الثلاثاء 10 / جمادى الأولى / 1446 - 12 / نوفمبر 2024
[20] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} الآية 130 إلى قوله تعالى: {وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} الآية 136.
تاريخ النشر: ٠٩ / شعبان / ١٤٢٦
التحميل: 6913
مرات الإستماع: 2506

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

وقوله تعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ [سورة آل عمران:126] أي: وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارةً لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً، وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ۝ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [سورة محمد:4-6]
ولهذا قال هاهنا: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126] أي: هو ذو العزة التي لا تُرام، والحكمةُ في قَدَرِه والإحكام.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ [سورة آل عمران:126] الحافظ ابن كثير -رحمه الله- حمل ذلك على إنزال الملائكة، يعني وما جعله الله -أي المدد بالملائكة الذي في قوله: أَنِّي مُمِدُّكُم [سورة الأنفال:9]- إلا بشرى لكم، وهذا هو المشهور وهو الأليق بالسياق.

ومن أهل العلم من جعل ذلك يرجع إلى التسويم، يعني مسومين وما جعله الله إلا بشرى لكم، وهذا لا يظهر كل الظهور والله تعالى أعلم، وعلى كل حال هذه الآية يستدل بها من يقول: إن الملائكة لم تقاتل لا في بدر، ولا في غير بدر، وقالوا: إن الله ذكر ذلك بصيغة الحصر، يعني وما جعله -أي الإنزال- إلا بشرى، وأقوى صيغة من صيغ الحصر هي النفي والاستثناء، وهو هنا لم يذكر القتال وإنما البشارة وطمأنينة القلب. 

لكن على كل حال السياق هنا يدل على أن النصر لا يتنزل من جهة سوى الله -تبارك وتعالى- فالذين يُنزِّلون النصر ليسوا هم الملائكة ولا غير الملائكة؛ وذلك من أجل أن ترتبط القلوب بالله فحينما يذكر هذه القضية لتحقيق هذا المعنى فإن ذلك لا يدل على نفي أمور أخرى حصلت مع تنزيل الملائكة -عليهم السلام- ولذلك فإن الأرجح من قولي العلماء وهو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم أن الملائكة قاتلوا في يوم بدر.

ومما يحتج به من يقول: إن الملائكة لم تقاتل، من النظر أنهم يقولون: ما الحاجة أن ينزل الله ألفاً أو ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف، وملك واحد يمكن أن يسحق هؤلاء جميعاً ويقتلع الأرض التي يطئون عليها؟

يقال لهم: إن الله له في ذلك حكم بالغة، وإلا فإن النصر يأتي من غير تنزيل الملائكة أصلاً، فالله يخذلهم ويموتون في أماكنهم، والله يقول: وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ [سورة محمد:4] فالمقصود أن مثل هذه الأسئلة والإشكالات لا ترد؛ لأن لله حكماً، والله يفعل ما يشاء لا معقب لحكمه.

ثم قال تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:127] أي: أمركم بالجهاد والجلاد، لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهَدين، فقال: لِيَقْطَعَ طَرَفًا [سورة آل عمران:127] أي: ليهلك أمة مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ [سورة آل عمران:127].

في قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ابن كثير -رحمه الله- ذكر معنىً عام، أي أنه أمركم بالجهاد ليقطع طرفاً من الذين كفروا.

وبعض أهل العلم يربط ذلك بكلام قبله فيقول: إنه متعلق بقوله: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ليقطع طرفاً من الذين كفروا، وذلك بما حصل من قتل سبعين منهم وأسرِ سبعين، وهذا الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- أي أنه متعلق بقوله: ولقد نصركم الله ببدر، أي إن الذي حصل في بدر من الانتصار كان من أجل أن يقطع طرفاً من الذين كفروا، وبهذا الاعتبار يكون ذلك مختصاً ببدر. 

لكن على كلام ابن كثير المعنى أعم من هذا وهو أن الله أمر بالجهاد من أجل حكم بالغة، ومنها ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين فلا يحصل مقصودهم.

