بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد.
قال المصنف -رحمه الله:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:160-164].
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله لوط، ، وهو: لوط بن هاران بن آزر بن آزار، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم -عليهما السلام، وكانوا يسكنون "سدوم" وأعمالها التي أهلكها الله بها، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة، وهي مشهورة ببلاد الغور بناحية متاخمة لجبال البيت المقدس، بينها وبين بلاد الكَرَك والشَّوبَك، فدعاهم إلى الله أن يعبدوه وحده لا شريك له، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم، ونهاهم عن معصية الله، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه في العالم، مما لم يسبقهم الخلائق إلى فعله، من إتيان الذكْران دون الإناث.
قوله -تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ هم كذبوا لوطاً -عليه الصلاة والسلام- فعد ذلك تكذيباً لجميع الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ومن كذب واحداً فهو مكذب بجميع الرسل، لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [سورة البقرة:285]، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتـَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، لوط -عليه الصلاة والسلام- هو الوحيد في القرآن حينما ذكرت دعوته لم يذكر معها في جميع المواضع أنه دعاهم إلى التوحيد، والرسل -عليهم الصلاة والسلام- كانوا يقولون لأقوامهم -أول ما يدعونهم إليه: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة الأعراف:59] ولوط ﷺ أنكر عليهم إتيان الفاحشة.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن قوم لوط -عليه الصلاة والسلام- لم يكن عندهم إشراك، وإنما كانوا بهذا المثابة من العمل القبيح -والله تعالى أعلم، وكون التوحيد لم يذكر الأمر به لا يعني أنهم لم يكونوا على الإشراك، ولا يعني أنه لم يخاطبهم بذلك، والخطاب في القرآن منقول من لغة أخرى، أعني خطاب هؤلاء الأنبياء من غير العرب -عليهم الصلاة والسلام- فيذكر الله -تبارك وتعالى- في كل موطن ما يناسبه.
ولذلك تجد ما يذكره الله من خبر موسى ﷺ في كل مقام ما يناسب ذلك المقام، وهناك أشياء لا يذكرها ببعض المقامات ويذكرها في مقام آخر، وهكذا في كلام شعيب مع قومه، وفي كلام صالح، وفي كلام هود -عليهم الصلاة والسلام- مع أقوامهم تجد أن الخطاب فيه أشياء تذكر في موضع، وأشياء لا تذكر في موضع، حتى الصيغة المنقولة يعني امرأة إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- قالت للملائكة: عَجُوزٌ عَقِيمٌ [سورة الذاريات:29]، وفي الموضع الآخر قالت: يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عـَجِيبٌ [سورة هود:72]، وهو مقام واحد، موقف واحد ما تكرر حتى نقول: في المرة الأولى قالت كذا، وفي المرة الثانية قالت كذا.
والسبب -والله تعالى أعلم- هو ما ذكرتُ من أن الكلام منقول بمعناه، والترجمة -كما هو معروف- ليست حرفية، وإنما تكون بنقل المعنى، فينقل من المعنى لكل مقام ما يناسبه، حتى في اللغة الواحدة لمّا تحكي موقفاً، تنقل موقفاً أو نحو ذلك تذكر من الموقف أشياء تناسب المقام، وكون لوط ﷺ ما ذكر أنه خاطبهم بالتوحيد لا يعني أنه لم يأمرهم به؛ فالتوحيد هو أول ما يدعو إليه الرسل -عليهم الصلاة والسلام، لكن لما كانت هذه الفعلة القبيحة هي من مبتكراتهم ولم يسبقهم إليها أحد، ربما يكون هذا هو السبب في أن لوطاً ﷺ ذكر الله عنه أنه قال لهم: أَتَأْتُونَ، يعني ذُكرتْ هذه في دعوتهم وإلا فهم كفار قبل ذلك وبعده؛ ولهذا أهلكهم الله بهذا الهلاك المستأصل، وهل هذا الهلاك المستأصل لمجرد أنهم فعلوا هذه الفعلة؟ هم كفرة ووقعوا بهذا الفعل القبيح ومن أين جاءهم الإيمان أصلاً؟ يعني لوط -عليه الصلاة والسلام- كان في تلك الناحية قريباً من الأرض المقدسة، من بيت المقدس.
