الأحد 20 / جمادى الآخرة / 1446 - 22 / ديسمبر 2024
[10] من قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} الآية 43 إلى قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} الآية 49
تاريخ النشر: ٠٦ / ربيع الأوّل / ١٤٢٨
التحميل: 3420
مرات الإستماع: 6648

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ۝ لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ۝ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [سورة التوبة:43-45].

روى ابن أبي حاتم عن عون قال: هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ بدأ بالعفو قبل المعاتبة فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ وكذا قال مُوَرِّق العِجْلي وغيره.

وقال قتادة: عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل التي في سورة النور، فرخَّص له في أن يأذن لهم إن شاء: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [سورة النور:62] وكذا رُوي عن عطاء الخرساني.

وقال مجاهد: نزلت هذه الآية في أناس قالوا: استأذِنُوا رسول الله فإن أذن لكم فاقعدوا، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.

ولهذا قال تعالى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: في إبداء الأعذار، وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ يقول تعالى: هلا تركتهم لما استأذنوك، فلم تأذن لأحد منهم في القعود، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- هنا: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ المشهور في المعنى وهو المتبادر وهو الذي يدل عليه السياق، والملابسات التي نزلت فيها الآيات أنه كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أنها معاتبة من الله ، عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ ابتُدئت بهذه البداية اللطيفة، قدم المعاتبة بالعفو، ومن أهل العلم من يقول: إن هذه ليست معاتبة، وإنما كقولك لمن تخاطبه: أصلحك الله ما شأن كذا وكذا؟ أو عفا الله عنك ما شأن كذا وكذا؟ وإذا كان المعنى على هذه فإنه يوقف عليها، يقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ

والأقرب هو الأول -والله تبارك وتعالى أعلم- أنها معاتبة؛ ولذلك يوصل الكلام عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ فليس هذا باستفتاح كلام كما يقوله بعضهم، فمن الناس من يستفتح الكلام بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ تقول: لأبيك أو لأستاذك أو نحو هذا تقول: عفا الله عنك أين أجد كذا وكذا؟ والأول أرجح.

يقول: قال قتادة: عاتبه كما تسمعون ثم أنزل التي في سورة النور، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء فقال: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ يعني باعتبار أن الآية التي في سورة النور ناسخة لآية براءة، وإذا كانت ناسخة فالمعنى أنه ترك الأمر للنبي ﷺ، أذن له أن يأذن لمن شاء منهم، فهذا على النسخ، ولكن النسخ لا يثبت بالاحتمال. 

ولهذا فإن بعض أهل العلم حاول أن يجمع بين الآيتين بين الآية التي عندنا هنا لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وبين آية النور: فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ [سورة النور:62]، فقال بعض أهل العلم: إن الآية التي في سورة براءة فيها النهي عن الإذن قبل الاستثبات، قبل أن يتبين له الصادق من الكاذب، والآية التي في سورة النور بعد الاستثبات بعد أن يتبين له، وهذا ليس من الظهور لدرجة كافية. 

والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن هذه الآية بموضوع يختلف عن موضوع آية النور أصلاً، فهذه الآية في الإذن لهم عن التخلف في الغزو، يأتون ويعتذرون إليه بمعاذير كاذبة، فكان يأذن النبي ﷺ لمن تخلف منهم، وهو كاذب، فمن هؤلاء المعتذرين هؤلاء المنافقون، فأما الآية التي في سورة النور فهي تتحدث عن أدب من آداب المؤمنين أنهم إذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه، ثم قال بعد ذلك: فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله، يعني من آداب المجالسة مع النبي ﷺ، ويمكن أن يؤخذ هذا الأدب أيضاً مع غيره طالما أنه أدب من آداب المجلس، فإذا كانوا معه على أمر جامع يعني ليس بمجلس عفوي، وإنما اجتمعوا لأمر من الأمور ما يذهب الإنسان يقوم من المجلس من غير إذن، يستأذن إذا عرضت له حاجة.

