السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(7) تتمة قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا} الآية:61
تاريخ النشر: ٠٧ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 4848
مرات الإستماع: 6454

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

قال المصنف -رحمه الله تعالى:

إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء .. [سورة النساء:48] الآية، وقد ثبتت السنة الصحيحة عن رسول الله ﷺ بصحة توبة القاتل، كما ذكر مقرراً من قصة الذي قتل مائة رجل ثم تاب، فقبل الله توبته، وغير ذلك من الأحاديث.

وقوله تعالى: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة الفرقان:70] روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة: يؤتى برجل فيقول: نَحُّوا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها، قال: فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا؟ فيقول: نعم، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً، فيقال: فإن لك بكل سيئة حسنة، فيقول: يا رب، عملت أشياء لا أراها هاهنا، قال: فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه[1] انفرد بإخراجه مسلم.

وروى ابن أبي حاتم عن أبي جابر أنه سمع مكحولاً يحدث قال: جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه، فقال: يا رسول الله، رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قُسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال له رسول الله ﷺ: أأسلمتَ؟ قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، فقال النبي ﷺ: فإن الله غافر لك ما كنت كذلك، ومبدل سيئاتك حسنات، فقال: يا رسول الله، وغَدَراتي وفَجَراتي؟ فقال: وغَدرَاتك وفَجَراتك، فَوَلّى الرجل يهلل ويكبر[2].

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ هذا الموضع فيه كلام كثير لأهل العلم، وخلاف طويل، فمن أهل العلم من حمله على ظاهره، وقال: إن السيئات تبدل حقيقة إلى حسنات، فيعطى بكل سيئة حسنة، وهذا القول كما أنه الظاهر المتبادر من الآية كذلك أيضاً يدل عليه الحديثان السابقان، فقول النبي ﷺ في الحديث الأول عن الله -تبارك وتعالى: فإن لك بكل سيئة حسنة، فهذا يدل على أن السيئة تتحول إلى حسنة، ويُعطَى حسنة، وليس لقائل أن يقول: إن هذا مثل الآية محتمل في ظاهره؛ فإن الرجل يقول: يا رب عملت أشياء لا أراها هاهنا، فهو يذكر سيئات أخرى لما رأى من التبديل في الآخرة، وأيضاً الحديث الآخر: قال له: ونبدل سيئاتك حسنات، قال: وغدراتي وفجراتي؟ وهذا الحديث حسنه الحافظ ابن حجر وغيره، فيدل كذلك أيضاً على أن السيئات تبدل حسنات، لكن الإشكال الذي أورده كثير من أهل العلم يتضح بذكر الأقسام التي عليها الناس:

قسم يعمل بالحسنات منذ نشأ، ومنذ عرف، منذ عقل وهو مجتهد في طاعة الله -عز وجل، ليس له كبائر وإنما يقع منه ما يقع من اللمم الذي لابد من وقوعه من كل أحد، فهذا قُل من السابقين في الخيرات.

وقسم مقتصد، يفعل الواجبات ويترك المحرمات، فهو لا يزيد على ذلك، يشتغل بباقي الأوقات في المباحات، وما عنده شيء زائد من الخير والتشمير في طاعة الله -تبارك وتعالى، ومشغول بالمباحات، وأوقاته مقضية في المباحات في غالبه.

القسم الثالث: الظالم لنفسه، وهذا مضيع مفرط يعمل الكبائر والصغائر، فيأتي هؤلاء الثلاثة يوم القيامة، صاحب السيئات الكثيرة قل كزبد البحر مثلاً صارت حسنات.

ظاهره أن هذا الظالم لنفسه سيفوق المقتصد الذي اشتغل بالواجبات وترك المحرمات وصارت أوقاته الباقية في المباحات، فإذا بدلت هذه الذنوب الكثيرة إلى حسنات سترجح كفته، فهذا محل الإشكال، بل هذا قد يتفوق على بعض السابقين بالخيرات أيضاً، إذا كان كلما كانت ذنوبه أكثر كلما كانت مرتبته أرفع إذا تاب؛ ولهذا ذهبت طائفة من السلف فمن بعدهم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير – رحمه الله - إلى حمل الآية على غير الظاهر المتبادر: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ قالوا: لما تاب استغرق وقته بالطاعات بعد أن كان مشتغلاً بالذنوب والجرائم والمعاصي، فأنفاسه صارت مصروفة في الطاعات فاشتغل بها، فتبدلت سيئاته، انتقل من أعمال المقارفات التي كان يقارفها إلى اشتغال بالعمل الصالح، فهذا معنى ذكروه، ومنشؤه -وإن كان على خلاف الظاهر المتبادر- الخروج من ذلك الإشكال.

لكن قوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا يشعر بأن التبديل حقيقي لكن يمكن أن يقال: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا لمن تاب، للتائبين، ولكن الأحاديث السابقة تشكل على هذا القول، ولا يعجز هؤلاء عن الجواب عن الأحاديث، يقولون: الله يخبره أنه قد أبدل سيئاته حسنات، فصارت الأعمال الصالحة مكان الأعمال السيئة.

ولكن هذا الجواب فيه ضعف، فالأول صار يذكر أعمالاً سيئة أخرى ليزداد من الحسنات، فلو كانت القضية هي إخبار له بما كان في الدنيا من الاشتغال بالطاعات لما اغتبط وفرح بهذا وصار يذكر أشياء وأعمالاً أخرى لم يرها، يريدها أن تبدل إلى حسنات.

كذلك أيضاً الحديث الآخر: وغدراتي وفجراتي) فهو مستعظم للسيئات، ولو كان المراد الاشتغال بالأعمال الصالحة فهو يعرف أنه مشتغل بالأعمال الصالحة وأنه أسلم.