يقولون: ذلك المكان هو ما يعرف الآن بالبحر الميت، وإبراهيم ﷺ كان في الشام حينما هاجر إليها، ودعا الناس إلى عبادة الله ، فبقي لوط -عليه الصلاة والسلام- وهو ابن أخيه في ناحية، وإبراهيم في ناحية، هؤلاء جاءهم الإيمان قبل لوط -عليه الصلاة والسلام، فالمقصود أن كون الدعوة إلى الإيمان والتوحيد لم تذكر لا يعني أنه لم يدعهم إلى ذلك أو أنهم كانوا على الإيمان ولا يظن بقوم أنهم على الإيمان، ويأتيهم نبي رسول ثم يجيبونه بمثل هذا الجواب، ويتوعدونه بالطرد والإخراج، ويعيبونه أنه يتنزه عن فعلتهم، يقول: بينها وبين بلاد الكَرَك والشَّوبَك، هي في تلك الناحية لأن الله قال: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا [سورة الفرقان:40]، فدل ذلك على أن أهل مكة مروا على تلك الناحية حينما أتوا بلاد الشام.
يقول: بلاد الكرك والشوبك، وهو يعني بها منطقة البحر الميت، فهو دعاهم إلى الإيمان فكذبوا بلوط -عليه الصلاة والسلام، ومن كذب بنبي فهو مكذب بجميع الأنبياء، ولو قالوا: إنهم مصدقون ومؤمنون بهم، فتقول مثلاً: اليهود مكذبون الرسل مع أنهم يؤمنون بموسى ﷺ وأنبيائهم، فقد يقول قائل: إن قوله: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ يعني كذبوا لوطاً، هذا كفر منهم، لكن كان ذلك الكفر واقعاً حينما كذبوه، لكن هل كانوا على الإشراك حينما دعاهم إلى الله؟ هذا هو السؤال وإلا فتكذيب لوط -عليه الصلاة والسلام- هو كفر لا شك.
وقال الحموي -رحمه الله تعالى: الكَرَك بفتح أوله وثانيه، وكاف أخرى: كلمة عجمية اسم لقلعة حصينة جداً في طرف الشام من نواحي البلقاء في جبالها بين أيلة وبحر القلزم وبيت المقدس، وهي على سن جبل عالٍ تحيط بها أودية إلا من جهة الربض، قال: والكرك أيضاً قرية كبيرة قرب بعلبك.ا.هـ.
هي الأولى يقصد جبال الأردن فالبحيرة البحر الميت.وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ [سورة الفرقان:40] قال: وَالْمُؤْتَفِكَةَ [سورة النجم:53] لأنه قلبها ووصل وذكرها بالصفة، قال: وَالْمُؤْتَفِكَاتُ [سورة الحاقة:9] باعتبار أن لها أعمال يعني قرى توابع فكلها قلبت، هي والتوابع والقرى التي معها.
ولهذا قال تعالى: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [سورة الشعراء:165-175].
لما نهاهم نبي الله عن إتيانهم الفواحش، وغشيانهم الذكور، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم -اللاتي خلقهن الله لهم- ما كان جواب قومه له إلا أن قالوا:لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُيعنونَ: عما جئتنا به، لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ أي: ننفيك من بين أظهرنا، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُم ْأُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [سورة الأعراف:82]، فلما رأى أنَّهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم، تبرأ منهم فقال: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ أي: الُمبغضين، لا أحبه ولا أرضى به؛ فأنا بريء منكم. ثم دعا الله عليهم قال: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ.
قال الله تعالى: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أي: كلهم، إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ، وهي امرأته.
هنا يقول: إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ أي المبغضين، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [سورة الضحى:3]، قال: لا أحبه ولا أرضى به، فأنا بريء منكم، ثم دعا الله عليهم فقال: رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ الآن ظاهر الدعاء الذي دعا به أنه دعا ربه طلب النجاة، من ماذا؟ مما يعملون، بمعنى أنه يسلم مما وقعوا فيه من هذا الرجس، وأن الله يسلم أهله من ذلك، هذا ظاهر الدعاء.
الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: ثم دعا الله عليهم فقال: رَبِّ نَجِّنِي، فنوجه كلام ابن كثير -رحمه الله- بأنه طلب النجاة لنفسه مما يعملون، هذه الإجابة التي حصلت له أن الله -تبارك وتعالى- قال: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ فدل ذلك على أنه دعا عليهم، حينما طلب النجاة دعا عليهم، وطلب الإهلاك لهؤلاء، وأن الله يأخذ هؤلاء المجرمين، قال: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ فالفاء تدل على التعقيب المباشر، وتعقيب كل شيء بحسبه، أي لا يعني أنه وقع بنفس اللحظة التي دعا بها، وإنما وقع لهم ذلك في الصباح، وأيضاً تدل الفاء هذه على التعليل، وأيضاً تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها فَنَجَّيْنَاهُ، نجيناه باعتبار إجابة الدعاء الذي تقدم منه.
فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ يقول هنا: فِي الْغَابِرِينَ يقول وهي امرأته، وكانت عجوز سوء بقيت فهلكت مع من بقي من قومها، هذه العبارة التي عبر بها ابن كثير -رحمه الله- دقيقة جداً بقيت فهلكت، ولفظة الغابر كما يقول النحاس من الأضداد، تأتي بمعنى الباقي وتأتي بمعنى الذاهب، الباقي والذاهب إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ إذا فسرتها في الباقين أو فسرتها في الذاهبين فإنها تدل على هذا وهذا.
والحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال في قوله: إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ بقيت فهلكت، جمعاً للمعنيين، هلكت بمعنى ذهبت في الذاهبين في الهلاك، والأول في الباقين بقيت، وهذا من دقته -رحمه الله- في هذا الكتاب، وكثيراً ما يمر الإنسان على أشياء من هذا القبيل ولا يتفطن لها، ولكن هذا الكتاب هو بمنزلةٍ في كتب التفسير.
فالمقصود أن هذه اللفظة يمكن أن تفسر بمعنى أنها إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ أي: في الذاهبين في الهلاك، في الهالكين، أو يقال: إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ يعني في الباقين في الهلاك، والنتيجة واحدة ذهبت، والهلاك يقال فلان هلك، وفلان ذهب، فلان راح بمعنى هلك فِي الْغَابِرِينَ في الباقين في الهلاك.
ومن أهل العلم من فسر البقاء بطول العيش، والمدة التي عاشها الإنسان؛ فهي كبيرة في السن، في الباقين يعني في المعمرين إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ، وهذا اختيار ابن جرير -رحمه الله- ويعبر عنه بعضهم -كأبي عبيدة- بعبارة قريبة فِي الْغَابِرِينَ يعني في الباقين في الهرم أنها بقيت ما ماتت في سن مبكرة مثلاً، عمّرت، وذكر أيضاً ابن جرير -رحمه الله- معنى آخر -لكن اختياره الأول- ذكر أن من أهل العلم من قال: فِي الْغَابِرِينَ يعني أنها بقيت بعد قومها لم يصبها العذاب الذي أصابهم معهم، وإنما أصابها خارجاً عنهم، بمعنى أنهم يقولون: إنها خرجت مع لوط -عليه الصلاة والسلام- قال: وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ [سورة هود:81] ثم استثناها، قالوا فأصابها بعدما خرجت، التفتت فأصابها عذاب قومه في قريتهم، وهي خرجت، بقيت بعدهم ثم وقع لها.
