الأحد 22 / جمادى الأولى / 1446 - 24 / نوفمبر 2024
(047) قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ..} الآية
تاريخ النشر: ١٩ / ذو الحجة / ١٤٣٧
التحميل: 691
مرات الإستماع: 1073

الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما طالب الله -تبارك وتعالى- من يدعي المحبة ببرهانها قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، فجعل اتباع النبي ﷺ هو دليل محبة الله ، وهو السبيل إلى محبة الرب لعبده، ثم أمر بطاعته، وطاعة رسوله ﷺ، وأن التولي عن ذلك كفر فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [آل عمران:32]، بعد هذا جاء السياق للحديث عن المسيح ، وكما قلنا: بأن صدر هذه السورة إلى بضع وثمانين آية هي في محاورة النصارى، والرد عليهم، فكان هذا المدخل في بيان حقيقة المسيح، والرد على النصارى فيما اعتقدوا فيه من الباطل، فبدأ بالحديث عن الاصطفاء، والاجتباء ليكون ذلك أدعى إلى القبول، قبول هؤلاء الذين يزعمون أنهم أتباع المسيح إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:33-34].

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا، يعني: اختار هؤلاء، وجعلهم أصفياء على الخلق، اصطفاهم على العالمين، بعض العلماء يقولون: اصطفاهم على أهل زمانهم من أجل أن لا يكون ذلك، أو لا يُفهم منه أنهم أفضل من النبي ﷺ، وبعضهم يقول هذا على إطلاقه إلا أن النبي ﷺ بلا شك أكمل، وأفضل لكنه لم يُذكر؛ لشهرته، وأنه خليل الرحمن؛ ولأن الحديث موجه إلى النصارى ليكون ذلك مدخلاً لبيان الاعتقاد في المسيح ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى فالاصطفاء هو الاجتباء، وآدم نبي كما هو معلوم، ونوح هو أول رسول إلى أهل الأرض أول الأنبياء آدم، وأول الرسل نوح .

وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ يحتمل أن يكون المراد بآل إبراهيم، وآل عمران نفس إبراهيم ، ونفس عمران، فقد يرد الآل بمعنى الشخص نفسه، لما ذكر الله -تبارك وتعالى- التابوت وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ [البقرة:248]، قال: بعضهم: يعني مما ترك موسى آثار موسى ، وآثار هارون ، أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، يعني: فرعون، ويحتمل أن يدخل الرجل نفسه في الآل، وأتباعه على دينه، ويحتمل أن يكون أضيق من ذلك بأهل بيته، ونحو ذلك، هذا معروف، وقد ذكرناه في بعض المناسبات، فآل إبراهيم يحتمل أن يكون المراد إبراهيم ، ويحتمل أن يكون إبراهيم، ومن جاء من ذريته من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، وهكذا آل عمران.

ثم يؤخذ من هذه الآية الكريمة إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا هذا يدل على ما ذكره الله -تبارك وتعالى- بقوله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، فهذا الخلق لله -تبارك وتعالى-، وهو يختار من هذا الخلق كما قال: الحافظ ابن القيم -رحمه الله- سواء كان في الذوات كما اختار الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- على سائر الخلق، واختار محمدًا ﷺ على سائر الأنبياء.

وكذلك أيضًا في البقاع اختار مكة على غيرها، واختار المدينة مهاجرًا لنبيه ﷺ، وكذلك أيضًا يكون في الأزمنة؛ كما اختار عشر ذي الحجة على غيرها، اختار رمضان على غيره من الشهور، واختار يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع، وهكذا، فهذا الاختيار في الأزمنة، والأمكنة، والذوات، وهذا يدل على إثبات المشيئة، والإرادة لله ، وهذا الاختيار هو مبني على علم وحكمة.

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ [آل عمران:33]، فذكر إبراهيم هنا "آل إبراهيم" يمكن أن يكون ذلك لجذب نفوس هؤلاء المخاطبين الذين يحتج عليهم ببيان التوحيد، والرد على عقائدهم الفاسدة في المسيح ، وغير ذلك.

