الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(07- ا) الباب السابع الناسخ والمنسوخ
تاريخ النشر: ١٠ / ذو القعدة / ١٤٣٥
التحميل: 1965
مرات الإستماع: 1460

"الباب السابع في الناسخ والمنسوخ:

النَّسخ في اللغة هو الإزالة والنَّقل.

ومعناه في الشَّريعة: رفع الحكم الشَّرعي بعدما تقرره، ووقع في القرآن على ثلاثة أوجهٍ".

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد: هذه المقدّمات -كما عرفنا- هي بمنزلة رسالة مُستقلة في علوم القرآن وأصول التفسير، هذا بالإضافة إلى أنَّ هذه القضايا التي يذكرها يُحتاج إليها كثيرًا في ثنايا التفسير، وهي تُبيّن ما يسير عليه المؤلف، ويختاره، ويعتمده في كلامه الذي سيمرّ بنا -إن شاء الله تعالى- في تفسير الآيات.

فعلى سبيل المثال: حينما يتحدّث عن النَّسخ مثلًا، وما سيأتي من أنَّ آية السيف نسَخَت مئةً وأربعًا وعشرين آية، أو مئةً وأربع عشرة آية، فإنَّ هذا سيُقرره عند ذكر هذه الآيات، والكلام على معانيها.

وهكذا حينما يتحدّث عن جملةٍ من القضايا المتصلة بالتجويد، أو البلاغة، وما يذكره من مُصطلحات؛ فهو يُعرّف بها في البداية؛ ليُعْرَف مُراده، فيذكر ذلك في هذه المقدّمة.

وهكذا أيضًا ما يذكره من الغريب، فإنَّه حينما يأتي على مثل هذه الألفاظ يكون قد تكلّم عليها -على معانيها- في المقدّمة، فلا يحتاج إلى تكرارٍ.

نحن بحاجةٍ إلى هذا للأمرين: أنَّ هذه تُعتبر دراسة مُستقلة، وهذه المقدّمة من أنفع مُقدّمات التفسير، ويحتاجها مَن ينظر في هذا الكتاب، ولا بدَّ من معرفة مُراد المؤلف، واصطلاحات المؤلف؛ ليُنزّل كلامه على مُراده.

يذكر النَّسخ هنا في اللُّغة فيقول: بمعنى: الإزالة والنَّقل.

هذا هو المشهور: الإزالة والنَّقل.

الإزالة هي التي يُعبِّرون عنها بالرَّفع، يقولون: الرَّفع والنَّقل، فإذا رأيت في كتب أهل العلم في النَّاسخ والمنسوخ، أو في كتب أصول الفقه، أو في كتب علوم القرآن يقولون: معنى النَّسخ في اللغة: هو الرَّفع، هنا بمعنى: الإزالة أو النَّقل، فهذان معنيان.

وبعضهم يُعبّر عن النَّقل فيقول: أو ما يُشبه النَّقل والإزالة، كقوله -تبارك وتعالى-: فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ [الحج:52] يعني: يُبطله، يُمثّلون عليه عادةً يقولون: نسخت الريحُ الأثرَ، بمعنى: أزالته.

فهذا بمعنى: الإزالة، والمحو، والرَّفع، ونحو ذلك.

وأما النَّقل: فيمكن أن يُمثّل لذلك بقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29]، لاحظ هنا: هذا ليس بنقلٍ محضٍ، وإنما يُشبه النَّقل، ومن هنا يُقال: النَّقل، أو ما يُشبه النقل؛ باعتبار أنَّ ذلك على وجهين، فيما يتّصل بالنسخ من هذه الحيثية فهو على وجهين: قد يكون النقلُ مع بقاء الأصل، تقول: نسخت الكتاب، بمعنى: نقلته، والأصل باقٍ. لكن حينما يُقال بتناسخ المواريث، فهل يبقى الميراثُ في الأصل؟

الجواب: لا، ينتقل.

وهناك عقيدة فاسدة يُقال لها: عقيدة تناسخ الأرواح، لعلكم جميعًا سمعتم بذلك، وهي عقيدة من العقائد الباطلة، يقولون: إذا مات الإنسانُ انتقلت روحُه إلى غيره؛ فإن كان مُحسنًا انتقلت إلى موضعٍ تتنعّم به، وإذا كان مُسيئًا انتقلت إلى موضعٍ، يعني: إلى ذاتٍ أخرى تشقى بها. وهذه عقيدة فاسدة.

فبالنسبة لمرادهم: أنَّ النسخ هنا أو التناسخ هل يكون له بقاءٌ في الأصل؟

الجواب: لا.

فعلى هذه العقيدة الباطلة يقصدون أنَّ الروح تنتقل، فلا يكون لها بقاء في الموضع الأول، وإنما تنتقل إلى ...

إذًا يقولون: النَّقل، أو ما يُشبه النَّقل؛ فالنَّقل يكون على حالين: الأولى مع بقاء الأصل: كنسخ الكتاب، والثانية مع عدم بقاء الأصل؛ ولذلك فإنَّ بعضهم لا يُعبّر بالنَّقل في هذه الصورة التي لا يبقى معها الأصل، وإنما يقولون: التَّحويل؛ ولذلك فإنَّ بعضهم يزيد في معناه في اللغة على هذين المعنيين: الرفع والنَّقل. يقولون: الرَّفع، والنَّقل، والتَّحويل.

وكذلك أيضًا بعضهم يزيد معنًى آخر، الذي هو: التَّبديل، يقولون: وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ [النحل:101]، وهذا لا حاجةَ إليه؛ لأنَّه يرجع إلى معنى الرَّفع، فإنَّ هذا التبديل يقتضي الرفع -كما هو معلوم-، فلا حاجةَ لتكثير هذه المعاني، وإنما يُعنى بها عادةً أصحابُ الوجوه والنَّظائر، ومَن له عناية بتشقيق المعاني وتكثيرها، كما نجد في مثل كتاب "بصائر ذوي التَّمييز" للفيروزآبادي، مثل هؤلاء تجد أنَّهم يذكرون معانٍ كثيرة، والواقع أنَّ ذلك يرجع إلى معنًى واحدٍ، أو إلى معنيين، وأحيانًا يذكرون اثني عشر معنًى، يتتبعون الآيات، ويقولون: يأتي بمعنى كذا، ويأتي بمعنى كذا، والواقع أنَّها من قبيل الأمثلة.

وهذا ينبغي العناية به: النظر إلى المعاني، حتى في اللغة، فإنَّك إذا أردت أن تُعرّف شيئًا، فالصَّحيح أن تُرجع ذلك إلى أصله، إن كان له أصلٌ واحدٌ، أو إلى أصلين، أو نحو ذلك، ثم تذكر الباقي على سبيل التَّمثيل؛ ولهذا تجدون في الرسائل الجامعية في الماجستير والدكتوراه، والبحوث الجامعية، ونحو ذلك، ربما تُكتب الصَّفحات في التعريف اللُّغوي، وتُذكر معانٍ كثيرة، والواقع أنَّ هذا أحيانًا يرجع إلى معنًى واحدٍ كان ينبغي العنايةُ به، ثم بعد ذلك يُقال: ومنه كذا، ومنه كذا، ومنه قولهم كذا. على سبيل المثال، ويُختصر التَّعريف.

