الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[35] من قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ} الآية 136 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا} الآية 140.
تاريخ النشر: ١٢ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 2870
مرات الإستماع: 2030

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا آمنوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء:136].

يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا آمنوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136] هذا الأسلوب في الخطاب بعض أهل العلم يقولون فيه وفي نظائره: إن آمنوا هو بمعنى أثبتوا على إيمانكم، لكن هذا التفسير وحده لا يكفي، وأصل هذا الإشكال ومنشؤه أنه كيف خوطب أهل الإيمان بالإيمان، يعني كيف طولبوا بالإيمان وهم قد حققوه؟

ومثل هذا الإشكال ورد في قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] يعني كيف يطلبون الهداية إلى الصراط المستقيم وقد هداهم الله إلى الإسلام، والصراط المستقيم هو الإسلام؟

وحاصل الجواب عن هذا الإشكال هو أن من أهل العلم من يحمل آية النساء هنا على أنها لأهل التوراة والإنجيل -اليهود والنصارى- كما ذهب إلى ذلك كبير المفسرين ابن جرير الطبري.

والمعنى: يا أيها الذين آمنوا بالتوراة وبموسى -عليه الصلاة والسلام- آمنوا بمحمد ﷺ، ويا أيها الذين آمنوا بعيسى وبالإنجيل آمنوا بمحمد ﷺ وما آتاه الله من الوحي، وهذا التفسير لا حاجة إليه؛ لأن الإيمان شعب، وكل ما فرضه الله وأنزله على رسوله ﷺ فهو إيمان جديد يتطلب من المؤمنين أن يدخلوا فيه وأن يذعنوا له، ولذلك فإن النبي ﷺ لما أرسل معاذًا إلى اليمن أمره أن يدعوهم أولاً إلى شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم إن أجابوه دعاهم إلى الصلاة ثم إلى الزكاة وهكذا. 

وقد ذكر ابن عباس نحو هذا المعنى بقوله: إن أول ما خاطب الله به الناس الإيمان بوحدانيته -يعني شهادة إلا إله إلا الله- فلما أذعنوا لذلك نزلت الصلاة، فلما أذعنوا بها زادهم إيماناً ففرض عليهم الزكاة فلما أذعنوا بذلك زادهم إيماناً ففرض عليهم الصيام وهكذا، فهذا الأثر لابن عباس -ا- يبين هذا المعنى، وهو وإن لم يذكر في تفسير هذه الآية لكنه يوضحه.

فالإيمان شعب، وفرائض الإسلام تنزل على رسول الله ﷺ وهم مطالبون بالإيمان بذلك كله، ثم إن الثبات على هذا الإيمان داخل في عموم هذا الخطاب وجزء من هذا المعنى.

ويقال في قوله تعالى: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أي: أن يهديه إلى الصراط المستقيم بمعرفة تفاصيل الصراط -أي هداية العلم الصحيح- ثم إذا عرف الحق فهو بحاجة إلى هداية العمل به، فإذا عمل به فهو بحاجة إلى هداية التثبيت وأن يُختم له عليها، كما أنه بحاجة إلى هداية أخرى هي معرفة تفاضل الأعمال في الهدى إلى أفضلها وأحسنها وأكملها -أعني من غير الواجبات- ثم هو بحاجة إلى هدايات أخرى بعد الموت مثل الهداية إلى الصراط وعلى الصراط وإلى الجنة وإلى منزله في الجنة كما قال تعالى: وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ۝ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ [سورة محمد:4، 5] يعني من بعد ما قتلوا، إلا أن الهداية بعد الموت ليست داخلة في تفسير آية الفاتحة اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6].

وليس هذا من باب تحصيل الحاصل بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه.

كل هذا المعان جمعها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ولم يقل بقول ابن جرير بل قال: إن ذلك من باب الثبات والاستمرار والتكميل، والتكميل معناه أن يؤمن بكل ما ينزل من شرائع الإسلام.

كما يقول المؤمن في كل صلاة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [سورة الفاتحة:6] أي: بَصِّرنا فيه وزدنا هدى وثبتنا عليه، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمنوا بِرَسُولِهِ [سورة الحديد:28].

وقوله: وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [سورة النساء:136] يعني القرآن، وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136] وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة.

وقال في القرآن: نَزَّلَ لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة ولهذا قال تعالى: وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ [سورة النساء:136].

معلوم أن زيادة المبنى لزيادة المعنى، فقوله: نَزَّلَ تدل التنجيم أي أنه نزل منجماً، وهذه المعاني هي معاني تستنبط استنباطاً وليست قاطعة في الدلالة على المعنى؛ لأنك إذا تتبعت نظائر هذا ستجد أشياء تخرج عنها.