ومن أهل العلم من أجاب بجواب آخر، قالوا: هذا الإنسان الذي عمل أعمالاً سيئة كثيرة قد تاب، وتوبته عامة، فكل ذنب وإساءة قابلها توبة، والتوبة حسنة، فبُدلت سيئات هؤلاء حسنات لأنهم تابوا منها، تاب من السرقة فتوبته حسنة، تاب من الكذب فتوبته حسنة، تاب من الغيبة فتوبته حسنة، تاب من شرب المسكر حسنة، تاب من الكذب حسنة، تاب من النظر الحرام حسنة، فبُدلت سيئاتهم حسنات بهذا الاعتبار، فيوم القيامة يأتون ويجدون هذه السيئات كل سيئة منها صار له بها حسنة، وهي حسنة التوبة وهي عمل صالح وليست الذنب والجرم والإساءة وما يترتب عليه من الإثم، قد انقلب إلى حسنة.

وعلى القول الأول كلما كانت الأعمال كبائر كلما كان الأجر أكثر، أما على القول الثاني فالحسنات التي يجدها هي التوبة وهي من العمل الصالح الذي يؤجر عليه الإنسان، وهذا القول أرجح من قول ابن جرير   -رحمه الله.

ولقائل أن يقول: إن فضل الله أوسع مما يخطر لكم على بال، فهذا الذي عمل السيئات ثم تاب منها كافأه الله بتبديلها حسنات، وهذا من فضله الواسع.

وأما ما ذكرتم من أن هذا سيكون متقدماً وسابقاً للمقتصد ولربما للسابق بالخيرات فنقول: لا يلزم؛ لأنه إذا كان الله جازى هذا الذي قضى الأنفاس والأوقات بالسيئات بهذا الجزاء فكيف بمن صبر عن شهوات النفس وفَطَمها عن مشتهياتها وصبر نفسه على طاعة الله ؟! فهذا يُرفع رفعاً أعظم من هذا الإنسان الذي جنى هذه الجنايات الكثيرة، فإذا كان هذا فضله -تبارك وتعالى- مع من كان مشتغلاً بمحادّته ومعصيته فكيف يكون حاله وجزاؤه مع من كان مشتغلاً بطاعته ؟! هذا أعظم وأعظم، فلا نقيس المسألة بهذه الطريقة ونقول: الذين قضوا أوقاتهم في الإجرام ثم تابوا سيكونون متقدمين على غيرهم، هذا غير لازم، وفضل الله أعظم وأكبر ولا يُحجر عليه، وهذا يكون متمشياً مع ظاهر الآية، ويندفع به هذا الإشكال الذي ورد.

وهو وإن لم يصرح به بعضُ مَن ذكر بعضَ تلك الأقوال إلا أن هذا منشأ هذا التفسير عندهم، وإن شئت أن تقول هذا التأويل الذي أولوا به هذا الموضع من كتاب الله -تبارك وتعالى، فيحتمل أن يكون الجواب بما ذكرت تُحمل الآية على ظاهرها، وهو كما ترون ليس من التكلف، ووجهه فيما يبدو ظاهر وإن لم أجد من علل بمثل هذا التعليل وأجاب بمثل هذا الجواب عن هذا الإشكال، فأصل القول قال به جماعة من السلف ومن بعدهم أنها تبدل حسنات حقيقة، وهو ظاهر الآية وتدل عليه الأحاديث، لكن الذي يبقى هو الإشكال، كيف نجيب عن الإشكال؟

فما ذكرته يمكن أن يندفع به الإشكال، يقال: إذا كان هذا فضله مع المسيء بعد أن تاب، ففضله مع من صبر نفسه على طاعة الله أعظم وأكبر وأجل من أن يُقادَر قدره، وفضل الله واسع، ولا يصح بحال من الأحوال أن يتوهم أحد أو أن يحمل ذلك أحداً على الإكثار من الإساءة ثم يقول: أتوب ثم تبدل حسنات وأكون مكثراً.

نقول: لا، المقتصد أعظم درجة منك، والسابق بالخيرات أكمل وأرفع من الجميع؛ ولهذا قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفـْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [سورة فاطر:32] ورتبهم هذا الترتيب، وقد أجاب أهل العلم عن تقديم الظالم لنفسه على هؤلاء الثلاثة، قالوا: قُدم من أجل ألا يقنط أو ييأس، وهذه الأمة بطوائفها الثلاث في النهاية تدخل الجنة، ولكن دلت النصوص على أن النار يدخلها قوم من الموحدين، ثم بعد ذلك يخرجون منها، وليس الكلام في هذا، الكلام فيمن تاب الآن، في هذه الآية، في التائبين، فلا يقول قائل: أنا أعمل الذنوب والسيئات وأُكثِرُ منها ثم أتوب فتبدل حسنات.

نقول: ما يدريك أنك توفق للتوبة، فقد يفجأ الإنسان الموت وهو على المعصية: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة ويسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها[3]، ومعلوم أن الذنوب والإجرام تكون سبباً للطمس على القلب والختم والران: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين:14]، والله -تبارك وتعالى- أخبرنا عن صرف أقوام عن الهدى بسبب إجرامهم وتكذيبهم الأول وإعراضهم عن الله وأن أولائك الذين نسوا الله جازاهم بأن أنساهم أنفسهم فصار شغلهم فيما يضرهم، ويكون فيه هلاكهم وبوارهم، والله يقول: وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [سورة الأنفال:24] يحول بينه وبين قلبه فلا يملك الهدى، ولا يستطيع إليه سبيلاً، والقلوب بين أصابع الرحمن، فإذا كان النبي ﷺ وهو أكثر الأمة إيماناً واشتغالاً بطاعة الله وبراً وتقوى يُكثر أن يقول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[4]، فماذا يقول غيره؟ فلا يحمل هذا أحداً من الناس على الإكثار من الإساءة ثم يقول: أتوب وتُبدّل.

