بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ فَلَمـَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مـُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [سورة الشعراء:38-48].
ذكر الله تعالى هذه المناظرة الفعلية بين موسى والقبط في "سورة الأعراف" وفي "سورة طه" وفي هذه السورة: وذلك أن القبط أرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم، فأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وهذا شأن الكفر والإيمان، ما تواجها وتقابلا إلا غلبه الإيمان، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ [سورة الأنبياء:18]، وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا [سورة الإسراء:81]، ولهذا لما جاء السحرة، وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر، وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم وأشدهم تخييلا في ذلك، وكان السحرة جمعًا كثيرًا، وجمًا غفيرًا، والله أعلم بعدتهم.
واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم، وقال قائلهم: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، ولم يقولوا: نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله تعالى: فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ المقصود به يوم العيد "موعدكم يوم الزينة"، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وهذا النوع من التفسير يعد من التفسير القطعي؛ لأن تفسير القرآن بالقرآن مما يقطع به، وتفسير القرآن بالقرآن من حيث الجنس هو أعلى درجات التفسير، ولكن هذا ليس باعتبار الأفراد والأمثلة وآحاد تفسير القرآن بالقرآن؛ لأن ذلك يدخله اجتهاد المفسر فقد يصيب وقد يخطئ وقد يكون وجه الربط بين الآية والآية غير ظاهر، وقد يكون الاحتمال قوياً وقد يقطع بهذا، فمما يقطع به مثل هذا الموضع، جمع السحرة لميقات يوم معلوم: قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [سورة طه:59].
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى- في الآيات التي مضت في قول السحرة إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا [سورة الشعراء:51]، هذه الخطايا تفسر بقوله -تبارك وتعالى، إضافة إلى السحر والكفر والشرك بالله وقولهم في الآية الأخرى: وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [سورة طه:73]، وهنا جمع السحرة لميقات يوم معلوم هو يوم الزينة.
كما يقال في قوله -تبارك وتعالى- في آية مضت في الأسبوع الماضي لما قال فرعون: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فهذا يفسر قوله تعالى في سورة الفاتحة: الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الفاتحة:2]، فبعضهم يقول: "العالمين" الإنس والجن، مثلاً هنا هذا التفسير: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا هذا أحسن ما يفسر به، والله تعالى أعلم.
وقولهم هنا: وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ، يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: وقال قائلهم: لعلنا نتبع السحرة، ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى، بل الرعية على دين ملكهم، يعني الحافظ ابن كثير -رحمه الله- جعل ذلك من قول الناس، وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ وقد يفهم من الآية -والله تعالى أعلم-أن الذين قالوا ذلك هم الذين حشروا الناس وجمعوهم؛ لأن فرعون أرسل في المدائن حاشرين يجمعون الناس، فقالوا لهم مثل هذا القول: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ.
والمقصود باتباع السحرة ليس ذلك باتباعهم بسحرهم، وإنما المقصود أن السحرة يمثلون فرعون في هذه المغالبة، فإذا ظهر السحرة على موسى -عليه الصلاة والسلام- فهذا ظهور لفرعون الذي جاء بهم، فهؤلاء من أعوان فرعون وجنوده، يقولون للناس: لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ وهم متبعون لهم؛ ولذلك يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: لعلنا نتبع السحرة، يعني كأنهم يريدون الإبقاء على دينهم، والثبات على عبادتهم لفرعون والإعراض عما جاء به موسى -عليه الصلاة والسلام، وظاهر كلام ابن كثير -رحمه الله- أن ذلك جرى من آحاد الناس؛ ولهذا قال: الناس على دين ملكهم.
ولكن ظاهر الآية قد يفهم منه -والله تعالى أعلم- أن الذين قالوا ذلك ليسوا آحاد الناس، وإنما الذين بعثهم فرعون، ولم يذكر القائل في قوله: وَقِيلَ لِلنَّاسِ، وهذا يُفسَّر بما جاء في كتاب الله ، فهم لا يريدون غير هذا أصلاً يعني فرعون وأعوانه لا يريدون إلا اتباع السحرة لأنه يعني اتباع فرعون؛ ولهذا لما ظهرت حجة موسى -عليه الصلاة والسلام- ما تحول الملأ مثلا من القبط أو من قوم فرعون إلى مؤمنين، إنما الذي آمن هم السحرة.
لكن هذا لاشك أنه يدل على نية سيئة مبيتة من فرعون، ومن معه أنهم لا يريدون الحق لهذه المغالبة، حتى لو ظهر موسى -عليه الصلاة والسلام- فكانوا على هذا القصد الفاسد ابتداء، ومن كان على هذا القصد فالأصل أنه لا يناظَر، ولا تصلح المحاجة معه لذاته، وإنما لمطلوب آخر من أجل أن يعرف الناس الحق ويتبين وينكشف، وهذا الذي حصل: جمع الناس فإذا كان فرعون ومن معه لم يكونوا على استعداد للإيمان، ولكن الذي حصل هو أن الناس جُمعوا لميقات يوم معلوم، حشر الناس فشاهدوا هذه الآية العظيمة وقامت عليهم الحجة وعرفوا صدق موسى -عليه الصلاة والسلام، وبطلان ما كان عليه فرعون، فآمن من أراد الله هدايته، ومن كان مبطلاً في هذه المحاجة فإنه لم يؤمن، وكان يقصد إبطال الحق ورد الحق لا يريد اتباعه ابتداء فمثل هذا قد لا يوفق للهدى، والله المستعان.