وهذه الآية وردت فيها قراءة أخرى متواترة هكذا: (والكتاب الذي نزَل) -بتخفيف الزاي- والقراءات تفسر بعضها بعضاً، ففي سورة الكهف يقول -تبارك وتعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ [سورة الكهف:1].

ثُمَّ قَالَ: وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا [سورة النساء:136] أي فقد خرج عن طريق الهدى وبعُد عن القصد كل البعد.

إِنَّ الَّذِينَ آمنوا ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمنوا ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ۝ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۝ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ۝ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [سورة النساء:137-140].

يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ثم عاد فيه ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات.

هذا المعنى هو الذي يظهر في تفسير الآية، أي أنها في من آمن ثم كفر، ولا حاجة للتكلف في حملها على اليهود والنصارى حيث قال بعض أهل العلم: إنها نزلت في اليهود والنصارى، وذلك أن اليهود آمنوا بموسى ﷺ ثم كفروا بعبادتهم العجل ثم بعد ذلك آمنوا ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفراً بمحمد ﷺ فهذا واقع متحقق فيه لكن الآية لا تختص بهم بل كل من يقع بمثل هذا ممن ينتسب إلى الإسلام ومن غيره.

كذلك يقولون: النصارى آمنوا بعيسى ثم بعد ذلك كفروا به وادَّعوا أنه ثالث ثلاثة... إلى آخره أو قالوا: آمنوا بموسى ثم جاء عيسى ﷺ فآمنوا به ثم كفروا بقولهم: إنه ثالث ثلاثة، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد ﷺ.

وبعضهم يقول: أي اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بالعُزير ثم آمنوا به ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد ﷺ.

وبعضهم يقول: إنها في الطائفتين يعني أن قوله: الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ أي اليهود آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى، وهذا قول لقتادة، وقوله: ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ أي أن هذه في النصارى، وقوله: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا أي ازدادوا كفراً –اليهود والنصارى جميعاً- بكفرهم بمحمد ﷺ وهذا التفسير فيه بعد.

وابن جرير -رحمه الله- يحمل الآية على أهل الكتاب الذين آمنوا بالتوراة ثم كذبوا بخلافهم إياها في الإنجيل ثم ازدادوا كفراً بمحمد ﷺ.

وعلى كل حال فالآية تشمل هذا وغيره ممن وقع في مثل ذلك بأن آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر، وقد أخبر النبي ﷺ أن في آخر الزمان -أيام الفتن- يصبح الرجل مؤمناً ثم يمسي كافراً ثم يصبح كافراً ويمسي مؤمناً، فمثل هؤلاء الذين يتقلبون يدخلون في هذه الآية.

يقول الله : لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [سورة النساء:137] بعض أهل العلم يقولون: هذا في من مات منهم على الكفر، وإلا فإن من تاب تاب الله عليه، ومنهم من يقول: إن مثل هؤلاء الذين يؤمنون ثم يكفرون ثم يؤمنون ثم يكفرون لا يوفقون إلى التوبة ولا يهديهم الله بل يطبع على قلوبهم فيضلون.

ثم رجع واستمر على ضلاله وازداد حتى مات فإنه لا توبة بعد موته ولا يغفر الله له ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى ولهذا قال: لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً [سورة النساء:137].

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس –ا- في قوله تعالى: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة آل عمران:90] قال: تَمَّمُوا على كفرهم حتى ماتوا، وكذا قال مجاهد.

ثم قال: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة النساء:138] يعنى: أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا فطُبع على قلوبهم.

ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ويقولون لهم إذا خلوا بهم: إنما نحن معكم، إنما نحن مستهزئون أي: بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة.

يقول تعالى: بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة النساء:138] ومن نظائر هذه الآية قوله تعالى: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الانشقاق:24] فالبشارة هنا أطلقت على خلاف الغالب من استعمالها في الأمر المحبوب الذي يسر، وهذا أسلوب معروف في كلام العرب، فبعض أهل العلم يقولون: هذا على سبيل التهكم باعتبار أن البشارة لا تكون إلا في الأمر السار وذلك لظهور أثر هذه البشارة على البشرة، وعلى كل حال فالعرب تستعمل البشارة قليلاً في الشيء المكروه كما قال الشاعر:

يبشرني الغراب ببين أهلي فقلت له ثكلتك من بشيرِ

 وكما قال الآخر:

أبشرتني يا سعد أن أحبتي جفوني وقال الود موعده القبر

فهذه أمور ليست محبوبة ومع ذلك استعملت لها ألفاظ البشارة، ومثل ذلك استعمال التحية في غير استعمالها الأصلي كما قال الشاعر:

وخيل قد ذلفت لها بخيل تحية بينهم ضرب وجيع

فمثل هذا يأتي في لغة العرب والعرب تتفنن في ضروب الكلام، ولذلك لا حاجة أن يقال: إن هذا من قبيل المجاز مثلاً بل يقال: هذا مستعمل في كلامهم قليلاً، والله أعلم.