ولكن المقطوع به هو أن مراتب هذه الأمة على هذا الترتيب: السابق بالخيرات أولى في المراتب العالية، ثم المقتصد، ثم الظالم لنفسه، لكن هذا الإنسان الذي قد تاب من جميع الذنوب لن يكون من الظالمين لأنفسهم بطبيعة الحال؛ لأن الكلام فيمن تاب، هو ليس من الظالمين إذا لم يسود صحيفته بطبيعة الحال بعد التوبة، الكلام فيمن مات على التوبة، هو ليس من الظالمين إنما ينظر إلى حاله وعمله، والله -تبارك وتعالى- يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب، يعني: الحسنة بعشر أمثالها، هذا في الحسنات والسيئات، وإذا جاء الكلام على الصبر فهنا التوفية بغير حساب، هو أعظم الصبر، الصبر على طاعة الله : وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [سورة الإنسان:12]، والصبر عن معصيته، والصبر على الأقدار المؤلمة، هذا الصبر، وهذا الإنسان الذي تاب من الذنوب له حظ من هذا الصبر؛ لأن توبته مبنية عليه، لو لم يصبر لم تصح له توبة، فالتوبة لا تكون إلا بصبر.

وإذا وجد الهوى وتمكن في القلب وأراد العبد أن يتوب من هذا العمل فإنه سيجد في البداية مشقة، فإذا تجاوزها وصبر -يحتاج إلى صبر كبير- رُجي له أن يستقيم سيره مع الله -تبارك وتعالى.

وكلام أهل العلم فيها كثير، ولعل من المفيد أن نقرأ شيئاً مما ذكره الحافظ ابن القيم ففيه تحقيق بديع ومناقشات، وقد أطال فيها.

قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا [سورة الفرقان: 70].

"قلت: وهاهنا مسألة، هذا الموضع أخص المواضع ببيانها وهي: أن التائب إذا تاب إلى الله توبة نصوحاً فهل تمحى تلك السيئات ويذهب لا له ولا عليه، أو إذا محيت أثبت له مكان كل سيئة حسنة؟ هذا مما اختلف الناس فيه من المفسرين وغيرهم قديماً وحديثاً، فقال الزجاج: ليس يجعل مكان السيئة الحسنة لكن يجعل مكان السيئة التوبة والحسنة مع التوبة، قال ابن عطية: يجعل أعمالهم بدل معاصيهم الأولى طاعة، فيكون ذلك سبباً لرحمة الله إياهم، قاله ابن عباس وابن جبير وابن زيد والحسن، ورد على من قال هو في يوم القيامة قال: وقد ورد حديث في كتاب مسلم من طريق أبي ذر يقتضي أن الله يوم القيامة يجعل لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئاته حسنات، وذكره الترمذي والطبري، وهذا تأويل سعيد بن المسيب في هذه الآية، قال ابن عطية: وهو معنى كرم العفو، هذا آخر كلامه.

قلت: سيأتي -إن شاء الله- ذكر الحديث بلفظه والكلام عليه.

قال المهدوي: وروي معنى هذا القول عن سلمان الفارسي وسعيد بن جبير وغيرهما.

وقال الثعلبي: قال ابن عباس وابن جريج والضحاك وابن زيد: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [سورة الفرقان:70] يبدلهم الله بقبيح أعمالهم في الشرك محاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً، وبقتل المؤمنين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصاناً، وقال آخرون: يعني يبدل الله سيئاتهم التي عملوها في حال إسلامهم حسنات يوم القيامة.

وأصل القولين أن هذا التبديل هل هو في الدنيا أو يوم القيامة؟ فمن قال: إنه في الدنيا قال: هو تبديل الأعمال القبيحة والإرادات الفاسدة بأضدادها وهي حسنات، وهذا تبديل حقيقة، والذين نصروا هذا القول احتجوا بأن السيئة لا تقلب حسنة بل غايتها أن تمحى وتكفر ويذهب أثرها، فأما أن تنقلب حسنة فلا، فإنها لم تكن طاعة وإنما كانت بغيضة مكروهة للرب، فكيف تنقلب محبوبة مرضية؟! 

قالوا: وأيضاً فالذي دل عليه القرآن إنما هو تكفير السيئات ومغفرة الذنوب، كقوله تعالى: رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرارِ [سورة آل عمران:193]، وقوله تعالى: وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ [سورة الشورى:25]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [سورة الزمر: 53]، والقرآن مملوء من ذلك.

وفي الصحيح من حديث قتادة عن صفوان بن محرز قال: قال رجل لابن عمر: كيف سمعت رسول الله ﷺ يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: يُدنَى المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، فيقول: هل تعرف؟ فيقول: رب أعرف، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطَى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على الله [5]، فهذا الحديث المتفق عليه الذي تضمن العناية بهذا العبد إنما فيه ستر ذنوبه عليه في الدنيا ومغفرتها له في يوم القيامة، ولم يقل له: وأعطيتك بكل سيئة منها حسنة، فدل على أن غاية السيئات مغفرتها وتجاوز الله عنها.

وقد قال الله تعالى في حق الصادقين: لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الزمر:35]، فهؤلاء خيار الخلق، وقد أخبر عنهم أنه يكفر عنهم سيئات أعمالهم ويجزيهم بأحسن ما يعملون، وأحسن ما عملوا إنما هو الحسنات لا السيئات، فدل على أن الجزاء بالحسنى إنما يكون على الحسنات وحدها، وأما السيئات فإنها تلغى ويبطل أثرها.

