الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(2) من قوله تعالى: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} الآية:10 إلى قوله تعالى: {وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ} الآية:36
تاريخ النشر: ٢١ / محرّم / ١٤٣١
التحميل: 8525
مرات الإستماع: 5671

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، وبعد:

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ۝ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ۝ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ۝ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانـِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ۝ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ۝ قَالَ كَلا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ ۝ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ۝ قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ ۝ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ۝ قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ ۝ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ۝ وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:10-22]

يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران حين ناداه من جانب الطور الأيمن، وكلمه وناجاه، وأرسله واصطفاه، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه؛ ولهذا قال: أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ ۝ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ۝ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ ۝ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه، كما قال في سورة طه: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ۝ وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي... إلى قوله: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [سورة طه:25-36].

وقوله: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ أي: بسبب قتل ذلك القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر.

قَالَ كَلا أي: قال الله له: لا تخف من شيء من ذلك، كقوله: قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا أي: برهانا، فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [سورة القصص:35].

فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ كقوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [سورة طه:46] أي: إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى- عن قيل موسى -عليه الصلاة والسلام: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ جاء مفسَّراً بقوله -تبارك وتعالى: إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا [سورة القصص:33]، والقرآن يفسر بعضه بعضا، وكان قتله للقبطي قبل النبوة، ولم يكن ذلك القتل مقصوداً، وإنما ضربه بيده فوقع ذلك في مقتل، وقوله -تبارك وتعالى: فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ اذهبا: الخطاب لموسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام؛ لأنهما مرسلان من الله -تبارك وتعالى- إلى فرعون ثم جمع الضمير في قوله: إِنَّا مَعَكُم، ولم يقل: "أنا معكما"، فهذا يمكن أن يكون من قبيل التعظيم، وقد جرت العادة أن يقال: خاطبَ المفرد بالجمع للتعظيم، أو تكلم بما يدل على الجمع للتعظيم، وهكذا خطاب الاثنين فإنه إذا خوطب بالجمع فإن ذلك يمكن أن يكون للتعظيم، فإذا خاطب اثنين يقول: نحن معكم، أنا معكم أنتم، ويمكن أن يكون ذلك باعتبار أن أقل الجمع اثنان، وهذا قول جماعة من أهل العلم من أهل اللغة، ومن الأصوليين، وبهذا يقول صاحب المراقي:

أقل معنى الجمع في المشتهر اثنان عند الإمام الحميري

عند الإمام مالك -رحمه الله- وهذا يدل عليه أدلة كما قال الله فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ [سورة النساء:11]، والأم كما هو معلوم تُحجب حجب نقصان من الثلث إلى السدس بوجود أخوين، وهكذا في قوله -تعالى وتبارك: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ [سورة البقرة:197] على القول المشهور بأنها شوال وذو الحجة وعشر من ذي الحجة فهما شهران وعشرة أيام، ومع هذا قال: أَشْهُرٌ إلى غير ذلك من الأدلة، وهنا قال: إِنَّا مَعَكُم فاحتمل أن يكون باعتبار الجميع أو المجموع: الداعي والمدعو موسى وهارون-عليهما الصلاة والسلام- بالإضافة إلى فرعون احتمل أن يكون هذا باعتبار المجموع، يعني موسى وهارون -عليهما الصلاة والسلام- ومن معهم، وهم بنو إسرائيل وكل ذلك يحتمل، والمقصود بذلك الجواب عن سؤال قد يرد: أنه عبر بالجمع أو بما يدل عليه وهما اثنان.

فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، كقوله في الآية الأخرى: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [سورة طه:47] أي: كل منا أرسل إليك.

يعني أنا رسول، هنا قال "رسولا" بالتثنية، فالرسول مصدر، أيضاً كذلك معنى الجمع، فرسول: أي رسل، وسبق أمثلة وشواهد على هذا من القرآن وكلام العرب، كقوله: أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:31]، يعني أو الأطفال ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [سورة غافر:67] أي: أطفالاً.

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ أي: أطلقْهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك، فإنهم عباد الله المؤمنون، وحزبه المخلصون، وهم معك في العذاب المهين. فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون عما هنالك بالكلية، ونظر بعين الازدراء والغمص فقال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا... الآية، أي: أما أنت الذي ربيناه فينا، وفي بيتنا وعلى فراشنا وغذيناه، وأنعمنا عليه مدة من السنين، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة، أن قتلت منا رجلا وجحدت نعمتنا عليك؟!

قوله:وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الفَعلة بالفتح للمرة الواحدة من الفعل، فَعلتك التي فعلتها هي قتل القبطي.

ولهذا قال: وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ أي: الجاحدين، قاله ابن عباس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.

المراد بالكفر هنا كفر النعمة؛ لأن الكفر يأتي في القرآن كثيراً في غير هذا المعنى، وهو الكفر بالله -تبارك وتعالى، وفي بعض المواضع يحتمل هذا وهذا، كقوله: وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [سورة البقرة:152]، وهنا قطعاً المراد به كفر النعمة؛ لأن فرعون أصلاَ يمتن عليه بإنعامه عليه وتربيته قال: وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ يعني من الكافرين بنعمتي عليك، وليس المقصود الكافرين بالله -تبارك وتعالى، وليس المقصود به أيضاً الكافرين بالإيمان بربوبية فرعون؛ لأنه لم يتطرق لهذا هنا.

قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا أي: في تلك الحال، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي: قبل أن يوحى إليّ، وينعم الله عليَّ بالرسالة والنبوة.