ومن أهل العلم من يقول: إنه متعلق بقوله: وما النصر إلا من عند الله ليقطع طرفاً، وهذا القول أبعد من الأول، والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: إنه متعلق بالإمداد بالملائكة، أي يمددكم ربكم، بهؤلاء الملائكة ليقطع طرفاً من الذين كفروا، وعلى كل حال الآيات: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ [سورة آل عمران:123]، إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ [سورة آل عمران:124] وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ [سورة آل عمران:126]، وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126] لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ [سورة آل عمران:127]. 

فالذين قالوا: إنه متعلق بقوله: وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ [سورة آل عمران:126] وصلوها بالتي قبلها مباشرة، أي وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ليقطع، وأقرب هذه المعاني والله تعالى أعلم هو الأول؛ لأن ما ذكر بعده إنما هو تكملة وهو بمنزلة الشرح له، أي: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم، وما جعله الله إلا بشرى، ثم قال: حصل كل هذا ليقطع طرفاً من الذين كفروا.

فقال: لِيَقْطَعَ طَرَفًا [سورة آل عمران:127] أي: ليهلك أمة.

"ليهلك أمة" يعني طائفة، أي فريقاً من الكفار.

مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ [سورة آل عمران:127] أي: يخزيهم ويردهم بغيظهم.

الكبت هو الخزي والحزن أي: إنه يخزيهم ويحزنهم بما يقع لهم من المصائب.

أي: يخزيهم ويردهم بغيظهم، لمّا لم ينالوا منكم ما أرادوا؛ ولهذا قال: أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ [سورة آل عمران:127] أي: يرجعوا خَآئِبِينَ لم يحصلوا على ما أمَّلُوا.

ثم اعترض بجملة دلت على أنّ الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [سورة آل عمران:128] أي: بل الأمر كلّه إليَّ، كما قال تعالى: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40] وقال: لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة البقرة:272] وقال: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة القصص:56].

قال محمد بن إسحاق في قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أي: ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم.

ثم ذكر تعالى بقية الأقسام فقال: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [سورة آل عمران:128] أي: مما هم فيه من الكفر ويهديهم بعد الضلالة أَوْ يُعَذَّبَهُمْ أي: في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم؛ ولهذا قال: فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ أي: يستحقون ذلك.

هنا الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [سورة آل عمران:128] قال قبلها: لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ [سورة آل عمران:127].

بعض أهل العلم يقول: إن قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ معطوف على قوله: أَوْ يَكْبِتَهُمْ وأن "أو" بمعنى إلا، فيكون الكلام بمعنى إلا أن يتوب عليهم، أي: ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم إلا أن يتوب عليهم.

وعلى كل حال يمكن أن تفهم الآية من غير هذا التفسير الذي لا يتبادر إلى ذهن السامع، ويحمل الكلام على ظاهره في أنهم قد يقع لهم هذا أو هذا أو هذا، وأن الله يتصرف فيهم كما يشاء فهم عبيده، وليس الأمر إليك وإنما عليك البلاغ.

والمقصود بقوله: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أي بالهداية إلى الإيمان؛ لأن الله لا يتوب على الكافرين، ولكن توبته على عبده تأتي بمعنى أن يوفقه للتوبة والرجوع إليه، وتأتي بمعنى قبول التوبة، والتوبة معناها الرجوع فتوبة الله على العبد أي برجوعه على عبده بالقبول والمغفرة فقبِل توبته، وغفر ذنبه.

وروى البخاري عن سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية من الفجر: اللهم العن فلاناً وفلاناً بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد فأنزل الله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ الآية [سورة آل عمران:128]. وهكذا رواه النسائي[1].

وروى الإمام أحمد عن سالم عن أبيه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: اللهم العن فلاناً، اللهم العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية[2] فنزلت هذه الآية: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [سورة آل عمران:128] فتِيبَ عليهم كلهم.

وروى البخاري أيضاً عن أبي هريرة  أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد أن يدعو على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع، وربما قال إذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد: اللهم أنجِ الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف يجهر بذلك، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر: اللهم العن فلانا وفلانا لأحياء من أحياء العرب، حتى أنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ الآية [سورة آل عمران:128][3].