وقالوا أيضاً: لو انقلبت السيئات أنفسها حسنات في حق التائب لكان أحسن حالاً من الذي لم يرتكب منها شيئاً وأكثر حسنات منه؛ لأنه إذا أساء شاركه في حسناته التي فعلها وامتاز عنه بتلك السيئات، ثم انقلبت له حسنات ترجح عليه، وكيف يكون صاحب السيئات أرجح ممن لا سيئة له؟ قالوا: وأيضاً فكما أن العبد إذا فعل حسنات ثم أتى بما يحبطها فإنها لا تنقلب سيئات يعاقب عليها بل يبطل أثرها، ويكون لا له ولا عليه، وتكون عقوبته عدم ترتب ثوابه عليها، فهكذا من فعل سيئات ثم تاب منها فإنها لا تنقلب حسنات، فإن قلتم: وهكذا التائب يكون ثوابه عدم ترتب العقوبة على سيئاته لم ننازعكم في هذا، وليس هذا معنى الحسنة، فإن الحسنة تقتضي ثواباً وجودياً"[6].

خلاصة ما احتجوا به ثلاثة أشياء، نحاول أن نشترك في حصرها:

الأول: أن النصوص من الكتاب والسنة دلت على أن غاية ما هنالك مما يجنيه الإنسان من التوبة هو العفو والمسامحة وإبطال الذنب، وأوردوا النصوص من الكتاب والسنة، وسمعتم طرفاً منها، وهي كثيرة.

قالوا: ولم يذكر فيها تبديل السيئات إلى حسنات، والجواب عن هذا: هذه الآية فيها تبديل السيئات حسنات، والأحاديث التي سمعتم فيها تبديل السيئات، فهناك أيضاً أدلة أخرى فكيف تُترك وترد بالنصوص الأخرى الدالة على العفو والمسامحة فحسب؟ هذه الحجة الأولى والجواب عنها.

الحجة الثانية: وهي موضع الإشكال الأصلي، يقال: هذا سيكون متقدماً على غيره من المشتغلين بالطاعة، أو على الأقل ممن ترك المعصية واشتغل بالمباح، مع أداء الفروض والواجبات.

والجواب عن هذا هو محل الاختلاف، وما ذكرته من الجواب -والله تعالى أعلم- بالنظر إلى سعة لطف الله ورحمته، حيث إن ذلك لا يمكن أن يقادر، ولكن العبد يبقى بين الخوف والرجاء، وإلا فلو نظر الإنسان إلى نصوص الرجاء آيات وأحاديث لرأى من رحمة الله وسعة فضله الشيء الكثير، والحديث عن التائبين لا يلزم من ذلك أن يفوق هذا وإن كان مطيعاً ابتداء، إذا كان هذا فضله مع المسيء إذا تاب فكيف بفضله مع المحسن إذا وفد عليه؟! لا مقارنة.

الأمر الثالث الذي احتجوا به: هو من باب اللزوم أو الإلزام، قالوا: إذا كان تُبدل سيئاته حسنات على ما قلتم على الظاهر، ونحن لا نسلم بهذا، بدليل أن المحسن إذا أساء لا تبدل حسناته إلى سيئات.

فصاحب الحسنات إذا حصلت منه إساءة لا تبدل إلى سيئات فكذلك صاحب السيئات إذا حصل منه توبة لا تبدل إلى حسنات.

فيقال: هذا ليس إلينا، إنما الذي يعطي ويمنع ويهب هو الله ، فأخبر أنه يبدل سيئاتهم حسنات، ومن فضله ولطفه أن الإنسان إذا أساء لا تتحول حسناته إلى سيئات، ومن فضله أنه يبدل السيئات إلى حسنات بعد التوبة، ومن فضله أنه إذا هم العبد بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وأن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بواحدة، كل هذا من فضله .

قال ابن القيم" "واحتجت الطائفة الأخرى التي قالت هو تبديل السيئة بالحسنة حقيقة يوم القيامة بأن قالت: حقيقة التبديل إثبات الحسنة مكان السيئة، وهذا إنما يكون في السيئة المحققة وهي التي قد فُعلت، فإذا بُدلت حسنة كان معناه أنها محيت وأثبت مكانها حسنة، قالوا: ولهذا قال تعالى: سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [سورة الفرقان:70] فأضاف السيئات إليهم لكونهم باشروها واكتسبوها، ونكّر الحسنات ولم يضفها إليهم؛ لأنها من غير صنعهم وكسبهم، بل هي مجرد فضل الله وكرمه.

قالوا: وأيضاً فالتبديل في الآية إنما هو فعل الله لا فعلهم، فإنه أخبر أنه هو يبدل سيئاتهم حسنات ولو كان المراد ما ذكرتم لأضاف التبديل إليهم فإنهم هم الذين يبدلون سيئاتهم حسنات، والأعمال إنما تضاف إلى فاعلها وكاسبها، كما قال الله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْالبقرة:59، وأما ما كان من غير الفاعل فإنه يجعله من تبديله هو، كما قال الله تعالى: وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ [سورة سبأ:16]، فلما أخبر سبحانه أنه هو الذي يبدل سيئاتهم حسنات دل على أنه شيء فعله هو سبحانه بسيئاتهم لا أنهم فعلوه من تلقاء أنفسهم وإن كان سببه منهم، وهو التوبة والإيمان والعمل الصالح.

قالوا: ويدل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من حديث الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: قال رسول الله ﷺ: إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولاً الجنة...[7] قالوا: وأيضاً فروى أبو حفص عن محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة حدثنا الفضل بن موسى القطيعي عن أبي العنبس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ليتمنينّ أقوامٌ أنهم أكثروا من السيئات، قيل: من هم؟ قال: الذين بدل الله سيئاتهم حسنات[8]، قالوا: وهؤلاء هم الأبدال في الحقيقة، فإنما سموا أبدالاً؛ لأنهم بدلوا أعمالهم السيئة بالأعمال الحسنة، فبدل الله سيئاتهم التي عملوها حسنات، قالوا: وأيضاً فالجزاء من جنس العمل، فكما بدلوا هم أعمالهم السيئة بالحسنة بدلها الله من صحف الحفظة حسنات جزاء وفاقاً.