في سورة طه خيروا موسى فقالوا: يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى، لكن هنا جاء ذلك مختصراً، فقال الله -تبارك وتعالى: قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ كأن موسى ابتدأهم بذلك، وكان أول هذا أنهم خيروه فاختار موسى -عليه الصلاة والسلام- أن يبدءوا هم بإلقاء سحرهم وهذا لاشك أنه أوقع في النفوس، وذلك أن مشاهدة هذا السحر ثم بعد ذلك يكون العاقب له هذه الآية العظيمة فإن هذا أوقع في القلوب وأعظم تأثيراً، ويمحو كل ما يمكن أن يوجد في نفوس الناس حينما يشاهدون أعمال السحرة، ويبطله تماماً، والناس إنما يعلق في قلوبهم ما يكون آخراً، فألقوا وشاهد الناس كل ما عندهم، ثم جاءت آية موسى بعد ذلك، وأنستهم ما ألقاه السحرة، صارت تلقف ما يأفكون فما بقي لهم شيء.
الباء هذه يحتمل أن تكون للسببية، قالوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَأي: بسبب عزة فرعون إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ، ويحتمل أن تكون الباء للقسم، ألقوا وقالوا: بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ أقسموا بعزة فرعون وهذا لا يستغرب؛ لأن فرعون يدعي الإلهية أصلاً، ويقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24]، وما ظنكم بهؤلاء السحرة؟
كما سبق الكلام في سورة طه في الكلام على قصة موسى -عليه الصلاة والسلام- وهكذا في الأعراف أن السحرة هم أخبث الناس نفساً، وأنهم أكفر الناس وأن الرجل لا يمعن في السحر، ويكون حاذقاً فيه إلا على قدر ما يحصل له من الإشراك، والدنس بكل معانيه، و"كل" هنا للعموم على وجهها، كل معانيه، كلما استطاع أن ينزل أكثر كلما كان الشياطين يعينونه أكثر، ماذا يفعل؟ يكتب المصاحف بدم الحيض، ويكتبها بأشياء أخرى قذرة يلطخ المصاحف بها، وتجد أوراق المصحف في القذر -أعز الله كتابه وكلامه ومن يسمع- وهذا موجود إلى اليوم، وألوان الفجور، والشياطين تفجر به، لا يتنزه عن شيء إطلاقاً، فكلما كان أوغل في القذر والوحل كلما كان أحذق في السحر، فما ظنكم بمثل هؤلاء الذين جاءوا؟ فإذا قالوا: بعزة فرعون: يقسمون بعزة فرعون أنهم هم الغالبون، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، وهذا فعلوه -والله أعلم- تقوية لقلوبهم وربطاً لعزائمهم عند المناظرة.
لكن الشيء الغريب أن هؤلاء على ما هم فيه من الحال التي وصفت وهؤلاء كبار السحرة مباشرةً لما رأوا هذه الآية سجدوا -وجاء ذلك في كتاب الله معقباً بالفاء التي تدل على التعقيب المباشر- ومباشرة وأمامهم فرعون وكانوا يطمعون بالقرب منه والأجر، ثم توعدهم بهذا الوعيد الشديد لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ، وقال: لأصلبنكم في وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [سورة طه:71]، والصلب على جذوع النخل أشد أنواع الصلب؛ لأن الإنسان إذا ربط في جذع أو على سارية أو نحو ذلك فإن هذا تعذيب له وأذى، لكن إن كان على جذع نخلة فإن أذاه أشد من غيره، قالوا ولهذا جاء بـ"في" التي تدل على الظرفية، ولم يقل: على جذوع النخل، وهذا يدل على شدة الربط كأنه يدخلهم في جذع النخلة.
فالشاهد أنه توعدهم بهذا الوعيد وفاتهم ما كانوا يؤملون، ومع ذلك ثبتوا هذا الثبات العظيم، وقالوا هذا الكلام الذي هو عن يقين عظيم جداً: "لا ضير" من أين جاء هذا الثبات؟! وقالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ تحولٌ من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين في الثبات والإيمان، فهذا هدى الله يهدي به من يشاء من عباده، بينما الناس العامة ما نُقل أنهم آمنوا، وهذا فيه دلالة أخرى وهي أن الحجج والبراهين والآيات إنما تقوى ويقوى أثرها عند أرباب الصنعة، والسحرة هم أعلم الناس بما جاء به موسى -عليه الصلاة والسلام- أن هذا ليس من جنس السحر، وأن هذا لا يتطرق إليه أي احتمال، فخضعوا مباشرة.
