السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
[6] من قوله تعالى: {فِيهِنَّ خيرات حسان} الآية:70 إلى آخر السورة
تاريخ النشر: ٠١ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 3360
مرات الإستماع: 3815

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

ثم قال: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ [سورة الرحمن:70] قيل: المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة، قاله قتادة، وقيل: خيرات جمع خيّرة، وهي المرأة الصالحة الحسنة الخُلُق الحسنة الوجه، قاله الجمهور. وروي مرفوعا عن أم سلمة.

وفي الحديث الآخر: أن الحور العين يغنين: نحن الخيّرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ يحتمل المعنيين، يعني الخيرات كل ما يصدق عليه هذا المعنى، ويدخل في هذا العموم النساء اللاتي في الجنة، والمعنى الثاني خيرات جمع خيّرة وهي المرأة الصالحة، ويؤيد هذا المعنى القراءة الأخرى بالتشديد فِيهِنَّ خَيّرَاتٌ فالخيّرات قطعاً جمع خيّرة، وخَيْرَاتٌ يحتمل أن يكون جمع خيّرة، ويحتمل أن يكون جمع خير، والمعنى الأول أعم من المعنى الثاني، والقراءات كما هو معروف إذا تعددت فإنه يفسر بعضها بعضاً، فيمكن أن تفسر القراءة المشهورة بالقراءة الأخرى بالتشديد، خَيّرَاتٌ والحديث يدل على هذا، فيما يغنين به: "نحن الخيّرات الحسان، خلقنا لأزواج كرام". 

ولهذا قال عامة المفسرين سلفاً وخلفاً: إن المقصود بذلك النساء الصالحات، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير وابن القيم، وخلائق، ومعنى ذلك إذا كانت بالنسبه للمرأة خَيّرَاتٌ حِسَانٌخيّرات الأخلاق، وخيرات الأعمال، وخيرات النفوس وحسان الوجوه، وإذا اجتمع هذا، وهذا اجتمع للإنسان الحسن الظاهر والباطن، وهذا أجمل ما يكون، وكثيراً ما يكون الحسن الظاهر والجمال حاملاً على آفات لا تخفى من الترفع وشراسة الخلق، والدلال بالجمال إلى غير ذلك مما هو معروف، أما إذا اجتمع حسن الظاهر والباطن فهذا هو الكمال.

ثم قال: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ [سورة الرحمن:72]، وهناك قال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ [سورة الرحمن:56]، ولا شك أن التي قد قَصَرَت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصرت، وإن كان الجميع مخدرات.

حُورٌ مَقْصُورَاتٌوهناك قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ قلنا: يحتمل معنيين، ويمكن أن يكون الثاني ملازماً المعنى الأول قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهن عن النظر إلى غير أزواجهن، تغض طرفها لا تتطلع إلى الرجال، ولشدة جمالها قصرت طرف زوجها فلا ينظر إلى غيرها، قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ قاصرة لطرف الزوج، وقاصرة لطرفها والمعنى المتبادر أنها قاصرة لطرفها.

وهنا قال: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ فسره بعضهم: بأنهن قُصرن على أزواجهن فلا يتطلعن إلى غيرهم، مقصورات قُصرن على الأزواج، تقول: هذه محصورة ومقصورة على هذا، لا تتطلع إلى غيره، حُورٌ مَقْصُورَاتٌ

ويحتمل أن يكون حُورٌ مَقْصُورَاتٌ أي قُصرن عن الخروج، والقصر يأتي بمعنى الحبس، بمعنى أنهن لا يخرجن، وإنما قد هُيئن وأُنشأن وخلقن لأزواجهن، لا تخرج من هذه الخيام.

وقوله: فِي الْخِيَامِ فسره بعض أهل العلم بأنه يعود إلى الحور، يعني يكون المعنى أن هؤلاء الحور في الخيام الحور اللاتي في الخيام قد قصرن على أزواجهن، يعني على هذا ليس المعنى أنهن قصرن في الخيام؟ لا، حور مقيمات في الخيام قد قصرن على أزواجهن حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فالحور في الخيام، والمعنى الثاني: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ في الخيام قصرن في الخيام يعني فِي الْخِيَامِ جار ومجرور، وهنا يمكن أن يكون عائداًَ إلى الحور، حور كائنات في الخيام قصرن على أزواجهن، حور مقصورات في الخيام، ويحتمل أن يكون عائداً أو متعلقاً بمقصورات يبين أين قصرن، قال: فِي الْخِيَامِ يمكن أن يكون متعلقاً بهذا أو هذا.

