم يجعل الله كتابه ألغازًا، ولا طلسمات.

إذن الوصل في الآية واضح وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ  يعني أن العلماء يفهمون معانيها، والوقف لا يحمل على المعنى لا يقال: إن العلماء جميعًا لا يعرفون معنى بعض المواضع في القرآن وهي المتشابه، نقول: لا، كل ما في القرآن لابدّ أن يوجد في الأمة من يعرف معناه.

إذن الوقف بناء على أن المراد الكنه والكيفية وحقائق هذه الأشياء الغيبية، فهذا قلب موضوع المحكم والمتشابه، وخلاصته، ولُبه، إذا فهمته فلا شأن لك بغيره.

المتشابه النسبي كثير إذا خفي عليك معنى آية التبس إذا عندك آيات ظاهرها التعارض ما فهمت معناها يعني مثلًا الله يقول:  فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4]، وفي موضع آخر: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5] كيف تجمع بين هذه الآيات؟

فإذا كنت لا تعرف فهذا متشابه بالنسبة لك، لكن الذي يعرف محكمة ما هي متشابهة بالنسبة له، فالتشابه في المعاني نسبي، يعني بالنسبة لناس دون آخرين، أما في الكنه والكيفية وحقائق الأمور الغيبية فهو مطلق بمعنى لا أحد من الناس يعلم حقائق الأمور الغيبية، إلا إذا رآها فالآن فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وفي الموضع الآخر: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] فما المعنى؟

خمسين ألف سنة هذا بالنسبة ليوم القيامة، وأما ألف سنة فيمكن أن يقال: نزول الملك من السماء إلى الأرض خمسمائة عام، كما قال النبي ﷺ بأن المسافة خمسمائة عام، وصعوده خمسمائة عام هذه ألف سنة صعود الملك ونزوله، وأما الخمسين ألف سنة فهو يوم القيامة، يوم طويل، هذا أحد الأجوبة.

مثال آخر: الله يقول في موضع: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، وفي موضع آخر يقول: فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ [الرحمن:39]، كيف مرة يقول: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ، وفي موضع يقول:  لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ؟

نقول: يسألون سؤال تبكيت، ولا يسألون سؤال استعتاب، سؤال استعتاب يعني سؤال من يعذر، يريد منك أن تقدم العذر وتعتذر لنفسك، لا سؤال تبكيت، ما الذي جعلك تفعل هذا الشيء؟ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ [المدثر:42]، لا يسألهم ليجاوبوا ثم يلتمس لهم العذر في جوابهم، وإنما يسألهم سؤال تبكيت، فلا يسألون سؤال استعتاب وإنما يسألون سؤال تبكيت، أو أن هذا اليوم طويل ففي بعض المواضع لا يسأل أحد، وفي بعض المواضع يسألون.

كذلك في قوله -تبارك وتعالى: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، وفي موضع آخر يقول فيها: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [المؤمنون:105]، فالله يقول عن نفسه وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [آل عمران:77] إلى آخره، لا يكلمهم كلام تكريم، ولكنه يقول لهم: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ فالآيات التي ظاهرها التعارض إذا التبست على أحد فهي متشابهة بالنسبة إليه لكن الذي يعرف معناها؟ ليست متشابهة محكمة.

وهكذا في المواضع التي قد تغمض مثل ما قلنا في قوله:  وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام:3] قد يلتبس على بعض الناس فهي متشابهة بالنسبة إليه ولا تلتبس على آخر فتكون محكمة بالنسبة إليه، فالتشابه من جهة المعنى أمر نسبي.

جمع القرآن:

مراحل جمع القرآن:

يمكن أن أقول: جمع القرآن حصل إجمالًا، ثلاث مرات إجمالًا، وتجوزا، كما قال الحاكم النيسايوري وغيره.

