الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(006-أ) من قوله تعالى (والجار ذي القربى والجار الجنب..) الآية 36 – إلى قوله تعالى (ولا يكتمون الله حديثا..) الآية 42
تاريخ النشر: ٢٧ / جمادى الأولى / ١٤٣٨
التحميل: 786
مرات الإستماع: 1196

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

قوله تعالى:

وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ [النساء:36]، قال ابن عباس: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجُنب هو الأجنبي[1].

وقيل: ذي القربى القريب المسكن منك، والجُنُب البعيد المسكن عنك، وحدّ الجوار عند بعضهم أربعون ذراعًا من كل ناحية.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: "وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ يقول: قال ابن عباس -ا-: الجار ذي القربى هو القريب النسب، والجار الجُنب هو الأجنبي"، هذا هو المشهور وهو قول طائفةٍ كثيرة من أهل العلم من السلف فمن بعدهم، من قال بهذا القول عِكرمة ومجاهد وميمون بن مِهران والضحّاك وزيد بن أسلم ومُقاتل وقتادة[2]، واختيار كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[3]، الجار ذي القربى هو الجار القريب، بينك وبينه قرابة، فيكون له حقٌ زائد، يعني له حق الجوار وحق القرابة مع حق الإسلام، فهذه ثلاثة حقوق، والجار القريب له حق الجوار وحق الإسلام، القريب من المسكن ليس من النسب، وبعضهم يقول غير ذلك كما قال هنا: "وقيل: ذي القربى القريب المسكن منك، والجُنُب البعيد المسكن عنك"، وبعضهم يقول بأن ذلك في المُسلم والجار الجُنُب اليهودي والنصراني، لكن هذا لا دليل عليه.

وهنا ذكر حد الجوار عند بعضهم قال: "أربعون ذراعًا من كل ناحية"، هذا لربما يتأتّى على حالٍ كانت في السابق، البيوت صغيرة كالغرف اليوم، فهذا المقدار الذي ذُكر قليل، أربعون ذراعًا يعني يبلغ نحو عشرين مترًا، فهذا لربما الآن لا يتجاوز بيت أحد الجيران عن يمينه وشماله، بيت واحد من الجيران، لكن يبدو أن فيه خطأ.

"في نسخة أخرى: [وحدّ الجوار عند بعضهم أربعون دارًا من كل ناحية]"، أربعون دارًا هذا المعروف وليس ذراعًا؛ لأن هذا ليس بشيء، لا يتجاوز جارًا واحدًا، فهذا خطأ.

وبعضهم يقول غير ذلك، لكن هذا قال به طائفة من أهل العلم من السلف فمن بعدهم.

وأصل الجِوار الميل، وقيل: سُمي الجار بذلك لميله إلى جاره، الجُنُب أصل الجنابة بمعنى البُعد، ويُقال: رجلٌ جُنُب أي غريب، قال: أجنبي أيضًا من البُعد، فالجار الجُنُب فيه معنى البُعد إما من جهة النسب، ولهذا قال بعضهم هو الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة، وهكذا من قال: إنه غير المسلم فهذا لأنه بعيد ليس كالمسلم بالقربِ منك، فهذا في القُرب المعنوي، يعني من قال: بأنه القريب بالنسب والبعيد بالنسب الذي ليس بينك وبينه قرابة، وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ، ومن قال: بأن الجار الأول هو المُسلم والآخر هو اليهودي والنصراني فهذا قربٌ معنوي، ولكن من قال: بأن الجار ذي القربى هو القريب منك دارًا الأقرب إليك والجُنُب هو الأبعد، يعني في نطاق حدود الجوار، فيكون لهذا حق وهذا حق، كأن الأقرب من هذه الأقوال هو أن الجار ذي القُربى الذي بينك وبينه قرابة فله حقٌ زائد، والجار الجُنُب هو الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة، -والله تعالى أعلم-.

وبعضهم يحدّ هذا، يقول من سمع الإقامة فهو جار، من سمع الإقامة باعتبار أن الإقامة تكون داخل المسجد فالذين يسمعونه هم الأقرب، طبعًا غير مُكبّرات الصوت، كان الأذان في المنارة أو على سطح المسجد والإقامة في داخل المسجد؛ لأن الإقامة لمن هم في المسجد والأذان لمن هم خارج المسجد، وبعضهم يقول من سمع الأذان وهذا لا يخلو من إشكال، يعني على هذا في القديم حيث لا يوجد أصوات مؤثرة تحول دون سماعه ولا يوجد مباني مُرتفعة، القرية كلها لربما يسمعون الأذان فيكون كل هؤلاء من الجيران؟!