فِي الْخِيَامِ روى البخاري عن عبد الله بن قيس ، أن رسول الله ﷺ قال: إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة، عرضها ستون ميلا في كل زاوية منها أهلٌ ما يَرون الآخرين، يطوف عليهم المؤمنون[1].

ورواه أيضا وقال: ثلاثون ميلا[2]، وأخرجه مسلم ولفظه: إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوفة، طولها ستون ميلا للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن، فلا يرى بعضهم بعضا[3].

وقوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [سورة الرحمن:74]: قد تقدم مثله سواء، إلا أنه زاد في وصف الأوائل بقوله: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ۝ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:58، 59].

من وجوه المفاضلة التي ذكروها بين الصنف الأول والصنف الثاني في نعيمهم وجناتهم: هناك قال: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ، وهنا قال: حُورٌ مَقْصُورَاتٌ قالوا: قاصرات الطرف بإرادتهن أكمل من المقصورات في الخيام، وهذا على أحد المعاني في تفسير مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ.

ولو أراد الإنسان أن يناقش هذا الكلام الذي ذكره بعض أهل العلم من أن الأول أكمل من الثاني باعتبار أنها قصرت طرفها، والثانية مقصورة في الخيام لا تخرج، يمكن أن يقال: إن هذا أيضاً من الكمالات أصلاً فالمرأة تكمل وتنبل إذا كانت في خدرها لا تخرج، وكلما كانت أكثر بقاءً واستقراراً فهي أكمل من الخرّاجة الولّاجة، وهذا معروف.

والشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في كتاب "الرحلة إلى حج بيت الله الحرام" سئل -رحمه الله- عن النساء القصيرات أو القِصَر أو نحو ذلك، كان السائل يظن أن المقصود بها القصيرة القامة!! فبين له أن المراد التي لا تخرج، وذكر من أقوال العرب في مدح النساء اللاتي لا يخرجن ذكر طائفة من الأشعار، وهذا لا شك فيه، لا شك أن المرأة التي لا تراها الشمس أكمل وأنبل وأشرف من الخرّاجة الولاجة، لاسيما إذا كانت أجيرة بمعنى موظفة تشتغل وتأخذ أجراً على هذا، ففرق بين أن تتزوج امرأة -تخطب امرأة- لا تراها الشمس وبين أن تخطب واحدة لها ثلاث وعشرون سنة، وهي كل يوم تطلع من الصباح وترجع في الظهر تعبانة تالفة، تعمل أجيرة، إذا كانت فقيرة محتاجة فإلى الله المشتكى، لكن المشكلة إذا كانت مستغنية.

قال الشيخ محمد الأمين -رحمه الله تعالى: " ومما وقع السؤال عنه في أثناء المذاكرة ثناء أدباء الشعراء على قصار النساء كقول الشاعر:

من كان حرباً للنساء فإنني سِلم لهنهْ
فإذا عثرنَ دعونني وإذا عثرتُ دعوتهنهْ
وإذا برزن لمحفل فقِصارهن ملاحهنهْ

مع أن القصر جداً وصف مذموم، كما يدل عليه قول كعب بن زهير:

  لا يشتكى قِصرٌ منها ولا طول

ومعلوم أن كمال القامة واعتدال القدِّ وصف محمود فيهن ومما يدل على ذلك قول عمرو بن كلثوم التغلبي:

وسارِيَتيْ بَلَنْطٍ أو رخامٍ يرن خشخاشُ حليِهما رنينا

فكان جوابنا على المسألة أن قلنا لهم: إن القِصَر الذي يستحسنه الشعراء من النساء ليس هو القِصَر الذي ضد الطول بل هو القصر في الخيام فالقصار عندهم هن المقصورات في الخيام، العاملات بقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [سورة الأحزاب:33] وهو معنى معقول؛ لأن الصيانة تصون ماء الملاحة ومعناها، والابتذال يذهب ذلك كله، وقد بين كثير في شعره حل هذا الإشكال حيث قال:

