الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
[40] تابع لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ}
تاريخ النشر: ١٨ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 2892
مرات الإستماع: 2071

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

ولهذا قال: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ [سورة النساء:157] يعني بذلك من ادعى قتله من اليهود ومن سَلَّمه إليه من جهال النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسُعُر ولهذا قال: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157] أي: وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ [سورة النساء:157] ذكرنا بالأمس الوجوه التي تحتمله الآية، ومنها أنه ألقي الشبه على الجميع أي: التبس الأمر على أصحاب المسيح -عليه الصلاة والسلام- والتبس أيضاً على اليهود القتلة، أو أنهم خرجوا من عنده وألقي الشبه على الذي معه فرفع عيسى -عليه الصلاة والسلام- وبقية أصحابه لم يعلموا حقيقة ما جرى، أو أن أولئك لما افتقدوا شخصاً واحداً إن كانوا عرفوا عِدّة من في الدار فالتبس الأمر حينما ألقي الشبه، أو غير ذلك من الاحتمالات، وأقرب ذلك أنه ألقي الشبه على واحد منهم -وهذا هو المشهور- فهم قتلوه ولم يكونوا متيقنين من قتله ربما لأن عِدّة من وجدوهم كان قد نقص منها واحد، والله تعالى أعلم، ولهذا قال الله : وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ [سورة النساء:157] يعني أنهم غير متيقنين من هذا الأمر.

وابن جرير -رحمه الله- يقول: إن المعنى أنهم قتلوا الذي قتلوه على غير يقين منهم أنه عيسى -عليه الصلاة والسلام- أي أنهم قتلوا رجلاً وهم يشكون أنه المسيح، أي أن الشك موجود عندهم من أول الأمر حينما عمدوا إلى قتله هل هو عيسى أو غيره.

قوله: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [سورة النساء:157] أي: وما قتلوه متيقنين أنه هو بل شاكين متوهمين، وهذا موافق تمام الموافقة لقول ابن جرير -رحمه الله، أي أنهم لم يتحققوا من ذلك.

وقوله: يَقِينًا يحتمل أن يكون حالاً أي: وما قتلوه قتلاً يقيناً، ويحتمل أن يكون صفة لمصدر محذوف، وهذا بناء على أن الضمير يرجع إلى المسيح عيسى ﷺ.

كما أنه يحتمل أيضاً أن يكون راجعاً إلى الظن يعني أنهم لم يمحصوا هذا الظن تمحيصاً كافياً، كما تقول: قتلت هذه المسألة دراسة وبحثاً، وعلى كل حال فالأول أحسن لأن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها كما أنه هو المتبادر أصلاً؛ لأن الكلام كله عن عيسى -عليه الصلاة والسلام- والله تعالى أعلم.

بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا [سورة النساء:158] أي منيع الجناب لا يرام جنابه، ولا يضام من لاذ ببابه حَكِيمًا أي: في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم والأمر القديم.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس -ا- قال: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين -يعني فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء- فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي، قال: ثم قال: أيكم يُلْقَى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً فقال له: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال: أنا، فقال: أنت هو ذاك، فألقي عليه شَبَه عيسى ورفع عيسى من رَوْزَنَة في البيت إلى السماء، قال: وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة، بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق، فقالت فرقة: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء، وهؤلاء اليعقوبية، وقالت فرقة: كان فينا ابن الله ما شاء، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء النسطورية، وقالت فرقة: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء، ثم رفعه الله إليه، وهؤلاء المسلمون، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمدًا ﷺ.

وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، ورواه النسائي عن أبي كُرَيب عن أبي معاوية بنحوه، وكذا ذكره غير واحد من السلف أنه قال لهم: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتلَ مكاني وهو رفيقي في الجنة؟

مثل هذا لا يقال من جهة الرأي لكن ابن عباس ينقل ويروي عن بني إسرائيل، ولذلك لا يجزم برفع هذا.

وقول ابن عباس -ا: "فلم يزل الإسلام طامساً حتى بعث الله محمداً ﷺ" يقصد أن قوله -تبارك وتعالى: فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ [سورة الصف:14] أي ببعث محمد ﷺ، وقد سبق الكلام على هذه المسألة، وأنه لم يعرف للنصارى من أهل التوحيد ظهور بعد عيسى -عليه الصلاة والسلام؛ بل كانوا في غاية الاستضعاف إلى أن بُعث محمد ﷺ، والعبرة بالعواقب ويكون هذا هو الظهور.