وبعضهم يقول: من تجمعهم محلة واحدة، يعني كما يُقال ناحية أو حارة، ويتأكد الحق بصفة القرب كما يُقال في صفة الأرحام، كلما كان أقرب كان الحق آكد، فهكذا في الجوار من يحتفّون بك من الجيران فحقهم أثبت وآكد وأعظم وأولى ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ولو قيل: هذه ترجع إلى العرف لم يكن بعيدًا بالجوار، بمعنى أنه في السابق كانت الدور صغيرة جدًا كالغرف فأربعون دارًا قديمًا لرُبما عن أربع دور في مثل هذه الأوقات في بعض الأحياء على الأقل، يعني الذي يسكن في مكان الدور فيه كبيرة، قصور، الدار الواحدة أربعة آلاف متر مثلًا، أربعون دارًا كانت تجتمع في بيت واحدٍ من هؤلاء، وأنتم قد لا تتصورون هذا لكن هذا هو الواقع، النواحي القديمة وبيوت الطين وكذا كان المكان الذي يحوي البيوت الكثيرة ونحو ذلك يُهدم الآن ويدخل في توسعة مسجد واحد، هذا موجود مُشاهد، وكان يعيش فيه لربما عشرات الأُسر، وإذا هُدمت هذه الدور ورأيت بعض ما تحويه مما بقي منها كأنها متجاورة متلاصقة، بيوت الطين هذه ربما تهدّمت أو هُدمت أو جاء السيل بعد مُضي مدة طويلة، ففيها من المواضع التي لربما بُنيت بشيء من الجص ونحو ذلك فهذه أقوى، فتبقى يوضع فيها التمر، فتجد هذه بجوار هذه قد مُحي البنيان من الطين وهذه متجاورة ليس بينها وبين الأخرى إلا أمتار وكانت هذه في دار وهذه في دار، وهذه في دار، وهذه في دار، الله أعلم. وعلى كل حال قد يكون للعرف مدخل في هذا.

قوله تعالى: الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء:36] قال ابن عباس: الرفيق في السفر[4]، وقال عليّ بن أبي طالب : الزوجة[5].

الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، الصاحب فيها معنى المصاحبة كما هو ظاهر، من هنا قال بعضهم: "الرفيق في السفر" هذا ابن عباس -ا-، وعن علي: "الزوجةط، والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا يُشبه التفسير بالمثال، الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، فهو الملازم المقارب لك، يدخل فيه من يلازمك ويقترب منك كالزوجة، والرفيق في السفر، والرفيق في العمل الذي يعمل معك، ونحو ذلك ممن يقتربون منك، فهذا صاحبٌ بالجنب له حقٌ زائد على غيره، الزوجة: تفي لقربها، والرفيق في السفر: له حق تُراعيه، تُداريه، ويكون له من الإكرام ونحو ذلك ما لا يكون لغيره.

وكذلك من يجمعك به عمل ونحو هذا، فهذه من مكارم الأخلاق بحيث يكون الإحسان لكل من يحتفّ بك ولو كان ذلك في حالٍ عارضة كالسفر أو العمل، اشتركت معه في عملٍ مُعين أو في مكتبٍ واحد أو في مدرسةٍ واحدة أو نحو ذلك، الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، فالذي معك في نفس المكتب هو له من الحقوق ما ليس لغيره.

ولهذا حمل أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- ذلك على العموم[6]، يعني يدخل في هذه المعاني المذكورة جميعًا ولا يختص بالرفيق في السفر أو الزوجة، وهذا هو الأقرب، -والله تعالى أعلم-.

قوله تعالى: مُخْتالًا [النساء:36] اسم فاعل وزنه مفتعل من الخيلاء، وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه.

إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، فالمختال اسم فاعل على زِنة مفتعل، "من الخيلاء، وهو الكبر وإعجاب المرء بنفسه"، ويُقال ذلك للبطر في مشيته، خُيلاء وسلوك ظاهر نابع من شعور باطن، يعني تفسيره هنا ما فسره مثلًا في الكبر وإعجاب النفس هذا الشعور بالباطن الذي يورث سلوكًا في الظاهر، هذا السلوك الذي في الظاهر قال بعضهم هو البطر في مشيته، فبعضهم فسره بأثره، فهذا المُتكبّر الذي كبره حبيس صدره لا يرى الناس شيئًا لكن لا يظهر ذلك على سلوكه لا يُقال له: مختال، لكن الأثر السلوكي الذي يظهر مع هذا الكبر أو نتيجة لهذا البطر ونحو ذلك كالخُيلاء هذا الذي يُقال له: مختال في مشيته، لذلك يُقيدون مختال في مشيته، ولهذا قيل الخَيْل، قيل لها: خَيْل؛ لأنها تختال في مشيتها، مشية الخيل ليست كمشية الحمار مثلًا والبغل والغنم والإبل؛ لأنها تختال في المِشية كما هو معلوم، فالبطر في مشيته فُسر به المُختال، فيكون ذلك نتيجة لأمرٍ باطن وهو الكبر.

فَخُوراً شديد الفخر.

"شديد الفخر" صيغة مبالغة، فَخُوراً كثير الفخر، وهو الذي قيل يُعدد مناقبه ومآثره ونحو ذلك كِبرًا وتطاولًا، فيفتخر بأنه كذا وأن له كذا وعنده كذا ومن الأملاك والثروات، وأنه حصّل من الشهادات، وحصّل من المراتب والوظائف ونحو ذلك، وأنه قد أنجز كذا، يفتخر بإنجازاته، فالفخر هو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان، كالمال ونحو ذلك من الجاه وما يُحصّله الإنسان ويكتسبه، فهذا ما يفتخر به، يفتخر على الآخرين بأنه أفضل منهم في كذا وكذا وكذا وعنده كذا، وإن لم يُصرّح بأنه أفضل منهم ولكن يذكر ما له فهذا هو الفخور، فهذه من الصفات المذمومة التي لا يُحبها الله ولا يحب أهلها، وهي خلاف التواضع وهضم النفس والاستكانة لله تعالى.

قوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [النساء:37] بدلٌ من قوله مختالا أو نُصب على الذمّ أو رُفع بخبر ابتداءٍ مضمر أو مبتدأٌ وخبره محذوف تقديره يعذبون، والآية في اليهود.

هنا الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، على القول بأنه "بدلٌ من قوله مختالا" فيكون كالتفسير له، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا، من هؤلاء؟ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، يعني بمعنى لو أنك رفعت هذا، لو قلت: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ... لو رفعت المُبدل منه، إن الله لا يُحب الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، يعني الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل هم هؤلاء أهل الخيلاء والفخر، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، يعني هم الذين يبخلون، لكن على الإعراب بأنه بدل فمعلوم أن البدل يقوم مقام المُبدل منه، يعني يكون بدل كُل من كل بهذا الاعتبار.

أو أنه منصوب على الذم، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ منصوب على الذم، أو مرفوع بخبر ابتداء مُضمر، يعني المبتدأ محذوف، مُقدّر، يعني هم الذين يبخلون، "أو مبتدأٌ وخبره محذوف تقديره يعذبون"، الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبُخل يُعذبون، ويُحتمل أنه مرفوع على أنه بدل من الضمير المستتر في مُخْتَالًا فَخُورًا ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ.

المعنى يتغير هنا في الإعراب، إذا قلت بأن المختال الفخور هم الذين يبخلون، فهذا غير حينما يُقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ثم قال: الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل يُعذبون، فهنا لا يقتضي أن يكون الذين يبخلون هم أهل الخيلاء والفخر، لكن حينما تقول: هم الذين يبخلون، لو قلت: إنه خبر لمبتدأ محذوف فصار بمعناه، بمعنى المختال الفخور.

وهكذا لو قلت: بأنه منصوب مثلًا على الاختصاص أو نحو ذلك، أخص الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، فهذا قد يُفهم أنه نوع من المختالين الفخورين، فالإعراب والمعنى بينهما ارتباط يختلف المعنى بحسبه، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، كأن هذه صفةٌ من صفاتهم، كأنها صفة من صفات أهل الفخر والخيلاء؛ لأنه أعقبه بعده ومن غير عطف، لو جاء بالعطف والذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، قد يُفهم أن هنا يُقال: العطف يقتضي المغايرة وأن هذه صفة للآخرين مثلًا وإن كان ليس ذلك بلازم، لكن هنا قال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، فكأنه تفسير أو من جملة أوصاف هؤلاء المختالين الفخورين، ولذلك من قال: إنه بدل فإن قوله ليس بمستبعد، هو مشاهد بينها ارتباط، فإن هذا الذي يختال ويفتخر ونحو ذلك ويتعالى على الناس ويتعاظم هو بعيد عن البذل والسخاء، بل هو مُمسك بما في يده، يبخل وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، لكن القول بأنه حُذف مثلًا الخبر الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل يُعذبون لا يخلو من بعد، والقاعدة أن الأصل عدم التقدير، القاعدة الترجيحية أن الكلام إذا دار بين الاستقلال أو التقدير يعني في محذوف، الأصل في الكلام الاستقلال.

فعلى القول بأنه بدل لا يحتاج إلى تقدير، وباقي المعاني والإعرابات تحتاج إلى تقدير، يعني إذا قلت أنه خبر لمبتدأ محذوف هم الذين يبخلون، أو أخص على الاختصاص لو نُصب، أو أنه مُبتدأ والخبر محذوف، كل هذا يحتاج إلى تقدير والأصل عدم التقدير، القول بأنه بدل لا يحتاج إلى تقدير وكأنه أوضح في المعنى، -والله أعلم-.

والآية في اليهود نزلت في قومٍ منهم: كردم وحُيي بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت كانوا يقولون للأنصار: لا تُنفقوا أموالكم في الجهاد والصدقات، وهي مع ذلك عامةٌ فيمن فعل هذه الأفعال من المسلمين.

القول بأنها نزلت في اليهود لا يصح، أو في قومٍ منهم مثل: كردم بن زيد وحُيي بن أخطب ومن ذُكر فهذا لا يثبت، وبعضهم يقول: هي في المنافقين، وابن جرير[7] حمله على الذين يبخلون بما عندهم من العلم والمعرفة في أمر النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بخصوص هذا، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، وأنهم بهذا الاعتبار اليهود، أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [البقرة:76] وما شابه ذلك، لكن هذا التخصيص ليس عليه دليل -والله أعلم-.