المرة الأولى: جمع القرآن في العسُب واللخاف، وقطع الأكتاف، والأضلاع، العسب جمع عسيب، يكشطون الخوص ويكتبون في الجانب العريض ما عندهم مثل الآن الورق متوفر وكذا، فيكتبون بما تيسر لهم، واللحاف هي شرائح الحجارة يكتبون عليها شرائح، والأقتاب هو الخشب الذي يوضع على البعير لشداد الأقتاب، يكتبون عليها، قطع الأكتاف معروف العظم العريض في الكتف من الإبل والغنم فيكتبون عليه، والأضلاع معرفه، والجلود ما تيسير لهم يكتبون عليه، فكانوا يكتبون بين يدي النبي ﷺ، وإذا نزل عليه القرآن فعنده كتّاب  يكتبون بين يديه هذه الآيات، بهذه الوسائل المتاحة لهم، فلما قبض النبي ﷺ ولم يجمع القرآن في صحف ولا في مصحف، كما صح عن زيد بن ثابت أنه قال: "قبض النبي ﷺ ولم يكن القرآن جمع في شيء"[1]، يعني لا في صحف ولا في مصحف، كان مفرقًا في عسب واللخاف.

وقطع الأكتاف وما شابه ذلك، لماذا لم يجمع في عهد النبي ﷺ؟

نقول: لأنه لربما -والله أعلم، أن النبي ﷺ كان ينزل عليه القرآن حين بعد حين ثم ينسخ بعض القرآن، فكان النبي ﷺ يترقب نزول الجديد، ويكون هذا في ثنايا السور، ضعوها في مكان كذا من سورة كذا، ثم أيضًا قد تنسخ بعض الآيات فلم يجمعها النبي ﷺ، وبعض العلماء يستنبطون من قوله: الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2]، سماه كتابًا، وأن في هذا إشارة إلى ما سيؤول أليه أمره من الكتابة لهذا بعض أهل العلم ما يصرون من فعل عثمان من جمع المصحف أنه من المصالح المرسلة، يقولون: هذا دل عليه القران  ذَلِكَ الْكِتَابُ فالحاصل أنه لما توفي النبي ﷺ ووقعت حروب الردة قتل في اليمامة كما قلت لكم من قبل سبعون من القراء، فلما قتل هؤلاء فزع عمر   كما أخرج الحاكم في المستدرك بسند له شرط الشيخين من حديث زيد بن ثابت قال: "كنا عند رسول الله ﷺ، نؤلف القرآن من الرقاع"[2].

والمقصود به تأليف آيات القرآن، بمعنى: أن الآيات رتبها النبي ﷺ في السور ليس لأحد دخل في ذلك إطلاقًا.

والذي وقع يوم اليمامة هو ما أخرجه البخاري عن زيد بن ثابت قال: "أرسل إلى أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: "إن القتل قد استحر، بقراء القرآن- استحر بمعنى كثر، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، -يعني في المواقع القادمة المعارك المستقبلية، فيذهب كثير من القرآن، -إني أرى أن  تأمر بجمع القرآن، فقلت: لعمر كيف تفعل شئيًا لم يفعله رسول الله ﷺ؟ قال عمر: هو والله خير فما زال يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت ذلك الذي رأى عمر، قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله ﷺ فتتبع القرآن فاجمعه يقول زيد: فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل على مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعل شئيًا لم يفعله النبي ﷺ؟ قال: هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح به صدر أبي بكر وعمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال، ووجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري..."[3]، إلى آخر ما ذكر.

يقول: فكانت الصحف عند أبو بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر في حياته، ثم عند حفصه بنت عمر، فهذا الذي فعله أبو بكر بمشورة عمر شيء دعت الحاجة إليه، فجمعوا هذه المتفرق من العسب  واللخاف، وجمعوه في صحف، وليس في مصحف، مرتب الآيات، هل جمعوه من الأحرف السبعة وإلا أنه حرف قريش؟ يحتمل، والأقرب أنه على حرف قريش؛ لأنه دعا زيد بن ثابت فكتبه، كان زيد حضر العريضة الأخيرة، وكان يقرأ بحرف قريش فكتبه، ما الهدف من هذا الجمع؟

حفظ القران من الضياع والتفرق، الله تكفل بحفظه، وكان من الأسباب التي يسرها أن شرح صدورهم لجمع ما تفرق في هذا العسب، واللخاف في الصحف، إذن الهدف من جمع أبو بكر حفظ القرآن من التفرق؛ ولئلا يضيع شيء منه وما السبب؟ وكثرة قوع  القتل في القراء، هذا هو السبب هذا الذي فعله أبو بكر وبمشورة عمر لم ينكره أحد من الصحابة فعلي أنه قال: "إن أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر الصديق، كان أول من جمع القرآن بين اللوحين"[4].