ومنهم من قال: إن المقصود من ينتسبون إلى المسيح حتى لو كانوا على التثليث، وكلام الحافظ ابن القيم -رحمه الله- أنه لما كان النصارى لهم لون اتصالٍ بالمسيح وشعبةٌ من حقٍّ من جهة الإيمان بعيسى ﷺ فهم أولى من اليهود بالتأييد وكان لهم مثل هذا النصر على اليهود، يعني من ينتسبون إلى عيسى وإن كانوا على الإشراك؛ لأن الذين ظهروا على اليهود هم قسطنطين ومن معه الذين كانوا على التثليث ولم يكن لأهل التوحيد أي ظهور بل كانوا مستضعفين من قِبَل دولة النصارى.

وقوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:159] روى ابن جرير عن ابن عباس -ا وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] قال: قبل موت عيسى ابن مريم وقال العوفي عن ابن عباس -ا- مثل ذلك، وقال أبو مالك في قوله: إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [سورة النساء:159] قال: ذلك عند نزول عيسى وقبل موت عيسى ابن مريم لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به.

وهذا هو الظاهر المتبادر، فقوله: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني وما من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، وذلك أن "إنْ" هنا نافية وليست مخففة من الثقيلة، ثم من نظر إلى أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور قال: إنه في مَوْتِهِ يرجع إلى الكتابي، أي ما من أحد يموت من أهل الكتاب إلا وقد آمن بعيسى، وهذا أيضاً مروي عن ابن عباس –ا- حتى قيل له: أرأيت إن سقط من سطح؟ فقال: يؤمن وهو يتردى، فقيل أرأيت إن ضربت عنقه؟ قال: يؤمن وهو يتشحط.

والحاصل أنه نُقل عن ابن عباس هذا، ونُقل عنه ما يخالفه أيضاً، لكن كما ذكرنا في القاعدة السابقة أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفرقيها ولذلك يقال: كل ما سبق من الضمائر يعود إلى عيسى -عليه الصلاة والسلام- فقوله تعالى: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [سورة النساء:159] أي بعيسى، وقوله: قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى، وقوله تعالى قبل ذلك: وَلَكِن شُبِّهَ [سورة النساء:157] أي: عيسى ﷺ وهكذا سائر الضمائر، والله تعالى أعلم.

ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له:

قال البخاري -رحمه الله- في كتاب ذكر الأنبياء من صحيحه المتلقى بالقبول: "نزول عيسى ابن مريم " ثم روى عن أبي هريرة –- قال: قال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لَيُوشكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة خيراً لهم من الدنيا وما فيها ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:159] وكذا رواه مسلم[1] وقوله: قَبْلَ مَوْتِهِ أي: موت عيسى ابن مريم.

طريق أخرى عن أبي هريرة -:

روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لَيُهِلَّن عيسى بفَجِّ الرَّوْحَاء بالحج أو العمرة أو ليثنينهما جميعاً وكذا رواه مسلم[2].

الروحاء منطقة معروفة على طريق مكة والمدينة وهي أقرب إلى المدينة حيث تبعد عنها حوالي 75 كيلو مترا.

وروى أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير، ويمحو الصليب، وتجمع له الصلاة ويعطي المال حتى لا يقبل، ويضع الخراج، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما قال: وتلا أبو هريرة: وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الآية [سورة النساء:159] فزعم حنظلة أن أبا هريرة –- قال: يؤمن به قبل موت عيسى، فلا أدري هذا كله حديث النبي ﷺ أو شيء قاله أبو هريرة، وكذا رواه ابن أبي حاتم[3].

