بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى [سورة النجم:42-55].
يقول تعالى: وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى أي: المعاد يوم القيامة.
روى ابن أبي حاتم عن عمرو بن ميمون الأوْديّ قال: قام فينا معاذ بن جبل فقال: يا بني أود، إني رسول رسول الله ﷺ إليكم، تعلمون أن المعاد إلى الله، إلى الجنة أو إلى النار.
وقوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى أي: خلق في عباده الضحك، والبكاء وسببهما، وهما مختلفان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقوله -تبارك وتعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى يقول: أي خلق في عباده الضحك والبكاء، وسببهما، من أهل العلم من فسره بلازمه، فقالوا: أَضْحَكَ وَأَبْكَى أسعد قوماً، وأشقى آخرين، وهذا ليس تفسيراً بالمطابق، وتفسيره على ظاهره أن الله -تبارك وتعالى- أضحك قوماً وأبكى آخرين، يُضحك معناه -كما في عبارة ابن كثير هنا- خلق في عباده الضحك، ضَحِكَ؛ لأنه حصل له مثلاً ما يسره، وهذا لماذا بكى؟ حصل له ما يتأذى به، ففسرها بمجموع الأمرين.
ويقول ابن جرير -رحمه الله: أضحك أهل الجنة وأبكى أهل النار، وأضحك قوماً في الدنيا وأبكى أيضاً، يُضحك من يشاء من أهل الدنيا، ويُبكي آخرين، فهو محمول على ظاهره، أَضْحَكَ وَأَبْكَى، أضحك قوماً وأبكى آخرين، ولازم ذلك أن هذا يضحك مسروراً مثلاً، أو لغير ذلك من الأسباب والدواعي، وهذا يبكي لما يتأذى به.
يعني: أن الله خلق هذه الأشياء الدالة على قدرته، وهي متقابلة، الحياة والموت نقيضان، والضحك والبكاء ضدان، كما خلق الليل والنهار، والعافية والمرض، والقوة والضعف، والذكر والأنثى، فهذا كله يدل على قدرته .
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى "الزوجين" يعني النوعين أو الصنفين، الذكر زوج، والأنثى زوج، وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى، أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ [سورة الواقعة:58]، بمعنى: ما يصب في الأرحام، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى، والنطفة تقال للماء القليل، يقال: نطفة، تقول: هذا ينطف، القربة تنطف، فهذا القليل يقال له: نطفة.
ومن أهل العلم من يقول: مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى يعني: تُقدّر، يقدر منها الولد مثلاً، وهذا وإن كان يصح وجهه في اللغة إلا أن المشهور والأكثر في الاستعمال تفسيره بما سبق، مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى إذا تصب، يقال: أمنى بمعنى أخرج المني.
وقوله تعالى: وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الأخْرَى أي: كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى أي: مَلّك عباده المال، وجعله لهم قُنْيَة مقيما عندهم، لا يحتاجون إلى بيعه، فهذا تمام النعمة عليهم، وعلى هذا يدور كلام كثير من المفسرين، منهم أبو صالح، وابن جرير، وغيرهما، وعن مجاهد: أَغْنَى: مَوّل، وَأَقْنَى: أخدم، وكذا قال قتادة.
وقال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- ومجاهد أيضا: أَغْنَى أعطى، وَأَقْنَى رَضّي.
أَغْنَى بمعنى أعطى الغنى، وَأَقْنَى بمعنى أرضى بما أعطى، وأشرت إلى هذا المعنى في الليلة الماضية في الكلام على الرضا، ومن أهل العلم من يقول: إن أَغْنَى أعطى الغنى، وَأَقْنَى يعني: جعل للإنسان قنية، يعني ما يقتنيه من الأثاث والرياش وما أشبه ذلك.
قوله: كانت طائفة من العرب يعبدونه، هذا جواب على سؤال مقدر، وهو أن الله -تبارك وتعالى- هو رب كل شيء ومليكه، فلماذا خص الشعرى وهو رب الجميع؟ فيقال: لأن العرب منهم من عبده فقال الله: وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى، هذا هو السبب.
وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى، هل يوجد عاد ثانية؟ لماذا قال الله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأولَى؟
بعض أهل العلم يقول: لأنهم جاءوا قبل ثمود، عاد الأولى، وبعضهم يقول: إن عاداً أعني قوم هود -عليه الصلاة والسلام- هم عاد الأولى، وقوم صالح وهم ثمود عاد الثانية، وهذا بعيد.
ومنهم من يقول: إنه قيل لهم الأولى؛ لأن الله أهلك قوم نوح فكانوا أول من جاء بعدهم وكفر بالله -تبارك وتعالى، عَادًا الأولَى، ومنهم من يقول: إن عاداً منهم عاد الأولى، ومنهم عاد الثانية، يقولون: عاد الثانية هم إرم، وعاد الأولى هم قوم هود، عاد الأولى أهلكوا بالصرصر، وعاد الثانية أهلكوا بالصيحة، وهذا بعيد.
ولو قال قائل: إن ذكر الأولى لا يلزم منه وجود الثانية، عَادًا الأولَى يعني: المتقدمة، لا يلزم منه وجود ثانية، كما قال الله -تبارك وتعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى [سورة الأحزاب:33]، لا يلزم من هذا أن نفتش أين الجاهلية الثانية، فإذا قلنا: إن الجاهلية الأولى هي ما كان الناس عليه إبان مبعث النبي ﷺ، كانت المرأة تخرج مبدية لنحرها، فلا يوجد جاهلية مطلقة بعد بعث النبي ﷺ، يعني لا يصح أن نقول مثلاً: جاهلية القرن العشرين؛ لأن في هذا إزراء ببعثه ﷺ، ولا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين، لكن يمكن أن يقال: جاهلية في البلد الفلاني، في القبيلة الفلانية، في الناحية الفلانية، وما أشبه هذا، أما بإطلاق فهذا لا يوجد، جاهلية القرن لا يوجد، إلا بعد أن تأتي الريح الطيبة في آخر الزمان وتأخذ المؤمنين ولا يبقى على الأرض من يقول: الله الله، فعندئذٍ.
وفي قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى من حاول أن يوجد أولى وثانية قال: الأولى هي التي كانت زمن إبراهيم ﷺ، الناس الذين بعث فيهم إبراهيم -عليه الصلاة والسلام، والثانية في الوقت الذي بعث فيه محمد -عليه الصلاة والسلام، وبعضهم يقول: في زمن داود وسليمان، وهذا كله لا دليل عليه، فذكر الأولى لا يلزم منه وجود ثانية.
يقول: ويقال لهم: عاد بن إرمبن سام بن نوح ، بعض المؤرخين يذكرون بينهما عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
قوم ثمود أخبر الله كيف أهلكهم فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ [سورة فصلت:17]، وقوم عاد بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، فكل هؤلاء قص الله خبرهم في مواضع من كتابه.
وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى بقي فيهم نبي كريم من أنبياء الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، ومع ذلك كذبوه وأصروا على كفرهم، فدعا عليهم بالهلاك، تصور قوماً يجلس فيهم نبي هذه المدة الطويلة ولا يحصل منهم الإيمان! فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى، المؤتفكة، وفي بعض المواضع بالجمع المؤتفكات، والمؤتفكة هذا مفرد لكنه يدل على معنى الجمع، كما قال الله : أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء [سورة النور:31] يعني الأطفال، فالمؤتفكة هي قرى قوم لوط، وهي بمعنى القلب، الملك رفعها ثم قلبها ثم أُتبعوا بالحجارة.
وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود؛ ولهذا قال: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى يعني: من الحجارة التي أرسلها عليهم وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين [سورة الشعراء:173].
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى أي: ففي أي نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري؟ قاله قتادة.
يعني تجادل وتشك.
أي أن هذا متوجه للإنسان وليس إلى النبي ﷺ، يعني الذين قالوا: متوجه إلى النبي ﷺ، ماذا قصدوا بذلك؟ يقولون: إن الخطاب يتوجه إليه والمقصود غيره، وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ [سورة الإسراء:23] ولم يكن له أب ولا أم -عليه الصلاة والسلام- حينما نزلت عليه هذه الآية، فالحاصل أن تفسير ذلك بالإنسان هو المشهور وهو الذي عليه عامة المفسرين، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى، والإبهام في قوله: فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى، ما قال: فغشاها الحجارة، فهذا أبلغ في التهويل والتعظيم والتخويف.
