الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(032) قوله تعالى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ...} الآية
تاريخ النشر: ١٩ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 679
مرات الإستماع: 1333

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء اليهود الذين ذكر صفتهم على سبيل الذم والعيب والتحذير لهذه الأمة من مشاكلتهم والوقع فيما وقعوا فيه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23]، ذكر بعد ذلك علة هذا الإعراض والاستخفاف بالداعي وبما دعوا إليه وهو قوله -تبارك وتعالى-: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]، فهذا الانصراف عن الحق وقلة الاكتراث بما دعاهم إلى كتاب الله -تبارك وتعالى- ليحكم بينهم إنما هو ناشئ عن هذا الاعتقاد الفاسد، أو الدعوى الزائفة من قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ [آل عمران:24]، أيام قليلة كما سيأتي.

وقد قال بعض أهل العلم: إنهم قصدوا بقدر وعدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، وهذا ظاهر في اليهود؛ لأن اليهود كما ذكر الله -تبارك وتعالى- عنهم في سورة البقرة صراحة بأنهم قالوا هذه المقالة: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ۝ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:80-81]، فهناك رد عليهم بهذه الطريقة التي يُسميها العلماء بالسبر والتقسيم، يعني التقسيم بحصر الأوصاف، وهي طريقة من طُرق الجدل معروفة عند علماء الجدل، يعني: التقسيم بحصر الأوصاف: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، لا شك أنهم لم يتخذوا عند الله عهدًا، ما الذي بقي؟ أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، فهذا السبر هو الاختبار اختبار الأوصاف، ما هو الوصف المناسب للحكم وما هو الوصف غير المُعتبر فيُستبعد، هذه طريقة معروفة، كذلك له نظائر في كتاب الله -تبارك وتعالى-.

وهذا يُطبق في النصوص عمومًا واستخراج العلة الصحيحة في باب القياس، مثلاً: لو أردنا أن نُطبق طريقة السبر والتقسيم العقليين هذه على علة الكفارة المُغلظة في انتهاك حرمة الصوم وذلك على حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي ﷺ يلطم وجهه وينتف شعره يقول: "هلكت وأهلكت واقعت أهلي في نهار رمضان وأنا صائم"[1].

فهذه سبعة أوصاف ما هو الوصف المؤثر في الحكم يُطبق عليه طريقة السبر والتقسيم، يعني: هذه الطريقة طريقة التقسيم يُقال: إن قوله: اعتق رقبة مثلاً هل لأنه أعرابي "جاء أعرابي"، أو أن هذا من الأوصاف الطردية التي لا تؤثر في الحكم فيُلغى "جاء أعرابي"، هذا يُستبعد الأعرابي والحضري سواء في الحكم.

وقوله: "يلطم وجهه" هل هذا الوصف المؤثر في الحكم لأنه يلطم وجهه قال: أعتق رقبة، لو لم يلطم وجهه فيُستبعد هذا وصف طردي، طردي يعني لا أثر له، ليس بوصف مناسب فيُستبعد، "ينتف شعره" الآن هذا السبر هو الاختبار للأوصاف التي جمعناها وحصرناها "ينتف شعره"، هذا وصف طردي يعني حتى لو لم ينتف شعره فالحكم واحد.

"ينتف شعره ويقول: هلكت وأهلكت"، هل هذا هو المؤثر في الحكم قال: أعتق رقبة؛ لأنه قال: هلكت وأهلكت؟

الجواب: لا.