وأنتِ التي حبّبتِ كلَّ قصيرة إليّ وما تدري بذاك القصائر
عنيتُ قصيراتِ الحجال ولم أُرد قصارَ الخطا شرُّ النساءِ البحاترُ

 والبَحتر القصير المجتمع الخلق فالخراجة الولاجة لا ملاحة لها أبداً، وهي مذمومة عندهم ولذلك لما سمع بعض الأدباء صاحبه يستحسن قول الأعشى ميمون بن قيس:

غرّاءُ فرعاءُ مصقولٌ عوارضُها تمشي الهُوينى كما يمشي الوجى الوحلُ
كأنّ مشيتها من بيت جارتها مرُّ السحابة لا ريثٌ ولا عجلُ
يكاد يصرعها لولا تشدُّدُها إذا تقوم إلى جاراتِها الكسلُ
ليستْ كمن يكره الجيرانُ طلعتَها ولا تراها لسر الجار تختتِلُ

قال له: قاتلك الله تستحسن غير الحسن، هذه خرّاجة ولّاجة لا خير فيها فهي مذمومة، فهل لو قال كما قال الآخر وهو قيس بن الأسلت:

وتكسلُ عن جاراتها فيزرنها وتعتل من إتيانهن فتعذَرُ

وربما حضر مذاكرتنا بعض العوام الذين لا يفهمون، ومن جهلهم أن واحداً منهم قال لنا بكلامه الدارج ما مضمونه: إنه يغبطنا ويغار منا بسبب أننا نمر بأرض السودان التي فيها موضع شريف، قلنا له: وما ذاك الموضع الشريف؟ قال: الخرطوم!! قلنا: وأي شرف للخرطوم؟ قال: لأنه مذكور في القرآن العظيم في قوله تعالى: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ [سورة القلم:16]!! فقلنا له: ذلك خرطوم آخر غير الخرطوم الذي تعني، فضحك من يفهم من الحاضرين"[4] أ.هـ.

بعض الناس -كما ذكرنا لكم من قبل- مسمٍّ ولده "خنزير" في بعض بلاد البلقان، وآخر مسم "جهنم"، و"مسجد لظى"!! مساكين، هذا يحصل عندهم ومشاهد، والشيخ -رحمه الله- يجيب بهذه الإجابات من حفظه، وهو مسافر يمر على ناس ويسألونه ويعطيهم من هذا البحر، فالكتاب في غاية الفائدة ففيه أشياء ترفع الهمم إذا قرأ الإنسان، مثل هذا مليءٌ بالعلم، ومِن حفظِه وهو مسافر، فهذا لا شك أنه يرفع همة الإنسان في العلم، وهذا المعنى لطيف وجميل حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ، فهو كمال بمعنى أنها ليست خراجة ولاجة، وهذا يحفظ لها رونقها وبهاءها وحسنها وملاحتها، نحتاج أن يكون مثل هذا الكلام رُقية هذه الأيام يُرقى بها النساء، ومن في رأسه من وسوسة الشيطان فيظن أنه لا يمكن أن تبقى ابنته في البيت، لابد أن يبحث لها عن أي عمل المهم أنها تخرج، وربما يمتلك المليارات وبُنيته أجيرة!!!  

وقوله: مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ: قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الرفرف: المحابس، وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، والضحاك، وغيرهما: هي المحابس، وقال العلاء بن بدر: الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي.

الرفرف يقول: هي المحابس، ويقول: قال العلاء بن بدر: الرفرف على السرير كهيئة المحابس المتدلي، وبعضهم يقول: هي البُسُط، وبعضهم يقول: هي الزرابي، وبعضهم يقول: أنواع من الثياب الخضر، وبعضهم يقول: الفرش المرتفعة، وبعضهم يقول: كل ثوب عريض، وبعضهم يقول: ثياب خضر يتخذ منها المحابس، وقيل: رياض الجنة.