 قالت الطائفة الأخرى: كيف يمكنكم الاحتجاج بحديث أبي ذر على صحة قولكم وهو صريح في أن هذا الذي قد بدلت سيئاته حسنات قد عذب عليها في النار حتى كان آخر أهلها خروجاً منها، فهذا قد عوقب على سيئاته فزال أثرها بالعقوبة، فبُدل مكان كل سيئة منها حسنة، وهذا حكم غير ما نحن فيه، فإن الكلام في التائب من السيئات لا فيمن مات مصراً عليها غير تائب، فأين أحدهما من الآخر؟

وأما حديث الإمام أحمد فهو الحديث بعينه إسناداً ومتناً إلا أنه مختصر، وأما حديث أبي هريرة فلا يثبت مثله، ومَن أبو العنبس ومَن أبوه حتى يقبل منهما تفردهما بمثل هذا الأمر الجليل، وكيف يصح مثل هذا الحديث عن رسول الله ﷺ مع شدة حرصه على التنفير من السيئات وتقبيح أهلها وذمهم وعيبهم والإخبار بأنها تنقص الحسنات وتضادها، فكيف يصح عنه ﷺ أنه يقول: ليتمنينّ أقوام أنهم أكثروا منها؟

ثم كيف يتمنى المرء إكثاره منها مع سوء عاقبتها وسوء مغبتها، وإنما يتمنى الإكثار من الطاعات، وفي الترمذي مرفوعاً: ليتمنينّ أقوام يوم القيامة أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء[9] فهذا فيه تمني البلاء يوم القيامة لأجل مزيد ثواب أهله وهو تمني الحسنات، وأما تمني الحسنات فهذا لا ريب فيه، وأما تمني السيئات فكيف يتمنى العبد أنه أكثر من السيئات؟!، هذا ما لا يكون أبداً، وإنما يتمنى المسيء أن لو لم يكن أساء، وأما تمنيه أنه ازداد من إساءته فكلا.

قالوا: وأما ما ذكرتم من أن التبديل هو إثبات الحسنة مكان السيئة فحق، وكذلك نقول: إن الحسنة المفعولة صارت في مكان السيئة التي لولا الحسنة لحلت محلها"[10].

أصحاب القول الثاني يقولون: نحمل الآية على ظاهرها، ويحصل تبديل حقيقي؛ لأن الله قال: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ فأضاف السيئات إليهم، وقال: حَسَنَاتٍ فالتبديل فعله ، والحسنات لم تصدر منهم وإنما هي فعل الله: يُبَدِّلُ ولذلك لم يضفها إليهم قال: حَسَنَاتٍ، وأضاف السيئات إليهم، وقالوا: هذا فعله .

والذين اعترضوا على هذا القول قالوا: الحديث الأول في آخر أهل النار، فهو في غير التائب أصلاً، والآية في التائبين، والحديث الآخر وهو التمني، قالوا: لا يصح أصلاً من جهة الإسناد ومن جهة المتن، هذا مخالف لما عُلم من النصوص الكثيرة التي تحث على الطاعة وتحذر من المعاصي وسوء مغبتها.

قال ابن القيم: "قالوا: وأما احتجاجكم بإضافة السيئات إليهم، وذلك يقتضي أن تكون هي السيئات الواقعة، وتنكير الحسنات وهو يقتضي أن تكون حسنات من فضل الله فهذا حق بلا ريب، ولكن من أين يبقى أن يكون فضل الله بها مقارناً لكسبهم إياها بفضله؟

قالوا: وأما قولكم: إن التبديل مضاف إلى الله لا إليهم وذلك يقتضي أنه هو الذي بدلها من الصحف لا أنهم هم الذين بدلوا الأعمال بأضدادها فهذا لا دليل لكم فيه، فإن الله خالق أفعال العباد فهم المبدل للسيئات حسنات خلقاً وتكويناً، وهم المبدلون لها فعلاً وكسباً"[11].

وكذلك إضافة السيئات إليهم باعتبار أنهم قارفوها فنسبت إليهم، والحسنات باعتبار أنها من الله وهبهم إياها، فلم تضف إليهم.

قال ابن القيم: "قالوا: وأما احتجاجكم بأن الجزاء من جنس العمل، فكما بدلوا سيئات أعمالهم بحسناتهم بدلها الله كذلك في صحف الأعمال فهذا حق وبه نقول، وأنه بدلت السيئات التي كانت مهيأة ومعدة أن تحل في الصحف بحسنات حلت موضعها,  فهذا منتهى إقدام الطائفتين ومحط نظر الفريقين.

وإليك أيها المنصف الحكم بينهما، فقد أدلى كل منهما بحجته وأقام بينته، والحق لا يعدوهما ولا يتجاوزهما، فأرشد الله من أعان على هدى فنال به درجة الداعين إلى الله القائمين ببيان حجته ودينه، أو عذر طالباً منفرداً في طريق مطلبه قد انقطع رجاؤه من رفيق في الطريق، فغاية أمنيته أن يخلي بينه وبين سيره، وأن لا يقطع عليه طريقه، فمن رفع له مثل هذا العلم ولم يشمر إليه فقد رضي بالدون، وحصل على صفقة المغبون، ومن شمر إليه ورام أن لا يعارضه معارض ولا يتصدى له ممانع فقد منى نفسه المحال، وإن صبر على لأوائها وشدتها فهو والله الفوز المبين والحظ الجزيل، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