أبو بكر هو أول من جمع كتاب الله، هل جمعه أبو بكر  مرتب السور؟

الجواب: لا، هل يجمع مرتب الآيات؟ نعم قطعًا كل سور القرآن مرتبة الآيات.

بقي الجمع الثالث وهو في زمان عثمان، جمعه على حرف قريش مرتبًا للسور، وأما الآيات فكانت في زمن رسول الله ﷺ مرتبة وكتبها أبو بكر مرتبة، وقد أخرج البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن أنس أن حذيفة بن اليمان قدم علي عثمان، هذا سبب الجمع هذا الحديث في البخاري يبين علة جمع عثمان للمصاحف، لماذا جمعها عثمان في مصحف؟

يقول أنس: بأن حذيفة بن اليمان قدم علي عثمان وكان يغازي أهل الشام، -يعني حذيفة- في فتح خرج أرمينيا وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: "أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى"، فعثمان ماذا صنع؟ -ومعلوم أنه وقع بين الغلمان في الكتاتيب شيء من اللفظ والقرآن، وأنزل له سبعة أحرف ولربما قرأ بعض الناس ببعض القراءات المنسوخة وما علموا أنها منسوخة، ولربما التبس علي بعض الجهال بعض الأشياء التي هي من قبيل التغيير سمعوا الصحابي، قال: كلمة وزاد كلمة من باب التفسير ظنًا أنها قراءة لربما، فجاء عثمان وجمع الصحابة فاستشارهم في هذا الأمر، وقالوا: ماذا ترى، قال: أرى أن نجمع الناس علي مصحف واحد، فوافقوا جميعا –والمقصود بهن الصحابة الذين كانوا في المدينة، ابن مسعود كان في الكوفة، ففي البداية طلب منهم عثمان أن يحرقوا جميع المصاحف الأخرى تردد ابن مسعود قال: "أنا أخذت سبعون سورة من فيّ الرسول ﷺ ثم لما علم ابن مسعود أن هذا إجماع من الصحابة، واتفاق، وأنه ليس رأيًا انفرد به عثمان ، قدم ابن مسعود مصحفه فأحرقه، فالحاصل أن عثمان لما اتفقوا علي هذا ماذا فعل؟

الخطوة الأولى: أرسل الى  حفصة قال: "أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك"[5]، هذا يدل على أن عثمان كتب ما في الصحف التي جمعها أبو بكر الصديق ، وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعد بن العاص، وعبد الرحمن  بن الحارث بن هشام، أربعة ثلاث من قريش، وواحد من الأنصار وهو زيد بن ثابت هذا من الأنصار.

هؤلاء من الحفاظ، فهذه لجنة كونها عثمان من أربعة أشخاص وأمرهم أن ينسخوا المصاحف من الصحف، وقال للثلاثة القرشيين: إذا اختلفتم أنتم، وزيد في شيء من القرآن فكتبوه بلسان قريش[6]، يعني إذا كان زيد يقرأ بعض المواضع بغير حرف قريش فالمقدم حرف قريش والقرآن أنزل به، ففعلوا حتى إذا نسخوا المصاحف في الصحف ردّ عثمان إلى حفصه، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن بكل صحيفه ومصحف أن يحرق، فجمعها عثمان في مصاحف، كم عدد هذه المصاحف؟

لا يصح فيه حديث، ولا أثر، وجاء في بعض الروايات أنها سبعة، وفي بعض الروايات أنها خمسة، وفي بعض الروايات أنها أربعة، متى كان هذا الحدث في زمن عثمان؟!

كان في سنة 25هـ، الآن إذن الآيات كانت ترقب بأمر النبي ﷺ لا دخل لأحد فيها، وهذا أدلته كثيرة جدًا فيها قول زيد السابق: "كنا عند النبي ﷺ نؤلف القرآن من الرقاع".