على كل حال قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مع هذه الأسباب المذكورة في النزول فهِم منها بعض أهل العلم أن النهي إنما هو عن ذلك كله، وهذا يحتاج إلى نظر وتحرير؛ وذلك أنه يحتمل أن يكون نهاه؛ لأنه سبق في علمه وقدره هداية هؤلاء الناس، فنهاه عن الدعاء عليهم. 

وعلى كل حال يكون ذلك مختصاً بهذه الواقعة جمعاً بين الأدلة، وذلك أن النبي ﷺ دعا على الكفار في مواطن متعددة في الصلاة وفي خارج الصلاة، ودعا ﷺ على قبائل، ودعا على أشخاص، ولعن رجالاً بأعيانهم، وإنما نُهي في هذا الموطن، كما أنه –عليه الصلاة والسلام- دعا لأقوام في القنوت في الصلاة.

فالدعاء على الكفار ولعنهم هذا أمر لا إشكال فيه، وهو أمر دلَّ عليه الكتاب والسنة، ونوح -عليه الصلاة والسلام- قال: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح:26] وقال موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام: رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ [سورة يونس:88] فدعوا عليهم بالربط على القلوب حتى لا يؤمنوا، وليس هناك شيء أبلغ من هذا، والأدلة على هذا كثيرة جداً. 

والذين يتكلفون ويقولون على الله بلا علم وتضيق صدورهم من الدعاء على الكفار ترد عليهم مثل هذه النصوص، وقد يدعو النبي -عليه الصلاة والسلام- لأقوام، وكل مقام بحسبه، فالمقام تارة يقتضي الدعاء عليهم وتارة يقتضي الدعاء لهم، فلسنا مطالبين دائماً بالدعاء للكفار بالهداية، بل أحياناً قد ندعو على كافر أن الله لا يهديه ولا يوفقه، وأن يميته على الكفر، وأن يختم له بخاتمة السوء، وأن يأخذه ويرينا فيه عجائب قدرته وهذا مثل ما دعا موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- على فرعون، ففي كل مقام حال مناسبة، والله تعالى أعلم.

وقال البخاري: قال حميد وثابت عن أنس بن مالك -: "شُج النبي ﷺ يوم أحد، فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم؟ فنزلت: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [سورة آل عمران:128][4].

وروى الإمام أحمد عن أنس أن النبي ﷺ كسرت رباعيته يوم أحد، وشج في جبهته حتى سال الدم على وجهه، فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم ؟ فأنزل الله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [سورة آل عمران:128][5] ورواه مسلم[6].

هذه الروايات المتعددة في سبب النزول روايات صحيحة وهي صريحة، ومعنى الصريح من أسباب النزول هو ما ذكر فيه سبب أو حادثة أو سؤال، ثم قال بعد: فأنزل الله كذا، أو فنزلت الآية، فهذا كله من قبيل الصريح، تارة بأنها نزلت في لعن النبي ﷺ لرجال من قريش بأعيانهم، أو في دعائه ﷺ على قبائل، أو فيما حصل له ﷺ في أحد حينما قال ما قال، هذه كلها أسباب صحيحة وصريحة، فإن تقارب الزمان كان ذلك متقارباً. 

والقاعدة أنه إذا تعددت أسباب النزول فإنه ينظر إلى الثبوت ثم نختار الصحيح، ثم العبارة فنختار الصريح، ثم إنْ تقارب الزمان حُملت الآية على هذه الأسباب جميعاً، يقال: حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، فنزلت الآية بعد هذه الأشياء جميعاً، وإنْ تباعد حُمل على تكرر النزول، أي أنها نزلت في أكثر من مناسبة، وبعض أهل العلم في مثل هذا الموطن يعمد إلى الترجيح بطريقة من طرق الترجيح الكثيرة، كأن يرجح مثلاً رواية الصحيحين، أو رواية البخاري أو نحو هذا. 

ولكن الترجيح فيه إهدار لأحد الأدلة والجمع مطلوب ما أمكن، فمثل هذه الأشياء حينما دعا النبي ﷺ على هؤلاء من قريش وغيرهم وما وقع في أحد، هذه القضايا متقاربة، حيث إن هناك أشياء وقعت بعد أحد فينظر في مثل هذا.