ولا شك أن هذا هو الأدب اللائق خلافاً لأهل الجفاء، فالله أدب المؤمنين أن لا يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي ولا يجهروا له بالقول، ولا يقوموا عنه إن اجتمعوا معه على أمر من الأمور حتى يستأذنوه، فهذه في آداب المجالسة والمخالطة والمصاحبة، ويمكن أن يؤخذ منها أيضاً -أي آية النور وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ [سورة النور:62]، أنهم لو كانوا معه في الغزو لم يذهبوا حتى يستأذنوه، مثل لمّا كان الصحابة مع النبي ﷺ يرابطون على الخندق الله قال: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا [سورة النور:63]، سواءً من المجلس أو من المقام الذي هم فيه في القتال؛ لأن الله سمى ذلك جميعًا مجلساً، كما قال الله -تبارك وتعالى- في سورة المجادلة: إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا [سورة المجادلة:11]، فإن المجالس فسرها بعض السلف في سورة المجادلة بمجالسته ﷺ، وفسرت بالمجالس للصلاة يعني كما في صلاة الجمعة تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فهذا كله يقال له: مجالس، فأذنْ لمن شئت منهم. 

ففي القتال من الناس من يتسللون من مقام المرابطة كما حصل في الخندق، منهم من يستأذن وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [سورة الأحزاب:13]، وبعضهم يتسلل دون أن يستأذن فهنا هذه الآية في الاستئذان في القعود عن الغزو عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ [سورة التوبة:43] في غزوة تبوك، وتلك في الاجتماع به ﷺ ومجالسته، أو الكون معه في أمر جامع، لا ينسحب أحد، ولا يخرج أحد، لا يذهب أحد حتى يستأذن، فهذا أدب مع النبي ﷺ وهو أدب يطلب مع غيره ممن حصل لهم مثل هذا، اجتمعوا على شيء، وليس كل من أراد أن يخرج خرج!، هذا يخرج يتكلم بالهاتف وهذا يخرج يشرب، وهذا يخرج يرجع إلى بيته هذا ليس من الآداب في شيء، هذه أخلاق صحراوية لا تصلح، فرباهم القرآن على خلاف هذا. 

هنا قال: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ، لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ يعني هنا فسرها أو نقل ما يدل على أن "حتى" بمعنى أنه يقول له: لا يأذن لهم حتى يتبين الصادق، ويتبين الصادق أنه إن قال له: لا، وهو صادق فسيتحامل على الخروج، ويخرج لا يجد بداً، لكن المنافق أو الكاذب سيقعد ويتخلف، ويتبين بهذا نفاقه، فهو مبيّت أصلاً للقعود، وجاء يعتذر بهذه الأعذار الكاذبة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ، وبعضهم يقول غير هذا في المعنى لكنه غير ظاهر.

ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله، فقال: لا يَسْتَأْذِنُكَأي: في القعود عن الغزو الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ؛ لأنهم يرون الجهاد قربة، ولما ندبهم إليه بادروا وامتثلوا، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ أي: في القعود ممن لا عذر له

الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِأي: لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم، وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْأي: شكت في صحة ما جئتهم به، فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أي: يتحيرون، يُقَدِّمُون رِجلا ويؤخرون أخرى، وليست لهم قدم ثابتة في شيء، فهم قوم حيارى هَلْكى، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا.

وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ هنا قال: أي شكت يمكن أن نقول هذا باعتبار المعنى الأصلي أو على القول بأن هذه مرادفة لهذه، والواقع أن الريب وإن كان يشترك مع الشك في المعنى الأصلي لكنه يختلف عنه، فـ "الريب" أخص من مطلق الشك، والفرق بينهما أن "الريب" شك مع قلق، هذا التردد الذي في النفس حينما يصاحبه شيء من القلق يقال له ريب، فقد تقول: أنا أشك مثلاً هل نزل مطر أو لا؟ هل نزل مطر الليلة أو لم ينزل؟ لكن لا يقال: أنا مرتاب هل نزل مطر أو لم ينزل؟ ولو عبر واحد بهذه الطريقة لقيل عنه: هذا ليس عربياً، لكن يمكن أن يقال: أنا مرتاب في أمر فلان، بمعنى شك يساوره قلق، أنا مرتاب في القضية الفلانية، أنا مرتاب في التصرف الفلاني، أنا عندي ريب أنا مرتاب في عذر فلان أنا مرتاب في سلوك هذه المرأة، شك مع قلق، لكن لا يقال: أنا مرتاب هل أصلحت الباب أو لا؟ أنا شاك يعني هل أصلحت الباب أو ما أصلحته؟ ناسٍ فهو شاك، واضح الفرق؟ شك مع قلق يقال له: ريب.

وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ۝ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [سورة التوبة:46، 47].

يقول تعالى: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ أي: معك إلى الغزو لأعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أي: لكانوا تأهبوا له، وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ أي: أبغض أن يخرجوا معك قَدرًا، فَثَبَّطَهُمْ أي: أخرهم، وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ أي: قدرًا.

ثم بين الله تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين فقال: وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي: ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم وكلامهم، يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم، فيؤدي هذا إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير.

وقال محمد بن إسحاق: كان الذي يستأذن -فيما بلغني- من ذوي الشرف منهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول والجَدُّ بن قيس، وكانوا أشرافا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده، وكان في جنده قومٌ أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم، فقال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ.

هنا يقول الله : وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ أي خروجهم للقتال، فثبطهم ثنى عزائمهم عن ذلك، وقد يرد سؤال هنا وهو أن الله يحب الجهاد في سبيله، ويدعو إليه، وأمر به عباده المؤمنين، فكيف قال هنا: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ يعني أسرعوا، خِلالَكُمْ يعني للإفساد بينكم، يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يطلبونها لكم، والمشكلة أن فيكم سماعين لهم، وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ فكره الله انبعاثهم لهذا فخروجهم ليس بجهاد وإنما هو عكس مقصود الجهاد وإن كانوا قد خرجوا بصورة المجاهدين، فهم أهل شر وإرجاف وإفساد بين الناس، فالله أراده ديناً وشرعاً وكرهه لهم أو ثبطهم عنه قدراً كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ، وهنا أيضاً: وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ قال: قدراً، يعني قيل لهم ذلك قدراً فكان لابد من تخلفهم؛ لأن الله قدر ذلك، وهذا من أحسن ما تفسر به -والله أعلم؛ لأن بعضهم يقول: وَقِيلَ اقْعُدُوا يعني الشيطان ألقى ذلك في قلوبهم، وبعضهم يقول: قال ذلك بعضهم لبعض: اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ، وبعضهم يقول: إن النبي ﷺ قال ذلك على سبيل الغضب والسخط عليهم حينما استأذنوه وهم أغنياء اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ

والأقرب -والله أعلم- ما ذكره الحافظ ابن كثير هنا وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ فعبر به عن الخذلان لهم، والمراد بـ "القاعدين" النساء والصبيان، وأهل الأعذار من الزمنى والمرضى والأعرج والأعمى، فرضوا بهذا، وهذا لا يرضى به من كان مؤمناً صادقاً، فعليٌّ لما خلفه النبي ﷺ في المدينة قال له: يا رسول الله أتجعلني مع النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي[1]، فالمؤمن الصادق لا يرضى بالتخلف عن رسول الله ﷺ؛ ولهذا كان أصحاب الأعذار الصادقة ليسوا بأصحاب أعذار فكان الفقراء الذين لا يجدون ما يتجهزون به إذا جاءوا إلى النبي ﷺ وقال لهم: لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ۝ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ [سورة التوبة:92، 93]، الخوالف يعني مثل هؤلاء النساء والمرضى. 