الخامس من الأوصاف الواردة في هذا الحديث قال: "واقعت أهلي"، هل وقاع الأهل يوجب إعتاق رقبة؟

الجواب: لا، هذه ستة أوصاف صارت غير مؤثرة طردية، "في نهار رمضان"، هل هذا هو الوصف المؤثر أنه من واقع حتى لو كان مفطرًا لعذر كالسفر؟

الجواب: لا، "في نهار رمضان"، قال: "وأنا صائم" فهنا العلة مُركبة أنه واقع في نهار رمضان وليس في الليل وهو صائم، مركبة من هذه الأوصاف الثلاث فهذا هو الوصف المناسب لشرع الحكم أنه تجب الرقبة الكفارة المُغلظة على من واقع في نهار رمضان وهو صائم، لكن لو واقع في القضاء في غير نهار رمضان لا يجب عليه عتق رقبة، لا يجوز له أن يواقع في القضاء، الصوم الواجب كالنذر أيضًا لكن ليس عليه عتق رقبة فلابد أن يكون في نهار رمضان وهو صائم.

ففي سورة البقرة: أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ، وترك الجواب، الواقع أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، ثم جاء التقرير الذي لا يدع في الحق لبسًا: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وهي الكفر، فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:81]، ليست القضية بالدعاوى والأماني.

وهنا في سورة آل عمران: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ [آل عمران:24]، يعني: هذا الذي أوقعهم في هذا الإعراض هو الاغترار والدعاوى الكاذبة والأماني الباطلة قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]، فهذا الاغترار أوجب لهم هذا الاستهتار والاستخفاف والاستهانة بالداعي وما دعوا إليه من التحاكم إلى كتاب الله -تبارك وتعالى-.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الفوائد من قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا فهذا يُفيد التعليل، والمواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى- الدالة على التعليل كثيرة جدًا وبصيغ متنوعة يمكن أن يُصنف منها كتاب لو جُمعت فذلك الإعراض "بأنهم" يعني: بسبب، فالباء هنا دالة على التعليل،  ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا فهم اعتقدوا ذلك لكن لما كان هذا الاعتقاد لا يقوم على أساس أصلاً عُبر عنه بالقول -والله تعالى أعلم-، وكثير في القرآن يُضيف ذلك إلى ما يُشبه هذا: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167]، فأضافه إلى الأفواه؛ لأنه لا قرار له إنما هي أماني ونحو ذلك، وهنا باعتبار أنه من قبيل النفاق  يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167].

وكذلك أيضًا في غيره من المقالات في مثل قوله -تبارك وتعالى-: وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ [المجادلة:8]، ونحو هذا باعتبار أن هذه مجرد أقوال وكما في سورة النور: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور:15]، يعني: هو مجرد قول لا يجاوز الأفواه ليس له حقيقة في الخارج فهنا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فهنا لم يعتد بهذا الاعتقاد، وسماه قولاً باعتبار أنه مجرد أماني، وهذه الأماني لم تُبنَ على أصل صحيح، ولا دليل يمكن الاعتماد عليه فهي لا شيء، ولهذا ينبغي على الإنسان أن يحذر من اتباع ما تُمليه نفسه وما يُمنيه به الشيطان ويُزينه له فيؤجل التوبة ويسترسل مع الباطل ودواعيه فيكون ذلك سببًا لخراب آخرته.

وهكذا أيضًا فإن قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فعبروا بأقوى صيغة من صيغ النفي "لن"، صيغ النفي تتفاوت في قوتها، فهنا أقوى الصيغ، أقوى صيغ النفي "لن" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ كأنهم قد استوثقوا لأنفسهم، وهذا يدل على شدة مكابرتهم وعِظم دعواهم الباطلة، وأن هؤلاء القوم من أهل الافتراء: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، فكيف جزموا بهذه الطريقة؟!