في قوله تعالى: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا [سورة النساء:137] قال الحافظ: "تَمَّمُوا على كفرهم حتى ماتوا" وفي بعض النسخ "تمادوا" والرواية عن ابن عباس في بعضها هذا وبعضها هذا، وتمموا لها وجه صحيح يصح به المعنى لكن هذا يحتاج إلى تتبع في الأصول وعلى كل حال فابن كثير يسوق الروايات في بعضها تمموا وفي بعضها تمادوا.

قال الله تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين: أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ [سورة النساء:139] ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له، ولمن جعلها له كما قال في الآية الأخرى: مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [سورة فاطر:10] وقال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سورة المنافقون:8] والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله الإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا، ويوم يقوم الأشهاد.

قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ [سورة المنافقون:8] وقال قبل هذه الآية: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون:7] ففرق بعض أهل العلم بين العبارتين الخاتمتين لكل آية من الآيتين، فقال بعضهم: كون الخزائن بيد الله فهذا يحتاج إلى فقه واعتبار ونظر صحيح، وهذا لا يملكه أهل النفاق، بل ما أوقعهم في النفاق إلا الحرص الشديد والتهالك على الأموال والأولاد، وذلك أن نظر الواحد منهم لا يتجاوز أنفه، أما كون العزة لله ورسوله وكون المنافقين لا يعلمون فإن جيوش المسلمين تشرق وتغرب والانتصارات ظاهرة فهذا أمر يدركه كل أحد فناسب أن يذكر العلم دون الفقه؛ لأن الفقه علم خاص يُحتاج إليه في الأمور الغير ظاهرة.

وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140] أي: إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم.

يقول تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ [سورة النساء:140] فأين نزَّل علينا في الكتاب؟

هذه السورة -سورة النساء- مدنية بالاتفاق وهذا الحكم قد نزل في سورة الأنعام وهي من السور المكية حيث قال تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [سورة الأنعام:68] كما ختم الآية بذكر الحكم في حال النسيان فقال سبحانه: وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:68].

أي إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه فلهذا قال تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140] في المأثم.

والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ الآية [سورة الأنعام:68].

هذا من تفسير القرآن بالقرآن ومثل هذا قوله تعالى فيما يتعلق بالمحرمات: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ [سورة النحل:118] فهذه الآية في سورة النحل وهو تعالى يريد ما قصه في سورة الأنعام عند قوله: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146] إلى آخره.

ومثل هذا قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ [سورة المائدة:1] أي إلا ما يتلى عليكم من المحرمات وهي التي ذكرها في قوله بعد ذلك: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ [سورة المائدة:3]. 

قال مقاتل بن حيان: نَسَخَت هذه الآية التي في الأنعام، يعني نسخَ قوله: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140] لقوله: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [سورة الأنعام:69].

النسخ يطلق على معان وهو كل ما يعرض على النص العام –كما هو معروف عند المتقدمين- ولا يلزم أن يكون النسخ هنا بمعنى الرفع؛ وذلك أن من تقواهم المذكور في قوله: وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ [سورة الأنعام:69] مفارقة المنكر؛ فإن خوض أولئك لا يضر أهل الإيمان كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [سورة المائدة:105] أي: أنهم لا يضرونهم إذا كانوا مهتدين، ولا يكونون بهذه المثابة إلا إذا أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ومن ذلك الإنكار بالقلب ومفارقة الخائضين، فإن كانوا كذلك فلا يضرهم خوض هؤلاء الخائضين.

وقوله: إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [سورة النساء:140] أي: كما أشركوهم في الكفر كذلك شارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغِسْلين لا الزّلال.

وهذا له نظائر في القرآن ولذلك قال الله : الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ [سورة النــور:3] وقد قال شيخ الإسلام –رحمه الله- في هذه الآية: إن الزوج هو العشير؛ لأن معاشرته من أعظم المعاشرة فإذا رضيت به وهو زان فهي في حكمه بهذا الاعتبار..

كما ذكرت في الآية معانٍ أخرى غير هذا حيث ورد إشكال معروف في الآية هذا أحد الأجوبة عنه.

وعلى كل حال فالإنسان الذي يجلس مع أهل المنكر يقرهم فهو في حكمهم، وقد جيء لعمر بن عبد العزيز بقوم قد شربوا الخمر وفيهم رجل صائم فلما أمر بجلدهم جميعاً قيل له: إن فيهم فلان صائم فأمر بإقامة الحد عليه وقرأ قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ [سورة النساء:140].

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

مواد ذات صلة