فالصواب -إن شاء الله- في هذه المسألة أن يقال: لا ريب أن الذنب نفسه لا ينقلب حسنة، والحسنة إنما هي أمر وجودي يقتضي ثواباً؛ ولهذا كان تارك المنهيات إنما يثاب على كف نفسه وحبسها عن مواقعة المنهي، وذلك الكف والحبس أمر وجودي وهو متعلق الثواب، وأما من لم يخطر بباله الذنب أصلاً ولم يحدث به نفسه فهذا كيف يثاب على تركه؟ ولو أثيب مثل هذا على ترك هذا الذنب لكان مثاباً على ترك ذنوب العالم التي لا تخطر بباله، وذلك أضعاف حسناته بما لا يحصى، فإن الترك مستصحب معه، والمتروك لا ينحصر ولا ينضبط، فهل يثاب على ذلك كله؟ هذا مما لا يتوهم، وإذا كانت الحسنة لابد أن تكون أمراً وجودياً فالتائب من الذنوب التي عملها قد قارن كل ذنب منها ندماً عليه وكف نفسه عنه وعزم على ترك معاودته، وهذه حسنات بلا ريب، وقد محت التوبة أثر الذنب وخلفه هذا الندم والعزم وهو حسنة، قد بدلت تلك السيئة حسنة، وهذا معنى قول بعض المفسرين: يجعل مكان السيئة التوبة، والحسنة مع التوبة، فإذا كانت كل سيئة من سيئاته قد تاب منها فتوبته منها حسنة حلت مكانها، فهذا معنى التبديل، لا أن السيئة نفسها تنقلب حسنة"[12].

ابن القيم -رحمه الله- يقول: الحسنة أمر وجودي، والترك بمجرده أمر عدمي، فإذا كان الإنسان لم يخطر بباله الذنب أصلاً فلا يقال: إنه يجازى، يعني: أنتم الآن جالسون هنا هل يقال: الحسنة تنكب عليكم لأننا مثلاً ما قارفنا كذا ولا قارفنا كذا ولا قارفنا كذا من السيئات التي هي بالملايين أنواع؟ لا يقال هذا، لكن من هَمّ بالسيئة فتركها خوفاً من الله كتبت له حسنة، فالحسنة أمر وجودي، وهذا الهم أمر وجودي والكف خوفاً من الله أمر وجودي، فلما تاب وكف نفسه عن المعصية التي كان يعملها صار ذلك حسنة، كَفُّ النفس، والتوبة، والإقلاع عن الذنب، والعزم ألا يعود إليه، هذه شروط التوبة، فهذه حسنات يجازى عليها، فابن القيم يحمل الآية على غير الظاهر المتبادر ويقول: يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ أي: مكان كل ذنب توبة والتوبة أمر وجودي فيه كف للنفس وصبر عن المعصية وإقلاع عنها فذلك حسنة، فيجد يوم القيامة كل سيئة تقابلها هذه الحسنة التي حصل بها ما سبق، هذا كلام ابن القيم، وهو كما سبق أوجه من القول الذي يقول: اشتغلوا بالطاعات وصارت أنفاسهم مصروفة فيها؛ لأن الكلام يوم القيامة.

قال ابن القيم: "وقال بعض المفسرين في هذه الآية: يعطيهم بالندم على كل سيئة أساءوها حسنة، وعلى هذا فقد زال -بحمد الله- الإشكال واتضح الصواب، وظهر أن كل واحدة من الطائفتين ما خرجت عن موجب العلم والحجة.

وأما حديث أبي ذر -وإن كان التبديل فيه في حق المصر الذي عُذب على سيئاته- فهو يدل بطريق الأولى على حصول التبديل للتائب المقلع النادم على سيئاته.

فإن الذنوب التي عذب عليها المصر لما زال أثرها بالعقوبة بقيت كأن لم تكن، فأعطاه الله مكان كل سيئة منها حسنة؛ لأن ما حصل له يوم القيامة من الندم المفرط عليها مع العقوبة لا يقتضي زوال أثرها وتبديلها حسنات"[13].

إذن ندمه يوم القيامة أصلاً لا ينفعه، فالله يعطيه حسنات مكانها بعدما عذبه، وهو لم يتب، والآخرة دار جزاء، وتوبته في الآخرة لا تغني عنه، فأعطاه تفضلاً منه حسنات مكانها، ومثل هذا الاحتجاج يمكن أن يحتج به على القول الذي يحمل الآية على ظاهرها، وقال: إذا كان هذا في غير التائب وبدلت سيئاته حسنات فالتائب من باب أولى، غير التائب بعدما عذب.

العلم أحياناً يضر، مثل الطعام والشراب أحياناً يضر، فقد يهلك الإنسان بسبب أكلة أكلها أو شربة شربها، فكذلك العلم، قد يَهلك الإنسان بسبب العلم أحياناً، الذي يأخذه بغير وجهه ويأتي ويقول: لماذا يبدل الله السيئات؟ المسألة فيها كلام كثير.

نقول: هذا في التائب، وما يدري الإنسان أنه يتوب أيضاً لو قال: أنا سأتوب، ثم أيضاً إذا التبس علينا موضع فالطريق الصحيح في النظر والاحتجاج أن نرجع إلى المحكمات، يعني: تبقى هذه الآية بالنسبة لمن وقع عنده إشكال فيها أنها من قبيل المتشابه النسبي، المتشابه يرد إلى الأصول المحكمات، والأصل الكبير المحكم: أن الأمة على هذه المراتب الثلاث: السابق بالخيرات في أعلى الدرجات قطعاً، والمقتصد دونه، والظالم لنفسه دونه، فمن تاب محيت ذنوبه، غاية ما هنالك أنه ينظر في عمله بعد هذا هل هو مقتصد بعد التوبة أو سابق بالخيرات؟ فلا يرِد إطلاقاً أن هذا الإنسان الذي تاب يصير إلى أعلى الدرجات بسبب كثرة الذنوب التي بدلت إلى حسنات.

وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى:

ثم قال الله تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم تاب عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيراً، كبيراً أو صغيراً، فقال تعالى: وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [سورة الفرقان:71]، أي: فإن الله يقبل توبته.

يتوب إلى الله متاباً يعني: يقول: يقبل توبته، يعني: يمكن أن يقال: يتوب إلى الله متاباً أي: يرجع إلى الله رجوعاً صحيحاً، وهذا الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو من لازم المعنى، بمعنى: أنه إذا رجع إلى الله رجوعاً صحيحاً قبل الله توبته.

وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [سورة الفرقان:71]، هذا هو الذي قد رجع رجوعاً صحيحاً؛ لأن الرجوع منه ما هو صحيح ومنه ما هو غير صحيح، والرجوع غير الصحيح هو الذي لم يستوفِ الشروط، فمن كان متراخياً يقول: لو حصّلتُ مرة ثانية سأعمل المعصية، فهذا لم يتب إلى الله متاباً، وما رجع إليه رجوعاً صحيحاً، وقل مثل ذلك في الذي لم يندم، كلما تذكر المعصية سُرّ والتذّ بها، فهذا كيف يقال: إنه  تائب؟ هو مغتبط بها في الداخل، فرِحٌ أنه حصلت له هذه وتيسرت، فهذا لم يتب إلى الله متاباً، فلابد من تغير حال هذا الإنسان، وخذ مثالاً من أصحاب المخدرات، فكثير من الأخوات تسأل: تقدم لها شخص يتعاطى وقال: إنه تاب، أقبلُ به أو لا؟

الجواب كالآتي: تاب وعولج في المستشفى، وسحبت هذه من جسمه، جاء تقرير طبي أنه سليم الآن، هذا كله ما يكفي؛ لأن الإحصاءات والدراسات كلها تدل على أن غالب هؤلاء يرجعون من جديد، وقد رأيت عدداً من هؤلاء الناس يقولون: خلاص هذا ترك وتاب، وتراه يدخن، إذا رأيت وجهه تقول: نسأل الله العفو والعافية، ما تستطيع تنظر إلى وجهه، وجهه مظلم أسود، يدل على أنه ما تاب توبة صحيحة، فهي المسألة عنده لربما حسابات مادية معينة، قُبض عليه، أو زواج أو أسرة أو ضغوط أو خوف من العقوبة أو الأمراض الناشئة عن هذا أو التحطيم أو الانقطاع من منافعه ومصالحه في الحياة الدنيا، لا عمل ولا كسب ولا شيء ينهض به، لكن إذا نظرت إلى حاله مع الله بعيد كل البعد، قد يصلي وقد لا يصلي، مثل هذا بلا تردد نقول: ما تقبلينه؛ لأن هذا توبته فيها نظر، ويرجع بعد أيام أو شهور غالباً، غير مأمون، والواقع يدل على هذا، والذي ممكن أن يقبل به: الذي تغير حاله وأقبل على الله سبحانه، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن، هذا في قوله: وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا فهذا الذي تاب إلى الله حقيقة، ورجع رجوعاً صحيحاً.

لا يلتبس عليكم من كان أصلاً مشتغلاً بالطاعات فعمل معصية، فيكفيه أن يقلع عنها ويندم إلى آخر الشروط المعروفة، وهو أصلاً مقبل على الله، لكن الكلام في من كان معرضاً عن الله تعالى، مثل أصحاب المخدرات، هؤلاء هم أبعد الناس عن الفضيلة، كل رذيلة يمكن أن يقارفها بلا استثناء، إنسان لا ينفع المجتمع ولا ينفع نفسه ولا ينفع أهله، خطر على المجتمع، خطر على أهله، خطر على نفسه، بكل سهولة تجده لو سألت واحداً من هؤلاء -نسأل الله العافية- تجد عنده عدة محاولات للانتحار، يُظهر لك يديه، مشرّطة يداه، ويحكي لك عدة من المحاولات التي حاول فيها أن ينتحر، خطر على نفسه هو، وخطر على من معه، والذين ابتلوا من النساء تسمع منهن ما يحصل لهم، ما يحصل لأولاده من أطفال، خطر، بعض النساء تقول: أتركه يفعل ما يشاء في المعاشرة من أجل أن يذهب كل ما في رأسه، تقول: يقوم يوهمني أنه يغتسل فأشك وأذهب وأجده على البنت، هذا بهيمة، بل البهيمة تترفع عن هذا، البهمية أكرم منه وأشرف منه، فما يُؤمَن على شيء، يبيع بنته، يبيع ولده، يبيع زوجته، يبيع كل شيء، يسرق من متاع أهله، مرة التلفزيون مسروق، الفيديو مسروق، الدفاية مسروقة، تختفي الأجهزة من البيت، يبيعها لأجل أن يحصل على حبة، فإذا ما وجد شيئاً يسرقه جاء بالمسدس وعلى رأس أمه مثلاً: هاتي، والله لأقتلنكم كلكم، يهدد بقتل كل الأسرة، مثل هذا   لابد أن تتحول توبته إلى إقبال على الله -تبارك وتعالى.