وهذه الآية أثرها بالنسبة لعامة الناس ليس كأثرها على السحرة؛ لحذق السحرة في هذه الصنعة، ولذلك يقال هذا في أشياء: يعني في المرويات -روايات الحديث- قد يأتي رجل من أهل الكلام ممن لا يعرف الحديث ولا تثبُّت الرواة فيما يروون، ويرد الحديث بحجة أن هذا الحديث ما الذي يثبت أنه صحيح، وهو في صحيح البخاري أو من المتفق عليه، لكن تجد العالم بالحديث يحصل له من اليقين مالا يحصل لغيره.
ولهذا في الكلام على مسألة الآحاد هل يفيد العلم أو لا يفيد العلم؟ هذا يختلف باعتبارات متعددة منها حال الشخص نفسه، فالعالم بالحديث إذا نظر في الإسناد أو في الطرق فإنه يحصل له بسبب معرفته بهذه الصنعة من اليقين ما لا يحصل لأهل الكلام مثلاً؛ لجهلهم، ولذلك تجد العامي أحياناً عندما تقول له: هذا الحديث رواه البخاري، فيقول: وما يدرينا أن ذلك لم يُدس في البخاري، فتحتاج أن تعطي دورة كاملة، بحيث توجد أرضية للنقاش، وأقصد بالعامي: مَن هو غير أهل العلم بهذا؛ فقد تجد أستاذاً بالجامعة في تخصص بعيد عن التخصصات الشرعية، ويتكلم بهذه الطريقة، وهذا موجود، والسبب هو جهله.
وقد ذكر الله في سورة الأعراف: أنهم سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [سورة الأعراف:116]، وقال في سورة طه: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى... إلى قوله: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [سورة طه:66-69].
وقال هاهنا: فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ أي: تختطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدعْ منه شيئاً.
قال تعالى: فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ...، إلى قوله: رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [سورة الأعراف:118-122].
قوله -تبارك وتعالى: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ هذا يدل على أن السحر الذي حصل كان من قبيل سحر التخييل وأنه غير حقيقي، والمفسرون يذكرون في هذا أشياء كثيرة، ولا دليل عليها وبعضهم يقول: وضعوا الزئبق فصارت تتحرك بهذه الطريقة، يعني كانوا يعرفون خواص المواد، وما يعرف عن طريق معرفة الكيمياء، وهذا النوع من أنواع السحر غير الحقيقي، سحر التخييل، وقد يكون تعاطي بعض أنواع الشعبذة والاستعانة بالشياطين من هذا النوع، يعني منه ما يعرف بخواص المواد، ومنه ما يعرف بنوع من الشعبذات أو الاستعانة بالشياطين، فيخيل إليه أشياء لا حقيقة لها، سحر التخييل، والنبي ﷺ سُحر فكان يخيل إليه فيما يتصل ببعض الجوانب، لا علاقة لذلك بأمر البلاغ والوحي، وهذا قد عصمه الله فيه.
ولازال هذا النوع يستعمل إلى اليوم حتى في الحروب، حتى الآن يستعمل في الحروب، الآن يومك هذا الذي أنت فيه يسحرون يُسحر الجنود فيرون الشجر والحجر رجالاً يتحركون، فيجلسون يطلقون كتائب أمامهم، وما في أحد، فيقتلهم الذين يرصدونهم يقتلونهم بكل سهولة، وهم جالسون مشتغلون يضرب الأشجار والأحجار ويقولون: انظروا إلى الرجال، انظروا إلى كذا وهو ما في أحد موجود، فبعضه يكون باستعمال هذا، ما هو استعمال خواص المواد ومعرفة الحيل وإنما بالاستعانة بالشياطين، تخيل إليهم الشياطين هذه الأمور، وذكرت في بعض المناسبات في بعض دروس العقيدة في الكلام على السحر شرح كتاب التوحيد قديماً أشياء من هذا القبيل وكذلك في درس الأوهام كيف يضلل الناس عن طريق هذا، معرفة خواص المواد ونوع يكون بهذا التخييل، والله المستعان.
وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ كما يقال: لو حاولتَ أن تأتي بكلمة مكافئة للفظة في كتاب الله لا تجد، يعني كلمة تلقف لو قيل: فإذا هي تبتلع، لو قيل: فإذا هي تأكل ما يأفكون أو نحو ذلك لا يعبر عن المطلوب كما تعبر هذه، تلقف هذه الأشياء، كل الذي يلقونه يتطاير في فمها بصورة سريعة مدهشة حتى لم تُبقِ في هذا المكان شيئاً، تلقف: غير لما تأتي وتزحف إليه وتأكل هذا وتأكل هذا وتأكل هذا، لا، تلقف كلما ألقوا شيئاً التقفته.