فقوله: وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ أي: الجاحدين يعني لنعمتي، كفر النعمة، وهنا يمكن أن يفسر الكفر بمعنى الجحود، وجحود النعمة سترها وتغطيتها، وعدم الإقرار والاعتراف بها، والكثير من المفسرين لاسيما في المختصرات إذا ذكروا الكفر قالوا: إنه بمعنى الجحود في القرآن، عموماً الكفر بمعنى الجحود وهذا تفسير ناقص؛ لأن الكفر قد يكون بسبب الجحود وقد يكون من جهة أخرى للشك أو الإعراض، أو يصدر منه ما يكون مكفراً فيكون ذلك كفراً، ولا يختص بهذا النوع، فكثير من المفسرين تجدهم يعبرون عن الكفر بمعنى الجحود، ويطرد هذا في تفسيرهم، وهذا غير دقيق، وهو كثير في المختصرات.

كما أنهم يفسرون الإيمان بالتصديق، بعضهم يذكر في أول التفسير حقيقة الإيمان ثم بعد ذلك يكتفي –اختصاراً- حيث جاء ذكر الإيمان بالتعبير عنه بالتصديق، مع أن العبارة ليست دقيقة؛ لأن الإيمان حتى في اللغة يختلف عن التصديق، والإيمان أخص من التصديق، وهو تصديق خاص على الإقرار، والإذعان، فالتصديق بمجرده لا يكون إيماناً والله يقول: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [سورة النمل:14]، هذا في نفوسهم، وأما على الألسن فقد يصدق أنه لا يذعن كقول أبي طالب:

ولقد علمتُ بأنّ دينَ محمدٍ من خيرِ أديان البريّة دينا

ومع ذلك لم يكن مؤمناً؛ لأنه لم يحصل منه الإذعان فهو تصديق انقيادي بهذا القيد، نعرّف الإيمان ونعبر عنه بالتصديق فنضيف على الأقل هذه الإضافة فنقول: تصديق خاص تصديق انقيادي، تصديق بمعنى الإيمان هو بمعنى الإقرار والإذعان، لابد من إذعان القلب وانقياده ولكن هذا يطول في التفاسير المختصرة كلما جاء عند الإيمان مثلاً قال: أَوَلَمْ تُؤْمِن [سورة البقرة:260] فيأتي بكلام طويل هو يريد أن يفسر بكلمة، بالمختصر لاسيما مع كثرة تكرر هذه اللفظة.

على كل حال هذا تنبيه أظنه مفيداً؛ لكثرة ما يرد وما يحتاج إليه خاصة في المختصرات في كتب التفسير فليتنبه لهذا، أظن أن الاختصار لا يكون عذراً لاختزال مثل هذه الحقائق الشرعية العظيمة الإيمان والكفر، لو كانت القضية دون ذلك يمكن أن يتساهل فيها، الأمر يسير، الأمر كذا، العرب تعبر -يعني تتوسع في العبارة، السلف يفسرون بما يقرب المعنى، لكن الإيمان والكفر لابد من معرفة حقيقته فلا نقتصر على تعريفه بالجحود يعني الكفر، والإيمان بمجرد التصديق وإلا فإن هذا قول المرجئة، ولا أقصد أن من كتب هذا أنه من المرجئة، لا.

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمـُرْسَلِينَ أي: الحال الأول انفصل وجاء أمر آخر، فقد أرسلني الله إليك، فإن أطعتَه سَلمت، وإن خالفته عَطبت.

قوله: قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا أي في تلك الحال هو يعترف بهذا يقول: أنا لا أنكر هذا، فعلتها، وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ.

قوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ قال: أي قبل أن يوحى إليّ وينعم الله علي بالرسالة والنبوة، معنى هذا أن الضلال هنا ليس معناه الضلال المعروف الذي يرد على سبيل الذم في كتاب الله -تبارك وتعالى- كقوله في سورة الفاتحة مثلاً: غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ [سورة الفاتحة:7]، فالضلال هنا يختلف عن الضلال هناك، فقوله: وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ يحمل على المعنى اللغوي؛ لأن الضلال يكون بمعنى الذهاب عن حقيقة الشيء يقال له: ضلال، فكل ذاهب يقال له: ضل، تقول: ضل الماء في اللبن، يعني إذا خلط به ومزج للغش، فإنه يخالطه ويمازجه بحيث لا ينفصل ويتبين، والمقبور يقال فيه: ضل أو أضل، كقول القائل: "فَآبَ مُضلّوه بعينٍ جليّةٍ"، هذا الميت مضلوه أي الذين دفنوه وغطوه بالتراب، ومنه:أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ [سورة السجدة:10]، يعني انمحت آثارنا وأجسامنا تحللت في التراب، أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ.

وهكذا قول إخوة يوسف لأبيهم -عليه الصلاة والسلام: تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95] لو قالوا في: ضلالك بقصد الذهاب عن الإيمان لكان ذلك كفراً؛ كيف يقولون مثل هذا الكلام لنبي؟! لكن المقصود به في ضلالك يعني الذهاب عن حقيقة ما جرى ليوسف -عليه الصلاة والسلام- هذا المقصود بالضلال، فهنا قال: فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ، وابن جرير -رحمه الله- يفسرها بالجاهلين هنا، إذاً من الضالين يعني الجاهلين قبل أن يوحى إليّ في تحريم القتل، والله يقول لنبيه ﷺ: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [سورة الضحى:7]، ومعلوم أن النبي ﷺ لم يكن على دين قومه ولكن "ضالاً" أي ذاهباً عن حقيقة الوحي، ولم ينزل الله عليه شيئاً -والله تعالى أعلم، وهذا هو المعنى الذي يمكن أن تحمل عليه الآية، والله أعلم.

