الثلاثاء 28 / شوّال / 1445 - 07 / مايو 2024
[42] من قول الله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ} الآية 160 إلى قوله تعالى: {وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} الآية 170.
تاريخ النشر: ٢٠ / ذو القعدة / ١٤٢٦
التحميل: 3329
مرات الإستماع: 2173

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تتمة الأحاديث التي وردت في نزول المسيح عيسى ابن مريم .

ثم رواه البخاري عن سالم عن أبيه قال: لا والله ما قال النبي ﷺ لعيسى أحمر، ولكن قال: بينما أنا نائم أطوف بالكعبة، فإذا رجل آدم سَبْط الشعر، يتهادى بين رجلين يَنْطف رأسه ماء أو يُهرَاق رأسه ماء فقلت: من هذا؟ فقالوا: ابن مريم فذهبت ألتفت فإذا رجل أحمر جسيم جَعْد الرأس أعور عينه اليمنى كأن عينه عنبة طافية، قلت: من هذا؟ قالوا: الدجال، وأقرب الناس به شبهاً ابن قَطَن قال الزهري: رجل من خزاعة هلك في الجاهلية، هذه كلها ألفاظ البخاري -رحمه الله[1].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول: "عن سالم عن أبيه قال: لا والله ما قال النبي ﷺ لعيسى أحمر ولكن قال: بينما أنا نائم ثم ذكر صفته فقال: فإذا رجل آدم سَبْط الشعر وفي بعض الروايات السابقة التي مرت قال في صفة شعره: جعد.

وذكر في صفته هنا أنه ما قال: أحمر وإنما قال: آدم والآدم هو الأسمر، كما في بعض توجيهاته، ومنهم من يقول: ليس المراد بذلك السمرة أو الحمرة وإنما ما قارب ذلك، فالله تعالى أعلم.

وقد يكون هذا الاختلاف من قبيل ما يرجع إلى ضبط الرواة من الصحابة وهذا وارد وله نظائر.

وابن قطن الذي شُبِّه به الدجال يقال: إن اسمه عبد العزى من بني المصطلق.

وقوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [سورة النساء:159] قال قتادة: يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله وأقر بالعبودية لله ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة: وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ [سورة المائدة:116] إلى قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة المائدة:118].

فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا ۝ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۝ لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:160-162].

يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم، وهذا التحريم قد يكون قدريًا بمعنى أنه تعالى قيَّضهم لأنْ تأولوا في كتابهم وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالًا لهم فحرموها على أنفسهم تشديدًا منهم على أنفسهم وتضييقًا وتنطعًا.

ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالًا لهم قبل ذلك، كما قال تعالى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ [سورة آل عمران:93] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية، وأن المراد أن الجميع من الأطعمة كانت حلالًا لهم، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها.

ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة كما قال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ [سورة الأنعام:146] أي: إنما حرمنا عليهم ذلك؛ لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه، ولهذا قال: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160].

يقول -تبارك وتعالى- عن اليهود: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ويقول في حق نبينا محمد ﷺ وبعْثِه إلى هذه الأمة: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [سورة الأعراف:157]. 

والحاصل أن الله -تبارك وتعالى- يحل الطبيات ويحرم الخبائث، لكن في حق بني إسرائيل قال: حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [سورة النساء:160] وكما قال في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ [سورة الأنعام:146].

والمقصود أن هذا التحريم كما يقول ابن كثير -رحمه الله: إما أن يكون قدريًا وإما أن يكون شرعيًا، فإذا قلنا: إنه تحريم قدري، فالمعنى أن الله تعالى لم ينزل عليهم الخطاب بأن هذا يحرم عليهم أكله وإنما هو أمر ابتدعوه من عند أنفسهم فحُرموا بسببه بعض الطيبات، فيكون هذا من قبيل التحريم القدري لا الشرعي، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- قدر ذلك فوقع بأن صرفهم عنه بابتداعهم بدعًا تمثلت بتحريمهم على أنفسهم بعض المطعومات.