ومَن أراد أن ينحو هذا المنحى الصَّحيح -إن شاء الله- فإنَّه يرجع أول ما يرجع عند التعريف إلى كتب ابن فارس، كتاب "المقاييس في اللغة" الذي طُبِعَ باسم "معجم مقاييس اللغة"، وهو المقاييس على كل حالٍ: "المقاييس في اللغة"، ومثل كتابه الآخر "الـمُجمل"، فيرجع إلى هذه الكتب، فيجد أنَّ ابن فارس يُحيله إلى أصل المعنى، يقول: يرجع إلى معنًى واحدٍ، وهكذا.

فمثل النَّسخ نرجع فيه -في اللغة- إلى مثل ابن فارس، ثم بعد ذلك يتحدد المعنى الأصلي، ولا حاجةَ لتكثير هذه المعاني، فبعضهم يذكر أربعة معانٍ، والواقع أنَّه لا حاجةَ لذلك، والله تعالى أعلم.

هنا يقول أنَّ معناه في الشَّريعة: رفع الحكم الشَّرعي بعد تقرُّره.

العلماء -رحمهم الله- يُعنون في التَّعريفات بالاختصار، وهذا هو اللَّائق بها، وفي الوقت نفسه أيضًا لا يليق الشّغب على التَّعريفات كثيرًا، وإنما المقصود أن نُعرّف المراد بأقرب طريقٍ فيما يضبط المعرّف ويُوضّحه من غير تكلُّفٍ وتنقير؛ لأنَّ كثرةَ الشّغب على التَّعريفات -كما قال جمعٌ من المحققين من الأصوليين- ليس من سبيل الراسخين في العلم.

وقد ذكروا علّةَ ذلك، وهي: أن التَّعريفات التي أدقّها ما يُسمّى: التعريف بالحدِّ المطابق عند أهل المنطق، يقولون: هذا ... هم يعترفون بكثرة شغبهم، لربما ذكروا أكثر من عشرة تعريفات للشَّيء الواضح.

انظر مثلًا تعريف الخبر: لو رجعتَ إلى كتب الأصوليين -على سبيل المثال- المطوّلة، تجد أنَّ بعضهم يذكر أكثر من عشرة تعريفات للخبر، وكل تعريفٍ عليه اعتراضات، مع أنَّ الخبر قد يكون واضحًا لدى السامع، لكن هؤلاء في الوقت نفسه يعترفون بأنَّ التعريف بالحدِّ المطابق غير ممكن؛ لأنَّه لا يُحيط بذلك من كلّ وجهٍ -يعني: بحقيقة المعرَّف وأجزائه من كل وجهٍ- إلا الله -تبارك وتعالى-، فيبقى هناك أشياء تفوت، فيأتي مَن يستدرك، ويعترض.

ولذلك كان الشَّاطبي -رحمه الله- له منحًى جيد في هذه القضية في كتابه "الموافقات" يتمثل في أنَّ التنقير في مثل هذا أمرٌ لا طائلَ تحته، فالأشياء التي يُدركها كلُّ أحدٍ يكفي أن يُشار إليها، وما عدا ذلك فإنه يُعرّف بأقرب طريقٍ مما يُوضِّحه، ويُوصل المراد إلى السَّامع.

النَّسخ عند السَّلف يُطلق على البيان، استعمال السَّلف للنَّسخ واسع، ليس كاستعماله عند المتأخرين.

البيان بمعنى: أنَّ ما يعرِض للنَّص من تقييدٍ للمُطلق، أو تخصيصٍ للعام، أو بيانٍ للمُجمل، هذا كلّه من أنواع البيان عند أهل العلم، هذا كلّه من البيان، فهذا كلّه يقولون له: نسخ.

وتوجد أمثلة عن بعض السلف؛ عن ابن عباسٍ -رضي الله عنهما-، وغيره، لا يمكن أن تُفسَّر إلا بهذا، يعني: لا يمكن أن يُراد بها الرَّفع.

النَّسخ الاصطلاحي عند المتأخّرين لا يمكن أن يقول لك: هذه الآية نسختها التي بعدها، هو لا يقصد الرَّفع أبدًا.

وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، نسختها التي بعدها، يعني: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ يقول: نسختها التي بعدها، وهي: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، هل يُقصد بهذا الرَّفع؟

لا يُقصد به الرفع بحالٍ من الأحوال، وإنما المقصود به البيان؛ أنَّ ذلك يُوضّحه، فهنا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ هذا عام، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا هذا بدل مما قبله، فيكون من قبيل تخصيص العام.

فهذا بالإضافة إلى الرابع، يعني: هذه ثلاثة أشياء: تقييد المطلق، تخصيص العام، بيان المجمل. يبقى الرابع أيضًا الذي هو: الرَّفع، الذي هو النَّسخ الاصطلاحي.

فهذه أربعة أشياء، والسلف يُطلقون على البيان مطلقًا، يقولون له: نسخ، والواقع عند التَّأمل والتَّحقيق بعيدًا عن التَّنقير والتَّكلف الذي وقع فيه كثيرٌ من المتأخرين: أنَّ النسخ من جملة البيان.

ولا أريد أن أُطوّل في هذه المسألة، فإنَّ المتأخرين -لا سيّما من الأصوليين- لا يعتبرون النَّسخ من قبيل البيان، ويقولون: رفع، ويُرتّبون على هذا أحكامًا، يُرتّبون عليه أحكامًا في مسألة الآحاد: هل الآحاد -خبر الواحد- يُخصص المتواتر مثلًا؟ هل يُخصص القرآن؟ هل ينسخ؟

فيُفرِّقون، فتجد أنَّ الجمهور منهم يقولون: أنَّ خبر الواحد يُخصّص، ويُقيّد، لكنَّه لا ينسخ، لماذا؟

قالوا: لأنَّ التَّخصيص والتَّقييد بيان، والنَّسخ رفع، فلا يقوى على رفعه. يُرتِّبون عليه أحكامًا.

ونحن نقول: لا مشاحةَ في الاصطلاح إذا لم يُرتّب عليه حكمٌ.

فترتيب الأحكام على هذه الاصطلاحات الـمُحدَثة غير صحيحٍ، بل هذا عند السَّلف كلّه من قبيل البيان في الواقع، ويمكن أن نستدلّ على هذا بأمورٍ.

لا أُريد أن أتوسّع فيها، فإنَّ هذا يحتاج إلى مُقدّمات ربما يكون بعض الإخوان يحتاجون إليها قبل، وليكن قدر المستطاع الكلام في أمورٍ تتضح للجميع، لكن تُدرِك هذا المعنى: أنَّ السلف يُطلقون النَّسخ على معنًى أوسع مما نُطلقه عليه، المتأخّرون يُطلقونه على الرَّفع الذي يتكلمون عليه في أصول الفقه، في باب الناسخ والمنسوخ، وفي علوم القرآن، باب الناسخ والمنسوخ، وفي المؤلّفات المفردة الخاصّة في الناسخ والمنسوخ، لكن هذا القدر إذا عرفناه فإننا نحتاج إلى ذلك حينما ننظر في كتب التفسير أيضًا، وفي كتب الناسخ والمنسوخ التي تذكر الأقوال والآثار عن السلف.

فتجد مثلًا: أنَّ وقائع النَّسخ في القرآن، المشهور الذي عليه كلام أهل العلم قد لا يتجاوز إحدى وعشرين آية، وعند التَّحقيق نجد أنَّ الآيات التي وقع عليها النَّسخ فعلًا لا تتجاوز أصابع اليدين، بل لو قلت: إنها أقلّ من ذلك، لما كان ذلك بعيدًا.