يقول: لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً أي: لأنهم جبناء مخذولون، والخبال معناه الفساد بالنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف بين المؤمنين، مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً، فيحصل الوهن والضعف في الجيش، فخروجهم لا خير فيه، وإنما هو ضرر على المسلمين، قال: أي: لأنهم جبناء مخذولون، وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ الخلل الفرجة بين الشيئين، وقيل: منه الخلة يعني الحاجة والفقر والمسغبة خلة، وفسر بهذا الخصاصة وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [سورة الحشر:9] كما في سورة الحشر في مدح الأنصار .

وَلأوْضَعُوا خِلالَكُمْ أي: بينكم، يعني يسعون بينكم بالفساد يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يعني يطلبونها لكم، فهم يسعون لإيقاع الفتنة بين المؤمنين، هذا إذا قلت: بغيتُه لكذا، يعني طلبته له، وإذا قلت: أبغيته كذا يعني أعنته على طلبه، أبغوني ضعفاءكم.

وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ هنا فسرها قال: أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي هناك ناس يقبلون منهم ويستجيبون لهم وهذا المعنى الذي رجحه ابن القيم -رحمه الله- خلافاً لمن فسره كابن جرير بأن فيكم سماعون لهم أي ينقلون حديثكم لهم، ينقلون الحديث لهم بمعنى كأنهم عيون وجواسيس ينقلون أخباركم وحديثكم إليهم، ووجه ترجيح ابن القيم لهذا، ابن القيم رجحه بأن المنافقين أصلاً كانوا مخالطين للمسلمين، ولا يحتاجون إلى عيون فهم أنفسهم عيون، هم مخالطون لهم؛ ولذلك جاءت الخطورة، فالمنافقون أخطر على المسلمين من الكافرين؛ لأنهم يخالطونهم صباح مساء في المسجد، وفي الغزو وفي كل مكان، فيعرفون كل ما يجري معهم في داخل الصف، فهؤلاء هم الذي يمكن أن يدلّوا العدو على جوانب الضعف عند المسلمين، ويخبرون عن كل شيء يتعلق بهم من عَددهم، وعُددهم، وكلامهم، وما يخططون له، فهذه الخطورة، وابن القيم -رحمه الله- يقول: إن هؤلاء المنافقين ليسوا منعزلين منفردين فيحتاجوا إلى إرسال العيون من أجل التعرف على ما يجري، فهم مخالطون فلذلك سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي: يقبل منهم ويستجيب، وليس ينقل حديثكم إليهم.

وأما ابن جرير -رحمه الله- فوجه الترجيح عنده وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، يقول: إن هذه اللفظة سَمَّاعُونَ لَهُمْ تستعمل في مثل هذا -في نقل الحديث، وأما في الاستجابة فإنه يقال: فلان يسمع لفلان أو سامع لفلان، لا يقال: سمّاع له، وجرت العادة أن يعبر عن الشخص المستجيب يقال: فلان يسمع لفلان، فلان سامع لفلان، أي سامع ومطيع، لكنْ سمّاع لفلان يقول: ما جرت العادة أن يعبر بهذا عن الاستجابة والقبول.

والمعنى الأقرب -والله أعلم- المتبادر وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أي مستجيبون، فيكم من يقبل ويؤثر فيه هذا الكلام، فلو خرجوا لحصل الخلاف والشر بين المسلمين، يوجد من المسلمين من لا يتفطن ولا يحذر من هؤلاء المنافقين وما يلقونه ويطرحونه فيجلس فيقبل منهم، هذا هو المعنى الأقرب. 