فمن نظر إلى الخضرة والاتساع قال: رياض الجنة، ومن نظر إلى أنها من رفرفَ الطائرُ بجناحيه، رفرف بمعنى حلق، فإذا أراد أن يرتفع يرفرف، وإذا أراد أن يطير، فقال: هي من الارتفاع فرش مرتفعة، بهذا الاعتبار.

ومنهم من نظر إلى عكس هذا المعنى أن الطائر إذا أراد أن يقع على شيء رفرف بجناحيه عليه ليقع عليه، ومن نظر إلى هذا المعنى قال: إنها مثل هذه الأشياء المتدلية في طرف البساط، التي تكون في طرف البساط يقال لها: رفرف، والرفرف يطلق على الطرف ففي المراكب السيارات مثلاً ما كان فوق العجلة يقال له: رفرف.

وكذلك أيضاً الخيام كما فسره به بعضهم، لكن ليس هنا في هذا الموضع لكن في أصل معناها اللغوي ليس في هذا الموضع، الرفرف الخيمة، تجدونها من ظهرها أو من خلفها تجدون عليها شيئاً يستر بحيث لا تدخل الشمس ما بين الرواق وظهر الخيمة -سقف الخيمة، يعني هذا الرواق وتجد هنا هذا يقال له: رفرف أي الذي متصل بالسقف وينزل قليلاً هذا الرواق، هذا يقال له: رفرف، الشيء النازل من السرير الآن أصبح يوضع منفصلاً أو لا؟ يوضع في أطراف السرير بحيث يغطي جوانبه من نفس قماش قطاع السرير عادة، وعادة تكون بهيئة معينة وفيها كسرات للزينة، للتغطية، يقال له: رفرف.

وقوله: وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ: قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي: العبقري: الزرابي.

العبقري: الزرابي وبعضهم يقول: هي الزرابي والطنافس التي فيها وشي، والمقصود بـ"الوشي" خطوط معلمة مخططة وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ، وابن جرير -رحمه الله- فسره بالطنافس الغليظة الثخينة.

وبعضهم يقول: كل شيء فيه وشي من البُسُط، يعني المخطط المعلم يقال له: عبقري، يقول بعضهم: منسوب إلى أرض يصنع فيها ذلك، ونسب إليها فقيل له: عبقري، وبعضهم يقول: كل شيء جيد متقن الصناعة فإن العرب تقول له: عبقري، فيقولون للإنسان الحاذق: عبقري، الذكي عبقري، يقولون: نسبة إلى قرية يزعمون أن الجن يسكنونها، فينسبون إليها كل ما فيه إتقان وحذق من مصنوع أو إنسان أو غير ذلك، يقولون: هذا عبقري، فالثياب أو المنسوجات الجيدة الحسنة متقنة الصنع، يقولون لها: عبقري بهذا الاعتبار نسبة إلى قرية يسكنها الجن في زعمهم.

وبعضهم يقول: هي البُسُط، العبقري الحسان بسط حسان، وبعضهم يقول: الديباج، وقيل: غير ذلك، هذه الأقوال المتنوعة من الصحابة والتابعين في تفسير العبقري، وفي تفسير الرفرف مما يدل على أنه يطلق -والله أعلم- على هذه المعاني كلها، والعرب تطلقه على ذلك فالرفرف يطلق على طرف الشيء مما يكون في الخيمة، وطرف البساط وما يوضع على الأرائك من قماش يزينها.

وكذلك أيضاً العبقري الطنافس الثخان، يقال لها: عبقري عندهم، وكذلك أيضاً البسط المزينة، والمزينة لا يخالف قول من قال: إنها ديباج أو إنها حسنة ومتقنة الصنع، والنسج، إلى غير ذلك من الأقوال، فكل هذا يقولون له: عبقري فتعددت أقوالهم فيه.

وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ فهم يتكئون ويجلسون على بسط في غاية الزينة والجمال والإحكام في الصنع والإتقان، ومن يعرف هذه الأمور يدرك هذا المعنى، فتجد البساط الذي يعمل: نسج جيد، وكذا يباع بمبالغ خيالية -والله أعلم، ومثل هذه الألفاظ مرجعها إلى اللغة، وهؤلاء عرب خلص فتعددت أقوالهم فيها هذا التعدد وهم أهل اللغة، وهو شيء يعرفونه في بيئتهم، فدل ذلك -والله أعلم- على أنه يطلق على هذه المعاني كلها عند العرب -والله أعلم.