فهذا يدل على شدة الغرور الذي كانوا عليه، ثم إذا كان هؤلاء كما يدل عليه ظاهر اللفظ، وهو كما هو معلوم من اعتقادهم أنهم يؤمنون باليوم الآخر، وهم يقولون: لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات، وكانوا يقولون للمسلمين: بأنهم -أي اليهود- سيبقون فيها بقدر الأيام التي عبدوا فيها العجل، ثم يخرجون منها، ثم يدخلها المسلمون، ويخلفونهم فيها؛ فأكذبهم النبي ﷺ وبين أنهم يدخلونها ويُخلدون فيها فلا يخرجون، هكذا كانوا يدعون، وهكذا كانوا يتمنون، ومن كان بهذه المثابة لا تسأل عن حاله فيما يتصل بتمسكه بكتابه، والتحاكم إليه والاحتراز مما يُسخط الله -تبارك وتعالى-، فهو في حال من الترهل، وفي حال من الإعراض وفي حال من التفريط؛ لأنه يعيش مع هذه الأمنيات التي لا يبنيها على أصل صحيح.

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فالغرور يكون سببًا للتضييع والتفريط وترك العمل بالحق الذي يجب على الإنسان أن يلتزمه، فهذا مثال من حال هؤلاء اليهود، فالواجب على أهل الإيمان أن لا يغتروا وأن لا يكونوا كهؤلاء، والواجب أيضًا على من يعظ الناس ويُذكر الناس أن لا يُغري النفوس بالمعصية بقصد أو بغير قصد، تسمع أحيانًا طرحًا غريبًا يُغري بالمعصية، ويُغري بالتوسع باللذات المُحرمة والمساخط التي يسخطها الله -تبارك وتعالى-، قد يأتي من يتحدث مع قوم الغالب عليهم التفريط والتضييع والتقصير ولربما أن بعضهم لا يُصلي أصلاً، أو أنه يصلي ويترك مع ما يقارفون من ألوان المنكرات، ثم يُقال لهم كلام يزيدهم إمعانًا في ما هم فيه من الانحراف.

فهذا غير صحيح وليس من الفقه في التعليم والدعوة والوعظ والنصيحة للمسلمين، قد يأتي من يقول لهؤلاء الناس أين أنتم من رحمة الله -تبارك وتعالى- فتلك مائة رحمة أنزل رحمة واحدة يتراحم بها الخلق، وهذا ثابت عن النبي ﷺ رحمة واحدة يتراحم بها الخلق، فالأم ترحم ولدها بجزء من هذه الرحمة.

فيقول: لو أن حسابك وكل إلى أمك، مهما كنت مقصرًا، فما ظنك الأم برحمتها وشفقتها على ولدها؛ فلا شك أنه إذا وكِل الحساب قيل لك: إن الحساب موكول إلى أمك في الآخرة هي التي ستحاسبك، فلا شك أنك ستنبسط، وتستروح، وتطمئن غاية الاطمئنان؛ لأن الأم في غاية الرحمة لولدها، فيقول: الله -تبارك وتعالى- أرحم بالإنسان من الوالدة بولدها، لا شك أن الله أرحم بالوالدة من ولدها لكن ليس بهذه الطريقة تُساق النصوص وليس بهذه الطريقة يكون الفهم، فهو أرحم من الوالدة بولدها ولكن أيضًا هو شديد العقاب، هو الذي يقول: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ۝ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ۝ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ۝ إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ۝ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ۝ وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ ۝ لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:30-37]، فهذا يُجمع مع النصوص الأخرى، فهؤلاء الذين يغلب عليهم التقصير لا يُقال لهم هونوا عليكم فإن الذي سيحاسبكم هو أعظم بكم رحمة من أمهاتكم لو وكِل إليهن الحساب، هذا خلط الحق بالباطل، الله أرحم بعباده نعم، وهو أرحم من الوالدة بولدها ولكن ليس هكذا تُفهم نصوص الشريعة وتُساق للمقصرين بهذه الطريقة، كأنه يُقال لهم من غير قصد: استرسلوا فيما أنتم فيه ولا بأس عليكم، وافعلوا ما شئتم من الموبقات، لو كان الحساب عند أمك فإنك لا تُبالي، فالذي سيُحاسبك أرحم بك من أمك.