ولكن هذا -والله تعالى أعلم- فيه نظر، فمن جهةٍ المفسرون لم يتفقوا على أنها خرجت مع لوط، والاستثناء في قوله: وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ اختلفوا هل هو منقطع أولا، بمعنى لكن امرأة يصيبها ما أصابهم، أو أنها خرجت معهم والتفتت، والأمر الثاني أنه لو قيل: إنها خرجت والتفتت، فلا يعني هذا أن العذاب وقع لهم ثم التفتت هي بعد ذلك بعدما هلكوا ثم هلكت ليس ذلك باللازم، فقد تكون التفتت فرأت القرى تنسف فماتت في نفس الوقت، والله تعالى أعلم.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ تستطيع أن تقول يعني في الهالكين، وأصل المعنى في الذاهبين وفي الباقين كل ذلك يرجع إلى معنى واحد وهو الهلاك وهذا أقرب -والله تعالى أعلم- من تفسيره أنها بقيت بمعنى أنها عمّرت حتى صارت عجوزاً، فالحديث فيما يبدو ليس عن هذا، والله أعلم.
هنا لم يتكلم عن الآيات الأخرى؛ لأنه مضى الكلام عليها إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً أي: في إهلاكهم، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم يعني هل المقصود قوم لوط وما كان أكثر قوم لوط بمؤمنين أو أن المقصود أهل مكة؟ المقصود أهل مكة، وأنهم حينما يسمعون مثل هذا لا يحصل لهم الاعتبار المطلوب، والاتعاظ، فلا ينفعهم ذلك وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم قلنا: إن هذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله، وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم يعني أكثر قومك، وابن كثير في الموضع السابق ذكر أن المقصود الأقوام الذين أهلكهم الله -تبارك وتعالى، ومثل هذا التكرار في هذه الآية إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ، حينما تتكرر هو ليس بتكرار محض، وإنما كل موضع يختص بما قبله، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لما جرى في قوم لوط، وهكذا في سائر المواضع، والأوضح من هذا الآيات التي في سورة الرحمن فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كل واحدة تختص بما قبلها، وكذلك أيضاً في غيره، ولكن هذا من أجلاها وأوضحها، والله أعلم.
كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ [سورة الشعراء:176-180].
هؤلاء -أعني أصحاب الأيكة -هم أهل مدين على الصحيح.
قوله: كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَهذه قراءة الجمهور، والقراءة الأخرى المتواترة "ليكة" بحذف المعرِّفة، وهي قراءة نافع وابن عامر وابن كثير، والمعنى واحد على قول الجمهور، وعامة أهل العلم على أن "ليكة والأيكة" كلاهما واحد، ولكنها جاءت في موضع معرَّفة وفي موضع غير معرَّفة، وإن قال بعض أهل العلم خلاف ذلك، يعني مثلاً أبو عبيد -رحمه الله- يقول: ليكة يعني القرية، والأيكة هي الغيضة شجر ملتف.
والظاهر أنهما واحد ليكة والأيكة، وأنه الشجر الملتف، أو كما يقول بعضهم: مُناعم الشجر الكثيف كالأراك والسدر ونحو هذا، فالمقصود أنها غيضة شجر كثير ملتف هذا قاله الخليل بن أحمد وغيره، كَذَّبَ أَصْحَابُ الأيْكَةِ قال: هم أهل مدين على الصحيح، فهذه ثلاثة أقوال ليست عند ابن كثير لكن هي متفرقة في الواقع؛ لأن بعضهم يقول: إن أهل مدين غير أصحاب الأيكة، وإن هؤلاء غير هؤلاء، فصار عندنا أهل مدين أصحاب الأيكة، وأهل القرية يقال لها: أيكة.
والصحيح أن هؤلاء جميعاً متحدون، أمة واحدة، فتارة نسبوا إلى بلدتهم وهي مدين، وتارة نسبوا إلى غيضة أيكة ولا إشكال، فهنا يقول أهل مدين على الصحيح، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم وإنما لم يقل هاهنا أخوهم هذا جواب على سؤال مقدر وهو أنه في المواضع السابقة ينسب النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى قومه: قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أخوهم صالح، ولما ذكر مدين قال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا[سورة الأعراف:85] ، وهنا قال: إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ فما نسبه إليهم، فمن أهل العلم من يقول بأن هؤلاء لم يكن منهم باعتبار التفريق بين أصحاب الأيكة وأهل مدين، قال: هم أهل مدين، وأما أصحاب الأيكة فلم يكن منهم؛ ولهذا لم يذكر ذلك جوابُ ابن كثير هنا.