وقوله: فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا تغيرت الحال، وهذا الحكم فسره بعض السلف بالنبوة والوحي، وبعضهم يفسر ذلك بالتوراة، وهذا لا يختلف عن الذي قبله، فالحكم هو التوراة وذلك مما أرسله الله به، أنزل عليه التوراة، ما أنزل على محمد ﷺ هو القرآن فهو داخل في ذلك، وبعضهم يقول: هو العلم النافع، هذا الذي يفسر به الحكم هنا فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا أي: علماً، وهذا أعم يدخل فيه التوراة وما أوحاه الله إليه مطلقاً، فهذه الأقوال غير متخالفة أو غير متناقضة، وهي متقاربة فلا شك أن موسى -عليه الصلاة والسلام- حينما ناداه الله عند الطور، وأوحى إليه، وأرسله تغيرت الحال، وصار نبياً من أنبياء الله .

ثم قال موسى: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أي: وما أحسنتَ إليّ وربّيْتني مقابل ما أسأتَ إلى بني إسرائيل، فجعلتهم عبيدا وخدما، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك، أفَيَفِي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأتَ إلى مجموعهم؟ أي: ليس ما ذكرتَه شيئا بالنسبة إلى ما فعلتَ بهم.

يحتمل أن يكون كلام موسى اعتراضاً على فرعون وأن هذه ليست بنعمة، ويحتمل أن يكون إقراراً بهذه النعمة، فإذا كان اعتراضاً فموسى يعترض عليه ويقول: تمتن عليّ بأن عبدت بني إسرائيل، أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا، فلو كانت الأوضاع عادية لما حصل ما حصل، ولكن لأنه كان يستعبد بني إسرائيل يقتل أبناءهم؛ لإضعافهم وإخضاعهم، ويستحيي نساءهم يبقي البنت حية فيهينها ويذلها، ويعملها في الأعمال الشاقة فتكون أسيرة بيد عدوها فهذا من أعظم الغبن والإهانة والابتذال والتسلط.

فهو يقول: أنا ما وصلت إليك أصلا، وما صرت إلى قصرك إلا لاستعبادك لبني إسرائيل، حيث ألقته أمه في التابوت بوحي من الله حتى تقاذفته الأمواج ووصل إلى فرعون، فيقول: هذه نعمة تمنها عليّ أن عبدت بني إسرائيل فصار الأمر إلى ما صار إليه، وجرت الأقدار بأن كان خلاصي ونجاتي من القتل بهذه الطريقة التي لم تكن مأمونة لولا أن الله أراد ذلك واختاره، وإلا فإن الإلقاء في اليم يعني الهلاك، ولكن قد تأتي النجاة والحياة والفلاح الكامل بأسباب العطب والهلكة إذا أراد الله ذلك، فعلى كلام ابن كثير يكون هذا المعنى، أي أفَيَفِي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ يكون بمعنى الاعتراض.

ولكن هذا الاعتراض كيف يعبر عنه؟ يمكن أن يعبر عنه فيما ذكرته آنفا، وهذا ذكره بعض أهل العلم، فما وصلت إليك إلا بسبب العذاب والاستعباد والامتهان، ويمكن أن يعبر عن هذا بعبارة أخرى كما قال ابن كثير -رحمه الله: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ هذه ليست بنعمة إن أحسنت إلى رجل واحد وابتذلت أمة كاملة، فهذا يمكن أن يعبر به عن هذا الاعتراض.

ويمكن أن يقال: هذا إقرار واعتراف، فكأنه يقول له: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ، ابن جرير يرى أن هذا اعتراض، أقر بالنعمة وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ، ثم يقول: أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ وتركتني فلم تستعبدني، والفرق واضح أن هذا إقرار موسى ﷺ لما قال: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا، قال: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ ونجوت أنا من ذلك فتربيت عندك، ونجوت من القتل وتربيت في قصر الملك، وفرعون لا يرضى بهذا؛ لأنه رب، المقصود أن هذا على قول ابن جرير أنه إقرار واعتراف والآية تحتمل هذا وهذا.

ولكن الذي أظنه أقرب للسياق -والله أعلم- أنه اعتراض وليس بإقرار وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ فهذه ليست بنعمة، تستعبد قومي وتمن عليّ أنك ربيتني في الصغر، لم تحصل هذه التربية إلا بسبب القهر والتسلط والإذلال والإهانة وابتذال أُمةٍ كاملة، كان يقدر الذين خرجوا مع موسى ﷺ من مصر بستمائة ألف في أكثر الروايات، وبعضهم يقول: كانوا اثنتي عشرة قبيلة، أسباط وكل سبط عليهم نقيب ولما انفلق البحر انفلق على عددهم، وكل سبط منهم اثنا عشر ألفا، فالحاصل أنهم عدد كثير فحصل لهم هذا الامتهان.، والآية التي في البقرة سبق الكلام عليها وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة البقرة:49]. 

والاستحياء قد يتبادر إلى الذهن بأنه ترك البنت حية، وهو أخف من قتل الأولاد، لكنهم لا يتركون البنت عند أهلها تبقى حية تعيش كما تعيش كل البنات في كفالة وليها، ويرعاها ويحوطها، وإنما يُبقي البنات من أجل الابتذال والخدمة والامتهان فهذا أشد من قتلها عندما تصير إلى عدوها يهينها ويذلها، وتعمل في الأعمال المهينة في الخدمة، والأشياء التي يتنزه عنها الفراعنة يقوم بها بنو إسرائيل.

قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۝ قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيـْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ۝ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ ۝ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ ۝ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجـْنُونٌ ۝ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [سورة الشعراء:23-28].