ثم قال تعالى: وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [سورة آل عمران:129] أي: الجميع ملك له، وأهلهما عبيد بين يديه يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء [سورة آل عمران:129] أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [سورة آل عمران:129].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ۝ وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ۝ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۝ وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [سورة آل عمران:130-136].

هذه الآية تتحدث عن الربا، وسياق الآيات جميعاً يتحدث عن غزوة أحد، فإدخال هذه الآية في وسط الآيات التي تتحدث عن أحد هل له وجه يظهر لنا؟ هل يمكن أن نستشف من هذا شيئاً؟ ما وجه الارتباط في المعنى؟

حينما ذكر الله آيات الصيام ثم ذكر في أثنائها وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [سورة البقرة:186] قال العلماء: إن للصوم مزية وللدعاء تعلق خاص بالصيام أو برمضان لوجود ليلة القدر مثلاً، أو لأن للصائم دعوة مستجابة؛ لذلك دخلت آية الدعاء بين آيات الصيام.

ووجه ذكر معصية التعامل بالربا أثناء الحديث عن غزوة أحد يمكن أن يكون سببه ذكر المعصية التي سببت الهزيمة.

ويمكن أن يقال أيضاً: إن الربا حرب لله ولرسوله كما قال تعالى في الآية الأخرى: فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ [سورة البقرة:279] فالمواطن التي يُتعاطى فيها الربا هي قلاع لحرب الله ورسوله، والمشتغلون الموظفون فيها هم جنود في تلك القلاع يحاربون الله ورسوله، فإذا كان ذلك موجوداًَ في المجتمع، فكيف ينتظر النصر من يحارب الله ورسوله؟ فهذه الهزيمة التي وقعت وما ذكر من أسباب النصر ذُكر في أثنائه الربا الذي خصه الله من بين سائر الذنوب بأنه حرب لله ولرسوله ﷺ والله أعلم..

يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة.

قوله تعالى: لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً [سورة آل عمران:130] فهم منه بعض المحللين لكثير من أنواع الربا أن الذي نهي عنه هو أن يؤكل الربا بهذه الصفة، فقالوا: هذا الذي لا يجوز وما عداه جائز، أي أنه إذا كان الذي يؤخذ نسبته خمسة بالمائة أو سبعة بالمائة أو عشرة بالمائة وما أشبه هذا فليس هذا أضعافاً مضاعفة!!

لكن هذا الفهم الأعجمي ليس صحيحاً وإنما الصحيح أن يقال: إنه -تبارك وتعالى- ذكر صورة مقززة هي من أقبح صور الربا التي تفتك في المجتمع وهي أخذه بهذه الصفة حيث كان ذلك فاشياً في الجاهلية، وإلا فالمقصود أن الربا بجميع أنواعه محرم سواء كان بهذه الصفة أو بغيرها والمفهوم هنا غير معتبر؛ لأن من المواطن التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة أن تكون الآيات نزلت على وفاق واقع معين، وهذه الآية نزلت بناءً علي وفاق معين كان فاشياً في الجاهلية وهو هذه الصورة المذكورة. 

ومثل هذه الآية قوله تبارك وتعالى: لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران:28] حيث نزلت بسبب أناس والوا الكفار من دون المؤمنين، فلو أن إنساناً قال: أنا أوالي الكفار والمؤمنين معاً، نقول له: لا، فالآية لا مفهوم لها؛ لأنها نزلت على وفاق واقع معين، كما قال في المراقي:

كذا دليل للخطاب انضافا ودع إذا الساكت عنه خافا
أو جهل الحكم أو النطق انجلب للسؤل أو جرى على الذي غلب
أو امتنان أو وفاق الواقع والجهلِ والتأكيد عند السامع

هذه هي الحالات التي لا يعتبر فيها مفهوم المخالفة، فالأصل أنه حجة عند الجمهور، لكن في حالات معينة لا يكون فيها حجة كما في هذه الآية.

كما كانوا يقولون في الجاهلية -إذا حل أجل الدين: إما أن يقضِي وإما أن يربِي، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده الآخَر في القدر، وهكذا كل عام، فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيرًا مضاعفاً.