العلة التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في عدم قوله أخوهم شعيب: وإنما لم يقل هنا أخوهم شعيب؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، لكن إذا قيل أهل مدين هو منهم، وإذا ذكر ثمود فصالح -عليه الصلاة والسلام- منهم، وإذا ذكر عاد فهود -عليه الصلاة والسلام- منهم، لكن لما نسبوا هنا إلى الأيكة التي عبدوها من دون الله لم يضفه إليهم إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ.
يعني ثلاث أمم من الممكن أن ينزّل على ما سبق: القرية، والشجر، ومدين.
يمكن أن نستدل على هذا من القرآن، يعني في سورة هود لما ذكر الله خبره -عليه الصلاة والسلام- قال: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [سورة هود:84]، إلى أن قال لهم: إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ، فذكر الأشياء التي ذكرها هنا، وقال لهم: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وهنا قال لهم: فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا [سورة الأعراف:85]، نفس القضايا فدل على أنهم متحدون، والله تعالى أعلم.
والصحيح أنهم أمة واحدة، وُصفوا في كل مقام بشيء؛ ولهذا وعظ هؤلاء وأمرهم بوفاء المكيال والميزان، كما في قصة مدين سواء بسواء، فدل ذلك على أنهم أمة واحدة.
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسـْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ [سورة الشعراء:181-184].
يأمرهم تعالى بإيفاء المكيال والميزان، وينهاهم عن التطفيف فيهما، فقال: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ أي: إذا دفعتم إلى الناس فكملوا الكيل لهم، ولا تخسروا الكيل فتعطوه ناقصا، وتأخذوه -إذا كان لكم -تامًا وافيًا، ولكن خذوا كما تعطون، وأعطوا كما تأخذون.
وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِوالقسطاس هو: الميزان.
القسطاس يقال: للميزان، ويقال: للعدل وآلته وبينهما ملازمة، وبعضهم يقول: هي كلمة غير عربية، وهذا يحتاج إلى دليل، ووصف القسطاس بأنه مستقيم يعني الميزان المعتدل، وإذا فسر بالعدل فتكون هذه من قبيل الصفات الكاشفة، بمعنى أنها غير مقيدة وإنما كاشفة، مثل قولك: هذا هو الحق الصحيح، ومعلوم أن الحق لا يكون غير صحيح، وإنما يكون ذلك من قبيل الصفات الكاشفة، وهكذا قد يقال: في الصراط المستقيم، إذا فسر الصراط بأن ذلك لا يقال إلا لكل من كان متصفاً بالاستقامة، فلا يقال له: صراط إن كان غير مستقيم، فيكون ما ذكر بعده من قوله: المستقيم من قبيل الصفات الكاشفة.
بخْسُ الناس أشياءهم قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله: لا تنقصوهم أموالهم، ويدخل في عموم المعنى ما يحصل من نقص لهم في كل حق من حقوقهم، كل شيء أبخسوا فيه الناس أشياءهم كما أنه جاء هذا في بخس الميزان فكذلك بخسُ الناس أشياءهم في حقوقهم، كل إنسان يُعرف له حقه وفضله ولا يهضم، ومن الناس من إذا رضي وصف الناس بأكثر مما يستحقون، وإذا سخط هضمهم وعابهم ورماهم بكل قبيح مما هو صحيح ومما هو كذب مفترى، وهذا من بخس الناس أموالهم، هذا من بخس الناس أشياءهم، فإذا لم يعجبه أحد من أهل العلم مثلاً أو نحو هذا قال: هذا جاهل، هذا ما يفهم في العلم، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [سورة المائدة:8]، والعداوة لا يجوز أن تحمل الإنسان على ترك العدل، وهذا داخل في عموم قوله: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ.
ويدخل في هذا كل ألوان الإفساد، إشاعة الفاحشة، والمنكر، وتغيير دين الله ، وتبديله، وما إلى ذلك.