إذن لا بأس عليك، هذه هي النتيجة، إذا كانت الأم هي التي سُتحاسب فلا بأس على الإنسان، فإذا كان الذي سيُحاسب أرحم منها بك إذًا من باب أولى أن تنبسط مع الذنوب والمعاصي وتتوسع وتفعل ما يحلو لك، هذه هي النتيجة، هذه الرسالة التي تُفهم ولا يُفهم غيرها، فهذا الطرح غلط، وما كل ما تطرب له أسماع هؤلاء وينجذبون معه للمُتحدث أو المُلقي يكون صحيحًا ومحمودًا، لا، وإنما ينبغي أن يُبين الحق للناس بطريقة شرعية صحيحة مُنضبطة بضوابط الشرع، أما قبول الناس ورضا الناس ونحو ذلك فليس ذلك منوطًا بتضييع حقائق الشرع وتبديل ما دلت عليه النصوص بمثل هذه الفهوم، أو من يقول للناس والجمهور الذين يسمعون ويتحدثون في جملتهم هم في غاية التقصير، ثم يقال لهم: الله يقول عن الإنسان: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8].

الإنسان من طبيعته يُحب الخير، يعني كأنه يقول: أنتم لا بأس عليكم، إنه لحب الخير، مع أن الآية بالاتفاق لحب الخير يعني المال، فكيف تُحمل على هذا المعنى الفاسد لحب الخير يعني المعروف والبر؟ أبدًا، الله -تبارك وتعالى- ذكر كثيرًا من أوصاف الإنسان التي تدل على ميله مع هواه: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22]، إلى آخر ما ذكر من الأوصاف، فكيف يُقال إن الخير في هذه الآية: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، يعني: عمل الخير والبر والمعروف يُحبه حبًّا شديدًا، لا لا، هناك من الناس من يُبغضه بغضًا شديدًا لا يُحب الخير ولا أهل الخير، يكرههم غاية الكراهية، فكيف يُقال إن الإنسان في طبيعته شديد الحب للخير، لا، المقصود بالآية بالاتفاق: المال، فكيف يُلبس على الناس بهذه الطريقة، فهذا انحراف في الوعظ وانحراف في التعليم والدعوة، هذه دعوة بطريقة غير شرعية.

وهكذا أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة من قوله -تبارك وتعالى-: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أن اعتقاد النجاة عند الله -تبارك وتعالى- يحمل الإنسان على الجرأة، الجرأة على الله وعلى حدوده ومساخطه، فيُقارف الإنسان ما يُقارف ولا يُبالي، فهنا هؤلاء اعتقدوا النجاة من عذاب الله فجرأهم على ارتكاب مثل هذا الإعراض.

وفي هذه الآية الكريمة أيضًا يؤخذ منها أن مجرد الإيمان باليوم الآخر كما دلت عليه في ظاهرها: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ يؤمنون باليوم الآخر، أن هذا الإيمان لا ينفع صاحبه إذا كان ذلك لم يتبعه الإذعان والانقياد والقبول الحقيقي.

وكذلك أيضًا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ، هنا "أيامًا" الجمع نوعان: هناك جمع قلة وهناك جمع كثرة، فأيام جمع قلة، الصيغة من حيث اللغة العربية "أيام" هي جمع قلة، ومعدودات أيضًا جمع قلة، فدل على القلة من الجهتين، لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا، والتعبير أيضًا بالمعدودات وهذا مع قولهم في النفي: لَنْ التي هي أقوى صيغة من صيغ النفي يدل على شدة الاغترار عبروا بجمع قلة مرتين "أيامًا" و"معدودات" فهذا يُغريهم بمزيد من الإعراض والمقارفات المحرمة والاستخفاف بحدود الله -تبارك وتعالى- وبمن دعاهم إلى لزومها.