والحافظ ابن كثير[8] حملها على معنى أقرب من هذا وهم الذين يبخلون بالإنفاق، إنفاق المال على من أمرهم الله بالإنفاق عليهم من الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل ونحو ذلك من وجوه من المنفق عليهم، ولا يؤدون حق الله في هذه الأموال، وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فالحافظ ابن كثير يقول: بأن البخيل جَحود لنِعم الله عليه[9]، دائمًا يتحدث عن إنه خسران وإنه ليس عنده ما فيه كفاية ونحو ذلك، ولا تظهر عليه آثار هذه النعمة ولا تبين في مأكله وملبسه، هكذا ذكر الحافظ ابن كثير، وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، ولا تظهر في بذله وإعطائه، ولهذا قال في قوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ بهذا الاعتبار أن الكُفر هنا هو الستر والتغطية، والبخيل يستر نعمة الله عليه، فهو كافرٌ بنعم الله عليه، هذا كلام ابن كثير، هذا الذي ذهب إليه، مع أنه جوّز أن تكون في اليهود لكن ذكر أن السياق في البُخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم كما يقول ابن كثير: داخلًا بطريق الأولى[10] باعتبار أن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء وكذا التي بعدها، وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ.

لكن قول ابن جرير -رحمه الله- بأنها في اليهود كأنه نظر إلى القرينة هذه التي في الآية: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَكْتُمُونَ، فالكتمان الذي عُرف به اليهود، وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ مع قوله في آخرها: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ، فمُجرد البخل لا يكون صاحبه كافرًا، وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ، لكن ابن كثير نظر إلى أن السياق في الإنفاق الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، إذن يكتمون نعمة الله عليهم وما أعطاهم وأولاهم من الغِنى والمال فيجحدونه وكذلك أيضًا لا يظهر عليهم، فيكون الكتمان من الجهتين، جهة الكتمان بالنطق والكلام والإقرار والاعتراف، وكذلك الكتمان بالحال، يلبس لباسًا لا يدل على حاله من الغِنى وكذلك في مأكله، وهذا إذا كان الإنسان شديد البخل لا يظهر عليه ولو كان غنيًا أثر الغنى في ملبسه ومأكله وأحواله، بل قد يظن جيرانه أنه من الفقراء وهذا مُشاهد، فهو يُقتّر على نفسه بل قد يُتصدق عليه، وقد يكون أولاده يظنون ذلك أيضًا أنه فقير ووُجد من يُعطي أباه من مكافأته في الجامعة سنوات ثم لما قُبض هذا الأب كان ميراث الولد الواحد نحو مائة مليون، هذا موجود وحصل، نحو مائة مليون، فأولاده يعتقدون أنه فقير يعطونه من مكافأة الجامعة، لا يظهر عليه أي شيء من آثار الغِنى، وأما الإنفاق فهو أبعد ما يكون عنه، فـ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ، ولذلك ما يدل هنا على شدة البخل أنه يأمر الناس بالبخل، يعني يضيق ذرعًا إذا رأى من يُنفق ويتصدق فهو يعتقد أنه يُضيع للمال ويعبث به فيتألم لذلك ولا يكتفي بما عنده من البخل؛ ولهذا فسّر بعضهم الشح، يعني الفرق بين الشح والبخل إذا ذُكر أحدهما قد يدخل فيه الآخر، لكن إذا ذُكر الشح والبخل فبعضهم قال: إن الشح أشد من البخل وهذا الذي يظهر أنه أشد من البخل.

قال بعضهم: الشح أن يبخل بما في يده ويتطلع لما في أيدي الناس، فهذا الذي يضيق ذرعًا بإنفاقهم فهو شحيح؛ لأنه لا يخسر ومع ذلك يتألم إذا رأى أحدًا يُنفق، ويكون البخيل على هذا هو من يُمسك ما في يده ولا شأن له بالناس، هذا وجه في التفريق بينهم.

وبعضهم قال: هذا في الصفة النفسية والآخر في العملية، يعني ما يترتب وينتج عنها، الفرق بين الشح والبخل.

وبعضهم يقول غير ذلك، كالذي يقول بأنه يمنع حق الله وحق الناس فهذا بخيل، والذي أيضًا يحرم نفسه مع ترك حق الله وحق الخلق هذا هو الشحيح، يعني يُقطّر حتى على نفسه، والله يقول: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9].

قول ابن جزي: "وهي مع ذلك عامةٌ فيمن فعل هذه الأفعال من المسلمين" يعني الآية على العموم في ذم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، فيدخل في هذا البخل: البخل بالمال، والبخل بالعلم من باب أولى، وكذلك الكتمان: يدخل فيه كتمان الغنى وما أعطاه وأولاه ربه -تبارك وتعالى-، ويدخل فيه كتمان العلم من باب أولى، يعني البخل موجود في العلم وموجودٌ أيضًا في المال، فاليهود كانوا يبخلون في العلم ويبخلون في المال، والمنافقون لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7]، يأمرون الناس بالبخل، وكتمان العلم معروف، هو يكتم العلم لأي سبب من الأسباب، ومن جُملة الأسباب وهو من أقبح أنواع الكتمان البخل بالعلم، ما يُريد من الناس أن ينتفعوا بهذا الذي استفاده وحصّله، فيعتقد أن هذه أشياء تعب في تحصيلها فهو يحبسها عنده، هذا في العلم نفسه.