لكن انظر، تجد الكتب المؤلفة في هذا "الناسخ والمنسوخ" للنحّاس في ثلاثة مجلدات، وعلى هذا يمكن أن يُقاس، تجد عشرات، بل مئات من الأمثلة التي وُجِدَت فيها دعاوى النَّسخ، ما السَّبب في هذا؟

أول سببٍ، وأهمّ سببٍ هو: أنَّ السلف يُطلقون النَّسخ، ويقصدون به البيان، فيأتي المؤلفُ كلّما قيل: هذه نسخت هذه، يأخذها، ويضعها في الكتاب، هذه قيل فيها بالنَّسخ، يقصد التَّخصيص هنا، وهنا يقصد التَّقييد.

فكثرت دعاوى النَّسخ، وصارت بالعشرات، أو المئات عند البعض، وهذا غير صحيحٍ، لكن لا بدَّ أن نعرف المنشأ، لماذا وقع ذلك؟

لهذا السَّبب، فنحتاج أن نُميّز.

فإطلاقه إذًا عند السلف واسع، أمَّا إطلاقه عند المتأخرين في الاصطلاح الخاصّ فهو الرابع منها -كما قلنا-: ما يعرض للنَّص من تقييدٍ، أو تخصيصٍ، أو بيانٍ للمُجمل، أو رفعٍ، هذا الرَّابع.

فهذا هو الذي يقصدونه بالمعنى الخاصّ، والذي عرَّفه به المؤلفُ هنا، قال: "رفع الحكم الشَّرعي بعد تقرره". اختصر التَّعريف جدًّا، وترك بعض العبارات التي يذكرها أهلُ العلم عادةً، وعباراتهم في هذا فيها تفاوت على كل حالٍ؛ فإنَّ بعضهم يقول: أنه رفع الحكم الشرعي بدليلٍ شرعيٍّ مُتراخٍ عنه -مثلًا-، أو رفع الحكم الثابت بخطابٍ مُتقدّم، بخطابٍ مُتراخٍ عنه.

"رفع الحكم الثابت بخطابٍ مُتقدّم"، يعني: هو ثبت بخطابٍ مقصودٍ، خطاب الشارع: "بخطابٍ مُتراخٍ عنه". فالرَّفع هنا ماذا نقصد به؟

نقصد به الإزالة، يعني: يرتفع الحكمُ الأول. فهنا يُرفع بخطابٍ هذا الحكم المتقدّم، "بخطابٍ مُتقدّم" يعني: ثبت بخطابٍ شرعيٍّ، وليس بالبراءة الأصلية.

يعني: حينما فُرِضَ صوم رمضان مثلًا، قبل رمضان ما كان يجب صوم رمضان، هل يُقال: هذا نسخ؟

هذا ليس بنسخٍ، يعني: في رمضان قبل فرض الصوم كان الأكلُ والشربُ مباحًا إباحةً شرعيةً، أو على البراءة الأصلية؟

على البراءة الأصلية، فهنا رَفْع البراءة الأصلية لا يكون نسخًا.

براءة الذّمّة نوعان: هناك براءة أصلية، بمعنى: الحالة التي كان عليها الناسُ قبل الحكم الشرعي، الأصل أنَّ الذمّة بريئة، فمثلًا عندنا خمس صلوات مفروضة، وقبل فرض هذه الصَّلوات هل كان في وقت الظهر مثلًا يجب على الناس أن يُصلّوا؟

الجواب: لا، فلمَّا تقرر هذا في هذا الوقت فُرِضت صلاة الظهر، هذا ليس من النَّسخ، وهكذا.

فرفع البراءة الأصلية ليس بنسخٍ، لكن رفع الإباحة الشَّرعية هذا يُعتبر نسخًا.

والفرق بين البراءة الأصلية والإباحة الشَّرعية هو: أنَّ البراءة الأصلية هي ما كان عليه الحال قبل ورود الشَّرع، الأصل براءة الذمّة، أمَّا الإباحة الشَّرعية: فهي الإباحة التي تقررت في هذا الحكم بعينه بالشَّرع.

تقول: ما حكم أكل لحم الفرس؟

أكل لحم الفرس مباح، هل الإباحة شرعية، أو براءة أصلية؟ يعني: ما سكت عنه الشارعُ فهو عفوٌ؟

الجواب: أنَّ الإباحة شرعية: "نحرنا فرسًا على عهد رسول الله ﷺ فأكلنا لحمه"[1]، هذه إباحة شرعية، هذه لو رفعت يكون ذلك من قبيل النَّسخ.

جاء الشرع والناس يأكلون لحم الحُمُر الأهلية، ثم بعد ذلك في عام خيبر حُرِّمت، هذا حكمٌ جديدٌ.

والمتعة أُبيحت، رخّص فيها النبيُّ ﷺ، هذه إباحة شرعية، ثُمّ بعد ذلك رُفع[2]، فتكون منسوخةً، هنا يُقال: هذا نسخٌ.

المقصود بصرف النَّظر عن الأمثلة، قد تختلف الأنظارُ في هذا المثال: هل الإباحة شرعية، أو أصلية؟ ليس بمهمٍّ، المهم أن نُدرك هذا القيد: رفع الإباحة الشَّرعية: نسخ، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخٍ، لكن لا بدَّ أن يكون الخطابُ الذي حصل به الرَّفع مُتراخيًا، لا بدَّ؛ لأنَّه لو كان متصلًا لكان ذلك من قبيل التَّقييد إن كان ذلك الخطاب من قبيل المطلق، أو التَّخصيص إن كان ذلك من قبيل العام.

مثل ما مثّلنا: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا، فهنا بعض الناس خرجوا من هذا -يعني: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ- وهم غير المستطيعين، لاحظت؟ هل هذا من قبيل النَّسخ؟

الجواب: لا، هذا ليس من قبيل النَّسخ، وإنما هو من قبيل التَّخصيص.

فلا بدَّ أن يكون مُتراخيًا عنه، فالمتصل هذا الذي يُسميه المتأخّرون: بالبيان، يعني: من قبيل التَّخصيص للعام، أو التَّقييد للمُطلق، وليس بنسخٍ.

طبعًا معرفة هذا الموضوع في غاية الأهمية؛ لأنَّه لا يحلّ لأحدٍ أن يتكلم في الفتيا، أو في معاني القرآن، أو في الأحكام إلا وهو يعرف الناسخ والمنسوخ، وإلا فإنَّه سيأتي بإشكالات حينما يتحدّث عن أحكامٍ قد رُفعت، ولا يُميز بين هذا الذي رُفِعَ، وما كان مُحكمًا لم يُرْفَع.

فهذه لا شكَّ أنها من الأسس –يعني: المبادئ- التي يحتاج طالبُ العلم إلى معرفتها، لا بدَّ من هذا، والله المستعان.

شيخ الإسلام -رحمه الله- يقول عن السَّلف: "كانوا يُسمّون ما عارض الآية ناسخًا لها"، يعني: كلّ ما يعرض لها، "فالنَّسخ عندهم: اسمٌ عامٌّ لكل ما يرفع دلالةَ الآية على معنى باطل"[3]، يعني: غير مُراد، يعني: لا يُفهم منها العموم مثلًا فجاء التَّخصيص، أو لا يُفهم منها الإطلاق فجاء التَّقييد، وهكذا.