إذا انقطعت الحجة لجأ الإنسان إلى مثل هذه الأساليب والدعاوى التي يعلم الجميع أنها لا حقيقة لها، فموسى -عليه الصلاة والسلام- متى كان يدبر مع السحرة ويخطط معهم من أجل الانقضاض على فرعون؟ ومتى كان يعلمهم ويدربهم السحر وفرعون هو الذي جمعهم له من مناطق وأماكن مختلفة؟ وآيات موسى -عليه الصلاة والسلام- وآية فرعون لم تكن ملتبسة، وإنما كانت واضحة.
ولهذا فإن ما يذكره المعتزلة ومن وافقهم من المتكلمين كالأشاعرة في آيات الأنبياء أو في المعجزات بالأخص بناء على ما يتوهمونه من الالتباس بين فعل الساحر وبين معجزة الرسول غير صحيح؛ لأن آيات الأنبياء تختلف عن معجزات السحرة؛ ولذلك آيات الأنبياء ومعجزات الأنبياء تختلف عما يأتي به السحرة من الأباطيل، ولهذا السحرة لم يحصل عندهم أدنى تردد فهم يعرفون؛ لأن آية النبي -وهذا هو الأهم- خارقة لجنس العادة، لا يمكن لأحد من عند نفسه مهما كان حاذقاً أن يأتي بها.
ولهذا يقولون: كان الأنبياء يأتون بمعجزات من جنس ما كان يتمهر به الناس في زمانهم، وكان السحر شائعاً في قوم فرعون جاءت آية تبطل ذلك وتبين الحق بأمر خارق لا يمكن أن يأتي السحرة بمثله، فآمن السحرة مباشرة، يقولون: عيسى -عليه الصلاة والسلام- لما كان الطب شائعاً كان يبرئ الأكمه والأبرص إلى آخره، وهكذا النبي ﷺ جاء لأهل فصاحة بهذا القرآن.
والذي يذكرونه وتجدونه في كتب حتى بعض أهل السنة من المتأخرين: أن المعجزة أمر خارق للعادة يقصد به التحدي، مع دعوى النبوة إلى آخره، كل هذه القيود لا يصح منها شيء إلا القيد الأول أنه خارق للعادة فقط، وأما الباقي فهو من كلام المتكلمين الأشاعرة والمعتزلة؛ لأنهم لا يفرقون بين جنس آيات الأنبياء، وما يحصل على يد السحرة، يقولون: الآية والمعجزة ينبغي أن تكون غير ملتبسة، كيف تكون غير ملتبسة؟ أمر خارق للعادة على سبيل التحدي مع دعوى النبوة، قالوا: فالساحر لا يفعل ذلك على سبيل التحدي للناس، ولا يدعي معه النبوة.
وهذا الكلام لا حاجة إليه، فآيات الأنبياء غير خوارق السحرة إن صح التعبير فإن معجزات الأنبياء خارقة لجنس العادة، أي: عادة البشر جميعاً لا يمكن لأحد أن يأتي بمثلها، وأما خوارق السحرة فهي خارقه لعادة غيرهم يطير في الهواء مثلاً، يمشي على الماء هذه خارقة لعادة غير الساحر، لكن لو جئنا بساحر آخر، وقال: أنا أصنع أفضل منه وأكثر منه، فهي ليست بخارقة لجنس عادة السحرة، عرفتَ الفرق؟
أما معجزة النبي فهي خارقة لجنس العادة مطلقاً، فلا يمكن لأحد أن يأتي بمثلها، إضافة إلى أمور أخرى وهي أنه لا يشترط أن يقصد بها التحدي، فالأنبياء قد تحصل لهم الخوارق من غير تحدٍّ، تحصل بين أصحابه كنبع الماء بين أصابعه -عليه الصلاة والسلام، وإنزال المطر بدعائه، وكذلك الإخبار عن أمور غيبية مثل مكان ناقته حينما ضاعت في بعض مغازيه، وهكذا أيضاً انقياد الشجر له وتسليم الحجر عليه، قد يحصل له ذلك بمفرده دون أن يراه أو يطلع عليه الآخرون، هذا كله من آيات الأنبياء لا يشترط أن يقصد بها التحدي، إضافة إلى حال الساحر، وحال النبي، شتان، فالساحر أقذر الناس نفساً، والنبي أطهر الناس نفساً، الساحر يدعو إلى كل رذيلة، والنبي يدعو إلى كل فضيلة، ولهذا تجد هرقل في السؤالات المعروفة لم يسأل عن معجزة واحدة، كل الأسئلة التي سألها من دلائل النبوة وآيات الأنبياء ليس فيها خارق واحد، ما سأل عن معجزة، ومع ذلك عرف أنه نبي وأيقن، وكذلك أيضًا لما هاجر النبي ﷺ ورآه عبد الله بن سلام -رضي الله تعالى عنه- فقال: إن وجهه ليس وجه كذاب، وسأله بعض الأسئلة ولم يطلب منه معجزة.