أخبرني أحد الإخوان أن أحد المشايخ جاء العشاء وما كنت موجوداً، هذا الرجل من أهل العلم لم ألقه من قبل، معروف لكن ما التقينا، ما أعرف صورته -هيئته ووجهه، فلما جاء الفجر وإذا بشخص جالس أمامي في الدرس سمته حسن وهيبة وبهاء وإشراق في الوجه، يعني عمره يقارب الأربعين أو يزيد، فما كنت أشك أن هذا هو الشيخ الذي جاء في الليلة الماضية، ثم انتهى الدرس جاء سلم وعانقني وسلمت عليه على أن هذا فلان، قال: ممكن نجلس، تفضل الله يحييك، أهلاً وسهلاً، جلسنا، ولما جلسنا قال: لا يغرك مظهري هذا الآن، هذا ما صار له إلا أشهر، قلت: خير إن شاء الله، فذكر أنه مروج مخدرات، وأنه تاب وعنده سؤالان يريد أن يسأل عنهما، يقول: كنت على وشك أن أهاجر إلى إحدى الدول، سماها دول إسكندنافيا، حتى أنا استوقفته وسألته ظننت أنه صار عنده غلو، يعني بعض الناس قد يحصل له يعني شيء من الغلو أحياناً، فيقرر أن يهاجر من هذه البلاد ويعتقد أنها هجرة شرعية إلى دولة كافرة، قلت له تهاجر من هنا؟ قال: قبل التوبة كنت سأهاجر هجرة سيئة، هجرة حيث في زعمه الحرية المطلقة، يقول: له صاحب ذهب قبله ليرى الحال هناك والإمكانات، فيقول: اتصل عليّ وقال: تعال، يعني: تجد راحتك، يقول: كنت سأهاجر خلاص سأعيش هناك، من أجل أن يفعل ما يريد، فجاءه بعض الناس ممن يشتغلون بالدعوة مثل هؤلاء ولهم أساليب في جذبهم وما يوردونه عليهم من الرقاق والوعظ وما أشبه ذلك، الشاهد أن الرجل جاء ليسأل سؤالين:

السؤال الأول عن ديون –أموال- يطالب بها، هل أعطي أصحابها هذا المال وهم أصحاب مخدرات أو أتصدق به أو ماذا أفعل به؟

والسؤال الثاني: أن أحد هؤلاء لما سجن يقول: كانت لي وقفات معه من قبل، فعنده سيارة لكزس فأعطاني إياها كهدية، فيقول: هل لي أن آخذ هذه السيارة أو لا؟ وهو أخذها واكتسبها من المخدرات.

إذا رأيتَه لا تصدق أن هذا الإنسان كان على فساد وفسق، كنت أظنه عالماً، ففوجئت لما قال لي: لا تغتر بهذا.

والآخر جاء في المكتب في الكلية ولما دخل رحبت به، وقدمت له الشاي، فاستغرب، فقال: أنا طالب عندكم في الكلية، قلت: أهلاً وسهلاً ومرحباً تشرفنا، حياك الله، شكله وهيئته وكذا ما كأنه طالب، فلما عرّفني باسمه قال: هذه الهيئة التي تراها هذه صار لها فقط ما يقرب من سنة، وذكّرني بأمر كان لما عرضت قضيته كان كلام الجميع ممن عُرض عليهم أمره يدل على أن هذا الإنسان ميئوس منه، هو ذكر هذا، قال: لو عرفتني قبلُ ورأيتني قبلُ كلُّ شيء يخطر في بالك أفعله، وذكر توبته وما حمله على هذه التوبة، ويقول: وتغيرت حالي تماماً.

وهذا الرجل كان مفصولاً، ثم بعد ذلك اقترحت أن يُعطَى هذا فرصة لأننا ندفع الناس للأمام ونبني، ففعلاً أعيد إلى الكلية وطلع الطالب المثالي في الكلية، وتخرج على أحسن حال، وكان من أفضل الطلاب الذين عرفتهم، وإذا رأيته لا يمكن أن تقول: هذا كان في تلك الحال السابقة، وغير هذا كثير، فيُقبل على الله إقبالاً صحيحاً، والأمثلة على هذا كثيرة.

اتصل قبل أيام شخص كان يبكي، يبكي بكاء لا تكاد تفقه ما يقول، فيقول: كان على حال من البعد عن الله   -عز وجل، يقول: لا تستثنِ شيئاً، كل شيء يخطر في بالك من العظائم قارفه، يقول: فمن الله عليّ بالتوبة، فذكر أشياء تعجبت منها، منها: يقوم الليل كل يوم ويبكي ويتضرع، هو يذهب إلى المسجد قبل أذان الفجر بأربعين دقيقة على الأقدام، يذهب إلى مسجد يؤذن فيه على قدميه، فهو يبكي يقول: أخشى أني لم أصدق مع الله، السبب: أنه اشتغل بشغلة إضافية أثرت على قيام الليل وقراءة القرآن.

فقال تعالى: وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا [سورة الفرقان:71] أي: فإن الله يقبل توبته، كما قال تعالى: وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غـَفُورًا رَّحِيمًا [سورة النساء:110] الآية، وقال تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ.. [سورة التوبة:104] الآية، وقال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.. [سورة الزمر:53] الآية، أي: لمن تاب إليه.
  1. أخرجه مسلم (186).
  2. رواه ابن أبي حاتم (8/ 2736)، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/ 53)، رقم (6361)، بلفظ: (جاء شاب ...).
  3. أخرجه البخاري، كتاب القدر، باب في القدر (8/ 122)، برقم (6594).
  4. أخرجه الترمذي، أبواب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن (4/ 448)، برقم (2140)، وأخرجه أحمد (12107)، وصححه الألباني.
  5. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب قول الله تعالى: ألا لعنة الله على الظالمين [سورة هود:18] (3/ 128)، برقم (2441)، ومسلم، كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله (4/ 2120)، رقم (2768).
  6. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 245-247).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها (1/ 177)، رقم:(190).
  8. المستدرك على الصحيحين للحاكم ، كِتَابُ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ، رقم:(7643)، وصححه الألباني.
  9. أخرجه الترمذي (4/ 603)، رقم:(2402) بلفظ: يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض وحسنه الألباني.
  10. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص: 247-249).
  11. المصدر السابق (ص: 249).
  12. المصدر السابق.
  13. المصدر السابق (ص: 250).

مواد ذات صلة