هنا هؤلاء يعترفون باصطفاء إبراهيم ، وهو أبو الأنبياء، كل الأنبياء الذين من بعده كانوا من ذريته، وهذا النبي؛ أعني إبراهيم هو الذي اتفقت الطوائف على تعظيمه، يعني اليهود يُعظمونه، والنصارى يُعظمونه، والمسلمون يُعظمونه، والكل يدعي الانتساب إليه، وأنه على دينه، فأكذبهم الله كما سيأتي في ثنايا هذه السورة مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا [آل عمران:67]، وبين بُطلان ما يعتقدونه من كونه يهوديًّا، أو نصرانيًّا.

وهذا يكون مدخلاً لأن الله اصطفى محمدًا ﷺ للنبوة كما اصطفى إبراهيم لذلك، فهو من آل إبراهيم؛ أعني محمدًا ﷺ، وهو من ذريته، من ولد إسماعيل، وكما قال: النبي ﷺ: إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم[1] فهذا من اجتبائه -تبارك وتعالى-، واختياره.

وَآلَ عِمْرَانَ، وهم مندرجون في آل إبراهيم، لكن هذا أخص ليكون ذلك مدخلاً للحديث عن المسيح، والحمل به، وولادته، وما كان من نذر امرأة عمران إلى غير ذلك مما ذكره الله من التفاصيل، كل ذلك هو في غاية المناسبة للحديث عن هذه القضية التي كثُر ضلالهم فيها، ويزعمون أنهم أولى بالمسيح .

فهذا يؤخذ منه الدخول إلى القضايا ذات الإشكال، أو التي يختلف الناس فيها، أو التي وقع فيها اضطراب لدى بعض الناس بالمداخل التي تكون أدعى للقبول، ويكون ذلك سبيلاً لتقبل النفوس، وتهيئها، وذلك خير من أن يلج فيها مُباشرة، ثم بعد ذلك تنقبض النفوس، ولا تكون مُهيأة للاستماع، والقبول، فهنا قد أوصلهم في الاصطفاء إلى الأب الأقرب بعد إبراهيم عمران وَآلَ عِمْرَانَ فإذا كان هذا الاصطفاء، واقع في آل عمران فقد وقع في مريم، وكذلك أيضًا وقع في عيسى ، وإذا كان هؤلاء أهل اصطفاء فالنبي ﷺ من باب أولى.

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، هؤلاء الأخيار، الأطهار، الأبرار هم سُلالة طُهر وفضل وخير، وزكاء متواصلة متصلة بالصلاح، والإخلاص، والخيرية، والتوحيد لله -تبارك وتعالى-، والتقوى، والعمل بمرضاته، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فهنا فيه بيان أن الله -تبارك وتعالى- سَمِيعٌ يسمع كلام العباد، ويسمع دعاءهم، وسيأتي دعاء امرأة عمران، ودعاء أيضًا عمران نفسه، فالله سامع لأقوال العباد، سامع لسؤالهم، ودعائهم، وحاجاتهم، وهو عَلِيمٌ بهم، عليم بما في قلوبهم، عليم بأعمالهم، عليم بأحوالهم لا يخفى عليه منهم خافية.

فهذا يؤخذ منه هذه الآية الكريمة ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فهنا ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فـ "مِنْ" هذه للاتصال، وليست للتبعيض، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، يعني: بينهم اتصال القرابة ذرية بعضها من بعض، وكذلك فيما يتعلق بالأحوال، والزكاء، والصلاح، والطُهر، وما أشبه ذلك.

ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وهذا الجزء من الآية صار يُذكر كالمثل، وهذا الذي يُسميه بعض العلماء بالأمثال المُرسلة، المقصود بالأمثال المُرسلة يعني: الأمثال التي لم تُذكر على أنها مثل؛ لكنها ذُكرت عبارات، وجُمل في القرآن، فصارت تُستعمل استعمال الأمثال، يعني هي لا تتضمن في معناها مثل، ليست كقوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ [البقرة:17].