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصـَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَن ْيَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء:49-51].
تهددهم فلم ينفع ذلك فيهم، وتوعدهم فما زادهم إلا إيمانا وتسليما، وذلك أنه قد كُشف عن قلوبهم حجاب الكفر، وظهر لهم الحق بعلمهم ما جهِلَ قومُهم من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر، إلا أن يكون الله قد أيده به، وجعله له حجة ودلالة على صدق ما جاء به من ربه؛ ولهذا لما قال لهم فرعون: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟ أي: كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم، ولا تفتاتوا عليَّ في ذلك، فإن أذنت لكم فعلتم، وإن منعتكم امتنعتم، فإني أنا الحاكم المطاع؛ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ، وهذه مكابرة يعلم كل أحد بُطلانها، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل.
ثم توعَّدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب، فقالوا: لا ضَيْرَ أي: لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ أي: المرجع إلى الله، وهو لا يضيع أجر مَنْ أحسن عملا ولا يخفى عليه ما فعلتَ بنا، وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء؛ ولهذا قالوا: إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أي: ما قارفناه من الذنوب، وما أكرهتنا عليه من السحر، أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ أي: بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان، فقتلهم كلهم.
قوله -تبارك وتعالى- عن قول فرعون لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ المقصود بذلك: قطع يد من جهة ورِجل من جهة أخرى فتتعطل مصالح الإنسان في الانتقال والمشي والحركة، وفي المعاطاة وتبادل المنافع والتصرف في شئونه وحاجاته، وأما قول السحرة: لا ضير فبمعنى لا ضرر، قال: لا ضرر ولا ضير أي أن هذا لا يضرنا، وقد مضى الكلام على مثل هذه الآيات في مناسبات سابقة.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فـِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:52-59].
لما طال مُقام موسى ببلاد مصر، وأقام بها حُجَج الله وبراهينه على فرعون وملئه، وهم مع ذلك يكابرون ويعاندون، لم يبق لهم إلا العذاب والنكال، فأمر الله موسى ، أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر، وأن يمضي بهم حيث يؤُمَر، ففعل موسى ما أمره به ربه ، خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حُليا كثيراً، وكان خروجه بهم فيما ذكر غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر، وذكر مجاهد -رحمه الله- أنه كُسِف القمر تلك الليلة، فالله أعلم.
مثل هذا لا يصح ولا يثبت، والمرويات في هذا كثيرة جداً، وكل ذلك يحتاج إلى دليل، ويقولون: إنهم خرجوا في يوم عيد لبني إسرائيل، ولهذا استعار نساؤهم الحلي من نساء الفراعنة، فلما خرجوا بقي معهم هذا الحلي، فقالوا: وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا [سورة طه:87]، فلما ذهب موسى -عليه الصلاة والسلام- إلى الميقات وهؤلاء معهم الحلي المستعار ما عرفوا كيف يصنعون به، كيف يتصرفون فألقوا ذلك الحلي المستعار، فأوقد عليه السامري، وجعله لهم بهيئة العجل وقبض قبضة من أثر حافر فرس جبريل -عليه الصلاة والسلام- فألقاها، فصار ذلك العجل له خوار، فهذا شأن الحلي الذي كان معهم.
الحديث معروف في عجوز بني إسرائيل لما اشترطت على موسى -عليه الصلاة والسلام- أن ترافقه في الجنة، فدلتهم على مكان قبر يوسف ﷺ وكان قد أوصى بذلك –أي أن ينقل، وإلا فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كما ذكر النبي ﷺ يدفنون حيث ماتوا، وما جاء أن موسى سأل عن قبر يوسف ونقله مع أن أجساد الأنبياء قد حرمت على الأرض فالمقصود أن العظام تطلق ويقصد بها الإنسان، الجسد، وإلا فقد كانت المدة الطويلة بين يوسف -عليه الصلاة والسلام- وبين موسى في مجاري العادات كانت كافية لتحلل العظام، ولكن الله يحفظ أجساد الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.
وكان يوسف قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحملوه معهم، فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب غاظ ذلك فرعون واشتد غضبه على بني إسرائيل؛ لِمَا يريد الله به من الدمار، فأرسل سريعًا في بلاده حاشرين، أي: مَنْ يحشر الجندَ ويجمعه، كالنُّقباء والحُجَّاب، ونادى فيهم: إِنَّ هَؤُلاءِ -يعني: بني إسرائيل-لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَأي: لطائفة قليلة.
وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَأي: كل وقت يصل لنا منهم ما يغيظنا.
يقول: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، الشرذمة الطائفة القليلة الحقيرة، شرذمة، يعني يقال هذا: للشيء المستحقر، وبنو إسرائيل قدروا في ذلك الوقت بأنهم يبلغون ستمائة ألف -والله تعالى أعلم، لكن بالنظر إلى الفراعنة هم قلة، وكانوا يعملون في الخدمة والأعمال المهينة، إن هؤلاء لشرذمة قليلون.