وكذلك أيضًا هنا في قوله: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ يعني هذا الافتراء أنها لن تمس هؤلاء النار إلا أيامًا معدودات هي سبب اغترارهم وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ الذي كانوا يفترونه غرهم، وهكذا قد يكون صاحب الباطل يفتري الفرية ثم يُصدقها وينساق خلفها، افتروا هذه الفرية: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وما لبثوا ما أبطئوا في تصدقيها والعمل بمقتضاها، وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ فهذا يدل على أن الاغترار بالعمل والدعاوى الكاذبة والأماني أنه نقص في عقل الإنسان وتفكيره، ونقص في دينه أيضًا وإيمانه، وإلا فالعاقل إنما يأخذ بالحزم ولا يتبع الأماني الباطلة، كما قال الله : وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60]، يعني: هو يعمل الأعمال الصالحة ومع ذلك يخاف أن لا يُقبل منه لوجود مانع أو لفقد شرط، هو يخاف، فكيف بهذا المُفلس الذي لا يعمل ثم بعد ذلك يعيش ويقتات على الأماني، وهكذا من يعمل ثم بعد ذلك يتمسك بالأماني ويعتقد أن ذلك قد قُبل منه، ولذلك تسمع أحيانًا في ثنايا سؤالات الناس واستشكالاتهم، هذا الذي يقول: صيام عرفة يُكفر سنة ماضية وسنة آتية لماذا نصوم يوم عاشوراء؟ ما شاء الله، هو الآن مستوثق أنه قد قُبل منه صيام عرفة فكفر السنة الماضية والسنة الآتية فلماذا يصوم عاشوراء، هو في غنى أن يصوم يومًا زائدًا على يوم عرفة، بل قد يُغريه ذلك بمزيد من الجُرأة على الله ، يقول: ما دام أنه يُكفر سنة ماضية وسنة آتية إذن نفعل ما نشاء وما تُمليه الأنفس والأهواء، فهذا ليس بالفهم الصحيح إطلاقًا، وذلك يستوي فيه من لا يعمل بل هو أشد، ومن يعمل ثم يستوثق أن ذلك قد قُبل منه ويُرتب عليه أحكامًا، يُرتب عليه أحكام النصوص التي ورد فيها من قال كذا وكذا مثلاً: غُفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر[2]، فيعتقد أنه قد غُفر له، أو يفعل المعاصي ويقول: أقول هذا ويُغفر له، فهو باسط للسان ولليد وللبصر، وقد شنف سمعه لكل منكر ويقول: تُغفر هذه الخطايا بمجرد قول الإنسان كذا وكذا كما جاء في بعض الأحاديث، فهذا غرور وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، فما الذي يُدري الإنسان أنه قد قُبل منه وهو يُصر على هذه الانحرافات والضلالات والمعاصي قد يكون من موانع القبول، وقد يحصل للعمل المُعين من المُبطلات السابقة أو اللاحقة ما يجعل هذا العمل لا يُنتفع به ولا يحصل أثره.

فقوله: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ يدل على أن الإنسان الذي قد يحصل له شيء من الاغترار المُجرد أنه قد يرجع، لكن إذا كان ذلك مبناه على فرا يتشبث بها ويتعلق بها فهذا يدل على أن هذا الإنسان قد لا يرجع؛ لأن عنده دعاوى كبيرة، ويوجد من يطرح مثل هذا الطرح ويفعل ما يشاء بدعوى أن من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه دخل الجنة، وتجد هذا الإنسان قد لا يُصلي ويفعل الفواحش ونحو ذلك ويضمن لنفسه الجنة، أو النصوص التي ورد فيها أنه يحرم على النار أو نحو ذلك، فمثل هذا لا شك أنه من الغرور، فأين التقوى التي دلت عليها النصوص؟! وأين الإيمان والعمل الصالح.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم-.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب إذا جامع في رمضان، ولم يكن له شيء، فتصدق عليه فليكفر، برقم (1936)، ومسلم، كتاب الصيام، باب تغليظ تحريم الجماع في نهار رمضان، برقم (1111).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، برقم (6405)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، برقم (2691).

مواد ذات صلة