يقول تعالى مخبرًا عن كفر فرعون، وتمرده وطغيانه وجحوده، في قوله: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، وذلك أنه كان يقول لقومه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38]، فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [سورة الزخرف:54]، وكانوا يجحدون الصانع -جل وعلا- ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون،  فلما قال له موسى: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الزخرف:46]، قال له: ومَنْ هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ هكذا فسره علماء السلف وأئمة الخلف، حتى قال السدي: هذه الآية كقوله تعالى: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ۝ قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [سورة طه:49، 50].

ومن زعم من أهل المنطق وغيرهم؛ أن هذا سؤال عن الماهية، فقد غلط؛ فإنه لم يكن مقرًا بالصانع حتى يسأل عن الماهية، بل كان جاحدًا له بالكلية فيما يظهر، وإن كانت الحجج والبراهين قد قامت عليه، فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين: قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا أي: خالق جميع ذلك ومالكه، والمتصرف فيه وإلهه، لا شريك له، هو الله الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب الثوابت والسيارات النيرات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وقفار، وجبال وأشجار، وحيوان ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطيور، وما يحتوي عليه الجو، الجميع عبيد له خاضعون ذليلون.

هذا الكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير تجده كثيراً في كتب الاعتقاد عند المتكلمين، ونقله بعض أهل السنة لمناقشته كما في شرح العقيدة الطحاوية تجد ذلك مفرقاً في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وغيره وذلك أنه قال: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، ولم يقل: ومن رب العالمين؟ من هو؟ ومعروف أن "من" تستخدم للعالم أو  لمن من شأنه أن يعلم، ويعبرون كثيراً ويقولون: العاقل، ولكن ذلك لا يوصف به الله -تبارك وتعالى- فما كان من شأنه العلم يقال: مَن، وليس السؤال ومن رب العالمين؟ فتقول: هو الله مثلا؛ لأن السؤال عن الماهية.

فابن كثير -رحمه الله- يعترض، وهذا الاعتراض صحيح، وهو أنه لم يكن يسأل عن الماهية؛ لأن الذي يسأل عن الماهية إذا كان يقر بالله فإنه سيسأل عن التفاصيل، هو لا يقر بالله ويقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24]، ولم يكتف بقوله: أَنَا رَبُّكُمُ بمعنى السيد أو المتصرف، بل زاد الْأَعْلَى يعني ليس هناك رب سواه فصرح بهذا المفهوم بقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي [سورة القصص:38]، فما نافية وإله نكرة في سياق النفي وسُبقت بمِن، وهذا من الظهور في العموم والتنصيص الصريح في العموم، فهذا لا يحتمل شيئاً آخر، ما علمت لكم من إله، لا إله صغير، ولا إله كبير غيري، فكأنه يقول: أنا الإله الواحد،  بل أقوى من هذا، أقوى صيغة في الحصر هي النفي والاستثناء، وهنا يقول لهم بغير هذه الصيغة، لكنها بصيغة صريحة قوية: ما علمت لكم من إله غيري، نفي للعموم.

فالشاهد أن فرعون لم يكن يؤمن بالله أصلاً ويقر به حتى يسأل عن حقيقته وإنما كان يقول: وما رب العالمين؟ يعني مَن رب العالمين؟ وأحياناً يعبر بهذا عن هذا يعني يعبر بمثل ما عن مَن شأنُه أن يعلم، والعكس موجود، وإن كان أهل اللغة يذكرون مقامات ثلاثة، وبعضهم يذكر أربع مقامات يعبر بهذا إذا حصل شيء منها، لكن ذلك ليس بلازم، وهذه القواعد النحوية التي تذكر هي أغلبية، وهم يقرون بهذا، ومبنى ذلك على الاستقراء والتتبع، ولكن يخرج منها أشياء، وعند العرب معلوم أنها تلقي الكلام على عواهنه، ولا ينقرون فيه التنقير الذي حصل للمتأخرين، والقرآن نزل بلغة العرب، وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ من هو هذا الإله الذي تدعيه؟ فلم يكن السؤال عن الماهية.

والذين يقولون: إن السؤال عن الماهية يقولون: إن موسى ما أجاب على السؤال، وإنما أجاب عن أمر آخر، لاحِظْ قال: رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يعني كأنهم يريدون أنه لو أجاب موسى عن السؤال بعينه لبين لهم الماهية، وهذه فلسفة وفتنة يتعجب الإنسان عندما يقرأ كتب هؤلاء أو يقرأ في التاريخ وما جرى من الاختلاف في مثل هذه القضايا وكثرة اللغط فيها، لكن الله أراد ذلك وشاءه لحكمة عظيمة وإلا فستستغرب كيف يُقبل كثير من الناس من المنتسبين للعلم على مثل هذه الأمور؟ هذا أمر عجيب لو شاء ربك ما فعلوه فسبحان الله العظيم!

وفي كل زمان يأتي ما يشغل الناس وينصرفون به عن علوم الكتاب والسنة، وانظر إلى تهافت الكثيرين اليوم على القراءة في كتب لا تدلهم على الله، ويظنون أنهم على شيء، كتب لأناس كان بعضهم على مذاهب كفرية مثل الاشتراكية وغيرها، ثم أظهروا شيئا من التشاغل بقضايا الحضارة وما أشبه ذلك، فتهافت كثير من المثقفين -إن صح التعبير- على مثل هذه الكتابات التي يصيب طالب العلم -الذي نور الله بصيرته وقلبه- الغثيان حينما يقرأ فيها، وفي العبارات المولدة الكثيرة التي يلوكونها ويرددونها يمجدون فيها ما لم يعظمه الله ولا رسوله ﷺ، وتنقض عرى الإيمان من الولاء والبراء، وللأسف تختزل حقائق الدين وتطمس معالمه، ويظن أنه بهذا من الوسطيين وأنه يبصر مالا يبصره غيره وأن غيره متشدد ضيق الأفق، وهذه الكتابات كثيرة والله يصلح الحال والله المستعان. 