قراءة المدنيين قراءة متواترة، قراءة أبي عمرو حذرون، ولهذا قال ابن جرير -رحمه الله: إن الحاذر والحذِر معناهما متقارب، بل قال بعضهم كأبي عبيدة معمر بن المثنى: إن المعنى واحد، مع أن بعض أصحاب معاني القرآن مثل الزجاج والفراء فرق بينهما، فقال: الحذِر من كان ذلك طبيعة له، الحذِر دائماً يعني مَن طبيعته الحذَر، صفة له ثابتة، وأما الحاذر فهو الذي يحذر الآن، والحاذر متيقظ في أي وقت، أي مستعد، ويكون الحذِر متيقظاً دائماً على هذا التفريق، فعلى التفريق بينهما: وإنا لجميعٌ حاذرون يعني الآن أعلنت حالة الطوارئ كما يقال وأما إذا قال: حذِرون -على التفريق بينهما- فيعني أن ذلك كان من ديدنهم معهم لما يتخوفونه منهم ويتوقعونه منهم، ولهذا كان يقتل أبناءهم إضعافاً لهم فلا تكون لهم قوة وظهور وشوكة.
لاحظْ ابن كثير -رحمه الله- مشى على التفريق بينهم، في الأولى وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ حاذرون أي: نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وقرأ طائفة من السلف وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ أي: مستعدون بالسلاح، لكن حاذرون الأولى أي نحن كل وقت عكس المعنى الذي ذكره أصحاب معاني القرآن: حذِر من كان ذلك طبيعة له، حاذر يعني الآن متيقظ، ابن كثير -رحمه الله- قال: وإنا لجميعٌ حاذرون أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم، وذكر أن القراءة الثانية أي مستعدون بالسلاح، فالقراءة الأولى جاء بـ"أن" الأصل أنه حذرون، والثانية قال: وقرأ بعض السلف: حذِرون؛ لأن الأصل أنه يمشي على قراءة حفص.
فهمدائماً مستعدون لبني إسرائيل بالسلاح، هذه سجيتهم، لا أنهم يحملون السلاح في وقت الاحتدام وتوقع المواجهة وما أشبه ذلك، وهذا يدل على أن الاستعداد هنا في ذلك الوقت بعينه -والله تعالى أعلم، ولهذا تجد أن بعضهم لربما يعبر بمثل هذا فيقول لك: حاذرون مستعدون بالسلاح، فبعضهم يقول: المعنى واحد أصلاً لكن ابن كثير هنا واضح أنه فرق بينهم، وإلا فسيبويه يقول: المعنى واحد، هذه إذا كان اختلف فيها هؤلاء الأئمة من أهل اللغة سيبويه والفراء والزجاج وأبو عبيدة نعم فأهل اللغة يختلفون فيها، وابن جرير -رحمه الله- لم يقل: إن المعنى متحد، ولا إن المعنى مختلف، وإنما قال: المعنى متقارب، حذِر وحاذر، ولاشك أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فلان حذِر يعني أن ذلك طبيعة له، فلان حاذر فهو حذِر وزيادة، فيه زيادة -والله أعلم، أما كون المعنى واحداً متفقاً فيمكن أن يقال: في أصل المعنى متفق، لكن الزيادة لابد أن تكون، زيادة في المعنى.
وإني أريد أن أستأصل شأفتهم، وأبيد خضراءهم. فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم.
قال الله تعالى: فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ أي: فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق، والملك والجاه الوافر في الدنيا.
كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، كما قال تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف:137]، وقال تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ... الآية [سورة القصص:5، 6].
قوله -تبارك وتعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا هذه الآية مفسرة لقوله: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا لبني إسرائيل، ووَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [سورة الدخان:28] هم بنو إسرائيل، لكن هنا كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ يعني أرض مصر.
وأما قوله -تبارك وتعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا فليس هذا محل اتفاق بين المفسرين أنها أرض مصر؛ لأن بعض السلف يقول: هي أرض الشام، هي التي بارك الله فيها، وهي الأرض المباركة، وبعضهم يقول: أرض مصر، وبعضهم يقول ما هو أعم من ذلك، وذكرت حينها أن المؤرخين يقولون: إنه في التاريخ لا يعرف رجوع لبني إسرائيل بعدما جاوزوا البحر ونجوا من الغرق واتجهوا إلى الشام، لا يعرف أنهم رجعوا إلى مصر مرة أخرى.
لكن يقال: كلام الله -تبارك وتعالى- حق وصدق، والله هو العليم الأعلم وأخبر أنه أورثها بني إسرائيل، وحتى لو لم يثبت لهم رجوع فإنها تبقى تحت سلطانهم وتدبيرهم، لأن بلاد مصر خلت من القادة، وخلت من الجيش، ولم يبقَ فيها إلا النساء ومن في حكمهن ممن لا تدبير لهم، وإلا فالذين يديرون البلد ويحمونها ونحو ذلك كلهم قد هلكوا في وسط البحر، فبقيت البلد مكشوفة خالية.