يقول في موضعٍ آخر: "والمنسوخ يدخل فيه في اصطلاح السَّلف العام: كل ظاهرٍ تُرِك ظاهره لمعارضٍ راجحٍ، كتخصيص العام، وتقييد المطلق"[4].

ما تُرك ظاهره لمعارضٍ راجحٍ، هذا اصطلاحهم العام، لكن يبقى الاصطلاح الخاصّ هو الكلام على الرَّفع؛ رفع الحكم الشَّرعي بخطابٍ ...، أو رفع الحكم الثابت بخطابٍ مُتقدّم، وبخطابٍ مُتراخٍ عنه. هذا هو النَّسخ.

كلام ابن جزي -رحمه الله- هنا: "رفع الحكم الشَّرعي بعد تقرره"، لا بأسَ به، وإن كان لا يخلو من إجمالٍ، يعني: قضية التراخي هنا لم تُذْكَر، بعض أهل العلم يرى أنها ضرورية، لكن مَن لا يذكر هذا يقول: إنَّ هذا الرفع الحقيقي، الرفع بعد تقرره بهذا القيد لا يكون إلا للنَّسخ في اصطلاح المتأخرين.

وأولئك يقولون: الواقع أنَّ التقييد والتخصيص هو رفعٌ لبعض الأفراد، لكنَّها لم تكن مقصودة للمُتكلم ابتداءً. وهذا فرق بين النسخ، والتَّخصيص، والتَّقييد.

يعني: المتكلم حينما ذكر العام، وذكر الخاص بعده، أو ذكر المطلق، وذكر الخاص بعده، هو لم يكن يقصد منذ البداية دخول الأفراد التي أخرجها المخصص في كلامه، ما كان يقصد هذا، لكن في النَّسخ كانت داخلةً، حتى جاء دليلٌ آخر، خطابٌ آخر يرفعها، يعني: كان مقصودًا، ثم رُفِعَ.

أما تقييد المطلق، وتخصيص العام: فإنما جاء الدليلُ الآخر المتصل أو المنفصل ليُبين أنَّ هذا غير مرادٍ.

في قوله -تبارك وتعالى- مثلًا: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82]، (ظلم) نكرة في سياق النَّفي، فهي تُفيد العموم، أيّ ظلم، لكن النبي ﷺ بيّن أنَّه ظلمٌ خاصّ، بيّن ذلك في آية لقمان: لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

فإذًا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ حينما ذكر الشارعُ هذه الآية هل قصد بها ابتداءً جميع أنواع الظلم، ثم رُفِعت بعض أنواع الظلم، وبقي بعضُها؟

الجواب: لا، وإنما كان المقصود أنَّه ظلمٌ خاصّ، فجاء المخصص يُوضّح المراد.

فهذا من أبرز الفروق بين: النَّسخ، والتَّخصيص، والتَّقييد، هذا أبرز الفروق.

هناك فروق أخرى يذكرونها، قد يكون بعض هذه الفروق لا يخلو من إشكالٍ، كقولهم: أنَّ ذلك من قبيل المجاز، أو نحو هذا مما يذكرون، لا حاجةَ لمثل هذا.

"ووقع في القرآن على ثلاثة أوجه:

الأول: نسخ اللَّفظ والمعنى، كقوله: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإنَّه كفرٌ بكم"[5].

هذه كانت آية من القرآن، بصرف النَّظر هل هذا اللَّفظ بعينه، أو حصل فيه شيء من التَّصرف من قِبَل الرُّواة؟ لأنَّ ما نُسِخَ من القرآن –أعني: ما نُسِخَ لفظه- يمكن أن يجري عليه ما يجري على الحديث في مسألة الرِّواية بالمعنى، بخلاف القرآن الـمُحكم، فإنَّه يجب أن يُؤدَّى بألفاظه.

فهنا "لا ترغبوا عن آبائكم، فإنَّه كفرٌ بكم"، نُسخ اللَّفظ والمعنى، "لا ترغبوا عن آبائكم، فإنَّه كفرٌ بكم"، النَّسخ للفظ هذا لا إشكالَ فيه، لكن هل المعنى -الحكم هنا- مرفوع، أم ثابت؟

هذا ثابت: "فإنَّه كفرٌ بكم"، لكن كأنَّ المؤلف ذهب به ربما إلى الكفر المخرج من الملّة، وهذا غير مرادٍ، فإنَّ الكفر يُقال لما دون ذلك؛ كفر النِّعمة، الكفر العملي، والنبي ﷺ يقول: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[6].

فانتساب الإنسان إلى غير أبيه، أو إلى مواليه، هذا يُعدّ من كبائر الذنوب، وهو نوع كفرٍ، لكن ليس الكفرُ المخرج من الملّة، فهذا لا يُقال: إنَّه نُسِخ لفظه ومعناه، المعنى ثابت –يعني: الحكم هو المعنى-، المعنى مُتقرر، لكن ما نُسِخ لفظه ومعناه يمكن أن يُمثّل له بحديث عائشة -رضي الله عنها- في الرّضاع: "عشر رضعات يُحرّمن"[7]، عشر مُشبعات، فهذه كانت تُحرّم، يعني: كان التَّحريم في الرّضاع عشرًا، فهذا كان مما نزل في القرآن، فنُسِخَ لفظه، ورُفِعَ الحكمُ أيضًا، لم يعُد ذلك يُقيّد بعشرٍ، فنُسِخَ إلى خمسٍ، فهذا نسخ الحكم واللَّفظ، هذا مثالٌ صحيحٌ.

"والثاني: نسخ اللَّفظ دون المعنى، كقوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة؛ نكالًا من الله، والله عزيزٌ حكيمٌ"[8].

لاحظ في هذا المثال: "لا ترغبوا عن آبائكم، فإنَّه كفرٌ بكم"، هنا ذكر الحديث في الهامش: ليس من رجل ٍ ادَّعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر[9]، الحكم ثابتٌ، رواه البخاري.

الثاني: نسخ اللَّفظ دون المعنى، كقوله: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة؛ نكالًا من الله، والله عزيزٌ حكيمٌ"، اللَّفظ دون المعنى، هذه كانت آية، والمقصود بالشيخ والشيخة يعني: الـمُحْصَن، فهنا رُفِعَ اللَّفظ، وبقي الحكمُ؛ لأنَّ الرجمَ ثابتٌ، ما رُفِعَ، فهذا نوعٌ آخر من النَّسخ.

"الثالث: نسخ المعنى دون اللَّفظ، وهو كثيرٌ، وقع منه في القرآن على ما عدَّ بعضُ العلماء مئتا موضعٍ، وثنتا عشرة مواضع منسوخة، إلَّا أنَّهم عدّوا التَّخصيص والتَّقييد نسخًا، والاستثناء نسخًا، وبين هذه الأشياء وبين النَّسخ فروقٌ معروفة، وسنتكلم على ذلك في مواضعه.

ونقدّم هنا ما جاء من نسخ مسالمة الكفَّار، والعفو عنهم، والإعراض، والصَّبر على أذاهم: بالأمر بقتالهم؛ ليُغني ذلك عن تكراره في مواضعه، فإنَّه وقع منه في القرآن مئة آية، وأربع عشرة آية من أربع وخمسين سورة".