ولهذا نقول: من أفضل العلاج لمثل هذه القضايا الاشتغال بعلوم الكتاب والسنة، وتلقي ذلك بطريقه صحيحة، هذا هو الطريق، الإقبال على قال الله، قال رسوله، بفهم السلف الصالح -رضي الله تعالى عنهم- لا بفهم هؤلاء المنحرفين اللذين لم يتعلموا العلوم الشرعية أصلاً، ليسوا من العلم في قليل ولا كثير، ويأتي يتكلم عن قضايا الحضارة وقضايا كبيرة تتعلق بالعلاقة بالكفار، وينظر في قضايا الشريعة، ويوهن من السنة، بل ويطعن في القرآن، ومثل هذا سيكون حائلا -كما وقع عند المعتزلة وغيرهم- دون القبول عن الله وعن رسوله ﷺ.

فالشاب إذا تربى على هذه الكتب مثل كتب الجابري وغير الجابري ما الذي يحصل عنده إذا قلت له: قال الله، قال رسوله، فإذا لم يطعن في القرآن أصلاً فإنه يقول نحن نقرأ النص بقراءة أخرى، لسنا ملزمين بقراءة السلف، يقصد بذلك الفهم، فالفهم بحسب المعطيات المتاحة لنا في هذا العصر وكل عصر له قراءته، هكذا يقولون، فلا تحتج لي بفهم وتقول لي: قال أبو جعفر بن جرير وهو مثلي ومثلك، ولا تقل لي: قال مجاهد ولا قال عكرمة ولا تقل لي قال ابن عباس، بل ولا قال رسول الله ﷺ؛ لأن هذه الأحاديث جاءتنا بأسانيد ورواة، والرواة هؤلاء قد يخطئون، وقد يقعون في الوهم، فتتغير العبارة، وصار مثل هذه الأمور حائلا دون القبول لنصوص الوحي، وهذه مصيبة كبيرة وفتنة اليوم.

للأسف قد لا يتساقط هؤلاء الشباب في الشهوات كالخمر والزنا، ولكنه يقع فيما هو أعظم من هذا بهذه الانحرافات أنا ما أقول الفكرية، أقول الاعتقادية فيصير إلى حال النفاق ولربما الزندقة إذا توسع في هذا الأمر، والناس بين مقل ومكثر، ووصل الأمر ببعضهم إلى إنكار الحدود الشرعية كإنكار حكم الله في حياة الناس، وجعلوا الدين يختص بالصلاة والعبادات البدنية، فالأولون اشتغلوا وتهافتوا على العلوم الكلامية، علماء، ولما قال أبو حامد الغزالي: إنه لا يوثق بعلم من لم يدرس المنطق، فتهافتوا على دراسة هذه العلوم ليثبتوا أنهم حققوا شرط الاجتهاد والتحقيق في العلم، فصاروا يدرسون هذا العلم، علماء، وبعضهم وصل بهم الأمر إلى حالٍ رُمي معها بالزندقة، كما قيل عن أبي حامد الغزالي لما درس الفلسفة، وفي آخر عهده تخلى عن هذه الأمور وأقبل على العبادة، وذهب إلى بيت المقدس، واعتزل الناس بعد هذا الطواف.

والتطواف الكثير حصل لجماعة، وبعضهم صاروا فلاسفة ملاحدة، ووقع لهم كفريات لقضايا تتعلق بالإلهية والنبوة والوحي وأمور كثيرة، هؤلاء ينتسبون إلى الإسلام -والله المستعان، أشياء عجيبة، فحينما يوزن الكتاب بالذهب، أي الكتاب الذي يترجم فتهافت الناس على الترجمة، وصارت موضة العصر كل الكتب المترجمة، والمثقف هو الذي يقرأ كتاباً مترجماً، وإلى عهد قريب كان الغرب يقولون: إن المسلمين حفظوا لنا كتب الفلسفة اليونانية، كانت تدرس في جامعاتهم ترجمات المسلمين، وبعض المسلمين يفتخر بهذا، يعتز به، ثم لما وقفوا على بعض كتب اليونان الأصلية اكتشفوا أن تلك الترجمات كانت ممسوخة، وغير دقيقة وهذا طبعي؛ لأن هؤلاء الذين يترجمون ما هي المعايير والموازين والمقاييس التي يتبعونها من أجل أن تخرج ترجمة أمينة كما يقال، أو مأمونة أو صحيحة ما هي؟ ولا توجد لجان للمراجعة، ولا يوجد شيء كل واحد يترجم كتاباً ويتسارع ليترجم أكبر قدر من الكتب ليقدمها للمأمون من أجل أن توزن له بالذهب فصارت تجارة.

فمن الذي يأتي مِن بعده ويأخذ الكتاب الأصلي ويقابل حتى يقول: هذه الترجمة جيدة أو غير جيدة؟ تجارة، وكتب اليونان إذا حرفت فيها تأثم، فكيف بنصوص وآيات حرفت!، وما الذي يحمل مثل المأمون، ودوله كاملة مثل دولة المأمون على تبني القول بخلق القرآن، والمعتزلة ما كان لهم جمهور وشعبية كما يقال: إنما هي في فئة المثقفين يعني كما نعبر اليوم، لكن الناس الذين كانت تخضع لهم الرقاب هم أمثال الإمام أحمد وأئمة السنة، وهؤلاء يُجرجرون ويعذبون، ويقتلون ويموت بعضهم بالأكبال بالحبس من أجل ماذا؟ يعني حتى السياسة بمنأي عن هذا، كَسَبِّ الناس والجمهور من أجل ألا يفك الأسير حتى يمتحن هل يقول بخلق القرآن أو لا؟ إلى هذا الحد، فهذه أمور تاريخية فيها عبرة عظيمة، وإذا نظرت إلى كثير من الاشتغال اليوم اشتغال بعض المثقفين في موضة العصر بهذه الكتب الضالة المضلة تقول: سبحان الله كل زمان يجد الناس فيه مَن أعرض عن الكتاب والسنة، والله المستعان.

إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة، فعند ذلك التفت فرعون إلى مَنْ حوله من مَلَئه ورؤساء دولته قائلا لهم، على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله: أَلا تَسْتَمِعُونَ أي: ألا تعجبون مما يقول هذا في زعمه أن لكم إلها غيري؟ فقال لهم موسى: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ أي: خالقكم وخالق آبائكم الأولين، الذين كانوا قبل فرعون وزمانه.

قال أي: فرعون لقومه: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أي: ليس له عقل في دعواه أنّ ثَمّ ربًّا غيري.

قال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ فرعون يدعي أنه الرب الأعلى، ولكن قبل أن يولد فرعون من كان الرب؟ فموسى -عليه الصلاة والسلام- جاء كلامه متضمنا هذه القضية قال: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأوَّلِينَ، لهذا يقول الله : فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [سورة الزخرف:54] وإلا أليس لهؤلاء عقول فيفكروا من كان الرب قبل ولادة فرعون؟ هل كان فرعون ينكر أنه وجد بعد أن كان عدماً؟ فهو ولد كما يولد الناس، وكبار السن يعرفون مولده، وأدركوا مَن قبله.

قال أي: موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة، فأجاب موسى بقوله: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ أي: هو الذي جعل المشرق مشرقًا تطلع منه الكواكب، والمغرب مغربًا تغرب فيه الكواكب، ثوابتها وسياراتها، مع هذا النظام الذي سَخّرها فيه وقدّرها، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقًا فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغربًا، والمغرب مشرقًا، كما أخبر تعالى عن الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ.. الآية [سورة البقرة:258]؛ ولهذا لما غُلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى .

عندما يقول فرعون: إنه الرب الأعلى، الناس الذين يستعبدهم أو يستخفهم فرعون وقد تعاظم في نفوسهم بما له من السلطان والقوة ونحو ذلك، حتى بلغ به الأمر هذا المبلغ، فموسى ﷺ يقول: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فهذا إذا كان يتصرف بكم هذا التصرف، وهذا التخويف والاستعباد ويتعاظم في نفوسكم فلربما لا يجترئ أحد أن يمر قريباً من قصره، فضلا عن أن يدخل عليه، ولربما يموت الرجل قبل أن يكلمه من الخوف رجل يدعي الربوبية، فموسى يقول: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يعني هذه أمور لا يد لفرعون فيها ولا يتصرف في المشارق والمغارب وإنما يتصرف في أرض محدودة بأرض مصر لا يتجاوز ملكه عريش مصر كما قيل.

وإذا أردت أن تعرف هذا تخيل فرعون وهو يدعي الربوبية، وانظر إلى صورة الكرة الأرضية في جوجل ولك أن تتصور فرعون في مصر لا يظهر على الخريطة، ومع هذا يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [سورة النازعات:24] من الذي يدير هذه الأفلاك، ويدير الأرض بكاملها والسماوات، فالذين تعاظم في نفوسهم من الجمهور الذين حوله لربما لشدة فراغ قلوبهم تعاظم الخوف منه فبعضهم ينطلي عليه بعض الكلام ويطأطئ رأسه فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ [سورة الزخرف:54].

لكن لو خرج الإنسان من مثل هذا الوهم الكبير والضبابة التي لا زال يمشي في داخلها لأبصر شيئاً وراء ذلك واسعاً كبيراً لا يصل إليه فرعون، ولا يعلم به ولا شأن له بتدبيره وتصريفه، وهنا قال: ولهذا لما غُلب فرعون وانقطعت حجته عاد لاستعمال جاهه وقوته، وهكذا كل من انقطعت حجته من المكابرين، ومن لم يطلب الحق فإنه يلجأ إلى شيء آخر فإن كان له سلطان فبسلطانه، وإن لم يكن له سلطان فبرفع الصوت والجدل، واستعمال العبارات التي لا تبرهن على صحة ما يقول، إنما السباب والشتم والإقذاع، انقطعت عليه الحجج والبراهين، ما عنده حجج يثبت فيها الكلام فيلجأ إلى مستودع آخر من السباب والشتائم، والإقذاع إضافة إلى رفع الصوت، ولربما أدى الأمر ببعض السفهاء إلى استعمال يده، والله المستعان.

لكن على كل حال الصحيح أن الإنسان يتكلم بالحجج، بالبينات، بالبراهين، بالأدلة، كما فعل موسى -عليه الصلاة والسلام- أقول لو أن الناس في ردودهم على المنافقين اليوم استعملوا هذه الطريقة لكان أنفع، هذا أنفع وأجدى؛ فإن استعمال اللغة الأخرى أولاً غير لائق، ويتنزه عنه المؤمن، انظروا إلى عبارات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- كموسى -عليه الصلاة والسلام- لما قالوا له: أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ [سورة البقرة:67]، فدل على أن الذي يستهزئ بالناس هو من الجاهلين، فلغة الاستهزاء والاستخفاف بطريقة غير مناسبة لطالب العلم هذه لا تعالج المشكلة هذه يطرب لها جمهورك الذين حولك، يطرب لها الموافقون لك يُسر لمّا يقرأ هذه الشماتة بالخصوم والمخالفين، لكن المخالف ماذا يحصل له؟ لا يزيده ذلك إلا عتواً وعداوة وضغينة وذلك مما يبعده تماما عن الحق الذي تدعوه إليه، فلا داعي لاستعمال مثل هذه اللغة، بعض الإخوان من الكاتبين محتسبون في الرد على بعض المنافقين اليوم، وما رأيناهم يرجعون بسبب هذه الردود.