ويمكن أن يكون التحريم المقصود هو التحريم الشرعي -وهذا هو الأقرب- ويدل عليه آية الأنعام وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الأنعام:146] والمعنى أن الله خاطبهم بتحريم ذلك عليهم، ويكون هذا التحريم -كما يقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- تحريم عقوبة، وبناء عليه فإن استشكل مستشكل كيف يقال: إن الله  يحرِّم الطبيات وهو إنما يتحرِّم المستخبثات والأمور الضارة؟

فالجواب: هذه طيبات حرمت على أولئك القوم تحريم عقوبة، وأما ما حُرِّم على هذه الأمة فإنه حرم لضرره أو فساده وخبثه الغالب، وهذا هو الفرق بين التحريمين، والله أعلم.

يقول -تبارك وتعالى: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160] فقوله: كَثِيرًا يمكن أن تعرب على أنها مفعول لصدَّ، فيكون المعنى بصدهم ناسًا كثيرًا، ويحتمل أن يكون صفة لمصدر محذوف فيكون التقدير وبصدهم عن سبيل الله صدًا كثيرًا، ولعل الثاني هو المتبادر، والله تعالى أعلم.

ولفظة "صدَّ" تأتي متعدية وتأتي لازمة، فقوله: وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ يمكن أن يكون المراد به صد أنفسهم عن طاعة الله وإعراضهم عن ذلك، ويمكن أن تكون بمعنى صدهم لغيرهم وتثبيطهم عن طاعة الله وتنفيرهم من اتباع الأنبياء ودعوتهم إلى الضلال والانحراف والشر كما هو معروف عنهم، والقرآن يعبر عنه بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة؛ ولذلك يقال: كل ذلك واقع منهم فهم صادون في أنفسهم كما وصف الله حالهم مع أنبيائهم وتلكؤهم في طاعتهم وإعراضهم عن الهدى، كما أن الله -تبارك وتعالى- وصف إفسادهم المتعدي وشرهم الذي لا يسلم منه حتى الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ولذلك يمكن أن يكون المراد بقوله: وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا: صد أنفسهم وصد غيرهم عن طاعة الله، والله تعالى أعلم.

ولهذا قال: فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا [سورة النساء:160] أي: صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق.

عبارة ابن كثير -رحمه الله- دقيقة جدًا حيث جمع بين المعنيين، وهذا من أحسن ما يكون في التفسير، وكلما كان الإنسان عنده آلة في التفسير ويعرف الأشياء التي يمكن أن يُبنى عليها التفسير ويميز وله لطافة نظر كلما عرف قدر هذا التفسير ومنزلته، لكن الذي يقرأ لأول وهلة وهو خالي الذهن قد لا يتبين له هذا وإنما يقرأ جملًا لا يعرف ما تنطوي عليه، ولا يعرف لماذا قال هذه العبارة وما الذي تحويه وما الاحتمالات الأخرى التي تكون غير واردة عنده أصلًا، ولذلك فإن العناية بمثل هذه الأمور تجعل لطالب العلم نفسًا آخر ونظرًا آخر، ويستفيد غاية الاستفادة في قراءة الكتب.

 أي: صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق، وهذه سَجِيَّة لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل، وقتلوا خَلْقًا من الأنبياء، وكذَّبوا عيسى ومحمدًا صلوات الله وسلامه عليهما.

وقوله: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ [سورة النساء:161] أي: إن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه وأكلوا أموال الناس بالباطل قال تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [سورة النساء:161].

ثم قال تعالى: لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ [سورة النساء:162] أي: الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران.

وَالْمُؤْمِنُونَ [سورة النساء:162] عطف على الرَّاسِخُونَ وخبره يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [سورة النساء:162].

قال ابن عباس -ا: أنزلت في عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد - وأرضاهم- الذين دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمدًا ﷺ.