وقد يكون ذلك في الكُتب والمخطوطات ونحو ذلك لا يخرج من يده شيء، يعني بمعنى أن عنده مخطوط الناس بحاجة إلى الاطلاع عليه والانتفاع به ويحتاجونه، وهو يجمع هذه المخطوطات ولا تراها الشمس، لا يمكن أن يُمكّن أحدًا من النظر فيها فضلًا على أن يُصور له أو يُعير أحدًا هذه المخطوطات، فهذا موجود للأسف في بعض من يشتغل بالعلم سواء كان مُحصلًا فيه أو كان مُقصرًا، لكنه يُعنى بهذه الأشياء فيبخل بها ويحتفظ بها لنفسه كما يقول.

قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ [النساء:38] عطفٌ على الذين يبخلون، وقيل: على الكافرين، والآية في المنافقين الذين كانوا ينفقون في الزكاة والجهاد رياءً ومصانعة، وقيل: في اليهود، وقيل: في مشركي مكة الذين أنفقوا أموالهم في حرب المسلمين.

هنا وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ لاحظ أنه دخل حرف العطف، فيحتمل أن يكون ذلك في طائفةٍ أخرى غير الأولى، غير الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، فطائفة أخرى مذمومة هم من يُنفق ولكنه يفعل ذلك رياءً وسُمعة، فالأصل أن العطف يقتضي المُغايرة، يقول: "وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ [النساء:38] عطفٌ على الذين يبخلون، وقيل: على الكافرين، وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ، والآية في المنافقين الذين كانوا ينفقون في الزكاة والجهاد رياءً ومصانعة، وقيل: في اليهود، وقيل: في مشركي مكة الذين أنفقوا أموالهم في حرب المسلمين" يعني خرجوا بطرًا ورئاء الناس، لكن الآية عامة، وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ، لكن هنا لاحظ قال: وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ، فحينما ذكر هذه الصفة حملها بعضهم على اليهود، وحملها آخرون على المشركين، وحملها طائفة ثالثة على المنافقين؛ لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، لكن الآية عامة فتشمل من تحققت فيه هذه الأوصاف، فيدخل فيها من كان كذلك سواء كان من اليهود أو كان من الكُفار أو كان من المنافقين، فهؤلاء يُنفقون ولا يرجون ما عند الله بهذه النفقات إنما يفعلون ذلك رياءً وسُمعة، فهذا يُمكن أن يُحمل على هذه المعاني، -والله أعلم-.

يعني في الآية الأولى التي حملها ابن جرير على اليهود وكتمان العلم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وهنا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ، فالذي يُرائي هو المنافق، ومن هنا حملها بعضهم على المنافقين، إن الأولى في اليهود والثانية في المنافقين، لكن المعنى أعم من هذا والله تعالى أعلم، فهنا داخلون فيه، ولكن من وُجد فيه مثل هذا الوصف فهو أيضًا منهم، -والله أعلم-.

قوله: قَرِيناً [النساء:38] أي: ملازما له يغويه.

وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا، يعني أن الشيطان هو الذي يُوجهه ويأمره وهو مُنقاد له، وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ۝ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:36-37]، وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ [فصلت:25]، فهذه من عقوبة الله لهؤلاء المُعرضين أن يُقيض لهم قُرناء من الشياطين يُزينون لهم الباطل ويصدونهم عن الحق والجزاء من جنس العمل.

قوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النساء:39] الآية، استدعاءٌ لهم كملاطفة أو توبيخٌ على ترك الإيمان والإنفاق، كأنه يقول: أيّ مضرةٍ عليهم في ذلك.

وهو إلى التوبيخ أقرب والله أعلم، والمسألة تتعلق بالنية، يعني هذا الإنسان الذي يبذل المال أو يبذل العلم قد يصل بذلك البذل إلى أعلى المراتب، وقد يكون أول من تُسعّر به النار يوم القيامة، المُنفق الذي كان مقصوده أن يقول الناس: جواد، وكذلك العالم الذي كان مقصوده أن يقول الناس: عالم، أول من تُسعّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة[11]، فأن يكون الإنسان على حالٍ من الإيمان وإرادة ما عند الله تغيير النية فقط، وهذا لا يُكلفه شيئًا، ذلك في طلب العلم مثلًا في مقاعد الدراسة بالجامعات، في المدارس، هؤلاء الذين يذهبون هذه السنين الطويلة كل صباح هو فقط شيء واحد، يُصلحون النية، يغيرون النية، يُريدون ما عند الله بهذا فيكونون في عبادة عظيمة، ويكون ذلك سببًا لمزيدٍ من الإقبال والانشراح والاحتساب على ما يلقون من العناء والتعب والمكابدة، فتكون أنفاسهم مصروفة في عبادة من أجل العبادات، ويستغفر لهم كل شيء، لكن قد يجلس اثنان متجاوران وبينهما كما بين السماء والأرض، والفرق النية، فماذا عليه لو أنه غيّر نيته، فقط يُغير نيته، ما تُكلفه شيئًا، يُريد ما عند الله بهذا الطلب والآخر يُريد الدنيا فقط ومُكره، ولذلك هو يتمنى فراق هذه الدراسة، ولا تسأل عن فرحته لو أنه أُجيز في يوم، واليوم أصبحنا في حال يتمنى كثير من الطلاب الكوارث من الأمطار الكثيرة أو الغُبار أو غير ذلك الرياح العاتية من أجل أن يحصل على إجازة، فهذه ليست حال من يريد العلم ويرغب في العلم إطلاقًا، انظر إلى الفرق في المسجد ونحو ذلك تجد الحرص والإقبال والنية وما إلى ذلك يختلف تمامًا، ولذلك في المدارس يفرح التلاميذ إذا غاب الأستاذ، يطيرون فرحًا، أو قال: بأنه لن يأتيهم الأسبوع القادم أو نحو هذا فذلك عيد، بينما تجد في المسجد لربما يكون ذلك سببًا لشيءٍ من الحرج في نفوسهم والضيق.