لابد من الرد عليهم، نحتسب في الرد عليهم لابد من هذا لكن بالحجج والبينات والبراهين واللغة الرفيعة، ويفرق بأحوالهم، هذا المستودع أقصد به السباب والشتائم، ولغة الإقذاع لا داعي لها، لا داعي لاستعمالها، هذا لا يصلح حجة للقائم لله ، وانظروا إلى كلام أهل العلم، ردود شيخ الإسلام، درء تعارض العقل والنقل، وغيره لم يكن قاموساً من السباب والشتم والإقذاع، وعبارات أحياناً القارئ الموافق لك يعرق جبينه وهو يقرؤها، أحيانا عبارات -اسمحوا لي- عبارات سوقية غير لائقة، وثقافة شوارع إن صح التعبير وفي بعض الكتابات يكون صاحبها له ثقافة قديمة، ثقافة شوارع لم تكن تربية نزيهة في السابق، نظيفة بعيدة عن هذه اللغة؛ لأن من تربى تربية نزيهة نظيفة لا يستطيع أن يتكلم بهذا حتى مع عدوه، لا يستطيع هذا، لا يستطيع أن يطاول أعداءه في السباب والشتائم والإقدام، ما يستطيع، تربيته تمنعه من ذلك، وهذا يحتاج إلى أن يُعرف؛ لأن الواحد منا أحياناً قد يظن أن هذه طريقة سليمة صحيحة وأن هؤلاء يستحقون، لابد من تحديد الهدف والمراد، والمراد بيان الحق، الحق يبين بغير هذا، وإذا كان المقصود التشفي والانتقام فهذا لون منه، لكنه غير مراد.

فقال ما أخبر الله تعالى عنه: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ ۝ قَالَ أَوَلـَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ ۝ قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ۝ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ ۝ وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ۝ قَالَ لِلْمَلإ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ۝ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ۝ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ۝ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [سورة الشعراء:29-37].

لما قامت على فرعون الحجة بالبيان والعقل، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه، وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال، فقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، فعند ذلك قال موسى: أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ أي: ببرهان قاطع واضح.

قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ أي: ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة، ذات قوائم وفم كبير، وشكل هائل مزعج.

هنا قال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي هذا مقام محاجة فرعون انخلع منه، فلما انقطعت حججه انخلع من ذلك ولجأ إلى لغة أخرى لغة التهديد بالسجن، لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، فموسى -عليه الصلاة والسلام- استمر في بيان البراهين والحجج على فرعون أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ أي: ببرهان قاطع واضح مبين، وكما سبق لفظة "بان" تأتي قاصرة ومتعدية: بان في نفسه اتضح، ومبين أيضاً للحق، مبين للحقائق التي غفلت عنها مثلاً مبين لغيره.

وهذا كله في آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فهي بينة ظاهرة لا خفاء فيها، ولهذا تواعد معه على أن تكون المحاجة بينه وبين السحرة في وقت جلوة لا خفاء فيه ولا غبش وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [سورة طه:59]، فهو بيّن في نفسه مبين لما سيق من أجله، وسبق الكلام على هذا المعنى لفظة بان وأبان ومبين أي: بيّن واضح في قصيدة كعب ، ويقال: وَكِتَابٍ مُّبِينٍ أي: بين في نفسه وهو أيضاً مبين لحقائق الشرع.

فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ، والثعبان هو الذكر من الحيات والعظيم منها، والله -تبارك وتعالى- ذكر في مواضع أخرى قال: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [سورة طه:20]، وفي الموضع الآخر: فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ [سورة النمل:10]، فالحية هي الأصل، والثعبان للعظيم والذكر من الحيات، والجان هو الصغير منها، كَأَنَّهَا جَانٌّ والحيات أنواع فمنها ما هو صغير في خلقته سريع الحركة، سريع الالتواء، يقال له: جان، كأنها جان، وليس بين هذه الأوصاف تعارض، ثعبان، حية، جان، فأحياناً تكون صغيرة، وأحياناً تكون كبيرة، لكن وجوه الجمع هذه لا تصلح، فذكور الحية عظيمة ثعبان، ولها سرعة في الحركة على خلاف المعهود في الثعابين كَأَنَّهَا جَانٌّ كأنها حية دقيقة صغيرة سريعة الحركة، وليس هذ تعارضاً، هنا ثعبان مبين، وقول الحافظ ابن كثير: ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح والعظمة، ذات قوائم، هذا يحتاج إلى دليل، هذا ورد في بعض المرويات المأخوذة من بني إسرائيل، فما نعرف أنها ذات قوائم، هذا يحتاج إلى دليل.

تجدون في كلام المفسرين في بعض المواضع في كتاب الله  لمّا يفسرون مثل هذه يريدون الإسرائيليات، ويذكرون أشياء عجيبة وغريبة في وصفها، أو في ما وقع لفرعون حينما رآها وهو في مجلسه يدعي الربوبية ولما رآها أصابه هلع شديد، يذكرون أشياء لا يصدقها العقل، ارجعوا إليها في غير هذا الموضع، لا تصدق.