أي أنه بهذه الطريقة يصير أضعافاً مضاعفة حيث يصير المال المطلوب سداده أكبر من أصل المال المقرَض.

وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى والأخرى ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها، فقال تعالى: وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ۝ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة آل عمران:131-132].

يقول تعالى: وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة البقرة:189]، ولفظة "لعل" إما أن تحمل على التعليل وإما أن تحمل على معنى الترجي، ومعلوم أن الله لا يحصل منه الترجي؛ لأن الترجي إنما يقع ممن لا يعلم عواقب الأشياء لكنه يترجى وقوع الشيء ولا يدري هل يقع أم لا يقع.

وإذا فسرت "لعل" بأنها للترجي في مثل هذه الآية، فيكون ذلك باعتبار حال المخاطب، يعني على رجائكم، فقوله تعالى مثلاً: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44] يعني على رجائكما يا موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام.

ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعْل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات، فقال تعالى: وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران:133] أي: كما أعدّت النار للكافرين.

وقد قيل: إن معنى قوله: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ تنبيها على اتساع طولها، كما قال في صفة فرش الجنة: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [سورة الرحمن:54] أي: فما ظنك بالظهائر؟

وجه الارتباط بين المثالين أنه في هذه الآية: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يقصد أنه ليس بحاجة إلى أن يبين حال الظواهر، بمعنى أنه إذا كانت البواطن التي توضع عادة من وضيع الثياب من الأقمشة التي لا قيمة لها؛ لأنها لا تظهر للناس جعلت من إستبرق فما بالك بالظواهر؟ إذاً: هذه لا يُحتاج أن توصف.

وإذا كان تراب الجنة من مسك، والزعفران حشيش نابت فيها فما بالك بجواهرها، فالمقصود أن هناك أشياء ينبه بها على أشياء.

وهنا في قوله -تبارك وتعالى: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ يحتمل معنيين:

المعنى الأول: بما أن السماوات جمع، والأرض جنس يصدق على الأرضين السبع، فمن أهل العلم من يقول: إن المراد أن هذه السماوات العظيمة إذا بسطت كبسط الثياب ووصل بعضها ببعض، وبسطت الأرض بطبقاتها السبع ووصلت وصل الثياب فهذا هو عرض الجنة.

المعنى الثاني: من أهل العلم من يقول: إن ذلك على طريقة العرب في المبالغة، فإذا أرادوا ذكر سعة شيء ذكروا مثل هذا، فقوله: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أي أنها واسعة العرض.

ومن أهل العلم من قال: إن ذكر العرض يغني عن ذكر الطول؛ لأن العرض عادة أقل من الطول، والعرب تذكر عرض الشيء ليفهم السامع قدر طوله، فإذا كان العرض بهذا المقدار عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، إذاً: فطولها لا شك أنه أعظم من هذا، ولكن هذا لا يجزم به هنا حيث لا يلزم أن تكون الجنة مستطيلة.

والعلماء يتكلمون في الأفلاك أن لها صفة الكروية، وأن العرش بمنزلة القبة أو بمنزلة السقف للجنة، والنبي ﷺ قال: إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن[7] وذكر أنه تفجر منه أنهار الجنة، فلا يلزم أن تكون الجنة مستطيلة، لكن فهم بعض أهل العلم من ذكر العرض وأنه بهذه المثابة من الاتساع أن ذلك دليل على أن الطول أعظم، وهذا لا يلزم؛ فالعرب قد تذكر العرض في أغلب كلامها، والله أعلم.

وقيل: بل عرضها كطولها؛ لأنها قبة تحت العرش، والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح: إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وسقفه عرش الرحمن[8]، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحديد: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ الآية [سورة الحديد:21].

قوله: كَعَرْضِ السَّمَاء السماء هنا جنس والجنس يصدق على الواحد والكثير فلا إشكال بين هذه الآية وآية آل عمران: عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [سورة آل عمران:133].