يعني هذه الجملة الأخيرة هل هي من المدرج، أي هل هذا من كلام أبي هريرة اتصل بالحديث أو أنه من كلام النبي ﷺ؟ وبعبارة أخرى هل هذا الكلام تفسير نبوي لقوله تعالى: لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي قبل موت عيسى ؟

الحاصل أنه حتى لو لم يمكن هذا من التفسير النبوي فمثل هذه الأحاديث تفسر به الآية؛ لأن تفسير القرآن بالسنة كما ذكرنا في بعض المناسبات منه ما يدخله الاجتهاد لكن وجهه ظاهر، بمعنى أن النبي ﷺ لم يتعرض فيه للآية ولكن التفسير فيه يلوح وليس فيه تكلف ولا بُعد فمثل هذا يمكن أن تفسر به الآية وإن كان في بعض الأحيان لا يقطع به.

وما ورد في هذا الحديث من أنه يفيض المال، هذا يكون تفسيراً للرواية الأخرى التي جاءت بعده أعني قوله: ويعطي المال حتى لا يقبل حيث إن بعضهم يقول: لا يقبل المال لقرب الساعة لزهد الناس فيه، وبعضهم يقول: لا يقبل المال نظراً لاشتغال الناس بالعبادة وصلاحهم وزهدهم فهم ليسوا بحاجة إلى المال، لكن الذي يظهر كما جاء في الرواية السابقة أنه يفيض فلا يقبله أحد، يعني لا يقبل أحد الصدقة أو الزكاة، والله أعلم.

طريق أخرى: روى البخاري أن أبا هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم وإمامكم منكم؟ وهكذا رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم[4].

طريق أخرى: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: الأنبياء إخوة لِعَلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم؛ لأنه لم يكن نبي بيني وبينه، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض.

قوله: مربوع يعني متوسط لا بالطويل ولا بالقصير، وهذا أكمل الأوصاف، كما أن هذا هو وصف النبي ﷺ فالطول البائن والقصر البائن كلاهما من العيوب.

وعليه ثوبان مُمَصّرَان، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلَل، فيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويُهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنّمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم، فيمكث أربعين سنة، ثم يُتَوَفى ويصلي عليه المسلمون [5]وكذا رواه أبو داود.

حديث آخر: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق.

هذان موضعان بالشام قريبان من حلب.

فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافّوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا نقاتلهم.

الرواية هنا جاءت بضم السين والباء سُبُوا منا وجاءت بالفتح سَبَوا منا والرواية المشهورة بالضم كما يفسر ذلك بعض الروايات الأخرى، فهم قالوا: خلوا بيننا وبين إخواننا، وذلك أن هؤلاء ناس من الروم انضموا إلى المسلمين وأسلموا فالروم يقولون: خلوا بيننا وبينهم نقاتلهم فيمتنع المسلمون من التخلية بينهم باعتبار أنهم أولى بهم ويقولون: لا نخلي بينكم وبين إخواننا فهذه هي الرواية المشهورة.

وعلى رواية الفتح الذين سَبَوا منا أي أنهم تمكنوا من الظفر بالروم فسبوا منهم سبايا فهم يريدون الانتقام منهم.

وبعض أهل العلم مثل النووي -رحمه الله- يجمع بين هذا وهذا فيقول: يمكن أن يكون هؤلاء قد سُبُوا ثم سَبَوا، أي أنهم هجموا على الكفار واستطاعوا أن يأخذوا بعض ما عندهم، لكن هذا قد لا يخلو من إشكال؛ لأن البني ﷺ قال كلمة واحدة، فهي إما أن تكون الذين سُبُوا منا أو سَبَوا منا وبناء عليه فهي إما هذه وإما هذه والله أعلم، فهذه ليست من القراءات القرآنية حتى نقول: هذا كله قرآن جاء بهذا وهذا، وهذا له معنى وهذا له معنى، وإنما هذا من باب الاختلاف في ضبط الرواية، وعلى كل حال فرواية الضم هي رواية الأكثر وهي الأشهر، والله أعلم بالصواب.

قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سَبَوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا، ويُقْتَلُ ثلثه أفضل الشهداء عند الله، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتتحون قسطنطينية.

هذا مؤيِّد لما صح عن النبي ﷺ من أن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وهكذا نقول: إن الولاء والبراء ماضٍ إلى يوم القيامة حتى لو اجتمع من بأقطارها فلن يستطيعوا القضاء على شرائع الإسلام، فالإسلام قد جاوز القنطرة، لكن هؤلاء الذين يتهافت منهم من يتهافت وينكص على عقبيه من ينكص هؤلاء لا يضرون إلا أنفسهم، أما دين الله فهو محفوظ، وسيأتي أقوام هم في أصلاب آبائهم يجاهدون في سبيل الله أعداء الله ويوالون أولياءه ويعادون أعداءه ولا يضر المنحرف إلا نفسه، والله المستعان.

