الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(016) قوله تعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا...} الآية
تاريخ النشر: ١٩ / شوّال / ١٤٣٧
التحميل: 893
مرات الإستماع: 1282

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما أمر الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أن يقول للمشركين: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، وعلق ذلك بهذا الوصف ولم يذكر الضمير لبيان أن ما يُذكر بعده متعلق به، أن هذه الغلبة والحشر إلى جهنم بسبب الكفر، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا وجد الكفر في أي وقت، وفي أي زمان، وفي أي مكان، فهذا الوعيد متوجه إلى أصحابه، ولهذا لم يذكر الضمير فلم يقل: قل لهم ستغلبون وتُحشرون إلى جهنم، وإنما: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:12]، وهذا فيه إبراز للعلة التي حصل بسببها هذا الحكم، وهو الغلبة في الدنيا، والحشر إلى جهنم في الآخرة، وذلك هو هذا الفعل القبيح أعني الكفر بالله، جل جلاله وتقدست أسماءه.

ثم وجه الخطاب إليهم مُباشرة فقال: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [آل عمران:13].

كما في الآية السابقة: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمران:12]، بعضهم يقول: هذا الخطاب موجه لليهود باعتبار أن هذه الآيات في خطاب بني إسرائيل، لكن كما ذكرنا أن السياق في بضع وثمانين آية إنما هو في النصارى بالدرجة الأولى من هذه السورة سورة آل عمران، وأكثر ذكر اليهود كان في السورة التي قبلها في سورة البقرة، وذلك -والله تعالى أعلم- أن سورة البقرة من أوائل ما نزل في المدينة.

بعض أهل العلم يقول: هي السورة الثانية في النزول في المدينة، لكن ترتيب النزول لا يصح فيه حديث -والله تعالى أعلم-، الأحاديث التي ذُكر فيها ترتيب نزول سور القرآن، الروايات التي ورد فيها هذا لا يصح منها شيء لكن لا شك أن سورة البقرة من أوائل ما نزل في المدينة، وإن لم تنزل جميعًا؛ لأن بعضها كان آخر ما نزل من القرآن مُطلقًا، وهي الآيات الثلاث آية الربا وآية: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:281]، وآية الدَّين، آخر ما نزل من القرآن، لكن الكلام على صدر السورة وعامة آيات السورة فكان اليهود في المدينة، فلما هاجر إليها النبي ﷺ ونزلت عليه سورة البقرة ذكر خبرهم في سياق طويل؛ ليحتج عليهم وليُبين حالهم لنبيه ﷺ ولأهل الإيمان.

وهذه السورة سورة آل عمران إنما تأخر نزولها بعد ذلك بمدة حينما توافد العرب على النبي ﷺ من أنحاء الجزيرة وكان ممن قدِم على النبي ﷺ من الوفود وفد نجران، وكان عامة تلك الوفود كما هو معلوم بعد فتح مكة في السنة التاسعة للهجرة، وأيضًا في السنة العاشرة من الهجرة، فتأخر نزول هذه السورة لهذه المناسبة، والله أعلم، وهو قدوم هذا الوفد، وكما ذكرنا لكم بأن الروايات التي وردت في هذا لا تخلو من ضعف، يعني: في صدر هذه السورة نزل في وفد نصارى نجران، لكن سياق الآيات والروايات مجتمعة يدل على أن ذلك له أصل، والله تعالى أعلم.

والمفسرون يذكرون هذا من غير نكير، وممن ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[1]، يعني: أنها نازلة في وفد نصارى نجران.

فهنا يقول الله : قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا [آل عمران:13]، الذين قالوا إن الآية التي قبلها: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12]، أنها نازلة في اليهود قالوا: هذه أيضًا في اليهود، أن الله يقول لهم: هذه آية، وذلك ما وقع في غزوة بدر، وأنه سيحصل لكم ما وقع لهؤلاء وذلك أيضًا علامة على صحة ما جاء به النبي ﷺ، وعلى ظهور أمره، وأن العاقبة له، لكن هذا لا يختص باليهود، والسياق كما ذكرنا في النصارى، فهذا عام في كل المكذبين والكافرين على اختلاف مللهم ونِحلهم وطوائفهم فالله -تبارك وتعالى- يذكر لهم هذه العِبرة، وما فيها من الدلالة العظيمة حيث التقى الجمعان، أعني جمع أهل الإيمان مع رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-، وجمع المشركين من أهل مكة في وقعة بدر، فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا، ثم ذكر حال كل فئة، وما لها من المقاصد والأهداف:

فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وهم أهل الإيمان؛ لإعلاء كلمته وإعزاز دينه.

وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، يعني: تقدير وهذا من ضروب البلاغة الذي يسمونه بالاحتباك، يعني: ذكر لكل طرف وصفًا يدل على الآخر الذي لم يُذكر: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، يعني: فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ، تقاتل في سبيل الشيطان، ففي الفئة الأولى ذكر الغاية تقاتل في سبيل الله وترك الوصف الذي هو الإيمان، في الفئة الثانية ذكر الوصف الذي هو الكفر وترك الغاية والتقدير، إذا ذُكر المحذوف من هذه الفئة والمحذوف من هذه الفئة من الأوصاف يكون هكذا: "قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة مؤمنة، هذا المحذوف، تقاتل في سبيل الله، طيب والفئة الأخرى قال: "وأخرى كافرة، ما المحذوف؟

تقاتل في سبيل الطاغوت الشيطان، فالعرب تحذف من الكلام ثقة بالسامع اختصارًا، وهذا كثير وهو أنواع لكن هذا النوع يُقال له: الاحتباك، حُذف من كل وصف يدل عليه الآخر.

فهنا قال: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، وقوله: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ هذه الأولى، وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، الأصل أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، ومن هنا قال بعض أهل العلم: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ أن المشركين كانوا يرون المسلمين مثليهم، والمقصود بمثليهم بعضهم يقول: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يعني على الضعف من عددهم الحقيقي عدد المسلمين، يعني: كان المسلمون مثلاً: ثلاثمائة وأربعة عشر، فالمشركون صاروا يرونهم على الضعفين.

وقال بعض أهل العلم: أنهم يرونهم مثليهم يعني مثلي أنفسهم، المشركون كانوا بين التسعمائة والألف فكانوا يرون المسلمين على الضعفين منهم من المشركين يعني قرابة الألفين، يرون المسلمين قريبًا من ألفين، هذا المعنى هذا قال به بعض أهل العلم.

وبعضهم يقول: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ، يعني: أن المسلمين يرون المشركين مثليهم، مثليهم يحتمل أن يكون أنهم يرون المشركين على الضعف من عددهم إذا كانوا ألفًا يرونهم ألفين، وإذا كان الضمير يرجع إلى المؤمنين يرونهم مثليهم فالمؤمنون ثلاثمائة وأربعة عشر، فهم يرون المشركين بحدود ستمائة وقريب من خمسين، يعني ستمائة وثمانية وعشرين، هذا يحتمل، ممن قال بهذا يعني أن المقصود أن ذلك يرجع إلى المؤمنين أنهم كانوا يرون المشركين يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يرون المشركين بهذا العدد هذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[2].

والقول الآخر أن المقصود بذلك أن الكفار كانوا يرون المسلمين على الضعف هذا قال به الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-[3]، وطائفة من المفسرين، والآية تحتمل هذا وهذا، وفيها من المعاني ما ذكرت من الاحتمالات الأخرى من الأقوال الأخرى، هل معنى ذلك أنهم يرون العدد يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ مثلي أنفسهم أو مثلي المشركين؟ هذا يحتمل.