روى البزار عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: أرأيت قوله تعالى: وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ [سورة آل عمران:133] فأين النار؟ قال: أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء فأين النهار؟ قال: حيث شاء الله، قال: وكذلك النار تكون حيث شاء الله [9]، وهذا يحتمل معنيين:

أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله .

الثاني: أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليّين فوق السماوات تحت العرش وعرضها كما قال الله : كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ [سورة الحديد:21] والنار في أسفل سافلين فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم.

على كل حال هذه الأمور الغيبية الإنسان لا يخوض فيها، وإنما يؤمن بها كما أخبر الله .

ثم ذكر تعالى صفة أهل الجنة فقال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء [سورة آل عمران:134] أي: في الشدة والرخاء والمنشط والمكره والصحة والمرض، وفي جميع الأحوال، كما قال: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً [سورة البقرة:274] والمعنى أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر.

يعني قدموا الإحسان والبذل والنفقة حيث دعت الحاجة سواء كان ذلك في الليل أو في النهار، وينفقون في السراء وفي الضراء، ومن الناس من يبخل في حال السراء ولا ينشط للنفقة، ومن الناس من يمسك في حال الضراء ويزداد خوفه على ما في يده وتنتابه ألوان الوساوس فيزداد حرصه فلا يبذل شيئاً.

وقوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [سورة آل عمران:134] أي: إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يُعملوه وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب[10] وقد رواه الشيخان.

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: من أنظر معسراً أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حَزْنٌ بربوة -ثلاثاً- ألا إن عمل النار سهل بسهوة.

قوله: حَزْنٌ بربوة الربوة هي المكان المرتفع والحزن هو الصعب أو الذي يصعب المشي فيه فهو ليس سهلاً، والمعنى أن ذلك يحتاج إلى جهد ومجاهدة ومشقة وصبر وتحمل.

وقوله: ألا إن عمل النار سهل بسهوة السهوة هي الأرض ذات التربة اللينة السهلة التي يسهل المشي عليها دون مشقة.

من أنظر معسراً أو وضع له وقاه الله من فيح جهنم، ألا إن عمل الجنة حَزْنٌ بربوة -ثلاثاً- ألا إن عمل النار سهل بسهوة، والسعيد من وقي الفتن، وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد، ما كظمها عبد لله إلا ملأ جوفه إيماناً[11] انفرد به أحمد، وإسناده حسن ليس فيه مجروح، ومتنه حسن.

وبعض أهل العلم ضعف الحديث؛ لأن فيه رجلاً مجهولاً، لكن قوله: من أنظر معسراً يوجد ما يشهد له[12]، ولهذا فهو يحتمل التحسين، لكن إسناده عند الإمام أحمد فيه رجل مجهول.

وروى الإمام أحمد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال: من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه، دعاه الله على رءوس الخلائق، حتى يخيره من أي الحور شاء[13] ورواه أبو داود والترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حسن غريب.

وروى ابن مردويه عن ابن عمر -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: ما تجرع عبد من جرعة أفضل أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله [رواه ابن جرير وكذا رواه ابن ماجه][14].

وهذا يشهد لبعض الحديث السابق، وهذا هو المعتاد المعمول به.

فقوله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ [سورة آل عمران:134] أي لا يُعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم، ويحتسبون ذلك عند الله .

ثم قال تعالى: وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [سورة آل عمران:134] أي: مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد، وهذا أكمل الأحوال، ولهذا قال: وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فهذا من مقامات الإحسان، وفي الحديث: ثلاث أقسم عليهن: ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً، ومن تواضع لله رفعه الله[15].

هذا التفسير مثل ما تقول: عفت الريح الأثر إذا طمسته ومحته فلا يبقى له في النفس بقية أو أثر، وأما الصفح فهو الإعراض كما في قوله تعالى: فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ [سورة البقرة:109] فالصفح من صفحة العنق وهو أن يُعرض الإنسان عن إساءة المسيء، وقد يُعرض الإنسان لكن يبقى في نفسه شيء، وقد يذهب الذي في النفس لكنه يحتاج إلى معاتبة لسبب أو لآخر، والذي ينبغي للمسلم أن يعفو ويصفح.

وقوله تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:135] أي: إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار.