وَنزعَ يَدَهُأي: من جيبه فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي: تتلألأ كقطعة من القمر. فبادر فرعون بشقائه إلى التكذيب والعناد، فقال للملأ حوله: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ أي: فاضل بارع في السحر، فَرَوَّج عليهم فرعون أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة، ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته، والكفر به، فقال: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَأي: أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم، فيأخذ البلاد منكم، فأشيروا عليَّ فيه ماذا أصنع به؟

قال هنا: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [سورة النمل:12]، هذا الجيب هو مدخل العنق، ومدخل الرأس من الثوب قال له: جيب، فإذا أدخلها صارت بيضاء فكان له هذه الآية، وهذه غير الآية الأخرى، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ [سورة القصص:32] جناح الإنسان هو جانبه يقال: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ [سورة الإسراء:24] أي الجانب أو جناحك الذليل جانبك اللين، ويقال: لليد جناح، من جناح الطائر، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فإذا خاف يفعل ذلك، وهذا غير اليد، فهما آيتان إحداهما تعود إليه بثبات القلب، رباطة الجأش، السكون إذا أصابته رهبة حينما يدخل على فرعون مثلا فيسكن، والآية الثانية لفرعون وهي أن تخرج يده بيضاء من غير سوء يعني من غير برص.

فهنا فرعون ماذا قال لهم: التفت على أصحابه وقال لهم: إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ؛ من أجل أن يخرجوا بصفة متفقة يطلقونها عليه، لا تختلف كلمتهم، المشركون في مكة حاولوا أن يتفقوا على شيء بشأن النبي ﷺ لما كانوا مشتتين ليس لهم رأس تجتمع عليه كلمتهم جاءت عباراتهم ساحر، مجنون، شاعر، كذاب، أساطير الأولين، تناقضوا مع أنهم حاولوا أن يأتوا بشيء متحد، وتشاوروا في هذا لكنهم لم يتفقوا تناقضوا، والرجل الواحد منهم يتناقض عدة مرات، لكن هنا فرعون مباشرة قَالَ لِلْمَلَإِ لأهل الرأي والتدبير إن هذا لساحر، ولهذا جاء الجواب لما أظهر لهم المشورة وطلبها منهم فَمَاذَا تَأْمُرُونَ ۝ قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ أخرْه أمهله وأرسل، قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ ۝ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ

فالقضية أنه ساحر، يأتون بالسحرة، ولهذا لما جاء السحرة ورأوا موسى -عليه الصلاة والسلام- ذكرهم بالله وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ [سورة طه:61]، حصل بينهم شيء من الاضطراب ثم أسروا النجوى لم يظهروا ذلك، واتفقوا على أن تتحد كلمتهم وقوّوا قلوبهم بقولهم: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطـَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [سورة طه:63] جاءوا بهذه الجمل التي لها مدلولات تثبت نفوسهم، هذا ساحر يريد شراً يريد أن يذهب بطريقتكم الصحيحة المثلى فتقْوى نفوسهم على مواجهته ولا يختلف قولهم فيه.

يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مع أن موسى ﷺ لم يظهر لهم شيئاً من هذا، ولم يقل لهم أريد أن تخرجوا من مصر، والمراد بقوله تعالى: يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم فيأخذ البلاد منكم، بمعنى أنه إذا تغلب فهذا يئول إلى ظهوره، وكون السلطان له، ثم أنتم بعد ذلك لا يبقى لكم مكان في هذه الأرض لأنكم لستم على دينه، وما يدعو إليه وسيئول الأمر إلى قتالكم والنكاية بكم، هذا معنى كأنه يشير إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله.

وبعضهم كابن جرير يقول: هذا الخطاب وإن كان ظاهره موجهاً إلى القبط يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم إلا أن المقصود بالخروج خروج بني إسرائيل؛ لأنه قال: فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الأعراف:105]، يريد أن يَخرج بهم، يريد أن يخرجكم من أرضكم أي أن يُخرج عبيدكم وخدمكم وهم هذه الأمة الكبيرة بين أظهركم ممن يشتغلون في الخدمة ويعملون بالأعمال المهينة، فأراد بالإخراج إخراج هؤلاء يعني يمكن أن نعبر بعبارة أخرى فنقول: وجه الخطاب لعموم الأمة المصرية وهؤلاء يتكونون من القبط والإسرائيليين فهم تحت مملكته، وإدارته، فيقول لهم: يريد أن يخرجكم ويكون بهذا أطلق هذه العبارة العامة تشمل الجميع وأراد بعضهم، فيكون من العام المراد به الخصوص، أن يُخرج بعضكم، يخرج الإسرائيليين على هذا المعنى الثاني.

قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ أي: أخِّره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك وأقاليم دولتك كل سحّار عليم يقابلونه، ويأتون بنظير ما جاء به، فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد، فأجابهم إلى ذلك، وكان هذا من تسخير الله تعالى لهم في ذلك؛ ليجتمع الناس في صعيد واحد، ولتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة.

يعني لو بقيت القضية بين الملأ فقط في قصر فرعون ربما لم يطلع عليها الناس وطويت وكتبت أو نقلت مشوهه لكن الله أراد هذا فجاءت منهم فذهبوا يحشرون الناس يحشرون السحرة في البداية ثم جعلوا يحشرون الناس ليجتمعوا ويشاهدوا جميعاً هذه الآية العظيمة، فإذا أراد الله شيئاً هيأ أسبابه، وإن كانت في الظاهر قد تكون مكروهة لبعض أهل الإيمان، ولكن عواقبها محمودة فالله عليم حكيم.

مواد ذات صلة