قرأ ابن زيد: يعني هو لا يقصد أنه يقرأ قراءة من القراءات، وإنما أراد أن يفسر القرآن بالقرآن، يعني قرأ عندها هذه الآية بمعنى أنه فسر القرآن بالقرآن وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ، وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا يعني خلقاً كثيراً فالجبلة بمعنى الخليقة، خُلُقُ الْأَوَّلِينَ فإن ذلك يقال له: جبلة
والموتُ أعظمُ حادثٍ | ما يمرّ على الجِبلَّة |
يعني على الخليقة.
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِن ْنَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِن ْكُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [سورة الشعراء:185-191].
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها -تشابهت قلوبهم- حيث قالوا: إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ يعنون: من المسحورين، كما تقدم.
والقول الآخر الذي مضى بمعنى أنك مخلوق مثلنا، بشر لك سحر يعني رئة، وكونه يفسر -كما سبق- بالبشر فهذا من قبيل التفسير اللازم فمن له رئة يعني أنه مخلوق بشر، أنت من البشر لست بملَك، وهذا هو اختيار ابن جرير -رحمه الله، يعني أنك مثلنا تأكل الطعام وتشرب الشراب، لكن المعنى المتبادر هو المعنى الأول الذي ذكره ابن كثير مِنَ الْمُسَحَّرِينَ أي: رموه بالسحر.
وَمَا أَنْتَ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ أي: تتعمد الكذب فيما تقوله، لا أن الله أرسلك إلينا.
فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ قال الضحاك: جانبا من السماء، وقال قتادة: قطعا من السماء، وقال السدي: عذابًا من السماء.
الكِسَف، الكِسْفة يعني القطعة، والكسف يعني القطع أي: قطعاً من السماء، عذاباً، فهذه الأقوال التي ذكرها، قال: جانباً من السماء، عذاباً من السماء، وقال قتادة: قطعاً من السماء هو اختيار ابن جرير، وهل هذه المعاني المذكورة غير متنافية هذه الكسف التي تنزل من السماء هي عذاب بطبيعة الحال ليست أرزاقاً، ومن قال: جانباً من السماء يقولون على قطعة، فهي من باب اختلاف التنوع، واختلاف العبارة.
وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا، إلى أن قالوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا [سورة الإسراء:90-92].
وقوله: وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيـْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ... [الآية الأنفال:32]، وهكذا قال هؤلاء الكفرة الجهلة: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ... الآية.
قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ يقول: الله أعلم بكم، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به غير ظالم لكم، وهكذا وقع بهم جزاءٌ كما سألوا، جزاءً وفاقًا؛ ولهذا قال تعالى: فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
قوله:قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَهذا الجواب غير مشكل، يعني حينما قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا أي: هات العذاب، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ معناه: الذي يأتي بالعذاب هو الله -تبارك وتعالى- هو عالم بكم وبأحوالكم لا يخفى عليه شيء، ما أنا الذي يأتي بالعذاب، إنما يأتي العذاب من الله وهو مطلع على خلقه لا يخفى عليه شيء من أحوالهم.
مثل هذا التفصيل في صفة العذاب هذا متلقى عن بني إسرائيل فيما يظهر -والله تعالى أعلم؛ فلم يرد ذلك عن النبي ﷺ في حديث ثابت صحيح، وإنما جاء مثل هذا عن بعض السلف كابن عباس -رضي الله عنهما- وجاء هذا عن بعض التابعين، قال هنا: الظُّلَّةِ يقول هذا جنس ما سألوه إلى آخره فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ فسرها هنا بالسحابة جاءتهم، والظُّلل السحاب، والظلة السحابة، هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ [سورة البقرة:210] فهم سألوا العذاب فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا من العذاب طلبوا ذلك فيكون هذا الذي نزل عليهم عذاب يوم الظلة باعتبار أن الله حقق دعاءهم، ظلة يعني السحاب، جاءهم العذاب من السماء.