قوله: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً هذا يحتمل أن يكون من قبيل الاستئناف، أي أنه كلام مستأنف جديد باعتبار أن هذه فئة أخرى غير الأولى، فالفئة الأولى أكمل، وهي فئة الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ [سورة آل عمران:134]، فهؤلاء أصحاب الدرجات العالية، ثم تأتي طبقة دون هؤلاء من أهل الجنة وهم الذين يحصل منهم إساءة وتقصير ولكنهم لا يصرون على ذلك بل يتوبون، وهم فئة الذين إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران:135] فهذا احتمال مشى عليه بعض أهل العلم. 

والمعنى الثاني -وهو الأقرب والله تعالى أعلم، واختاره ابن جرير -رحمه الله: أن ذلك من قبيل العطف على ما سبق، وأن هذه الأوصاف جميعاً لطائفة واحدة، أي أنهم بهذه المثابة من الإحسان والبذل والإنفاق والعفو والكظم للغيظ، وإذا بدر منهم شيء فإنهم لا يصرون على ذلك، بل يبادرون إلى التوبة.

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إن رجلاً أذنب ذنبا، فقال: رب إني أذنبت ذنباً فاغفره، فقال الله : عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباًٍ يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباٍ آخر فقال: رب، إني عملت ذنباً فاغفره، فقال -تبارك وتعالى: علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب، إني عملت ذنباً فاغفره لي، فقال الله : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، قد غفرت لعبدي، ثم عمل ذنباً آخر فقال: رب، إني عملت ذنباٍ فاغفره لي فقال الله : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي، فليعمل ما شاء [أخرجه في الصحيح بنحوه][16].

يذكر هذا الحديث ونظائره عند الكلام على الرجاء، ومثل هذه الأحاديث لا تكون مسوغاً للإنسان أن يستمرئ الذنوب والمعاصي، وإنما هي في الإنسان الذي تغلبه نفسه فيتوب ولا يصر على الذنب ثم تغلبه نفسه فيبادر إلى التوبة، فمثل هذه النصوص يعالج بها اليائس والقانط وأولئك الجهال الذين يأتيهم الشيطان، ويقول: أنتم تعملون ذنوباً ثم تظهرون للناس بحلية وصورة أخرى فأنتم تنافقون، وهكذا يحرضهم على ترك العمل الصالح بالكلية، فمثل هؤلاء تفيدهم مثل هذه الأحاديث، لكن هناك أحاديث ونصوص وآيات أخرى تدل على شدة أخذ الله وعقابه ونكاله، فيجب أن تجمع هذه النصوص مع تلك.

وقد روى عبد الرزاق عن أنس بن مالك قال: بلغني أن إبليس حين نزلت: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ الآية [سورة آل عمران:135] بكى.

وقوله تعالى: وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ [سورة آل عمران:135] أي: لا يغفرها أحد سواه.

وقوله: وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:135] أي: تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها.

قوله: ذَكَرُواْ اللّهَ [سورة آل عمران:135] يحتمل أن يكون ذكروه بألسنتهم، ويحتمل أنهم ذكروه بقلوبهم، أو ذكروا وعده ووعيده وعظمته وما ينتظرهم من الوقوف بين يديه، فحصل منهم الاستدراك والرجوع والندم والتوبة، ومعلوم أنه ليس من شرط التوبة أن يذكر الإنسان ربه بلسانه إذا أذنب، ولكن المحرك للتوبة ابتداءً هو أن يتذكر الإنسان عظمة الله وما وقع في حقه من الإساءة والتجرؤ عليه وعلى حدوده، فيكون ذلك دافعاً له إلى الندم؛ لأن الندم أمر قد يطلبه المكلف ولا يحصل له، فالخطاب إذا توجه إلى المكلف بشيء لا يدخل تحت طوقه فإنه يتوجه إلى سببه أو إلى آثاره، فالندم يكون بتذكر عظمة الله المؤدي إلى الندم، بمعنى أنهم لم يستمروا على الغفلة، فيحصل لهم الإبصار بسبب ذلك.