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [سورة النجم:56-62].
هَذَا نَذِيرٌ يعني: محمداً ﷺ مِنَ النُّذُرِ الأولَى أي: من جنسهم، أُرسل كما أرسلوا، كما قال تعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُل [سورة الأحقاف:9].
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى يقول: يعني محمداً ﷺ، ومن أهل العلم من يقول: هَذَا نَذِيرٌ يعني: ما أنذرتكم، يعني المذكور في هذه الآيات مما حصل لهؤلاء الأقوام المكذبين هَذَا نَذِيرٌ أي: ما أنذرتكم من الوقائع التي أنذرت لكم من النذر التي أنذرتها الأمم التي كانت قبلكم في صحف إبراهيم وموسى، فيكون هَذَا نَذِيرٌ إشارة إلى الكلام المتقدم الذي فيه الإنذار، وهذا اختيار ابن جرير هَذَا نَذِيرٌ هذا الذي سمعتم، هذا الذي ذُكر نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى مما أنذره الأقوام قبلكم في صحف إبراهيم وموسى، نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى.
وهنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول: يعني محمداً ﷺ نذير من النذر الأولى، هو الإشكال في هذه مِنَ النُّذُرِ الأولَى يعني: إذا فسر بمحمد ﷺ فهو متأخر جاء بعده، فعلى قول ابن كثير كيف وصفه بأنه من النذر الأولى؟
جوابه عن هذا أن يقول: أي من جنسهم، كما تقول: هذا من بني آدم، فـهَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى أي: من جنس النذر الأولى قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنْ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:9]، هذا جوابه.
ومن نظر إلى هذا الإشكال نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى وأراد أن يخرج منه ابتداءً قال: هذا لا يرجع إلى النبي ﷺ وإنما يرجع إلى الكلام الذي بعده، هذا الذي سمعتم مما حصل وقصه الله من خبر هؤلاء المكذبين، هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى، وبهذا يكون لا إشكال في الكلام، واضح السبب الذي جعل بعضهم يقول: هو محمد ﷺ.
وهي القيامة، وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [سورة غافر:18]، أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1]، عبر عنه بالماضي لقرب وقوعه أو لتحقق وقوعه، أَتَى فهي قريبة، لشدة قربها قيل لها الآزفة، أزف زمانها، أزف وقوعها يعني قرب.
لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ أي: لا يدفعها إذاً من دون الله أحد، ولا يطلع على علمها سواه.
والنذير: الحذِر لما يعاين من الشر الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم، كما قال: إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد[1]، وفي الحديث: أنا النذير العريان[2] أي: الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئاً بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك فجاءهم عرياناً مسرعاً، وهو مناسب لقوله...
هذا احتمال، أنه لعجلته لم يتمكن من اللباس، وكثير من أهل العلم يفسر أنا النذير العريان أنه الرجل الذي خلع ثوبه وجعل يلوح به من بعيد لقومه ينذرهم ويحذرهم الجيش، فهو لا ينتظر حتى يصل إليهم فيدركهم الجيش، فيلوح لهم، يصعد على مكان مرتفع من بعيد ويلوح بثوبه، ينذرهم ويحذرهم ليستعدوا.
وفي قوله -تبارك وتعالى: لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ، عبارة ابن كثير -رحمه الله: أي لا يدفعها إذاً من دون الله أحد، ولا يطلع على علمها سواه، جمع بين المعنيين المذكورين في تفسير الآية، لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ يعني: إذا وقعت لا يستطيع أحد أن يدفعها، وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ [سورة الأنعام:17]، اللهم اكشف ما بنا من ضر يعني: ارفع وادفع، ارفع ما بنا من ضر، لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ إذا وقعت لا يستطيع أحد رفعها أو دفعها.