ومنها: ما أخرجه البخاري عن ابن الزبير قال: "قلت لعثمان:  وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا الآية [البقرة:234]، قد نسختها الآية الأخرى وهي قوله:وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، والثانية: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة:234]، فكما قلنا: لكم الناسخة قبل المنسوخة فعبد الله بن الزبير يقول: لعثمان لماذا لم تجعلها بعدها أو لماذا لم تترك المنسوخة أصلًا، يقول: فلم تكتبها فتدعها، قال: "يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه"[7]، يعني هذا لا دخل لهم فيه اطلاقًا، وإنما هو بأمر رسول الله ﷺ.

ومنها ما أخرجه مسلم عن عمر قال: "ما سألت النبي ﷺ عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة، حتى طعن بأصبعه بصدري وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء[8].

وكذلك ما أخرجه مسلم عن أبي الدرداء مرفوعًا: من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال[9].

وفي رواية: من قرأ العشر الأواخر من سورة الكهف[10]، وفيه نصوص أخرى كثيرة جدًا، النبي ﷺ مثلًا: قرأ سورة البقرة وآل عمران والنساء في حديث حذيفة[11].

وقرأ الأعراف في صحيح البخاري أنه قرأها في المغرب[12].

وكذلك قرأ:  قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ  [المؤمنون:1]، في صلاة الصبح"، كما عند النسائي، حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أخذته سعلة فركع[13].

وقرأ: الم تنزيل يعني السجدة، وهل أتي على الإنسان سورة الدهر، كما عند الشيخين في صلاة الصبح يوم الجمعة[14].

وكان يقرأ قاف كما في صحيح مسلم على المنبر في خطبة الجمعة[15].

وقرأ الرحمن على الجن[16]، والنجم قرأها في مكة على المسلمين والمشركين[17].

وقرأ: اقتربت الساعة مع قاف في العيد كما في صحيح مسلم[18].

وكذلك قرأ المنافقون في صلاة الجمعة كما عند مسلم[19].

فهذه السور كان يقرأها النبي ﷺ مرتبة الآيات.

أما ترتيب السور فلم يكتب في الصحف التي جمعها أبو بكر ، وإنما كان في المصاحف، -هذا الترتيب وأين وجد؟! في المصاحف التي جمعها عثمان بن عفان ، فترتيب السور في المصاحف هل هو توفيقي أو اجتهادي؟!

بعض العلماء يقولون: توفيقي، ويستدلون على هذا بأدلة، وهذا القول ليس ببعيد، وبعضهم يقول: توفيقي إلا سورة براءة والأنفال، وبعضهم يقولون: اجتهادي.

والأقرب فيما أظن -والله تعالى أعلم، هو أن يقال كما قال الإمام مالك -رحمه الله- قال به طائف من الأئمة أنهم حين جمعوه لم يوقفهم النبي ﷺ على ذلك ترتيب السور، لكنهم استأنسوا بما كانوا يسمعون من رسول الله ﷺ في غالب قراءته، استأنسوا بهذا، وإلا فمصاحف الصحابة الشخصية كانت متفاوتة، فمنهم من رتبها على النزول كما في مصحف علي كما سبق، وكان أوله اقرأ ثم المدثر، ثم ن، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا، ومصحف ابن مسعود كان أوله البقرة ثم النساء ثم آل عمران، وهكذا مصحف أُبي - أجمعين.

فلو كان هذا بتوقيف من النبي ﷺ بهذا الترتيب لكانوا رتبوها به.

فالحاصل أن أقرب ما يقال -والله تعالى أعلم- بأن كثيرًا من السور كان ترتيبها الذي في المصاحف اليوم كان معروفًا عندهم، مثل: السبع الطوال، والحواميم، والمفصل، يقول النبي ﷺ مثلًا: اقرأ الزهراوين،...[20]، يعني: البقرة وآل عمران، كما عند مسلم.

وأن النبي ﷺ كان يجمع المفصل في ركعة[21].

وأخرج البخاري من حديث ابن مسعود أنه قال: في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء، إنهن من العتاق الأول[22]، فهي الآن على نسق مرتبة كما في المصحف سردها بهذه الطريقة.

وهكذا في البخاري أن النبي ﷺ كان إذا أوى إلى فراشه قرأ كل ليله بعدما يجمع كفيه وينفث فيها يقرأ: قل هو الله أحد، والمعوذتين[23].

