بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشعراء وهي مكية، وَوَقع في تفسير مالك المروي عنه تسميتُها: سورة الجامعة.
طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مـُؤْمِنِينَ إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [سورة الشعراء:1-9].
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة.
وقوله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ أي: هذه آيات القرآن المبين، أي: البيّن الواضح الجلي، الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد.
وقوله: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ أي: هذه آيات القرآن المبين، أي: البيّن الواضح الجلي، الذي يفصل بين الحق والباطل، والغي والرشاد.
قوله: الْمُبِينِ أي: بيّن في نفسه، وهو أيضاً مبين لغيره، فهو مبين لحقائق التوحيد والإيمان، ومبين لأحكام الله وشرائعه، ومادة "بان" تأتي قاصرة ومتعدية، قصيدة كعب بن زهير المشهورة "بانت سعاد" في أولها المقدمة الغزلية ويصف الناقة التي كان يركبها وفيه:
عِتقٌ مبين وفي الخدين تسهيل |
مبين أي: بين واضح، وهنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: أي: البين الواضح الجلي الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد، بين وهو أيضاً مبين لما سبق من حقائق الدين وشرائع الإيمان.
وقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ أي: مهلك نَفْسَكَ أي: مما تحرص وتحزن عليهم أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وهذه تسلية من الله لرسوله -صلوات الله وسلامه عليه- في عدم إيمان مَنْ لم يؤمن به من الكفار، كما قال تعالى: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [سورة فاطر:8]، وقال: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [سورة الكهف:6].
قال مجاهد، وعكرمة، والحسن، وقتادة، وعطية، والضحاك: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أي: قاتل نفسك.
مادة البخع بمعنى الهلاك لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أي: مهلك نفسك، فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا أي: تتأسف وتقتل نفسك أسفاً وحسرة على عدم إيمانهم، فالله -تبارك وتعالى- قال في سورة الإنعام وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة الأنعام:35]، والآيات في هذا كثيرة جداً سواء في تسلية النبي ﷺ أو في الإخبار بأن الله -تبارك وتعالى- أراد ذلك إرادة كونية، يعني وقوع هذا الضلال والإضلال من الكافرين كما قال الله -تبارك وتعالى- لما ذكر وحي الشياطين: وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلـِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:113].
فهذا أمر أراده الله ومن ثَم النظر في هذه المواضع ينفع كثيراً لمن أراد أن يحمل هماً في الإصلاح والدعوة إلى الله -تبارك وتعالى، فقد يتضاعف همه وتزداد كربته وتكثر حسراته كلما نظر إلى ضلال مَن ضل، وانحراف مَن انحرف، ولكن ذلك وإن كان ناشئاً عن غيرة ومحبة لله فإن مثل هذا ينبغي أن يوجه وأن يصرف إلى ما بيّنه الله بأن يعتبر الإنسان بما ذُكر مِن أن هذا شيئاً أراده الله لحكمة، وأن قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وأن الله لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، ولم يقع بينهم الاختلاف والتفرق والشر، ولم تقع الطوائف والفرق والضلالات ولم يقع أئمة، ولم يوجد هؤلاء الأئمة الذين يدعون إلى الكفر و محادة الله ، ولكن الله أراد ذلك ليبتلي الناس بعضهم ببعض.
فالمؤمن ما عليه إلا أن يكون مستجيباً ومتبعاً لأمر الله ، ملازماً للصراط المستقيم، وما وراء ذلك ليس من شأنه لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء [سورة البقرة:272]، وبهذا الذي ذكر تحصل المدافعة بين الحق والباطل، والحق محفوظ، وإنما يضر الكافر نفسه ويهلكها و يوبقها، فمن تخلى عن دينه وارتد عنه ولم يستجب ابتداءً فإنه لا يضر إلا نفسه يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ [سورة يونس:23]، ونحن بحاجة في مثل هذه الأوقات إلى مثل هذا النظر والتأمل في مثل هذه المواضع كثيراً، فلا يبقى الإنسان في غم دائم مستمر وحسرة، والله المستعان.
ثم قال الله تعالى: إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ أي: لو شئنا لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهرا، ولكَّنا لا نفعل ذلك؛ لأنا لا نريد من أحد إلا الإيمان الاختياري؛ وقال تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [سورة يونس:99]، وقال: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [سورة هود:118، 119،] فنَفَذ قَدَرُه، ومضت حكمته، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم.
ثم قال:وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ أي: كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس، كما قال: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وقال: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [سورة يس:30]، وقال: ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّمَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ ... الآية [سورة المؤمنون:44]؛ ولهذا قال تعالى هاهنا: فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ أي: فقد كذبوا بما جاءهم من الحق، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [سورة الشعراء:227].
ثم نبه تعالى على عظمته في سلطانه وجلالة قدره وشأنه، الذي اجترءوا على مخالفة رسوله وتكذيب كتابه، وهو القاهر العظيم القادر، الذي خلق الأرض وأنبت فيها من كل زوج كريم، من زروع وثمار وحيوان.
قال سفيان الثوري، عن رجل، عن الشعبي: الناس من نبات الأرض، فمن دخل الجنة فهو كريم، ومن دخل النار فهو لئيم.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً أي: دلالة على قدرة الخالق للأشياء، الذي بسط الأرض ورفع بناء السماء، ومع هذا ما آمن أكثر الناس، بل كذبوا به وبرسله وكتبه، وخالفوا أمره وارتكبوا زواجره.
وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ [سورة الشعراء:9] أي: الذي عَزّ كلَّ شيء وقهره وغلبه، الرَّحِيمُ أي: بخلقه، فلا يعجل على مَنْ عصاه، بل يُنظره ويؤجله ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر.
قال أبو العالية، وقتادة، والربيع بن أنس، ومحمد بن إسحاق: العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره.
وقال سعيد بن جبير: الرحيم بِمَنْ تاب إليه وأناب.
قوله -تبارك وتعالى: أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ الكريم: سبق الكلام عليه في بعض المناسبات فالمقام الكريم، والزوج الكريم -الزوج بمعنى الصنف هنا- بمعنى الشيء الحسن الطيب، يقال له ذلك، يقال: هذا نبات كريم، وهذا حجر كريم، وهذا معدن كريم، وهذا رجل كريم، وهكذا يقال: طعام كريم، ونحو هذا، الشيء الحسن الجيد يقال له: كريم، هذا هو المعنى الذي يمكن أن يفسر به مثل هذا اللفظ، والله تعالى أعلم.