والمعنى الثاني: ولا يطلع على علمها سواه، هذا معنى آخر ذكره جماعة من السلف، لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ، لا يعرف أحد وقتها، متى هي، لم يكشف ذلك لملك مقرب ولا لنبي مرسل، قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً [سورة الأعراف:187]، فعلمها مختص بالله -تبارك وتعالى، إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [سورة لقمان:34].
وهو مناسب لقوله: أَزِفَتْ الْآزِفَةُ أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة، كما قال في أول ال [سورة التي بعدها: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [سورة القمر:1].
وروى الإمام أحمد عن سهل بن سعد -رضي الله تعالى عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: إياكم ومحقّرات الذنوب، فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا ببطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه[3].
وهذا يذكر أيضاً في قوله -تبارك وتعالى: إِلَّا اللَّمَمَ [سورة النجم32]، لا يجترئ الإنسان على معاصي الله ويقول: إِلَّا اللَّمَمَ، فأين التقوى؟
ثم قال تعالى منكرا على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهّيهم: تَعْجَبُونَ من أن يكون صحيحا، وَتَضْحَكُونَ منه استهزاء وسخرية، وَلا تَبْكُونَ أي: كما يفعل الموقنون به، كما أخبر عنهم: وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [سورة الإسراء:109].
وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ قال سفيان الثوري عن أبيه عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: الغناء، هي يمانية.
يعني لغة يمانية، يعني أهل اليمن يقولون ذلك.
اسْمِد لنا: غَنّ لنا، وكذا قال عكرمة.
وفي رواية عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: سَامِدُونَ: معرضون. وكذا قال مجاهد، وعكرمة.
هذا هو المشهور في تفسيره، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ أي: لاهون، والغناء هو من جملة اللهو بلا شك، بل هو من أقبح اللهو، فبعضهم يقول: كانوا إذا سمعوا النبي ﷺ يقرأ القرآن أو سمعوا أحداً يقرأ القرآن جلسوا يغنون استهزاء وسخرية وشغباً عليه؛ ولئلا يسمعوه، ولئلا يسمع أحد، وعناداً ومضايقة له، يجلس يغني؛ لشدة العناد، الإنسان المعتوه الذي لا يريد أن يسمع الحق إذا سمع أحداً يتكلم به جعل يغني مكابرة واستهزاء وإعراضاً، وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ، فالحاصل: أنتم لاهون معرضون، فمن كان يغني إذا سمعه فهو داخل في عموم هذا المعنى.
ثم قال تعالى آمراً لعباده بالسجود له والعبادة المتابعة لرسوله ﷺ والتوحيد والإخلاص: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا أي: فاخضعوا له وأخلصوا ووحدوا.
روى البخاري عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- قال: "سجد النبي ﷺ بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس"[4]، انفرد به دون مسلم.
روى الإمام أحمد عن جعفر بن المطلب بن أبي وَدَاعة -رضي الله تعالى عنه- قال: قرأ رسول الله ﷺ بمكة سورة النجم، فسجد وسجد من عنده، فرفعتُ رأسي وأبيتُ أن أسجد، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب، فكان بعد ذلك لا يسمع أحدًا يقرؤها إلا سجد معه[5]، وقد رواه النسائي في الصلاة.
آخر تفسير سورة النجم، ولله الحمد والمنة.
- رواه الإمام أحمد في المسند، برقم (2544)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
- رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب الانتهاء عن المعاصي، برقم (6482)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب شفقته ﷺ على أمته ومبالغته في تحذيرهم مما يضرهم، برقم (2283).
- رواه أحمد في المسند، برقم (22809)، وقال محققوه: "إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3102).
- رواه البخاري، أبواب سجود القرآن، باب سجود المسلمين مع المشركين والمشرك نجس ليس له وضوء، برقم (1071).
- رواه أحمد في المسند، برقم (15465)، وقال محققوه: "صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف، جعفر بن المطلب بن أبي وداعة السهمي روى عنه اثنان، ولم يؤثر توثيقه عن غير ابن حبان، وقال ابن حجر في "التقريب": "مقبول، وبقية رجاله ثقات، إبراهيم بن خالد، ورباح بن زيد: هما الصنعانيان"، والنسائي، كتاب صفة الصلاة، باب السجود في النجم، برقم (958).