يقول –رحمه الله: "وَالْمُؤْمِنُونَ [سورة النساء:162] عطف على الرَّاسِخُونَ وخبره يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ [سورة النساء:162]" أي أن المراد بالراسخين منهم هم من آمن من اليهود، ويكون "المؤمنون" من باب عطف العام على الخاص، والمعنى أن غير الراسخين من أهل الإيمان الصحيح منهم أيضًا يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.

ويحتمل أن يكون العطف بالمؤمنين مرادًا به المؤمنين من هذه الآمة، والمعنى لكن الراسخون من بني إسرائيل والمؤمنون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوا النبي ﷺ يؤمنون بالكتاب كله.

وابن جرير -رحمه الله- ومن وافقه يقول: إن المراد بذلك هم الملائكة، وهذا لا يخلو من بعد.

وعلى كل حال فالآية تحتمل أن تكون في أهل الإيمان من هذه الأمة، وتحتمل أن تكون في المؤمنين من بني إسرائيل، وإن كان ذكر ذلك في حق بني إسرائيل وأنه من صفتهم أقرب؛ لأن الكلام فيهم، والله وأعلم.

وقوله: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة النساء:162] يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال، ويحتمل زكاة النفوس، ويحتمل الأمرين، والله أعلم.

يحتمل أن يكون زكاة الأموال أو زكاة النفوس، وزكاة النفوس معناها تزكية النفوس بالإيمان والعمل الصالح كما قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى [سورة الأعلى:14] يعني زكى نفسه، وإن كان قد قيل: إن المراد بهذه الآية زكاة الفطر وبقوله: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [سورة الأعلى:15] أي: الذكر الذي يكون قبل صلاة العيد، وصلى أي: صلاة العيد، وهذا فيه بعد. 

فعلى كل حال الزكاة تطلق تارة ويراد بها تزكية النفس وتارة يراد بها الزكاة المعروفة -زكاة المال- فهنا يقول الله : وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة النساء:162] والغالب في القرآن أن الزكاة التي تقرن بالصلاة يراد بها زكاة الأموال، ومثل هذه الأصول الكبار يمكن أن يقال فيها: إن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قد اتفقوا عليها مع اختلاف في التفاصيل، فعندهم الصوم والحج والزكاة والصلاة لكن تختلف تفاصيل ذلك في شرائع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

يقول تعالى: وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة النساء:162] لاسيما أنه عبر عنه بلفظ الإيتاء وهو بمعنى الإعطاء والغالب أن مثل هذا إنما يستعمل في دفع المال المخصوص لمستحِقِّه.

وفي قوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [سورة النساء:162] نجد أن المقيمين منصوبة والمؤتون مرفوعة، فكيف جاءت هذه اللفظة –المقيمين- منصوبة بين المرفوعات؟

يمكن أن يجاب عن ذلك بالقول: إنها منصوبة بفعل محذوف تقديره أعني المقيمين الصلاة كما يقول سيبويه ومن وافقه حيث ذكر لذلك شواهد من كلام العرب، ويمكن أن يقال: إن هذا منزل على قاعدة أن العرب تقطع في صفة الواحد إذا أرادت المدح أو الذم ليكون ذلك أبلغ في مدحه أو ذمه، ولعل هذا من أحسن ما يجاب به عن هذا الإشكال، وله شواهد في القرآن وفي أشعار العرب، فمن الآيات التي تنزل على هذه القاعدة قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحًا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة المائدة:69]، فقوله: وَالصَّابِئُونَ جاءت مرفوعة بين منصوبات، ومن شواهد كلام العرب قول ابن خياط:

وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرًا أطاعت أمر غاويها
الظاعنين ولما يُظعنوا أحدًا والقائلون لمن دارٌ نخليها

فالقائلون جاءت مرفوعة على الاستئناف وظاهرها أنها معطوفة على الظاعنين المنصوبة، وهذا شعر عربي فصيح من كلام العرب الأقحاح.

وأما ما يذكره بعضهم من روايات لا تصح مما ينقل عن عثمان وعائشة وعن بعض الصحابة من روايات مكذوبة في كتابة القرآن فإن هذا من أبطل الباطل ولا يصح من جهة الإسناد أبدًا ولذلك لا يجوز الالتفات إليه.