هنا يقول: هذا وقع في القرآن كثيرًا، وذكر ما ذكره بعضُ أهل العلم من أنَّ هذا أكثر من مئتي آية، وكما قلتُ: الواقع أنَّه ليس كذلك، وهو أشار إلى السَّبب؛ من أنهم يعدّون ما كان من قبيل التَّخصيص والتَّقييد، أنَّ ذلك من النَّسخ، وهذا غير صحيحٍ.

وأمَّا آية السيف التي عدَّ هذه الآيات التي ادُّعي أنها نسختها، المقصود بآية السيف هي الآية الخامسة من سورة براءة: فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، فهذه آية السيف، يقولون: نسخت هذا القدر.

هنا قال: نسخت مئةً وأربع عشرة آية.

وكثيرٌ من أهل العلم يقولون: أنها نسخت مئةً وأربعًا وعشرين آية، وليس مئةً وأربع عشرة آية، ذكره جمعٌ من أهل العلم: كالمقرئ في "الناسخ والمنسوخ"[10]، وابن الجوزي أيضًا في كتابه "نواسخ القرآن"[11]، والسَّخاوي في "جمال القُرّاء"[12]، والسيوطي في "مُعترك الأقران"[13]، وكذلك في "الإتقان"[14]، ذكروا هذا العدد: مئة وأربعًا وعشرين آية.

لكن ابن حزم في "الناسخ والمنسوخ" ذكر أنها مئة وأربع عشرة آية في ثمانٍ وأربعين سورة[15]، وهنا المؤلف ذكر أربعًا وخمسين سورة.

وهبة الله ابن سلامة له رسالة صغيرة في "الناسخ والمنسوخ"[16]، وكذلك ابن العربي، ذكرا: أنها مئة وأربع عشرة آية، لكن المشهور أنها مئة وأربع وعشرون آية.

هنا في الهامش يُعلّق فيقول: لم يذكر هنا حسب النُّسخ التي بحوزتنا إلا اثنتين وخمسين سورةً فقط، وهو يقول: أربع وخمسون –يعني: المؤلف-.

الواقع أنَّ الذي ذكره المؤلف ما هو باثنتين وخمسين، وإنما ثلاث وخمسون، ومع آية براءة النَّاسخة لهذا يكون المجموع أربعًا وخمسين، يعني: أربعًا وخمسين سورة، يعني: الذي ذكره المؤلفُ ثلاثًا وخمسين، ما هو باثنين وخمسين، فإذا وضعت معها آية براءة النَّاسخة؛ يكون المجموع أربعًا وخمسين، فما ذكره المؤلفُ مُوافقٌ للعدد الذي صرّح به، لكن -كما سبق- العلماء يقولون: ثمان وأربعون سورة، لكن الراجح أنَّ هذه الآيات لم تُنسخ بآية براءة، آية السَّيف.

هم يقولون: كل آيةٍ فيها عفوٌ وصفحٌ وإعراضٌ عن المشركين وتجاوزٌ فهي منسوخة بآية السيف، نُسِخَت كلّ الآيات التي فيها إعراضٌ عنهم، وعفوٌ، وقل: سلام.

بل قال بعضُهم: إنَّ قوله -تعالى-: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ [التين:8] منسوخٌ بآية السيف، هم لا يقصدون أنَّ الله ليس بأحكم الحاكمين، هم يقصدون أنها قِيلت في سياقٍ، يعني: دعهم لله ، والله يتولى عباده، ولا شأنَ لك بهم.

يقولون: هذا نُسِخَ بآية السيف، إمَّا أنهم يلتزمون شرائع الإسلام، ويدخلون في دين الله ، أو إن كانوا من أهل الكتاب يُؤدّون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، أو السّيف.

هذا الكلام فيه نظر، والراجح أنَّ هذه الآية لم تنسخ هذه الآيات، وأنَّ آيات العفو والصَّفح والإعراض مُحكمة، غير منسوخةٍ، ولكن ذلك إنما يُستعمل بحسب ما تكون عليه الأمّة من حال القوة أو الضّعف؛ في أوقات الضعف والعجز، فالأمّة هنا يمكن أن تعمل بآيات الصبر، والإعراض، والصَّفح، والتَّجاوز، وما إلى ذلك. وفي أحوال القوة يُعمل بآية السيف.

فالأمّة تمرّ بأحوالٍ وأطوارٍ، ولا يمكن أن يُقال لأمّة ضعيفة، مُشتتة، مُفرّقة، مُمزّقة: أنها تعمل بآية السيف مع عدوٍّ قوي غاشم، ثم بعد ذلك يحصل من المفاسد ما لا قِبَل لهم به؛ ولهذا نُهُوا في المرحلة المكيّة عن القتال لضعفهم.

فمثل هذا يُنظر فيه إلى حال الأمّة، ولا يُقال هذه الآيات منسوخة.

"ففي البقرة: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83]، وَلَنَا أَعْمَالُنَا [البقرة:139]، وَلَا تَعْتَدُوا [البقرة:190]".

في البقرة: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا، يقول: هذه منسوخة بآية السيف، ما فيه حُسن، يعني: للكفَّار، ما تقول لهم إلا الغلظة والشّدة.

هذا الكلام غير صحيحٍ، وهذه الآية أصلًا من العهد الذي أُخِذَ على بني إسرائيل بما أخذ اللهُ عليهم به الميثاق، فكيف يُدّعى فيها النَّسخ وهي في سياق ذكر بني إسرائيل: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83] إلى أن قال: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا؟!

وهكذا في قوله: قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ [البقرة:139]، ما وجه النَّسخ في هذه؟

الذين قالوا بالنَّسخ، قالوا: إنَّ قوله: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ يعني: المتاركة، أنتم في شأنكم، ونحنُ في شأننا.

قالوا: آية السيف، لا، لستم في شأنكم، ونحن في شأننا، بل نحن بصدد قتالكم حتى نحملكم على الحقِّ، أو أن تُؤدّوا الجزية إن كنتم من أهل الكتاب عن يدٍ وأنتم صاغرون.

وهذا الكلام فيه نظر، يعني: أنَّ قوله: وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ منسوخ، بل هذا معنًى صحيح: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ.

وهكذا: وَلَا تَعْتَدُوا، يعني: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا [البقرة:190]، هذه الآية القول بأنها منسوخة له وجهٌ يأتي الكلامُ عليه -إن شاء الله تعالى- في موضعه في التفسير، فكان ذلك في البداية أنَّهم يُقاتلون مَن يُقاتلهم فقط، قالوا: نُسِخَ هذا، وصار القتالُ للكفَّار، كما قال الله : وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3]، وهنا نُبذ لأصحاب العهود، قيل لهم: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ [التوبة:2].

فهؤلاء الناس إمَّا أن يكونوا ممن لا عهدَ له أصلًا؛ فيُقاتلون، أو يكون لهم عهدٌ دون الأربعة أشهر؛ فيُتقيّد بعهدهم، أو عهد أكثر من أربعة أشهر؛ فهؤلاء يُتمّ لهم عهدهم، أو يكون لهم عهدٌ مفتوحٌ؛ فهذا يُقيد بأربعة أشهر.

فهذه الآيات من سورة براءة تُقرِّر أنَّ الكفار يُقاتَلون كافّة: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً [التوبة:36]، قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، ما قال: الذين يُقاتلونكم.