فهذا يدل على أن بعض المواضع في القرآن كان ترتيبها مشهورًا عندهم، فرتبوها هذا الترتيب، والباقي كان لهم اجتهاد فيه، واستأنسوا بما كانوا يرون من غالب قراءة رسول الله ﷺ ينبني على هذا أشياء إذا قلنا: إن ترتيب السور ليس بتوقيفي فمعنى هذا أن لك أن تقرأ في الركعة الأولى من سورة آل عمران، وفي الركعة الثانية من سورة البقرة، ويجوز أن تقرأ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وفي الركعة الثانية تقرأ من عم، مع ملاحظة أن تكون الركعة الأولى أطول من الثانية واضح.

وأما ما ورد عن ابن مسعود لما سئل عن رجل يقرأ القرآن منكوسًا، فقال: "ذاك منكوس القلب"[24]، فلأقرب في نفسه أن المقصود به ما يفعله بعض المتمهرين بالحفظ وهذا موجود إلى اليوم يفعلونه بالقصائد، ولربما فعله بعضهم في القرآن، يأتيك بالقصيدة لتمهره في حفظها من أول بيت إلى آخر بيت يعكسها، يأتيك بالسورة من آخر آية إلى أول آية، بالعكس فهذا يفسد المعاني، ولا يجوز، هذا حرام، فهذا الذي قصده ابن مسعود ، وعليه نقول: لا بأس أن تقرأ في كل ركعة من سورة وإن كانت بعدها أو قبلها في الترتيب هذه واحدة.

الثانية: المناسبات التي تكون بين السور هل هي معتبرة أم لا؟.

والمقصود بالمناسبة هي الارتباط بين شيئين فأكثر، هذا معناه في اللغة، فهذه الكلمة تدور معانيها على اتصال، فإذا قلت: النسب لوجود هذه الوشيجة فيه، وشيجة الرحم.

ومعنى المناسبات في الاصطلاح: هو العلاقة ووجه الارتباط بين الآية والآية، وبين السورة والسورة، وبين أول الآية وآخر الآية، وبين موضوع الآية وخاتمة الآية، وبين المقطع والمقطع، وبهذا تعرف أن المناسبات أنواع، مناسبات بين السور، مثلًا: ما المناسبة بين سورة  أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ [الفيل:1]، وبين سورة لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ [قريش:1]، وهي بعدها مباشرة الذين يقولون: إن ترتيب القرآن توقيفي، يقولون: لابدّ نلاحظ بالمناسبة السورة هذه ذكرت بعدها السورة هذه لاحظت؟ فمثلًا يقول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ۝ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ۝ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ۝ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:1-4]،  لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ فعلنا ذلك لإيلاف قريش دمرنا أصحاب الفيل لإيلاف قريش شتت أولئك وشتت جمعهم لإيلاف قريش أهلكهم لإيلاف قريش هذا على القول بأن ترتيب السور توقيفي إذا قلنا: ترتيب السور غير توقيفي سقط علم المناسبات بين السور، وهذا هو الأقرب في ظني، -والله أعلم.

وهذا فيه كتب مؤلفة، وفيه كتب تعتني به من كتب التفسير، كتفسير الرازي، وفيه كتاب كبير حافل يقع في ثلاث وعشرين مجلد تقريبًا للبقاعي اسمه: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور"، فذهب عندنا شيء اسمه المناسبات بين السور، وبين الآيات، قلتم: إن ترتيب الآيات توقيفي، نقول: صحيح إذا المناسبة حاصلة بينها، نقول: صحيح، فمثال ترتيب الآيات، هذا واضح، الله مثلًا: لما آية الحجاب ماذا قال بعدها مباشرة قال:لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ۝ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا [الأحزاب:60-61]، فهذه في موضوع وهذه في موضوع، لكن إذا لاحظنا المناسبة نقول: لماذا هؤلاء الذين يشككون في الحجاب من الكتاب والصحافيين والعلمانيين ويطعنون فيه، ويلمزون المحجبات وما إلى ذلك لما ذكر الله آية لحجاب، ذكر بعدها مباشرة آية، وإن كان ما لها في النزول تعلق فقال: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ۝ مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا، فنقول: أنتم متوعدون بهذا.