ومن أهل العلم يعني نحن لا نتقيد بهذه الرواية أو بهذا التفصيل في صفة العذاب، فإننا نقول: من أهل العلم من قال: إن العذاب أضيف إلى يوم الظلة، وما أضافه إلى الظلة بمعنى أن العذاب جاءهم من الظلة كما في هذا التفصيل، وإنما جاءهم من السماء مباشرة، نزل عليهم ما طلبوه.
فالمقصود أننا لا نرتبط بمثل هذا التفصيل الذي جاء في بعض هذه الروايات التي يظن أنها مأخوذة عن بني إسرائيل فإضافة العذاب إلى الظلة هل يلزم من ذلك أن الظلة هي التي نزل فيها العذاب –الآية، أولا يلزم منها هذا؟ قد يكون نزل فيها العذاب، ويكون ذلك تحقيقاً لما سألوا وما دعوا؛ لأن ذلك كله يقال له: سماء:
إذا نزلَ السماءُ بأرضِ قومٍ | رعيناهُ وإنْ كانوا غضابا[1] |
نزل السماء يعني: السحاب، فكل ما علاك يقال له: سماء، ويحتمل ألا يكون هذا العذاب من الظلة، وإنما من السماء نفسها، فالله تعالى أعلم، لكن إضافته إلى يوم الظلة يشعر بأن العذاب جاءهم من نفس الظلة، عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ يشعر أن هناك ارتباطاً، والعلم عند الله -تبارك وتعالى.
أي هذا جواب على سؤال مقدر وهو أن الله -تبارك وتعالى- هنا قال: فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ وفي موضع آخر ذكر أنه فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [سورة الحجر:73]، وفي موضع ثالث فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [سورة الأعراف:78]، فهنا يجيب عن هذا بأن هذا ليس بمتناقض، ما بينه تعارض فكل ذلك حصل لهم، وهذا الكلام وهذه المواطن لطيفة، فيما سبق قال: هم أهل مدين، وكان شعيب من أنفسهم ولكن لم يقل هنا: "أخوهم شعيب"؛ لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة، ومثل: إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ قطع نسب الأخوة بين المعنى وبين ما نسبوا إليه، وإن كان أخاهم نسباً، ومن الناس من لا يفطن إلى هذه اللطائف، ولو أن إنساناً جمعها من هذا الكتاب فقط فإنه سيجمع دفتراً كبيراً من هذه اللطائف، ثم بعد ذلك يصنفها على السور فيجتمع عنده نفائس، ودرر كثيرة جداً.
يعني قابل إرجافهم بعذاب من جنسه وهو الرجفة.
يعني هذا الاستهزاء، أسكتهم الملك صاح بهم الملك فأسكتهم بهذه الصيحة، فأسكتهم يعني أهلكهم.
قالوا ذلك على سبيل التهكم والازدراء، فناسب أن تأتيهم صيحة تسكتهم، فقال: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ [سورة الحجر:73]، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ، وهاهنا قالوا: فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ على وجه التعنت والعناد، فناسب أن يحق عليهم ما استبعدوا وقوعه.
فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.
فيكون ذلك اجتمع عليهم: صيحة، ورجفة، وإذا قيل بأن الظلة كان فيها عذاب أيضاً فيكون ذلك.
وروى محمد بن جرير عن يزيد الباهلي قال: سألت ابن عباس عن هذه الآية فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ... الآية قال: بعث الله عليهم وَمَدَةً وحرًا شديدًا، فأخذ بأنفاسهم فدخلوا البيوت، فدخل عليهم أجواف البيوت، فأخذ بأنفاسهم فخرجوا من البيوت هرابًا إلى البرية، فبعث الله سحابة فأظلتهم من الشمس، فوجدوا لها بردًا ولذة، فنادى بعضهم بعضًا، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسلها الله عليهم نارا، قال ابن عباس: فذلك عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم.
إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ أي: العزيز في انتقامه من الكافرين، الرحيم بعباده المؤمنين.
يعني لقومك يا محمد -عليه الصلاة والسلام، وهذا الأثر الغالب أنه مأخوذ من بني إسرائيل.
- انظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه، محيي الدين الدرويش، (3/ 67).