فهنا فهم بعضُ أهل العلم أنَّ هذه الآية: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا المقصود بها: أن يُقاتَل مَن قاتل فقط، وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا بمعنى: أنَّ الاعتداء يكون بالبدء بقتالِ مَن لم يُقاتِل المسلمين، مع أنَّ هذا ليس محلّ اتِّفاقٍ.

لكن هذا القيد: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ، مفهوم المخالفة: أنَّ الذين لا يُقاتلونكم لا تُقاتلونهم، ومن هنا قيل بالنَّسخ.

ولكن يبقى أنَّ هذا أيضًا فيه احتمالٌ يأتي الكلامُ عليه -إن شاء الله تعالى- في موضعه: وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ؛ لأنَّ مفهوم المخالفة حُجّة، لكنَّه في بعض المواضع ليس بحجَّة، فهل هذا منها؟

يأتي -إن شاء الله تعالى- إيضاحُ ذلك بالكلام على هذه الآية من السُّورة.

وهكذا: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191]، هذه الآية الراجح أنها مُحكمة، لا يجوز القتال، و(عند) هنا ليس المقصودُ بها أن يكون القتالُ خارجه، وإنما العربُ تُعبِّر بمثل هذا -كما سيأتي إن شاء الله-، والمقصود به القتال في الحرم، والقتال بالحرم لا يجوز.

هنا يقول: الآية رقمها عندكم 190! هي 191.

وهكذا: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة:217]، هذه مسألة مُختلفٌ فيها، اختلاف العلماء في ذلك مشهور، وكثير: هل نُسِخَ القتال في الأشهر الحُرُم، أو لا؟ وهؤلاء يستدلون بأدلة، وهؤلاء يستدلون بأدلة، ويأتي الكلامُ -إن شاء الله تعالى- على ذلك في موضعه، لكن هنا الكلام؛ لأنَّ السياق في آية السيف، وليس تحقيق النَّسخ في مثل هذه القضايا.

والأقرب أنَّ الأشهر الحرم لا يجوز القتالُ فيها، وأنَّ ذلك من قبيل الـمُحكم، ولم يُنْسَخ، لا يجوز القتال في الأشهر الحُرُم، بصرف النَّظر عن آية السَّيف، أصلًا هذه الآية فيها خلافٌ بغير آية السيف، يعني: الذين يقولون: إنَّه نُسِخ، يقولون: في آخر حياة النبي ﷺ قاتل هوازن، في أيّ شهرٍ وقعة هوازن؟ في شهر شوال، أليس كذلك؟

النبي ﷺ فتح مكة في رمضان، وكانت حُنين في شوال.

لكن الجواب عن هذا: أنَّ هؤلاء جمعوا للنبي ﷺ، ونهضوا إليه، خرجوا من الطائف، ونزلوا من جبال الطائف، حتى بلغوا وادي حُنين، ووادي حُنين معروفٌ، قبل ما تصل إلى الهدى، وأنت خارج مكّة، طريق الهدى، وادي حنين يأتيك هناك في تلك الناحية.

فهؤلاء جاءوا إلى النبي ﷺ، تقدّموا، يعني: قطعوا مسافةً إلى مكة، فخرج إليهم النبيُّ ﷺ، هؤلاء قد خرجوا لقتاله.

فإذا قاتَلَنَا المشركون في الشهر الحرام، فعند ذلك يكون قتالُهم لا حرجَ فيه، لكن لا يُبدأ هؤلاء بالقتال: قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ.

كذلك: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، يقولون: نُسِخت بآية السيف.

الواقع أنَّه لا إكراهَ في الدِّين، وأنها لم تُنْسَخ، ولا يُحمل الناس على الدُّخول في الإسلام بالسيف، بالقوة، وإنما لا إكراه، إنما شُرع الجهادُ من أجل أن تكون شريعةُ الله مُهيمنةً، وحاكمةً، هذا شرع الجهاد، فتُكسر شوكةُ أعداء الدِّين، ويكون الدينُ لله.

أمَّا الأفراد فهؤلاء لا يُلزمون بالدخول في الإسلام، وما نُقِل قط في مغازي المسلمين، وفي حروبهم، وفي فتوحاتهم: أنَّهم كانوا يأتون إلى كل فردٍ، ويضعون السيفَ على رقبته، ويقولون: تدخل في الإسلام وإلا قتلناك.

بل حتى الأُسارى حينما يُسترقّون، بعض هؤلاء كفَّار، غلام المغيرة بن شعبة كان مجوسيًّا، من هؤلاء المماليك الذين أُخِذوا في فتوح بلاد فارس، فكان من المجوس، وكانوا يأتون بالأعبُد إلى المدينة وهم من غير المسلمين، يعملون في الصَّنائع، وفي الخدمة، وفي غيرها، وما كانوا يُلزمونهم، وهم في بيوتهم، ما كانوا يُلزمونهم بالدُّخول في الإسلام.

أم المؤمنين عائشة كانت عندها جارية يهودية سحرتها[17] ما ألزموهم الدُّخول في الإسلام أبدًا.

فـلَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ صحيحٌ، لكن الجهاد شُرِع لتكون كلمةُ الله هي العُليا، تكون الشَّريعةُ مُهيمنةً، هذا شرع الجهاد؛ أن يكون الدينُ لله في الأرض.

قال: وفي آل عمران: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، يعني: وَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:20]، وجه دعوى النَّسخ هنا باعتبار: دعهم، ما عليك إلا البلاغ، لستَ مسؤولًا عن شيءٍ آخر من قتال هؤلاء. وهذا ليس بمرادٍ.

يعني: في كثيرٍ من المواضع يذكر الله ذلك في صفة نبيِّه ﷺ أنَّ وظيفته ومُهمّته البلاغ، بمعنى: أنَّك تُؤدِّي هذه الوظيفة، وهذا يكون فيه من التَّهديد المبطّن ما لا يخفى على السَّامع، يعني: أنَّ الله سيأخذ هؤلاء ويُعاقبهم، وليس معنى ذلك نفي الجهاد أو القتال لهؤلاء.

هذه الآية من آل عمران بعد شرع الجهاد، لكن إذا قمت بالبلاغ كما أمرك الله فهؤلاء لن يُفلتوا من عقوبة الله بتسليطك عليهم بعقوبةٍ مُعجّلةٍ، أو بأخذةٍ يأخذهم بها، هذا -والله تعالى أعلم-، ولا حاجةَ إطلاقًا إلى دعوى النَّسخ في هذا الموضع.

وهكذا في قوله: إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً، هذه أيضًا لم تُنسخ، وما المقصود بهذا: لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً [آل عمران:28]؟ بمعنى: أنَّ مُوالاة المشركين لا تجوز. ولكن ما الذي يجوز؟

المصانعة بالقول من أجل دفع شرٍّ ربما يبدر من هؤلاء، إذا كان المسلمُ في حالٍ لا يقوى فيها على دفع شرِّهم؛ فيُصانعهم في القول، وهذا لا إشكالَ فيه، هذا مُحكم.

كما قلنا في أوقات الضَّعف، في أوقات الفترات، ونحو ذلك: تُستعمل مثل هذه الآيات، فلا بأس بمُصانعة المشركين إذا كان في المسلمين من الضَّعف، فهنا يُتّقون بمثل هذا، يُقال لهم قول ليِّن، يُصانَعون بالقول، يُتلطَّف بالقول معهم؛ لدفع شرِّهم.