والمعنى الثاني غير ممتنع، يعني من قال من أهل العلم كابن القيم -رحمه الله: لو ناس بهذه المثابة يسمعون لهم فهم منهم، لكن قد لا يكون منافقاً قد ينقل لهم الحديث ثقة بهم وهو لا يعلم بنفاقهم، باعتبار منزلتهم ومكانتهم من ناحية التعصب القبلي، أو غير ذلك، يمكن أن يوجد هؤلاء، ولذلك النبي ﷺ لم يقتل المنافقين، ولم يقتل عبد الله بن أبي، ولما قام النبي ﷺ على المنبر في قصة الإفك وقال: من يعذرني برجل قد بلغ أذاه أهلي أو في أهلي...... فقام أسعد بن زرارة من الأوس، وقال: يا رسول الله مرنا إن كان منا معشر الأوس قتلناه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا بأمرك، فقام سعد بن عبادة وقال: كذبت والله لا تقتله ولا تقدر على قتله! وقام رجل آخر يرد عليه قال: بل كذبت أنت وأنت منافق تدافع عن المنافقين، هؤلاء ناس ليسوا من المنافقين، ولا من ضعفاء الإيمان، هذا  سعد بن عبادة سيد الخزرج وهذا أسعد بن زرارة، وجاء في بعض الروايات أن الذي قام سعد بن معاذ، لكن سعد بن معاذ قد لا يكون دقيقاً أنه الذي قام، فهؤلاء كبار سواء كان سعد بن معاذ، أو  أسعد بن زرارة، وأسعد بن زرارة هو الذي استقبل مصعب بن عمير قبل هجرة المسلمين إلى للمدينة، وهو الذي كان بمنزله القيم أو العريف أو الأمير على من آمن في البداية، فإذا كان هذا يقع بين هؤلاء الكبار الثقات فكيف بالضعفاء ضعفاء الإيمان ومن كان إيمانه مدخولاً! وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ، والله أعلم.

ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فأخبر بأنه يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون؛ ولهذا قال تعالى: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا، كما قال تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [سورة الأنعام: 28]، وقال تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [سورة الأنفال:23]. 

وقال تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [سورة النساء:66-68] والآيات في هذا كثيرة.

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ [سورة التوبة:48].

يقول تعالى محرضا لنبيه على المنافقين: لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ أي: لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة، وذلك أول مقدم النبي ﷺ المدينة رمته العرب عن قوس واحدة، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها.

يعني حاربه منافقوها قبل أن يظهروا النفاق حينما كانوا من المشركين، ومعلوم خبر عبد الله بن أبيّ لما جاء النبي ﷺ على حمار يعود سعد بن عبادة فمر على مجلس فيه المشركون والمسلمون، فوضع عبد الله بن أبيّ قبل أن يظهر إسلامه وضع كمه أو طرف عمامته على أنفه، وقال: لا تغبروا علينا! فلما وقف النبي ﷺ يعظهم ويذكرهم ويدعوهم إلى الله قال: أيها الرجل اجلس في رحلك يعني في مكانك أو في بيتك فمن أتاك فأسمعه حديثك ولا تغْشَنا في مجالسنا، فقام عبد الله بن رواحة ، وقال: بل يا رسول الله اغشنا في مجالسنا، وعبد الله بن أبيّ كان ذلك الوقت لم يظهر الإسلام، فحصل بين الناس شجار، وضرب بالجريد وبالنعال، فالمقصود أنهم كانوا يقاومون إلى آخر شيء يمكنهم أن يقاوموا به، ثم بعد غزوة بدر قال لهم -قبحه الله: هذا أمر قد تَوجَّه فادخلوا، يعني لا سبيل لمقاومته، شب وخرج عن الطوق فدخلوا فيه ظاهراً، وبدءوا يكيدون له إلى آخر نفس.

فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمر قد تَوَجَّه، فدخلوا في الإسلام ظاهرًا، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم؛ ولهذا قال تعالى: حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ.