المناسبة بين المقطع والمقطع مثال قول الله يقول: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51]، هؤلاء اليهود كبراء اليهود حيي بن أخطب ومن معه عندما ذهبوا إلى المشركين في مكة وحرضوهم على قتال النبي ﷺ إلى آخره، يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ۝ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ۝ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ۝ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء:51-57]، انتهى هذه نزلت بسبب اليهود، جاءنا مقطع ثاني نزل بقصة ثانية لما فتح النبي ﷺ مكة، هذه بعد غزوة أحد، فالآيات الأولى المتقدمة في فتح مكة في قصة مفاتيح الكعبة[25]، وإن كان بإسنادها نظر، أنزل الله الآيات التي بعدها: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58]، فبين النزولين فترة طويلة حوالي ثمان سنوات أو ست أو سبع سنوات أو نحو هذا، وهذه لها قصة وهذه لها قصة.

لكن نقول: فيه مناسبة هناك بأمر أو بأداء الأمانات إلى أهلها، وهؤلاء اليهود كتموا الأمانة في الآيات الأخيرة، وفي التي قبلها يقول:  أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ [النساء:51]، سجدوا لأله المشركين،  وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء:51]، يقولون: أنتم أهدى من محمد يا عباد الأصنام، هؤلاء ضيعوا الأمانة، وإلا لا؟ وفي الآية الأخرى التي نزلت بعد هذا المقطع كله يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58]، فظهر أن وجه الارتباط بين المقطعين الآن وإلا ما لاحظت إذا الارتباط بين آخر الآية خاتمة الآية وموضوع الآية،  وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، فلم يقل: غفور رحيم، وإنما قال:  عَزِيزٌ حَكِيمٌ، عز فحكم، وجه الارتباط واضح.

وعيسى يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ [المائدة:118]، ما قال: إنك أنت الغفور الرحيم، وإنما قال: أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]، فهذا قد يشكل، نقول: هذا اليوم يغضب الله فيه غضب لم يغضب قبله مثله، ولم يغضب بعده مثله، فعيسى لا يريد أن يكون مدافعًا عنهم، لكن يقول: بين يديك إن عذبتهم فأنت قادر فهم عبادك، وإن غفرت لهم فليس عن ضعف وعجز، وإنما عن عزة وحكمة، لاحظت كيف الارتباط، وهكذا.

فهذا موضوع المناسبات بعيد الآيات وبين السور، وبهذا نكون قد عرفنا جمع القرآن، وعرفنا علم المناسبات، وعرفنا علم موضوع خاص اسمه ترتيب السور والآيات، وبقي أن أقول: إن الصحابة في زمن عثمان كتبوه كتابة خاصة بالرسم العثماني، هذا الرسم هل هو توقيفي؟

الجواب: لا، كتبوه بهذه الطريقة، هل يجوز لنا مخالفته؟ لئلا يدخل العبث في كتاب الله -، فهذا يكتب على قواعد الإملاء المغربية، وهذا البغدادية، وهذا كل يوم قواعد إملاء جديدة، فنقول: يكتب كما كتب، وبمنع من كتابته من الإملاء الحديث، عرفتم هذا جيدًا، لا لأنه توقيفي، كتابة الرسم العثماني توقيفة لكن من باب سد الذريعة، هل لأحد أن يكتب مصاحف ويطبعها بترتيب آخر غير ترتيب الصحابة الذين أجمعوا عليه؟

الجواب: لا؛ لأنهم وقع إجماعهم على ذلك.

وبقي أن تعرف أن القرآن يجزأ إلى أجزاء، كان الصحابة يقرؤون به، وهو أحسن من التجزئة إلى ثلاثين جزء، السبع الطوال، وتبدأ بالبقرة وتنتهي بآخر براءة، والمئون وهي التي بعد البراءة سميت بذلك؛ لأن كل سورة منها تزيد على المائة أو تقارب المائة.

والمثاني ما بعد المائتين؛ لأنها ثنتها يعني بعدها، فهي لها ثوان، والمئون لها أوائل، أو هي الآيات التي لا تبلغ المائة، يقال لها: المثاني، ويمكن أن يكون قيل لها ذلك؛ لأنها تثنى كثيرًا، تقرأ أكثر من غيرها؛ لأنها ليست طويلة، أو لتثنية العبر، والأمثال فيها، وبعد المثاني يأتي المفصل سواء نقول: يبدأ من الحجرات، أو من ق، على خلاف ذلك.