وقوله: وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران:135] أي: تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عن قريب ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها، ولو تكرر منهم الذنب تابوا عنه.

وقوله: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قال مجاهد وعبد الله بن عبيد بن عُمَير: وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن من تاب تاب الله عليه.

وهذا كقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ [سورة التوبة:104] وكقوله: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:110] ونظائر هذا كثيرة جداً.

ويحتمل معنىً آخر ذكره بعض أهل العلم، واختاره ابن جرير -رحمه الله- ولعله هو المتبادر، وهو أن معنى وهم يعلمون، أي: بسوء صنيعهم وقبح عملهم وجنايتهم، فمعنى ذلك أنهم لم يفعلوا هذا الفعل القبيح جهلاً منهم بقبحه وأن الله حرمه وإنما المقصود ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون قبح هذا، فإنهم إن كانوا يعلمون أن الله حرمه فهم يبادرون إلى التوبة منه.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -ا- عن النبي ﷺ أنه قال وهو على المنبر: ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون[17] تفرد به أحمد.

ثم قال تعالى -بعد وصفهم بما وصفهم به: أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ [سورة آل عمران:136] أي: جزاؤهم على هذه الصفات مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة آل عمران:136] أي: من أنواع المشروبات خَالِدِينَ فِيهَا أي: ماكثين فيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ يمدح تعالى الجنة.

  1. أخرجه البخاري في كتاب التفسير - باب تفسير سورة آل عمران (4283) (ج 4 / ص 1661). والنسائي في كتاب صفة الصلاة - باب لعن المنافقين في القنوت (1078) (ج 2 / ص 203).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ – باب تفسير سورة آل عمران (3004) (ج 5 / ص 227) وأحمد (5674) (ج 9 / ص 486) وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (3004).
  3. أخرجه البخاري في كتاب التفسير – باب تفسير سورة آل عمران (4284) (ج 4 / ص 1661) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة - باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة (675) (ج 1 / ص 466) واللفظ للبخاري.
  4. أخرجه البخاري معلقاً في كتاب المغازي - باب لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [سورة آل عمران:128] (ج 4 / ص 1493) وأخرجه مسلم عن أنس في كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أحد (1791) (ج 3 / ص 1417).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ – باب تفسير سورة آل عمران (3002) (ج 5 / ص 226) وأحمد (11974) (ج 3 / ص 99) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
  6. صحيح مسلم عن أنس في كتاب الجهاد والسير - باب غزوة أحد (1791) (ج 3 / ص 1417).
  7. سيأتي تخريجه.
  8. أخرجه أحمد (22790) (ج 5 / ص 321) وأصله في البخاري في كتاب الجهاد والسير - باب درجات المجاهدين في سبيل الله يقال هذه سبيلي وهذا سبيلي (2637) (ج 3 / ص 1028).
  9. أخرجه ابن حبان (103) (ج 1 / ص 306) والحاكم (103) (ج 1 / ص92) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  10. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب الحذر من الغضب (5763) (ج 5 / ص 2267) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب فضل من يملك نفسه عند الغضب وبأي شيء يذهب الغضب (2609) (ج 4 / ص 2014).
  11. أخرجه أحمد (3017) (ج 1 / ص 327) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده ضعيف جداً.
  12. صحيح مسلم في كتاب الزهد والرقائق - باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر (3006) (ج 4 / ص 2301).
  13. أخرجه أبو داود في كتاب الأدب - باب من كظم غيظاً (4779) (ج 4 / ص 394) وابن ماجه في كتاب الزهد - باب الحلم (4186) (ج 2 / ص 1400) وأحمد (15675) (ج 3 / ص 440) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
  14. أخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد – باب الحلم (4189) (ج 2 / ص 1401) وأحمد (6114) (ج 2 / ص 128) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم (2752).
  15. أخرجه أحمد (18060) (ج 4 / ص 231) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (3024).
  16. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ [سورة الفتح:15] (7068) (ج 6 / ص 2725) وأحمد (7935) (ج 2 / ص 296).
  17. أخرجه أحمد (6541) (ج 2 / ص 165) وإسناده حسن كما قال الأرناؤوط.

مواد ذات صلة