يعني: لستَ مُلزمًا أن تأتي بعبارات صارمة، وبكلامٍ قاسٍ، وقوي، وتتوعد، وتتهدد، وما عندك قُدرة على هؤلاء، وتقول: إن مددتم يدًا قطعتها، وإن مددتم رِجلًا بترناها، وما لا تستطيعون تحصيله بأيديكم فارثعوا بأرجلكم، وسنُسيّر لكم جيشًا أوّلهُ عندكم، وآخرهُ عندنا. وأنت ما عندك شيء! لكن تستطيع أن تُصانعهم بالقول، وتدفع شرَّهم بالكلام الطيب، وبالكلام الحسن الذي تتقي به شرَّ هؤلاء الناس.

فهذه الآية لم تُنسخ.

كذلك قوله -تعالى- في سورة النساء: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، يعني: أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا [النساء:63]، هذه في المنافقين، وهي لم تُنسخ؛ لأنَّ النبي ﷺ لم يُؤمَر بقتال المنافقين، ولم يُشْرَع قتالهم، وإنما الإغلاظ على المنافقين إذا كان ذلك بالإمكان، وكذلك يُجاهَدون بالقرآن.

أمَّا قتال المنافقين فما كان النبيُّ ﷺ يقتلهم، ولا يُقاتلهم، وعلل النبيُّ ﷺ مثل هذا بقوله: لا يتحدّث الناسُ أنَّ محمدًا يقتل أصحابَه[18].

يعني: لدفع مفسدةٍ أعظم، فإنَّ مثل هذا يُراعى فيه ما يرجع إلى المسلمين، وإلى إسلامهم، إلى دينهم، إلى النبي ﷺ من الظنون الكاذبة بسبب تصرّفٍ قد يكون في أصله صحيحًا، فيكون هذا الجاني من المنافقين مُستوجبًا للقتل؛ لسبِّه للنبي ﷺ، أو لقدحه في دين الإسلام، أو نحو ذلك، لكنَّه يُترك، يعني: كان النبيُّ ﷺ يترك هؤلاء؛ دفعًا لمفسدةٍ أعظم؛ لئلا يقول الناسُ: محمدٌ يقتل أصحابه!

"لئلا يقول الناس"، وهو رسول الله ﷺ، ما ينطق عن الهوى، فكيف بغيره؟ والله المستعان.

يقول: في موضعين، الموضع الآخر: وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [النساء:81]، لاحظ هنا: (أعرض عنهم)، لا شكَّ أنَّ هذا صحيحٌ، مُحْكَمٌ، لم يُنسخ، يعني: هذا الفعل صحيحٌ، ثابتٌ، لم يُنسخ.

الآن إذا تصرّف أحدٌ بهذه الطَّريقة، أو قال: إنَّ هذا هو الحكم الـمُقرَّر الآن. فهذا صحيحٌ، لا يُقال: إنَّه خطأ؛ باعتبار أنَّه نُسخ، أنت تُقرر حكمًا منسوخًا. قال: لا، هذا الحكم هو الصَّحيح في حقِّ هؤلاء.

وهكذا في قوله -تعالى-: فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا، وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، هذه مثل: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [الشورى:48]، فإنَّ مهمة النبي ﷺ البلاغ، ولكن الحصر في مثل هذه القضايا لا ينفي عن النبي ﷺ أنَّه أُمِرَ بالجهاد وقتال هؤلاء الكفَّار، أو نحو ذلك، لكن مثل هذا يُذكر في سياق: إمَّا التَّخفيف عن النبي ﷺ وتسليته، أو في مقام التَّهديد المبطن -كما يُقال-، يعني: أنَّ الله لن يُفلت هؤلاء من قبضته وأخذته متى شاء أن يأخذهم.

فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا هنا يقول: الآية 79، كذا عندكم، وهي80.

كذلك: لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ يعني: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84]، هذه أيضًا يأتي الكلام عليها -إن شاء الله- في موضعها.

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ، هذا في قوله -تعالى-: فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ۝ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ [النساء:89- 90]، فهذه الآية أيضًا مُحكمة.

في المائدة: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ [المائدة:2]، كذلك أيضًا هذه ليست منسوخةً.

فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ [المائدة:92]، وكذلك في قوله: مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [المائدة:99]، فهذا كلّه -كما سبق- ليس بمنسوخٍ.

وهكذا في قوله: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، هذا المعنى ثابتٌ غير منسوخٍ، فإنَّ معنى الآية: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ أنَّه كما جاء عن بعض السَّلف -كما سيأتي في موضعه إن شاء الله-: الرَّجل يُسْلِم، وأبوه يكون كافرًا، الرَّجل يُسْلِم، وأمّه مُشركة، الرَّجل يُسْلِم، وابنه على الكفر، فهل يلحقه ضررٌ بسبب هذا؟

الجواب: لا: عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ، وليس معنى ذلك: أنَّ الإنسان لا يأمر بمعروفٍ، أو لا يُجاهد. لا، وإنما المقصود أنَّ ضلال هؤلاء الذين ضلّوا إنما يَحملون التَّبعة هم، ولا يلحق المؤمن تبعة من ضلالهم، وكفرهم، وإعراضهم: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].

قال: وفي الأنعام: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ [الأنعام:66]، هذا مثل: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ، هذا ليس بمنسوخٍ.

وهكذا: قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ، (ذرهم) هنا أيضًا ليس بمنسوخٍ، ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام:91]، ليس معنى ذلك: أنَّهم لا يُجاهَدون، ولا يُقاتَلون، وإنما هنا التَّرك ليس معناه: ترك الجهاد، ترك مُجاهدة هؤلاء، ولا يُفهم هذا.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ [الأنعام:104]، مثل قوله: فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا [النساء:80]، وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ [الأنعام:107].

وهكذا في قوله: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:106]، وهذه الآية من سورة الأنعام، وهي مكية، (أعرض عن المشركين) هل المقصود الإعراض هنا بالترك؟ يعني: أنها منسوخة، نُسِخت بآية السَّيف؟

كما قلنا: إنَّ مثل هذه الآيات لها أحوال تُنزّل بها من الضَّعف -ضعف الأمّة-، ونحو ذلك، ولا يُقال: إنَّها منسوخة.

وهكذا أيضًا: وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا.

وفي قوله: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ [الأنعام:108]، كيف يُقال: هذه منسوخة؟!

والعلماء ما زالوا يذكرون هذا في الكلام على قاعدة المصالح والمفاسد، وأنها مُعتبرة: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا، النبي ﷺ يقول: من الكبائر: شتم الرَّجل والديه، قالوا: يا رسول الله، وهل يشتم الرجلُ والديه؟! قال: نعم، يسُبّ أبا الرجل، فيسُبّ أباه، ويسُبّ أمَّه، فيسُبّ أمَّه[19]، يعني: إذًا هذا مُتوقع، فيكون مُتسببًا في سبِّ والديه حينما يسبّ آباء الناس وأمّهاتهم، فهذا معنًى صحيحٌ.

فهنا: وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لأنَّك إذا فعلتَ ذلك تسببتَ في سبِّ الله ، فإذًا مثل هذا المآل والتَّصرف مُعتبر، ولا يمكن أن يُقال: إنَّ هذه الآية منسوخة، وأنَّ سبَّ آلهة المشركين سائغ.

وهكذا في قوله: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ [الأنعام:112]، فإنَّ هذا كما سبق.