والحافظ ابن كثير -رحمه الله[4] في ظاهر كلامه كأنه جمع بين هذا وهذا؛ أن كل فئة كانت ترى الأخرى كثيرة، وأن هذا لا يُعارض قول الله -تبارك وتعالى- في سورة الإنفال: وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً [الأنفال:44]، فيقولون: بأنه بمجرد المعاينة المؤمنون -يعني مثل كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- كانوا يرون الكفار أكثر من عددهم الحقيقي يرونهم مثليهم، من قال: مثلي المؤمنين قالوا من أجل أن لا يكون ذلك شديد الوطأة، من أجل أن الله أعلم المؤمنين أنهم إذا كان منهم مائة صابرة يغلبوا مائتين، يعني: الواحد لاثنين، والألف يغلب ألفين، فصاروا بضعف عدد المسلمين في أعين المسلمين، يعني: ستمائة وثمانية وعشرين تقريبًا على الضعف، من أجل أن يتوكلوا على الله، يقوى توكلهم، والكفار يرون المسلمين على الضعف من أجل بث الرُعب في نفوسهم، فلما حصل المواجهة والمصافّة بين هؤلاء وهؤلاء هنا جاءت الآية وهي التقليل: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال:44]، من أجل أن تجترئ كل فئة على الأخرى، هم يرون المسلمين قلة والعكس، جاء في هذا عن ابن مسعود حينما دار حديث بينه وبين رجل بجواره تراهم يبلغون المائة؟ قال: "قريب من السبعين"[5]، أو نحو ذلك.

تصوروا من ألف ونحو ذلك إلى قريب من المائة، ليُغري كل فئة بالأخرى؛ لأن المسلمين كان عندهم شيء من الانقباض ويودون أن غير ذات الشوكة تكون لهم التي هي القافلة والعير، فيقولون: ما خرجنا لقتال، فإذا أراد الله أمرًا كان، فهيأ لهذا اللقاء الذي كرهه أهل الإيمان في البداية، وما خرجوا من أجله، وحصل هذا التقليل لهؤلاء وهؤلاء، والتكثير في البداية لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً [الأنفال:42]، فصار هذا الحسم التاريخي الذي يُذكر عبر الأجيال، وهم كارهون له في الابتداء، وصار ذلك الشرف لمن شهد بدرًا، يكفي أن يُقال: هو ممن شهد بدرًا يكفي، لكن لو أنهم فازوا بعير ورجعوا بالإبل وما عليها لكان ذلك مما لا شأن له ولا ذكر، لكن انظر إلى تدبير الله وتقديره: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ، يعني: أنها ليست مجرد رؤية قلبية، أو معلومات لديهم، لا لا، يرونهم: ليس المقصود أنهم يرونهم يعني بتقديرهم وعقولهم وقلوبهم رؤية علمية، وإنما يرونهم رأي العين يشاهدونهم، وهذا لا شك أنه يدل على عظمة قدرة الله تختلف المعايير والمقاييس، وتختلف الصور التي تلتقطها العين الباصرة مما هو خارج عن نطاقها وقدراتها الحقيقية، يعني: تقع على صور تختلف عن الواقع من أجل أن يتحقق مراد الله -تبارك وتعالى.

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:13]، يقوي بنصره من يشاء من عباده المؤمنين إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ، هذا الحدث الكبير وما جرى فيه من التقليل أو التكثير عِبرة، فيه عِظة، وفيه عِبرة لأصحاب العقول الكاملة، لأصحاب البصائر النافذة، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ.

والعبرة تُقال أصل ذلك يرجع إلى معنى العبور، وهي الانتقال، ولهذا يُقال العَبرة لأنها تنتقل يقولون من العين إلى الخد، ويُقال عبّارة ومعبر؛ لأنه يُنتقل من هذه الضفة إلى الضفة المعبر، ونحو ذلك.

فهذه العبرة يحصل فيها انتقال من حال إلى حال، ينتقل من حال هذا، يُقال: العاقل من وعِظ بغيره، والشقي من وعِظ بنفسه، فالعبرة أنه ينتقل ينظر في حال هذا ثم يرجع إلى حاله، فيقول: لو كنت مكانه فيعتبر بهذا، فلا يفعل فعله، ولا يقع في هذا الذي أوقعه في الردى، وهذه النهاية البائسة، وما أشبه ذلك، لكن هذه العِبرة لأولي الأبصار، والأبصار المقصود هنا ليست بصر العين، وإنما بصر القلب.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد.

  1. مجموع الفتاوى (17/ 377).
  2. تفسير الطبري (5/ 244).
  3. العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (5/ 71).
  4. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 17).
  5. تفسير ابن كثير ت سلامة (2/ 18).

مواد ذات صلة