ثم قال: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ أي: هو أهل أن يُجلَّ فلا يُعصى، وأن يكرم فيعبد، ويشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى.

وقال ابن عباس: ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ ذي العظمة والكبرياء.

وفي الحديث الآخر: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وذي السلطان، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه[5].

تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ هذه الصيغة تدل على الكثرة تَبَارَكَ أي: عظمتْ وكثرت بركته، تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ، {ذي} هنا ترجع إلى الرب، فالموصوف بأنه ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ هو الرب -تبارك وتعالى- وفي قراءة ابن عامر -وهي قراءة متواترة- بالرفع تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ فيكون عائداً إلى الاسم، والاسم لا شك أن أسماء الله حسنى، ودالة على أوصاف الكمال، والله يقول: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى [سورة الأعلى:1] منهم من قال: سبِّح ربك: نزه ربك ذاكراً اسمه، وبعضهم يقول غير هذا، والاسم تارة يطلق ويراد به المسمى، وتارة يطلق ويراد به الاسم، وتارة يطلق ويراد به هذا وهذا، فلا شك أن أسماء الله في غاية الكمال، وتدل على أوصاف الكمال ومتضمنة لها وهي جميعاً مشتقة تدل على الصفات الكاملة.

وكما قال الله : وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى [سورة الأعراف:180] فهي حسنى في ألفاظها ليس فيها لفظ ينبو عنه السمع، وحسنى في معانيها وما تضمنته من الأوصاف، وأيضاً هي أسماء لله -تبارك وتعالى.

ذُو الْجَلالِ أو ذِي الْجَلالِ في القراءة المشهورة، وَالإكْرَامِ، الْجَلالِ فسر بالعظمة وَالإكْرَامِ، ومنهم من يفسره بأنه وَالإكْرَامِ يعني عن كل ما لا يليق بالتنزيه والتبجيل، ومنهم من فسره بمعنى أن الله يكرم أولياءه، وعباده الذين يتقربون إليه، فصار بهذا الاعتبار متعدياً، أي أن الله -تبارك وتعالى- مكرم لعباده، لأوليائه، لأهل طاعته، والمعنى الآخر ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ أن ذلك منسوب إلى الرب -تبارك وتعالى- يُكرم ويُنزه ويجل ويرفع أو يعظم أو يقدس عن كل ما لا يليق، تقول: يكرم فلان عن كذا، وهذه المعاني كلها حق، والله أعلم.

وقد روى الإمام أحمد عن ربيعة بن عامر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: أَلِظوا بيا ذا الجلال والإكرام[6]، ورواه النسائي.

معنى ألظوا الهجوا وأكثِروا من يا ذا الجلال والإكرام، قُلها كثيراً، الحديث ثابت صحيح، أكثر من قولك: يا ذا الجلال والإكرام.

وقال الجوهري: ألظ فلان بفلان: إذا لزمه.

وقول ابن مسعود: "ألِظوا بيا ذا الجلال والإكرام" أي: الزموا، ويقال: الإلظاظ هو الإلحاح.

قلت: وكلاهما قريب من الآخر -والله أعلم- وهو المداومة واللزوم والإلحاح، وفي صحيح مسلم والسنن الأربعة من حديث عبد الله بن الحارث، عن عائشة -رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله ﷺ إذا سلّم لا يقعد -يعني بعد الصلاة- إلا قدر ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت ذا الجلال والإكرام[7].

آخر تفسير سورة الرحمن، ولله الحمد والمنة.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الرحمن، برقم (4598)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين، برقم (2838).
  2. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، برقم (3071).
  3. رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين، برقم (2838).
  4. رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، للعلامة محمد الأمين الشنقيطي (75-77).
  5. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، برقم (4843)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (2199).
  6. رواه الترمذي، كتاب الدعوات عن رسول الله ﷺ، برقم (3524)، والنسائي في سننه الكبرى، برقم (11563)، وأحمد في المسند، برقم (17596)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1250).
  7. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته، برقم (591).

مواد ذات صلة