هؤلاء المنافقون طول الفترة التي بقوا فيها لم يكن أحد منهم مقرباً إلى النبي ﷺ في يوم من الأيام إطلاقاً، ولم يكن أحد منهم يذكر له بلاء قط في يوم من الأيام أبداً، ولا مقام ينصر فيه دين الله ، فعبد الله بن أبي كان يقف قبل صلاة الجمعة ويمسك المنبر ويجلس يتكلم قبل وقوف النبي ﷺ على المنبر، ويقول: أيها الناس لقد ساق الله إليكم هذا النبي، وكذا فآمنوا به، واتبعوه، فلما وقع منه ما وقع حينما قال: مَاذَا قَالَ آنِفًا؟ [سورة محمد:16] لا يفقه، ولا يحفظ، ولا ترتفع همته لشيء، وإذا حضر المجلس نام هو فقط، فشغلُه جالس يطالع في الموجودين، ليس له شغل إلا هذا، لا يحفظ آية ولا يحفظ حديثاً ولا ينتفع بشيء، ليس أهلا لذلك، ولذلك ما يمكن لهذا أن يروي حديثاً، وحتى لو رواه لا يقبلون منه، فالصادق يعرف من كلامه، وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [سورة محمد:30] ويعرف من قسمات وجهه، ويعرف من حاله ومسلكه وطريقته، هذا أمر لا يخفى عند الناس.

وقد ذكر بعض أهل العلم مثل ابن الجوزي كلاماً طويلاً في هذه القضية، أن الناس يعرفون الصادق ولو لم يتكلم ويجدون محبةً له ولو لم يطلعوا على حقيقة عمله في السر، يجدون طمأنينة إليه، ومحبة ويكون له من الذكر الجميل حتى في أشياء لربما لم يعملها، أو في أمور يعملها في السر فيظهرها الله ، والكاذب تنقبض منه القلوب، وينقبض منه الناس، ويكرهونه، ويجعل الله له من النفرة في قلوب المؤمنين ما لا يخفى. 

فهؤلاء المنافقون الله حافظ دينه لا يمكن أن يكون هؤلاء حملة للدين، ولذلك لا تراهم أبداً في موقف واحد مشرف في الجهاد، أو في غيره حتى لو كان يلتبس على الناس، يعني الرجل الذي قال فيه الصحابة: فلان أبلى اليوم وفلان كذا فقال النبي ﷺ: هو في النار[2]، فلا يقال: الله ختم له بالسعادة، فلان جيد، فلان شهيد، لا، هو في النار، فيذهب ويتابع ثم يصاب بالجراحة الشديدة ويتكئ على ذباب سيفه ثم يقتل نفسه، ويقول: كنت أقاتل حمية لقومي!! لاحظ! كنت أقاتل حمية لقومي! تبين أمره للنبي ﷺ حينما قيل: فلان كذا، قال هو في النار، حتى الذي غلّ الشملة، دخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، ويرسل معاذاً إلى اليمن، ويقول عن عمر : لو سلك عمر فجًّا لسلك الشيطان فجًّا آخر[3]، والأشياء التي جاءت في مناقب الصحابة، ومحبة النبي ﷺ لهم كما في قوله: إنك لست منهم، إنك تحب الله ورسوله، أو كما قال النبي ﷺ لثابت بن قيس بن شماس لما كان يرفع صوته، خشي أن يحبط عمله: لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ [سورة التوبة:117]، وبعدها وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ [سورة التوبة:118].

هكذا تأتي الآيات، فهذا أمر لا يخفى أبداً، ولا يمكن أن يأتي نقل الدين والرواية والعلم وكذا عن طريق هؤلاء المنافقين إطلاقاً، فالواحد منهم يبقى ليأكل فقط هذا غاية همه، هو لأجل ماذا ينافق ويتقلب وكل يوم طالع له، كما قال الله : وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَأتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا [سورة الأحزاب:14] "أتوها" يعني يعطون الكفار الغزاة الذين دخلوا المدينة مباشرة، هم يعلنون الردة، فهؤلاء لا يكونون من حملة الرسالة ولا من القادة، ولذلك ما تجد في أي مقام ولا حتى قائد سرية من المنافقين.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [سورة التوبة:49].