فموسى -عليه الصلاة والسلام- أورثه الله، أورث الله الإسرائيليين أرض مصر وبلاد الشام، وبلاد مصر هي بلاد مرتبطة كل الارتباط، وعبر التاريخ عموماً كانت الجيوش التي تغزو مصر أو تحتل مصر أو نحو ذلك كانت تأتي عن طريق الشام عبر التاريخ السلطان الذي يحصل على مصر واليد التي توضع عليها كانت تأتي من قبل الشام؛ ولهذا كان محمد علي باشا حريصاً على أن يُدخل الشام تحت سلطانه، ويطالب العثمانيين بهذا ويلح عليهم ويساومهم في مطالبهم على تحقيق هذا المطلب؛ لأن قبله وقعت أشياء كثيرة كانت تأتي من قبل الشام، فلا غرابة أن تكون مصر تابعة لبلاد الشام مع هذا الأمر العظيم الذي حصل من هلاك فرعون ومن معه، بل يذكر بعضهم أن البلاد المصرية في التاريخ لم يحكمها أهلها غالباً، حتى الفراعنة لو قرأتم في تاريخهم لوجدتم أن القبط جاءوا من خارج مصر.
وعلى مدى التاريخ عمرو بن العاص لما حكم مصر فتح مصر وحكمها المسلمون لم يحكمها أحد من أهلها، وبعد ذلك جاء من جاء، وفي وقت الدولة العثمانية كانت ترسل من قبلها موفداً لحكم البلاد المصرية، وبعض هؤلاء كان رقيقاً مملوكاً، ومحمد علي ومن معه كانوا من الألبان، ما كانوا من المصريين، ويقول بعضهم: إن وصية النبي ﷺ في أهل مصر يعني ربما كانت تشير إلى هذا، ولكن لا يخلو من بُعد، والله أعلم.
خرج في محفل يعني في جمع من الناس عظيم؛ لأن المحفل هو مكان الاحتفال، وفي طبعة طيبة خرج في جحفل عظيم.
أولي الحل والعقد والدول، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود، فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ أي: وصلوا إليهم عند شروق الشمس، وهو طلوعها.
فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ أي: رأى كل من الفريقين صاحبه، فعند ذلك قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، وذلك أنه انتهى بهم السير إلى سِيف البحر، وهو بحر القُلزم.
بحر القُلزم هو البحر الأحمر، وبعض أصحاب الإعجاز العلمي يقول: إنه توجد أخاديد داخل البحر فيها نار، فالفراعنة سقطوا فيها ولذلك قال: أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25]، وهذا كلام غير صحيح.
فصار أمامهم البحر، وفرعون قد أدركهم بجنوده، فلهذا قالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ أي: لا يصل إليكم شيء مما تحذرون، فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم، وهو لا يخلف الميعاد.
وكان هارون ، في المقدمة، ومعه يوشع بن نون، ومؤمن آل فرعون وموسى في الساقة، وقد ذكر غير واحد من المفسرين: أنهم وقفوا لا يدرون ما يصنعون، وجعل يوشع بن نون، أو مؤمن آل فرعون يقول لموسى : يا نبي الله، هاهنا أمرك الله أن تسير؟ فيقول: نعم، واقترب فرعون وجنوده، ولم يبقَ إلا القليل، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه، وقال: انفلقْ بإذن الله.
أمر الله نبيه موسى أن يضرب بعصاه البحر، فضربه وقال: انفلقْ بإذن الله.
والله -تبارك وتعالى- أعلمَ موسى ﷺ قبل ذلك وأخبره أنكم متبعون، وكذلك –أيضا- واترك البحر رهواً، فأعلمه الله -تبارك وتعالى- قبل هذا.
قال الله تعالى: فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ أي: كالجبل الكبير، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومحمد بن كعب، والضحاك، وقتادة، وغيرهم.
صار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق، يعني صار فيه طُرق لأسباط بني إسرائيل، صار كل فرق كالطود العظيم، وقف الماء كأنه جبال، وكانوا يمرون بين هذه الطرق كأنهم يمشون على اليابسة.
صار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق، يعني صار فيه طُرق لأسباط بني إسرائيل، صار كل فرق كالطود العظيم، وقف الماء كأنه جبال، وكانوا يمرون بين هذه الطرق كأنهم يمشون على اليابسة.
وقال عطاء الخرساني: هو الفَجّ بين الجبلين.
وقال ابن عباس: صار البحر اثني عشر طريقًا، لكل سبط طريق، وزاد السدي: وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض، وقام الماء على حَيْله كالحيطان، وبعث الله الريح إلى قعر البحر فلفحته، فصار يَبَسا كوجه الأرض، قال الله تعالى: فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى [سورة طه:77].
وقال في هذه القصة: وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي: هنالك.