هذا تقريب المعقول بالمحسوس؛ ليتضح، لكن هنا عبارات اسُتعملت استعمال الأمثال مثل: وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ [الأنفال:42]، ومثل هنا إذا قيل في مناسبته ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ حينما تكون أسرة متسلسلة في الصلاح، والطاعة، والاستقامة، فيُقال ذلك، كما يُقال: المثل المُرسل، وهكذا حينما يقول الناس مثلاً في مناسبة من المناسبات وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43] في مناسبته، ونحو هذا، هذه يسميها بعضهم بالأمثال المُرسلة، عبارات جاءت في القرآن، فصارت تُستعمل استعمال الأمثال، وإن لم تكن في مضامينها، ومعناها متضمنة لمعنى مثل، يعني: هي ما ذُكرت في القرآن على أنها من قبيل الأمثال، فهي نوع من الاقتباس.

وهناك نوع آخر من الأمثال تُسمى الأمثال الكامنة، هذه غير الأمثال المعروفة في القرآن التي قال: الله : وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [العنكبوت:43]، هناك بعض الأمثال عند العرب دل عليها، أو يؤخذ مضمونها من بعض الآيات، يعني مثلاً من أمثالهم "خير الأمور الوسط" وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء:29]، فهذا يدل على معنى هذا المثل، "من عز بز، ومن غلب استلب" هذا مثل عند العرب يدل عليه قوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، في قول ملكة سبأ، فهذا بمعنى "من عز بز، ومن غلب استلب" إلى غير ذلك.

فالشاهد هنا في هذه الآية الكريمة ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ: أنه انتقل من اصطفاء إبراهيم ، وآدم، ونوح، وآل عمران على العالمين، قال: ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [آل عمران:34]، فمن هذه الذرية مريم، وعيسى ، ليُحاج بذلك النصارى، ووفد نجران الذين جاءوا إلى النبي ﷺ، ودعاهم إلى المباهلة.

وأكثر المفسرين يقولون: صدر سورة آل عمران نازل في وفد نجران حينما جاءوا إلى المدينة، فهذه توطأة؛ ليتحدث عن ميلاد المسيح ، وما جرى له بعد ذلك، وما وقع على يديه من الآيات الدالة على نبوته، وكذلك ما حصل له من الرفع بخلاف ما اعتقده اليهود من صلبه، وروجوا ذلك على النصارى حتى صدقوه، واعتقدوه.

وكذلك في قوله: وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، فيه إشارة إلى أن هذا الاصطفاء الذي وقع إنما هو لتمام علمه، وإحاطته بخلقه، فهذا فيه أن ذلك لم يكن هكذا من غير علم، وإحاطة، كذلك فيه ترغيب لهؤلاء بالاقتداء بهم، فالله سميع لأقوال العباد، إلى آخره.

وفيه أيضًا أن النبوة غير مُكتسبة إذا حُمل هذا على خصوص هؤلاء الأنبياء؛ يعني أن المقصود ذوات هؤلاء، وليس الذرية، أو أن تُحمل الذُرية على الأنبياء منهم، فيكون دالاً على أن النبوة اصطفاء، وهذا هو حق بلا شك تدل عليه نصوص أخرى أن النبوة اصطفاء وليست بكسب العبد، هذا هو الاعتقاد الصحيح في هذا الباب.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية الكريمة قضية الاصطفاء، والاجتباء أنها من الله -تبارك وتعالى- فلا ينبغي على العبد أن يعترض، ويحمله الحسد، ودواعيه إلى إنكار الحق، أو غمط الناس الذين فضلوا، واصطفاهم الله -تبارك وتعالى- على غيرهم، فربك يخلق ما يشاء ويختار، المشركون اعترضوا على اصطفاء النبي ﷺ، وطلبوا أن يكون هذا الوحي قد نزل على أحد العظماء من القريتين، قيل: مكة، والطائف، فرد الله عليهم أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [الزخرف:32]، يعني: النبوة، فهذه إليه ليس إلى الخلق، ورد على اليهود أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا [النساء:54]، فهذا رد على اليهود حينما حسدوا العرب، وحسدوا النبي ﷺ على هذا الاصطفاء، والاجتباء، أكتفي بهذا.

وأسأل الله أن ينفعنا، وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين -والله أعلم-.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي ﷺ، وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، برقم (2276).

مواد ذات صلة