فهذه خلاصة في هذا الفن، ونسأل الله أن يبارك لي ولكم بها، وأن ينفعني وإياكم بالعلم النافع، وأن يرزقني وإياكم العمل الصالح، وأن يعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأسأل الله أن يوفق الجميع للخير، وأن يعيننا وإياكم على طاعته.

  1. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة (1/ 390)، برقم (591).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب: في فضل الشام واليمن، برقم (3954)، وأحمد في المسند، برقم (21607)، والحاكم في المستدرك، برقم (4217)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه وفيه الدليل الواضح أن القرآن إنما جمع في عهد رسول الله ﷺ"، وحسنه محققو المسند.
  3. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: جمع القرآن، برقم (4986).
  4. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل (1/ 354)، برقم (513)، والآجري في الشريعة (4/ 1782)، برقم (1241).
  5. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: جمع القرآن، برقم (4987)، والنسائي في فضائل القرآن (ص:67)، برقم (13)، وأبو داود في المصاحف (ص:88).
  6. انظر: فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص:282)، والمصاحف لابن أبي داود (ص:92)، والإتقان في علوم القرآن (1/ 208).
  7. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة:234]، برقم (4530).
  8. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: نهي من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو نحوها، برقم (567).
  9. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل سورة الكهف، وآية الكرسي، برقم (809).
  10. أخرجه النسائي في الكبرى، برقم (10718)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (5760).
  11. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل، برقم (772).
  12. أخرجه البخاري، بلفظ: "سمعت النبي ﷺ يقرأ بطولى الطوليين"، كتاب الأذان، باب: القراءة في المغرب، برقم (764)، ووضحت رواية أبو داود المراد بالطوليين، حيث أخرجه وفيه: "قلت: ما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف والأخرى الأنعام، قال: وسألت أنا ابن أبي مليكة، فقال لي: من قبل نفسه المائدة والأعراف"، أبواب تفريع استفتاح الصلاة، باب: قدر القراءة في المغرب، برقم (812).
  13. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب: القراءة في الصبح، برقم (455)، وأبو داود، كتاب الصلاة، باب: الصلاة في النعل، برقم (649)، والنسائي، كتاب الافتتاح، قراءة بعض السورة، برقم (1007)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة، والسنة فيها، باب: القراءة في صلاة الفجر، برقم (280)، وعلقه البخاري في صحيحه (1/ 154)، كتاب الأذان، باب: الجمع بين السورتين في الركعة.
  14. أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة، برقم (891)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب: ما يقرأ في يوم الجمعة، برقم (879).
  15. أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب: تخفيف الصلاة والخطبة، برقم (872).
  16. أخرجه الترمذي، أبواب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب: ومن سورة الرحمن، برقم (3291)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2150)، وفي صحيح الجامع، برقم (5138).
  17. أخرجه مسلم بلفظ: "قرأ والنجم فسجد فيها، وسجد من كان معه"، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: سجود التلاوة، برقم (576).
  18. أخرجه مسلم، كتاب صلاة العيدين، باب: ما يقرأ به في صلاة العيدين، برقم (891).
  19. أخرجه مسلم، كتاب الجمعة، باب: ما يقرأ في صلاة الجمعة، برقم (877).
  20. أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، برقم (804).
  21. ملاحظة: أخرج الشيخان ما يناقض هذا ولم أقف على هذه الرواية، فأخرج البخاري بلفظ: "جاء رجل إلى ابن مسعود، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: «هذا كهذ الشعر، لقد عرفت النظائر التي كان النبي ﷺ يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل، سورتين في كل ركعة"، كتاب الأذان، باب: الجمع بين السورتين في الركعة، برقم (775)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: ترتيل القراءة، واجتناب الهذ، وهو الإفراط في السرعة، وإباحة سورتين فأكثر في ركعة، برقم (822)، واللفظ للبخاري.
  22. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: تأليف القرآن، برقم (4994).
  23. أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: فضل المعوذات، برقم (5017).
  24. انظر: فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص:119)، والمصاحف لابن أبي داود (ص:342)، والإتقان في علوم القرآن (1/ 378).
  25. انظر: تفسير الطبري (7/ 171).

مواد ذات صلة