يقول تعالى: ومن المنافقين من يقول لك يا محمد: ائْذَنْ لِي في القعود وَلا تَفْتِنِّي بالخروج معك، بسبب الجواري من نساء الروم.

ومن أهل العلم من يقول المراد: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّييعني لا تمتنع من الإذن فيكون ذلك فتنة لي، لا تحملني على الخروج وأنا لا أستطيع الخروج، وَلا تَفْتِنِّي رخِّصْ لي في القعود ولا يكن امتناعك سبباً لفتنة، يعني بعضهم يرى أن هذا هو المعنى، وورد في سبب نزولها أن الجد بن قيس -عدد من الروايات- أنه هو الذي قال له النبي ﷺ: هل لك في بنات بني الأصفر؟ أو بجلاد بني الأصفر؟ كما جاء في بعض الروايات فهو يقول: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي يقول: أنا لا أتحمل بنات بني الأصفر، بنات الروم الشقراوات فأفتن، ما شاء الله يتظاهر بالورع يريد غض بصره!! فيتخلف عن رسول الله ﷺ وكل هذا من أجل -ما شاء الله- حفظِ وحياطة دينه، ورع الكاذب البارد، وبعضهم يقول: إنهم قالوا هذا يفتنكم يعني يغريكم بالغزو يذكر نساء بني الأصفر نساء الروم يقول: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي وبعض هذه الروايات مثل ما صحت في أنها نزلت في الجد بن قيس ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي يقول: أنا لا أحتمل أن أرى نساء بني الأصفر.

قال الله تعالى: أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ أي: قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا.

وبتخلفهم وبنفاقهم.

كما قال محمد بن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رُومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: قال رسول الله ﷺ ذات يوم، وهو في جهازه للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك يا جَدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أوْ تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن، فأعرض عنه رسول الله ﷺ وقال: قد أذنت لك، ففي الجَدِّ بن قيس نزلت هذه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي الآية[4].

ذكر هذه الروايات عن محمد بن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن قتادة كل هذا مراسيل لكنه صح ذلك من حديث جابر بن عبد الله .

أي: إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله ﷺ والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم.

وهكذا روي عن ابن عباس، ومجاهد، وغير واحد: أنها نزلت في الجد بن قيس، وقد كان الجد بن قيس هذا من أشراف بني سلمة.

تضبط سلِمة بكسر اللام بني سلِِِِمة، وفيها: بني سلِمة ديارَكم تُكتب آثاركم[5]، وهم الذين ورد فيهم إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ [سورة آل عمران:122]، ومساكنهم معروفة قريبة مما يسمى الآن بمسجد القبلتين.

وفي الصحيح: أن رسول الله ﷺ قال لهم: من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: الجد بن قيس، على أنا نُبَخِّله، فقال رسول الله ﷺ: وأي داء أدوأ من البخل؟ ولكن سَيِّدكم الفتى الأبيض الجَعْد بِشْر بن البراء بن مَعْرُور[6].

وقوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ أي: لا مَحيد لهم عنها، ولا مَحيص، ولا مَهرَب.

فالنبي ﷺ قال: من سيدكم يا بني سلمة؟ في أول الهجرة.

  1. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبي الحسن ، برقم (3503)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة -، باب من فضائل علي بن أبي طالب ، برقم (2404).
  2. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وأن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار وأنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، برقم (112).
  3. رواه البخاري، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي ، برقم (3480).
  4. رواه ابن جرير الطبري في التفسير، (14/287)، برقم (16788)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2988).
  5. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل كثرة الخُطى إلى المساجد، برقم (665).
  6. رواه البخاري في الأدب المفرد، برقم (296)، والحاكم في المستدرك، برقم (4965)، وقال: صحيح على شرط مسلم    ولم يخرجاه، والطبراني في المعجم الكبير، برقم (163)، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد، برقم (227).

مواد ذات صلة