قوله: على حَيْله كالحيطان يعني:على حيله كالحيطان.
وقد يفهم منه أن البحر لاسيما مع قوله فانفلق والانفلاق الانشقاق، فكان كل فرق كالطود العظيم، يعني كأن البحر انفلق عنهم فمشوا على الأرض اليابسة، فصار الماء في نواحيه كالجبال، فصار طريقاً يبساً، وهذا يدل -والله أعلم- على أن البحر انشعب عنهم بالماء، فصاروا يمشون على اليابسة، فصار الماء متوقفاً في نواحيه هذا الذي يفهم من ظاهر الآية -والله تعالى أعلم- وهذا أبلغ وأعظم، وأصحاب النبي ﷺ في بعض الحروب في العراق مشوا على الماء عبروا دجلة في واقعة مشهودة معلومة مع سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه، ولكن كون البحر ينشعب بهذه الطريقة ويبقى مثل الجبال العظيمة على جوانب هذه الطرق ثم يمشون في وسط البحر على أرض يابسة لا تزوغ فيها الأقدام هذا عجيب، تعرفون أرض البحر كيف ما فيها من أثر أذى الماء وما فيها من الأشياء التي اجتمعت عبر قرون متطاولة فصار بهذه المثابة.
هذا ظرف مكان للبعيد.
قال ابن عباس، وعطاء الخرساني، وقتادة، والسدي: وَأَزْلَفْنَا أي: قربنا فرعون وجنوده من البحر وأدنيناهم إليه.
وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ أي: أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن معهم على دينهم فلم يهلك منهم أحد، وأغرق فرعون وجنوده، فلم يبق منهم رجل إلا هلك.
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً أي: في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ تقدم تفسيره.
يحتمل أن يكون المراد بقوله: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ قوم فرعون، مع ما رأوا من هذه الآيات العظيمة انفلاق البحر، وما حصل قبله أيضاً من رؤية العصا، وما حصل من موسى -عليه الصلاة والسلام- مع السحرة، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ ما آمن إلا قلة كآسية امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ يعني من وجه إليهم هذا الخطاب وقص عليهم هذا القصص وهم المشركون في زمان النبي ﷺ فلم ينتفعوا بذلك، ولم يؤثر فيهم.
وعلى الأول: وما كان أكثرهم مؤمنين أي جملة قوم فرعون وليس المقصود الجيش الذي معه، لأنه لم يؤمن أحد منهم.
وعلى الثاني كما يقول سيبويه: ما كان أكثرهم يعني المشركين الذين كانوا في زمن النبي ﷺ. والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ فحينما شاهدوا آية موسى ﷺ هذه الآية العظيمة لم ينتفعوا بها وبقوا على المكابرة وما تركوا موسى وشأنه، فقد كان يطلب من فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل فلما رأى هذه الآية لم يذعن ولم يرسلهم ولما خرجوا من عند أنفسهم في وقت غفلة الناس ما غض الطرف عنهم، وإنما أعلن الحذر، وجهز الناس والجيش لملاحقتهم، وكان يمكن أن يقال له: دع هؤلاء يخرجون من مملكتك فتستريح منهم، ولكن أهل الشر والباطل والمنكر لا يمكن أن يتركوا أهل الإيمان وشأنهم.
وفي آخر المطاف حينما جاءوا ووجدوا البحر بهذه الصورة العجيبة التي هي من أعظم الآيات كيف يتحول البحر وينفلق بهذه الطريقة، ويمشون على أرض يابسة، ويرون الماء مثل الجبال على جوانب هذه الطرق، ومع ذلك يمعنون في كفرهم وملاحقة أهل الإيمان مع مشاهدة هذه الآيات فهذا كما قال الله : وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا [سورة الأعراف:146]، وقال: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ [سورة الأنعام:111]، وهذا حال من طمس الله بصيرته.
ونحن في زمان نريد ألا يصدر من الكفار أي أذى من قول أو فعل ونستغرب هذا وكأننا لا نعرف سنة الله في الصراع بين الحق والباطل ونريد من أهل النفاق ألا يصدر منهم إلا كل قول حسن، وفعل حسن، وهذا لا يمكن، كانوا في زمان النبي ﷺ يتكلمون "سَمّنْ كلبك يأكلْك"، لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7]، لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [سورة المنافقون:8]، ولكم أن تتصوروا أن كبير المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول كان عنده زاوية في صحيفة، أو عمود صحفي فتروا ما سيكتب عدو الله.
ولا نستغرب حينما نجد أعداء الله من هؤلاء المنافقين ليس لهم شغل إلا أهل الإيمان، فهذا فرعون إلى آخر لحظة يرى البحر منفلقاً، ومع ذلك يمعن في كفره ومحاربته إلى آخر لحظة، هذه سنة الله في خلقه وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103]، وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] موفقٌ من لزم الصراط المستقيم الكتاب والسنة، وكما قال الله : وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ [سورة الأنعام:113]، والله المستعان.