كما أنه يوجد توجيه آخر للآية التي نحن بصدد الحديث عليها لكن في ظني أنه في غاية التكلف والبعد، وهو أن يكون المعنى لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالمقيمين الصلاة يعني بالملائكة، وهذا قال به ابن جرير -رحمه الله، والذي حمله على هذا القول هو الإعراب، فأظن أن هذا في غاية البعد، لكن إذا عرفت هذه القاعدة زال الإشكال، أعني أن العرب إذا تطاولت صفة الواحد في المدح والذم فإنها تقطع -أي تحول من نصب إلى رفع أو العكس- ليكون ذلك أبلغ في مدحه وذمه، والله تعالى أعلم.

وقد أكثر العلماء من الكلام على بعض هذه المواضع في بعض كتبهم في التفسير، بل إن بعضهم ربما أفرد بعضها برسالة خاصة يذكر فيها المناقشات والأجوبة والوجوه كالكلام على قوله تعالى: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ [سورة طـه:63] وذلك أننا إذا قلنا: إن إِنْ مخففة من الثقيلة فهي ناصبة هكذا إنْ هذين لساحران، فكيف قال: إنْ هذان؟

هذه المسألة ألَّف بعضهم فيها كتابًا في ذكر الأجوبة عليها، ومن أقرب هذه الأجوبة أن هذا جاء على لغة بعض العرب الذين يُلزمون المثنى الألف دائمًا -في النصب والرفع والجر- وشاهد ذلك قول الشاعر:

إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها

فلم يقل: غايتيها؛ باعتبار أن إبقاءها على حالتها –بالألف- لغة صحيحة، والله أعلم.       

وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النساء:162] أي: يصدقون بأنه لا إله إلا الله، ويؤمنون بالبعث بعد الموت، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.

وقوله: أُوْلَئِكَ هو الخبر عما تقدم سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا يعني: الجنة.

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ۝ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ۝ رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [سورة النساء:163-165].

قال محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس -ا -قال: قال سُكَين وعَديّ بن زيد: يا محمد، ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى فأنزل الله في ذلك من قولهما: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ [سورة النساء:163] إلى آخر الآيات.

مثل هذه الرواية لا تخلو من ضعف، وكذلك محمد بن أبي محمد فيه ضعف، لكن العلماء يتساهلون في الرواية في التفسير وفي السير؛ لأنهم لو طبقوا عليها شروط المحدّثين لذهب كثير من هذه المرويات.

فذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد ﷺ كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين فقال: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ [سورة النساء:163] إلى قوله: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة النساء:163]، والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود -.

وقوله: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [سورة النساء:164] أي: من قبل هذه الآية، يعني: في السور المكية وغيرها.

وهذه تسمية الأنبياء الذين نصَّ الله على أسمائهم في القرآن، وهم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، والْيَسَع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين، وسيدهم محمد ﷺ.

يقول الله : وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا [سورة النساء:163] وهو اسم الكتاب الذي أتاه الله داود، وبغض النظر عن هذه التسمية ما أصلها وما معناها إلا أن الآية نص صريح في أن الله أنزل على داود -عليه الصلاة والسلام- الزبور، وهذا أمر لا يحتاج إلى تنبيه إلا أن العجيب أن ظاهر كلام أحد المفسرين الذي قرأته مرارًا لم أفهم منه معنى سوى أن الزبور ليس من عند الله وأن الإنجيل ليس من عند الله!! وهذا أمر عجيب! وإن كان في آخر كلامه ما يناقض هذا الفهم تمامًا، حتى إننا أردنا أن نتأول له لكن عبارته لا تساعد على ذلك، والأعجب من ذلك -مع أن كلًا يؤخذ من قوله ويرد- أنك تجد من يثني على هذا المفسر ويعظمه غاية التعظيم، ولو وقع هذا الخطأ لشخص آخر يشنؤه هذا المادح لأقام الدنيا ولأقعدها عليه ولكفره ولما ترك شيئًا من الأوصاف السيئة إلا ألحقها به.