قوله تعالى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] أي: وزنها، وهي النملة الصغيرة، وذلك تمثيل بالقليل تنبيها على الكثير.

هذا هو المعنى الذي تعرفه العرب في كلامها، أنه إذا ذُكرت الذرة يعني صغار النمل تمثيلًا للشيء القليل، هذا معهود العرب في الخطاب، ولا يجوز حمله على غير ذلك كقول بعض من يشتغل بالتفسير العلمي: بأن الذرة هي الجزء الصغير المُكون من سالب وموجب إلى آخره، فهذا غير صحيح، ولا يُمكن أن يُفسّر به القرآن؛ لأنه لا يجوز أن يُفسر القرآن باصطلاحٍ حادث، ولا يجوز حمله على غير معهود الأميين في الخطاب، هذا مع أنه وُجد ما هو أصغر من الذرة كما هو معلوم وهؤلاء للأسف طاروا زمنًا طويلًا بهذه المقالة، وأذاعوا في العالم أن القرآن أثبت ما اكتشفه العلم الحديث بعد أربعة عشر قرنًا من أن أصغر جزءٍ في الكون هو الذرة، ثم اكتشف العلم أن هناك ما هو أصغر من الذرة، مثل هذه الأشياء لا شك أنها تعود على القرآن بخلاف ما قصدوا من رفع شأنه، وأنه حق وأنه من عند الله -تبارك وتعالى- ثم يأتي ما يُبطل هذه النظريات، وللأسف هي تُذكر على أنها حقائق علمية وليست كذلك.

فالقرآن يُنزه عن مثل هذا، فالذرة هي الشيء الصغير، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، واللطيف كما ذكرنا في "الأسماء الحسنى"[12] مما فُسّر به أو مما يدخل في معناه الذي يعلم دقائق الأشياء، الأشياء الدقيقة، والخبير هو الذي يعلم الخفايا والبواطن كما قال الله : وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[الأنبياء:47]، فلا يضيع عند الله -تبارك وتعالى- شيء إن كان مثقال ذرة في الوزن: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ۝ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]، الوزن عند الله بمثاقيل الذر، يُحاسب على النظرة، وعلى حركة الجفن والعين التي قصد بها معنًى، الغمزة وتحريك الشفة إذا قصد به شيئًا، وإشارة اليد ونحو ذلك يُحاسب عليها، وكيف بالعظائم!

قوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ بالرفع فاعلٌ، وتكُ تامة، وبالنصب خبرٌ على أنها ناقصة واسمها مضمرٌ فيها.

وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ هذه قراءة أهل الحجاز، قراءة متواترة بالرفع فاعل، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ، وتكون هنا كان تامة، يعني كأنها وإن توجد أو تقع حسنة، فتكون حسنة فاعل بهذا الاعتبار، أي توجد، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ يعني وإن توجد حسنةٌ، فالحسنة فاعل، وبالنصب وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً [النساء:40] خبر على أنها ناقصة، يعني كان ناقصة، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً، واسمها ضميرٌ مضمرٌ فيها يعني وإن تكُ فعلته حسنةً، هذا إذا كان "كان" ناقصة بمعنى أنها ترفع المبتدأ اسمًا لها وتنصب الخبر خبرًا لها، وإن تكُ فعلته حسنةً يُضاعفها، هذه القراءتين وهذا واضح والله أعلم، هذا معنى قوله: "واسمها مضمرٌ فيها".

قوله: يُضاعِفْها [النساء:40] أي يكثّرها واحدةٌ بعشرٍ إلى سبعمائة أو أكثر.

فهي الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى أكثر من ذلك، وكما قال الله : مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، وفي الإنفاق كما مضى في البقرة: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، ومضى قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله- بأن قوله: وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ يعني بحسب ما يحتف بهذه النفقة من الإخلاص، وكذلك النفع المترتب عليها يعني الجهة التي تُبذل فيها هذه النفقة في فضلها، فضل المكان، فضل الزمان، فضل المُعطى، فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ [البلد:11-15] الآيات.

فإذا كانت الحاجة شديدة كان الأجر المُترتب على هذا أعظم، ما هو الآن المسغبة كما نُشاهد الآن في بلاد الشام وفي بلادٍ أخرى من حولنا تجد الناس في هذا الشتاء الشديد قد لا يجدون خيمة يبقون تحتها من المطر، يحفرون حُفر في الأرض، هذه مسغبة شديدة، هؤلاء في كُربة وهكذا، إذا زادت الحاجة وعظمت زاد الأجر، وهكذا في الزمان والمكان، لكن إذا وُجدت الحاجة لا ينتظر زمانًا ولا مكانًا، يعني يقول هذا المكان أفضل؛ لأنه أشرف كمكة أو نحو ذلك، لا، والله قال كما في البقرة: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [البقرة:274]، بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ معناها إنه لا ينتظر في نفقته إذا وُجدت الحاجة في النهار انتظر الليل يقول من أجل أن يكون سرًا، أو إذا دعت الحاجة في الليل قال: الصباح رباح يكون خير في الصباح إن شاء الله، لا، يُنفق متى ما دعت الحاجة إن كان ليلًا أو كان نهارًا.

قوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ [النساء:40]، أي: من عنده تفضلًا وزيادةً على ثواب العمل.

وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ، لدن هذه أخص من عند، يعني لو قال: ويؤتِ من عنده، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ، فهي أخص، وهذا المؤتى فُسّر بالجنة، وهذا مروي عن جماعة من السلف كأبي هريرة وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وقتادة والضحاك[13].

وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، فلا شك أن الجنة داخلة في هذا لكن هنا ذكر المضاعفة في الأجر، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا يعني الجنة، يعني غير المُضاعفة، زائد على المضاعفة، المضاعفة إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، ما هو إذن فوق المضاعفة؟

الجنة، وقد يُفسّر بما يؤتيه من الأجور المضاعفة، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا، ولكن ما ذُكر من أنه الجنة هذا قول طائفة كبيرة من السلف .

قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا [النساء:41] تقديره: كيف يكون الحال إذا جئنا بِشَهِيدٍ [النساء:41] هو نبيّهم يشهد عليهم بأعمالهم.

كيف تكون الحال فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، والشهادة أصلها يدل على معنى الحضور والعلم والإعلام، الشهيد يكون قوله صادرًا عن علمٍ بمشاهدة بصيرة أو بصر، ففيها معنى الشهود، وقال: "هو نبيّهم يشهد عليهم بأعمالهم"، كما قال الله : وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [الزمر:69]، وكل نبيٍ يشهد على أمته، وهذا التفسير يؤيده القرينة في الآية وهي قوله: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا، ودل على أن الشهداء الذين يشهدون عليهم في هذه الآية على الأمم هم أنبياؤهم -عليهم السلام-.

قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء:41]، أي: تشهد على قومك، ولما قرأ ابن مسعود هذه الآية على رسول الله ﷺ ذرفت عيناه[14].

وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً، يعني تشهد على قومك، بعضهم قيّده قال: كفار قريش، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً يعني على كفار قريش، ولكن كأن المعنى أوسع من هذا -والله أعلم-، ولهذا حمله ابن جرير على معنى تشهد على أمّتك؛ لأن الله قال: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، فكل أمة يشهد عليها نبيها، وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ يعني على هذه الأمة، وهذا أقرب والله تعالى أعلم، ولاسيما أن السورة أيضًا مدنيّة فكيف يُخص بكفار قريش.

وقراءة ابن مسعود على النبي ﷺ هذه السورة معروفة ومشهورة، النبي ﷺ قال له: اقرأ، فقال: يا رسول الله كيف أقرأ عليك وعليك أُنزل، قال: أنا أُحب أن أسمعه من غيري، وافتتح سورة النساء وقرأ حتى بلغ: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، ذرفت عيناه وقال: حسبك، وهو خرج في الصحيحين.

والعلماء تكلموا في تعليل ذلك، يعني لماذا ذرفت عيناه؟ والذي يظهر أنه استشعار لهذا الموقف، وقيل غير ذلك؛ لكن ليس هذا بمقصود هنا في مثل هذا المجلس أن تُذكر مثل هذه التعليلات فيما يُذكر من الأحاديث ما لم تكن الحاجة داعية إلى ذلك.

قوله تعالى: لَوْ تَسَّوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي: يتمنون أن يُدفنوا فيها، ثم تُسوّى بهم كما تُسوّى بالموتى، وقيل: يتمنون أن يكونوا سواءً مع الأرض كقوله: ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [عمّ:40]، وذلك لما يرون من أهوال يوم القيامة.

هنا لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ [النساء:42]، القراءة التي ذكرها هنا تَسَّوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وهذه قراءة حمزة والكسائي، يعني أن الأرض هي التي تسوى بهم، يعني تمنوا لو انفتحت لهم فساخوا فيها، لاحظ هنا ماذا قال: "يتمنون أن يُدفنوا فيها، ثم تُسوّى بهم كما تُسوّى بالموتى"، يدخلون في الأرض ثم تُسوّى الأرض لا يكون لهم أثر، لا يكون لهم وجود، أن الأرض تنشق فتبتلع هؤلاء الناس وتسوى عليهم فلا يبقى على ظهرها أحدٌ منهم، تَسَّوَّى.

القراءة التي نقرأ بها: تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، وهناك قراءة ثالثة لنافع وابن عامر، المعنى -والله أعلم- أنه كما قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[15] أن على هذه القراءات الثلاث أنها بمعنى قوله: ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً، يعني أنه يكون والأرض سواء، فإذا كان هو والأرض سواء معناه أنه يكون من جنسها، وذلك كما جاء في الحديث في المُقاصة التي تكون بين الدواب والبهائم ونحو ذلك، فإذا حصل ذلك قال الله لها: كوني ترابًا فتكون ترابًا، فعندها يتمنى الكافر لو كان ترابًا، فهذا معنى لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ، ويَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً يعني يتمنى لو كان من جنس الأرض، تحوّل إلى تراب ولا يُعذب، يعني هو يغبط هذه الحيوانات على ما آلت إليه من تسويتها بالأرض وسيرورتها ترابًا، لكن ابن كثير -رحمه الله- فسّر هذا أن تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ على هذه القراءة تَسَّوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ يعني لو انشقت وبلعتهم.

قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء:42] استئناف إخبارٍ أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئًا.

قوله: "استئناف إخبارٍ أنهم لا يكتمون يوم القيامة عن الله شيئًا" يعني هذه استئناف معناها أنها جملة جديدة تفيد معنًى آخر، فهنا قوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يعني أنها جملة منفصلة، وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً يعني أنه خبر، ذكر أمنيتهم أن تُسوّى بهم الأرض وأخبر عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثًا، أن كل شيء يتكلمون به ويعترفون ويُقرّون، يعني أخبر عنهم بشيئين، لكن هذا المعنى تحتمله الآية: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً.

ويحتمل أنه يرتبط بما قبله، لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، يعني أنه يكون معطوفًا على قوله: يَوَدُّ، أي: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ، ويومئذٍ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا، وهكذا على قول من قال: إنه مُستأنف.

وبعضهم يقول: معطوف والمعنى: يودّون لو أن الأرض سُويت بهم ولو أنهم لم يكتموا الله حديثًا، لظهور افتضاحهم وكذبهم، وهذا الذي يميل إليه أبو جعفر ابن جرير -رحمه الله-[16].

بمعنى: الآن عندنا أن ذلك إخبارٌ من الله بجملةٍ جديدةٍ مُستأنفة عنهم، الأول أن هؤلاء يتمنّون لو تُسوّي بهم الأرض، ثم أخبر عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثًا لذلك اليوم، ذكر أمنيتهم وذكر خبرًا عنهم أنهم لا يكتمون الله حديثًا.

المعنى الآخر: أنهم يتمنّون لو أن الأرض سُويّت بهم وما كتموا الله حديثًا؛ لأنهم افتضحوا وذكر كذبهم؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يختم على الأفواه فتنطق الجلود والجوارح وتُقر وتعترف، والأرض تُحدّث بأخبارها، فعند ذلك يُقرّ ويعترف، يقول: عنكن كُنت أُناضل[17]، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا.. [يس:65] الآية، فهذا يكون حينما يُنكر، فيُختم على فيه وتنطق جوارحه ثم بعد ذلك يُقرّ ويعترف، فهنا وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً، وهذا الذي أراد أن يذكره المؤلف في الجمع بين هذه الآية وبين ما ورد من كتمانهم.

فإن قيل: كيف هذا مع قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]؟

فالجواب من وجهين: أحدهما: أن الكتم لا ينفعهم لأنهم إذا كتموا تنطق جوارحهم فكأنهم لم يكتموا.

والآخر: أنهم طوائف مختلفة، ولهم أوقاتٌ مختلفة، وقيل: إن قوله: وَلا يَكْتُمُونَ عطفٌ على تُسَوَّى أي: يتمنون أن لا يكتموا لأنهم إذا كتموا افتضحوا.

أحسن من هذا كله -والله تعالى أعلم- في وجه الجمع بين الآيتين ما ذكره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله- في كتابه، وهو كتاب بديع مُفيد للغاية اسمه: "دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب"، يعني ما يُتوهم أنه متعارض فيجمع في وجوهٍ بديعة، فيكون قوله -تبارك وتعالى-: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً مع ما جاء من قوله -تبارك وتعالى- من قولهم: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، أنهم في البداية يُنكرون ثم بعد ذلك يُختم على الأفواه فتنطق الجوارح، فعندها يُقر ويعترف، هذا جواب واضح وجيّد وسديد.

وهناك جوابٌ آخر أيضًا يحتمل أن القيامة مواقف، ففي بعض المواقف يُنكرون وفي بعضها يُقرّون ويعترفون حيث لا يجدون للإنكار سبيلًا، -والله أعلم-.

  1. تفسير الطبري (7/6)، وتفسير ابن كثير (2/298).
  2. تفسير ابن كثير (2/298).
  3. تفسير الطبري (7/7-8).
  4. تفسير الطبري (7/11)، وتفسير ابن كثير (2/300).
  5. تفسير الطبري (7/14)، وتفسير ابن كثير (2/300).
  6. تفسير الطبري (7/16).
  7. تفسير الطبري (7/25).
  8. تفسير ابن كثير (2/174).
  9. انظر: تفسير ابن كثير (2/303).
  10. تفسير ابن كثير (2/303).
  11. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في الرياء والسمعة، برقم (2382)، وقال: "هذا حديث حسن غريب"، والنسائي في الكبرى، برقم (11824)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1713).
  12. على الرابط التالي: https://khaledalsabt.com/cnt/slasel/5222.
  13. تفسير ابن كثير (2/305).
  14. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء:41]، برقم (4583)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل استماع القرآن، وطلب القراءة من حافظه للاستماع والبكاء عند القراءة والتدبر، برقم (800).
  15. أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (1/241).
  16. تفسير الطبري (7/45).
  17. أخرجه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969).

مواد ذات صلة