فبينما هم يقسمون الغنائم قد عَلَّقوا سيوفهم بالزيتون، إذْ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم.

يلاحظ أنه ورد في هذا الحديث أنهم يفتحون القسطنطينية، والنبي ﷺ ذكر أن الجيش الذي يفتح القسطنطينية مغفور له، والقسطنطينية فتحت في وقت محمد الفاتح كما هو معروف، وهذا الفتح لا شك أنه ليس هو الفتح المراد هنا؛ لأن هؤلاء يعلقون سيوفهم بأغصان الزيتون، ثم إن هذا في آخر الزمان، ثم في الحديث أنهم يسمعون الصائح بأن المسيح الدجال قد خرج، لذلك ليس ذلك هو الفتح المقصود في الحديث قطعاً، ومعنى ذلك أنها فتحت ثم بعد ذلك تبدلت الأحوال وتركوا شرائع الإسلام، وستفتح مرة أخرى عندما يستولي عليها في ذلك الحين النصارى مثلاً، والله تعالى أعلم.

وتبقى مسألة هي هل البشارة من النبي ﷺ للجيش الذي يفتح القسطنطينية هي بشارة للجيش الذي فتحها أولاً أم هي بشارة للجيش الذي يفتحها آخر الزمان؟

الصحابة حاولوا من وقت مبكر فتح القسطنطينية –كما هو معروف- فأرسلوا لها الجيوش في عهد معاوية وكان أول جيش غزى القسطنطينية بقيادة يزيد بن معاوية ثم تتابعت الجيوش بعد ذلك إلى عهد محمد الفاتح وكلهم يرجون تحصيل هذه المزية، فهل كانوا يفهمون أن هذا في آخر الزمان، أو أن من حصل لهم ذلك يكونون قد حازوا ذلك الشرف؟ الله تعالى أعلم.

فبينما هم يقسمون الغنائم قد عَلَّقوا سيوفهم بالزيتون إذْ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يُعدّون للقتال يسوون الصفوف، إذ أقيمت الصلاة فينزل عيسى ابن مريم فأمَّهم فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب الملح في الماء فلو تركه لانذاب حتى يهلك، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حَرْبته[6].

على كل حال نستطيع أن نفهم من هذا أن شرائع الإسلام لن تزال وأن الجهاد سيستمر إلى أن يقاتل آخرهم الدجال، فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجال، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ في الأحاديث الصحيحة[7] وأما البقية من المخذولين فإنهم يتبعون الدجال وهم أهل لذلك، نسأل الله العافية.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء- باب نزول عيسى ابن مريم -عليهما السلام- (3264) (ج 3 / ص 1272) ومسلم في كتاب الإيمان - باب نزول عيسى ابن مريم حاكماً بشريعة نبينا محمد ﷺ (155) (ج 1 / ص 135).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الحج - باب إهلال النبي ﷺ وهديه (1252) (ج 2 / ص 915).
  3. مسند أحمد (7890) (ج 2 / ص 290) وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب نزول عيسى ابن مريم -عليهما السلام- (3265) (ج 3 / ص 1272) ومسلم في كتاب الإيمان - باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد ﷺ (155) (ج 1 / ص 135).
  5. أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم - باب خروج الدجال (4326) (ج 4 / ص 201) وأحمد (9259) (ج 2 / ص 406) وصححه بتمامه شعيب الأرنؤوط وأصله في صحيح البخاري - كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3259) (ج 3 / ص 1270).
  6. أخرجه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة - باب في فتح قسطنطينية وخروج الدجال ونزول عيسى ابن مريم (2897) (ج 4 / ص 2221).
  7. انظر صحيح البخاري في كتاب المناقب - باب سؤال المشركين أن يريهم النبي ﷺ آية فأراهم انشقاق القمر (3442) (ج 3 / ص 1331) ومسلم في كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم (1037) (ج 3 / ص 1524).

مواد ذات صلة