قوله: "وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين" يشير فيه إلى أن بعض المفسرين يقول: إن ذا الكفل هو ابن أيوب ﷺ وبعضهم يقول: هو رجل صالح وحكم عادل ولم ويكن من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

وابن جرير -رحمه الله- توقف في هذا، لكن الله ذكره في سياق الأنبياء كما في سورة الأنبياء وكما في سورة ص وهذا يقتضي أنه من جملة الأنبياء فيما يظهر، والله تعالى أعلم.

وقوله: وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [سورة النساء:164] أي: خلقًا آخرين لم يذكروا في القرآن.

قوله: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164] وهذا تشريف لموسى بهذه الصفة؛ ولهذا يقال له: الكليم.

وقد روى الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه عن عبد الجبار بن عبد الله قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عيَّاش فقال: سمعت رجلًا يقرأ: "وكلم اللهَ موسى تكليمًا" فقال أبو بكر: ما قرأ هذا إلا كافر، قرأتُ على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثَّاب، وقرأ يحيى بن وثَّاب على أبي عبد الرحمن السَّلْمِيّ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي عَلَى عَلِيِّ بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله ﷺ: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [سورة النساء:164].

وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش -رحمه الله- على مَن قرأ كذلك؛ لأنه حَرّف لفظ القرآن ومعناه، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلَّم موسى أو يكلِّمُ أحدًا من خلقه.

يعني أن ابن عياش تكلم في قضية معينة عن رجل بعينه من المعتزلة حرف الآية، وتحريف القرآن كفر كما هو معلوم، فقال عنه ما قال، وإلا فإن القراءة بالنصب مروية عن بعض التابعين -إن ثبت ذلك عنهم- وإن كانوا قلة كإبراهيم النخعي، لكن في هؤلاء غاية ما يقال عنهم: إن هذه القراءة إن لم تثبت فهذا من قبيل الخطأ بحسب ما بلغهم، لكن إن صدر ذلك ممن يحرف ويتعمد هذا كبعض المعتزلة فهذا كفر، وفي هذا قال ابن عياش ما قال، فالعالم قد يقول المقالة في مناسبة معينة لكنه لا يقصد تعميم ذلك، فهناك فرق بين من حرَّف أو تعمد التحريف أو اتبع هواه، وبين من قرأ بها وهو يظن أنها من القراءة أو قرأ مخطئًا، فقد يقرأ بعض العامة هذا على سبيل الخطأ فلا يقال: هذا كافر، فابن عياش يتحدث عن حالة معينة

ولذلك تجد في كلام العلماء -رحمهم الله- أشباه هذا كثيرًا، فلو تأملت في كلام المحدّثين لوجدت يحيى بن معين يسمع حديثًا ويقول: من هذا الكذاب -يعني راوي الحديث- فيقوم رجل ويقول: أنا، فيبتسم له ويقول: لست بكذاب، فهو –رحمه الله- يقصد إبطال الخبر فبالغ في كلامه على الراوي، فلما قام قال له ما قال ليدل على أنه لم يقصد تكذيبه وإنما قصد المبالغة في رد الخبر.

كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: "وكلم اللهَ موسى تكليما" فقال له: يا ابن اللَّخْنَاء فكيف تصنع بقوله تعالى: وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف:143] يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.

وكذلك ماذا يصنع هذا المحرِّف بقوله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا [سورة مريم:52] فالنداء والمناجاة كلها من الكلام ولا يمكن احتمال أن يكون المنادي هو موسى -عليه الصلاة والسلام- فالنداء هو صوت رفيع -كما يقول ابن القيم –رحمه الله- يعني أعلى من مجرد المكالمة والمخاطبة.

وقوله: رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [سورة النساء:165] أي: يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات وينذرون من خالف أمره وكذَّب رسله بالعقاب والعذاب.