يقول: يَا قَوْمِ اعْمَلُوا يعني: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:135]، هذه أيضًا ليست بمنسوخةٍ، هو يقول لهم: سترون عاقبةَ هذا الكفر والإعراض، وتعرفون مَن تكون له عاقبةُ الدار. أين النَّسخ هنا؟

اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ، هذا مثل: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت:40]، يكون على سبيل الوعيد والتَّهديد، وليس الإقرار.

وهكذا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ، إلى أن قال: قُلِ انتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ [الأنعام:158]، فهذا -كما سبق- أيضًا كالذي قبله ليس بمنسوخٍ.

وهكذا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [الأنعام:159]، إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ، ليس معنى ذلك عدم الجهاد والقتال، وإنما المقصود بذلك الوعيد، لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ يعني: في هذه الصِّفة، وفي عملهم، وفي تفرُّقهم.

يقول: وفي الأعراف: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، هذه مُحكمة، لا يُقال ...، هذه أصول الأخلاق كما يُقال، أصول الأخلاق جُمعت في هذه الآية، كيف يُقال: إنها منسوخة؟!

وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ هنا الإعراض عن الجاهلين يشمل مَن كان ينتسب للإسلام، ومَن لا ينتسب إليه، فإنَّك لا تُجاريه بجهله وسفهه؛ فتكون بعد ذلك مُساويًا له، فلا يحصل التَّطامن مع مثل هؤلاء؛ فينسفل المؤمنُ إلى مرتبةٍ مُنحطَّةٍ؛ مُجاراةً لأهل السَّفَه، لما يصدر عنهم، هذا ما يليق.

وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، والإنسان ... خُذِ الْعَفْوَ يعني: ما تسمّحت به أخلاق الناس، وأدّوه إليك من غير تكلُّفٍ، فلا تُطالبهم، وتستنطف الحقوق، وتُنقّر، وتُدقق حتى تُؤدَّى لك على وجهٍ من التَّكرّه: خُذِ الْعَفْوَ، كن هكذا مع الناس، الذي يأتون به طواعيةً من الأخلاق، وأداء الحقوق، والزيارة، ونحو ذلك؛ تقبل ذلك، ولا تستقصي.

ويدخل فيها العفو أيضًا عن المسيء: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، فهنا يدعو إلى الخير، ويعلم الخير، وسيجد سُفهاء في طريقه يسمع منهم قبيح القول، والأفعال القبيحة، وما إلى ذلك، فإنَّه لا يصحّ أن يهبط ويُجاري هؤلاء، هذه مُحكمة، ليست بمنسوخةٍ.

هذه يحتاج إليها الناسُ اليوم حاجةً ماسّةً في أخلاقهم، وتعاملهم، وخلطتهم مع الناس: أن يكون هذا هو المنهج في التَّعامل: خُذِ الْعَفْوَ، لا تستقصي، واقبل من الناس ما يُؤدّونه إليك طواعيةً، ومحبَّةً، ورغبةً، وعلّمهم الخير، وأمرهم به، وادعوهم إلى الله ، ونحو ذلك، ولن يخلو الحال والزمان من سفيهٍ، ومَن تصحّرت نفسُه، وضعُفت تربيته؛ فتسمع منه ما تكره من كلامٍ قبيحٍ يقوله، ويتفوّه به، أو يكتبه، أو نحو ذلك.

فهذا من الخطأ: أن يتحوّل طالبُ العلم، أو الدُّعاة إلى الله ، أو نحو ذلك إلى حالٍ يُجارون فيها هؤلاء السُّفهاء، ويردّون عليهم، وإنما الإعراض: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ، أعرض عنهم، وقل: سلام، كبّر عليه أربع تكبيرات، وأعرض عنه؛ لأنَّك إذا اشتغلت به لن تَسْلَم، فهذا وحلٌ، حينما تهبط ستتلوّث، ابتعد، وابقَ على نظافتك، ونقائك، وحلّق عاليًا، ودع الجيفَ لأهل الجيف.

قال: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183]، هذا في استدراج الله ومكره بأعدائه، هذه ليست بمنسوخةٍ.

قال: وفي الأنفال: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ [الأنفال:72]، يقول فيها: يعني: المعاهَدين. هل هذه في المعاهَدين؟

الله يذكر الموالاة في آخر سورة الأنفال لمن تكون؟

يقول: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا [الأنفال:72]، فهنا هؤلاء ممن بقي في الأعراب، آمنوا، ولم يُهاجروا، فليست هذه في المعاهَدين، بل في الذين آمنوا، ولكن لم تحصل الهجرة إلى بلد الإسلام، أو بقوا بين قومهم لم يُهاجروا.

فهنا الولاية بمعنى: النُّصرة: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ يعني: عهدٌ، فهنا تلتزمون بالعهد، فهي ليست في المعاهَدين، وهذه الآية ثابتة، وليست منسوخةً، بل مُحكمة.

وفي التوبة: فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ، فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ [التوبة:7]، هذه في العهود.

يبدو أنَّ كلمة "المعاهَدين" هنا وقع خللٌ في النُّسخة، هكذا يبدو؛ لأنَّ قوله: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ ليست في المعاهَدين، هذه التي في المعاهَدين: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:7]، أمَّا وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فهذه ليست في المعاهدين.

يقول: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ يعني: المجاهدين، يعني: قد لا تكون كذلك؛ لأنَّ هؤلاء أصلًا لم يُهاجروا، لكن لو أنَّه وقع عليهم ظلمٌ، ووقع عليهم عدوانٌ: وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ، هؤلاء لم يُهاجروا.

فالمعاهدين يبدو لي أنها تتعلّق بالتي بعدها، آية براءة.

  1. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الذبائح والصيد، باب لحوم الخيل، برقم (5519)، ومسلم: كتاب الصيد والذَّبائح وما يُؤكل من الحيوان، باب في أكل لحوم الخيل، برقم (1942).
  2. انظر: "صحيح البخاري" (7/12)، و"صحيح مسلم" (2/1027).
  3. "مجموع الفتاوى" (13/29).
  4. "مجموع الفتاوى" (13/272).
  5. أخرجه البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت، برقم (6830).
  6. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، برقم (48)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))، برقم (64).
  7. أخرجه أبو داود في "سننه"، برقم (2062)، وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"، برقم (1800).
  8. أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (21207)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"، برقم (2339).
  9. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب المناقب، برقم (3508)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان حال إيمان مَن رغب عن أبيه وهو يعلم، برقم (61).
  10. انظر: "الناسخ والمنسوخ" للمقري (ص89).
  11. انظر: "نواسخ القرآن" لابن الجوزي (ص155).
  12. انظر: "جمال القراء وكمال الإقراء" للسخاوي (ص404).
  13. انظر: "معترك الأقران في إعجاز القرآن" للسيوطي (1/92).
  14. انظر: "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (3/78).
  15. انظر: "الناسخ والمنسوخ" لابن حزم (ص12).
  16. انظر: "الناسخ والمنسوخ" لابن سلامة (ص16).
  17. أخرجه أحمد في "مسنده"، برقم (24126)، وصححه الألباني في "إرواء الغليل"، برقم (1757).
  18. متفق عليه: أخرجه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون:6]، برقم (4905)، ومسلم: كتاب البرّ والصّلة والآداب، باب نصر الأخ ظالـمًا أو مظلومًا، برقم (2584).
  19. أخرجه مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، برقم (90).

مواد ذات صلة