وقوله: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [سورة النساء:165] أي: إنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة وبيَّن ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه؛ لئلا يبقى لمعتذر عذر كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى [سورة طـه:134] وكذا قوله تعالى: وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ الآية [سورة القصص:47].

وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: قال رسول الله ﷺ: لا أحَدَ أغَيْرُ من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظَهَر منها وما بطن، ولا أحدَ أحبُّ إليه المدحُ من الله  من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحدَ أحَبُّ إليه العُذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين[2] وفي لفظ: من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه[3].

الحجة في قوله تعالى: لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ [سورة النساء:165] من أحسن ما تفسر به هي الآية الأخرى في سورة القصص: وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا [سورة القصص:47]. 

والحاصل أن الله سمى ذلك حجة وإن لم يكن في حقيقة الأمر حجة؛ لأن الله قد أرسل رسله وأنزل كتبه تفضلًا على الناس وإلا فالخلق خلق الله -تبارك وتعالى- والملك ملكه، والله –تبارك وتعالى- عليم حكيم، فلم يترك ذلك لمقتضى علمه فيحاسب الناس عليه بل أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، ثم ظهر مقتضى هذا العلم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، والله يقول: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ [سورة التغابن:2] وقال: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا [سورة الإنسان:3] وقال: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [سورة البلد:10] وقال: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ [سورة عبس:20] على أحد المعنيين في الآية.

لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلًا بَعِيدًا ۝ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ۝ إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيرًا ۝ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا [سورة النساء:166-170].

لما تضمن قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ.. إلى آخر السياق، إثبات نبوته ﷺ والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب، قال الله تعالى: لَّكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أي: وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب، وهو القرآن العظيم الذي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت:42] ولهذا قال: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [سورة النساء:166] أي: في علمه[4] الذي أراد أن يطلع العباد عليه، من البينات والهدى والفرقان وما يحبه الله ويرضاه وما يكرهه ويأباه، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرَّب إلا أن يُعْلِمَه الله به كما قال تعالى: وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء [سورة البقرة:255] وقال: وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا [سورة طـه:110].

المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في قوله تعالى: أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ [سورة النساء:166] قد لا يكون عند التأمل بتلك الدرجة من الوضوح وذلك أنه قد يستشكل، حيث يقول: "في علمه الذي أراد أن يُطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان" فهل المقصود أنه أنزله متضمنًا لعلمه؟ إذا كان هذا هو المراد فهو واضح، ويدل على أن هذا المعنى مراد من خلال نسخة أخرى يقول فيها: "فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه" وهي أصح من أن يقال: في علمه.

كما أن الكلام يكون صحيحًا واضحًا باعتبار أن حروف الجر تتناوب فيقال: أي أنزله بعلمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه، أي أن الباء ضمنت معنى في، والمعنى أنه يحتوي على علمه بالأشياء التي أراد -تبارك وتعالى- أن يظهرها للعباد، وما فيه من الهداية.

وهذا المعنى وجهه ظاهر، لكن يمكن أن يقال بمعنى أوضح من هذا -وهو معنى مغاير: أنزله بعلمه أي: إنزالًا متلبسًا بعلمه، فالله -تبارك وتعالى- أنزله وهو يعلم أن هذا الكتاب هو الذي يكون به صلاح أحوال البشر، وأنزله على نبيه ﷺ بواسطة جبريل -عليه الصلاة والسلام- فهو يعلم ما فيه صلاحهم ويعلم صلاح جبريل ومحمد –عليهما الصلاة والسلام- لتبليغ هذا الأمر، وإن كفر اليهود بهذا الدين بسبب أن جبريل هو الذي يأتي النبي ﷺ بالوحي لكراهيتهم لهما، قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ [سورة النحل:102] فجبريل هو الذي يتولى إنزاله من الله  على هذا النبي الخاتم -عليه الصلاة والسلام- والله عليم حكيم.

وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ [سورة النساء:166] أي: بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنزل عليك مع شهادة الله تعالى لك بذلك وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا [سورة النساء:166].

وقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلًا بَعِيدًا [سورة النساء:167] أي: كفروا في أنفسهم فلم يتبعوا الحق، وسَعوْا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه، وبَعُدُوا منه بُعدًا عظيمًا شاسعًا.

الكلام عن الصد قد سبق بيانه وخلاصته أنه إما أن يقال: إنها لازمة، فيكون المعنى أنهم صدوا أنفسهم عن معرفة الحق واتباعه أو صدوا غيرهم عن ذلك بالوسائل المختلفة المعروفة، والمعنيان صحيحان، والله أعلم.

ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه بأنه لا يغفر لهم وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا [سورة النساء:168] أي سبيلًا إلى الخير إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ [سورة النساء:169] وهذا استثناء منقطع خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا الآية [سورة النساء:169].

يقول تعالى عن الكافرين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا [سورة النساء:168] أي: لن يهديهم سبيلًا إلى الخير والهدى والإيمان أو التوبة، ثم قال: إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ [سورة النساء:167-168] قال ابن كثير: "وهذا استثناء منقطع" وهو كذلك؛ لأن هداية هؤلاء إلى جنهم ليست من الهداية المنفية عنهم في الآية السابقة، بمعنى أن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه، لكن إذا قلنا: إن الاستثناء وقع من الطريق، فالطريق تحمل على أعم الأحوال، فيكون على هذا من قبيل الاستثناء المتصل، والله أعلم.

وهذه الآية في الكافرين الذين أصرُّوا على الكفر وماتوا على ذلك؛ وإلا فإن الله قد هدى طوائف من الكفار ممن كانوا في غاية المحاربة لرسوله ﷺ وما جاء به، وهذا الجواب يقال في نظائر هذه الآية مما نفى الله فيها الهداية عن أقوام ذكر أوصافهم كقوله تعالى: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة البقرة:258] وكقوله: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:264] وكقوله: وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [سورة المائدة:108] وهذا يحمل على الذين يصرون على هذه الصفات ممن سبق في علم الله تعالى أنهم لا يؤمنون، والله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ [سورة النساء:170] أي: قد جاءكم محمد -صلوات الله وسلامه عليه- بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه يكن خيرًا لكم.

هذه العبارة من ابن كثير -رحمه الله- تبين وجه نصب لفظة "خيرًا" من قوله : فَآمِنُواْ خَيْرًا لَّكُمْ [سورة النساء:170] وذلك أنه إذا قيل: بماذا نصبت لفظة "خيرًا"؟ فإنه يقال: نصبت بـ"كان" المقدرة كما قال بعض النحاة كالكسائي وكما قال ابن كثير –رحمه الله: "فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه يكن خيرًا لكم"، فابن كثير ذكرها في التفسير وهي مقدرة في الإعراب، فإن قيل: وما هو اسم كان؟ يقال: الإيمان، يعني: يكون الإيمان خيرًا لكم.

والخلاصة أن "خيرًا" خبر لكان المحذوفة، وهذا أحد الأوجه في تعليل النصب وهو من أقربها، والله أعلم.

ثم قال: وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ [سورة النساء:170] أي: فهو غني عنكم وعن إيمانكم ولا يتضرر بكفرانكم كما قال تعالى: وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم:8] وقال هاهنا: وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا [سورة النساء:170] أي: بمن يستحق منكم الهداية فيهديه، وبمن يستحق الغواية فيغويه حَكِيمًا أي: في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
 
  1. أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء - باب قوله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا [سورة مريم:16] (3257) (ج 3 / ص 1270).
  2. أخرجه البخاري في كتاب التوحيد - باب قول النبي ﷺ: لا شخص أغير من الله (6980) (ج 6 / ص 2698) ومسلم في كتاب التوبة - باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (2760) (ج 4 / ص 2113).
  3. صحيح مسلم في كتاب التوبة - باب غيرة الله تعالى وتحريم الفواحش (2760) (ج 4 / ص 2113).
  4. في نسخة "فيه علمه" وهي الأصوب والله أعلم".

مواد ذات صلة