الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فما زال الحديث متصلاً في الكلام على ما يُستخرج من الهدايات من قوله -تبارك وتعالى-: فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37].
فقوله -تبارك وتعالى-: وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا فالله أضاف الإنبات الحسن إليه ، فالآباء والمربون إنما يبذلون السبب كباذري الأرض، ولكن الله -تبارك وتعالى- هو وحده الهادي والموفق، فالذي يملك القلوب وهدايتها هو الله وحده، ولكن هذا لا يُعفي الآباء من بذل الأسباب والجد والاجتهاد في تنشئة الصغار على طاعة الله وتقواه، ولا شك أن التنشئة والتربية والتعليم والتوجيه مع الدعاء أن ذلك له أثر لا يخفى، ولكن يبقى توفيق الله وإرادته فوق ذلك، فكما أن الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُخرج النبات لكن لابد من البذر والسقي والتعاهد والرعاية لهذا النبات وللأرض التي يُزرع أو يُبذر أو يُغرس فيها، فلو أن الإنسان ترك السبب لم يضع البذر ولم يزرع، أو وضع ذلك وترك السقي وترك حياطته ورعايته فلا يُنتظر بعد ذلك أن يخرج النبات، فلا يقولن قائل: بأن الله هو الذي يُنبت الزرع، ويُخرج الثمار، ولكن هذه أجرى الله عادته وسنته على أن ترتبط بأسباب جعلها الله في هذا الخلق والكون، فلا يصح إلغاؤها وتركها والإعراض عنها ثم بعد ذلك انتظار، ثم الذي لا يتزوج وينتظر الولد، أو لا يزرع وينتظر الثمر، فهذا غير صحيح.
فالإنسان يبذل الأسباب يختار الأم الصالحة ليتزوجها، لا يبحث عن امرأة لهوى توافقه في نفسه من جمال ونحو ذلك مع الإعراض عن الصلاح والتقوى وطيب المنشأ؛ لأن هذه المرأة هي التي ستلي ولده وتقوم على تربيتهم، وكذلك لا ينشغل بدنياه، أو ينشغل بدنيا غيره، أو ينشغل بآخرة غيره ويُعرض عن ولده وأهله، ومن الناس من ينشغل بدنياه وتثمير أمواله، ومن الناس من ينشغل بدنيا غيره ليعمرها، ومن الناس من ينشغل بآخرة غيره في الدعوة والبرامج والتعليم والخروج بالوسائل المختلفة، ويواصل الليل والنهار على هذا الأساس، وبيته مُضيع، فلا بد من بذل الأسباب.
وقوله -تبارك وتعالى-: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82] هذه كرامة من الله حصل فيها حفظ هذا المال والكنز لهذين اليتيمين، ولكن ليس بالضرورة أن صلاح الآباء يقتضي صلاح وحفظ الأبناء، فهذا ولد نوح مثال شاهد، والغلام الذي قتله الخضر كان أبواه صالحين، بنص الآية، ولم يكن الولد كذلك: فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، وهنا هذا السبب مُشار إليه بقوله -تبارك وتعالى- في هذه الآية: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا فالمُربي هنا والقائم على شؤونها هو في غاية الصلاح والصدق والنُصح والعلم مع ما آتاه الله -تبارك وتعالى- من الوحي والنبوة.
فإذا وجد مثل هذا وأكمل الناس فيه الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- فإن القبول من المُعلم والمُربي والداعية ونحو ذلك يتطلب أمورًا مجتمعة، إذا توافرت وحصل معها توفيق الله حصل بسبب ذلك ألوان البر والخير والصلاح والمعروف، فلابد أن يكون هذا المُعلم أو المُربي أو الموجه أو الداعية أو نحو ذلك أن يكون ناصحًا مُخلصًا، فإخلاصه أن يُريد ما عند الله ليس بمُرائي ولذلك قد يكون الإنسان يحمل نية فاسده فإذا سمع الناس كلامه انقبضت قلوبهم لا يُحتمل، مع أن الكلام الذي يقوله قد يكون غاية في الحكمة والعلم والفصاحة ونحو ذلك، فهذا لابد فيه من الإخلاص والصدق فتُقبل القلوب عليه.
الأمر الثاني: وهو النُصح فهذا الإنسان كما قال النبي ﷺ: الدين النصيحة[1]، ما معنى النصيحة؟ أن ينصح سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل، فلان ناصح بفعله، بمعنى أنه يبذل جهد ولا يدخر وسعًا ولا يُفرط ولا يُهمل فيبذل المُستطاع في سبيل الإصلاح، المعلمون، المربون، الدعاة إلى الله، الخطباء، بحاجة إلى مثل هذه المقومات الأساسية.
الأمر الثالث: العلم فلا يكون كلامه وتوجيهه بجهل، فإن الجاهل كما قال بعض السلف: "يُفسد أكثر مما يُصلح"[2].
الأمر الرابع: وهو البيان بحيث يُبين عن ما يُريد.
والأمر الخامس: الحكمة؛ وهي أن يضع الأمور في مواضعها، يتحدث في الوقت المناسب للحديث، ويؤجل إلى وقت الإمكان، ويضع الأولويات فيما يطرح، ويُخاطب كل فئة بحسب حالها وما يصلح لها، ويُدرج الناس في العلم والتربية بما تقتضيه الحكمة.
هذه خمسة أمور أساسية، والباقي يتفاضل الناس فيه ويتفاوتون لكن هذه لابد من توافرها، وهي أكمل ما تكون في الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، بإخلاصهم ونُصحهم، وفي بيانهم وفصاحتهم وعلمهم وحكمتهم، لكن قد يتخلف الأثر؛ لأن الله بعد هذه الهداية هداية الإرشاد التي بُذلت: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52]، هذه هداية إرشاد لكن تبقى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56]، فالهداية المنفية عن النبي ﷺ هي هداية التوفيق، هذه التي يملكها الله، فإذا الإنسان بذل وسعه فعند ذلك يكون قد فعل ما يجب عليه، وعندها كما قال الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]، ضلاله لن يؤثر في مرتبتك عند الله وفي جزاءك، إذا كان الإنسان لم يدخر وسعًا، لكن أن يُفرط ابتداءً من اختيار الأم والتربية والتنشئة، وبعض العامة يقول: المُربي هو الله، هذه عبارة مُجملة، فيترك التربية تذرعًا بذلك.
وكذلك أيضًا لربما يترك هذا الولد في حال وبيئة تعصف به الفتن من كل ناحية ثم يطلب بعد ذلك صلاحه، فهذا يكون قد عرضه للضلال والفتنة والانحراف، وأعجب من هذا كما قال الفرزدق:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ | فداوني بالتي كانت هي الداء[3]. |
أن يكون هذا الولد في حال من التمرد فتجد أن اللجأ في مثل هذه الحالة أحيانًا يكون إلى ما يزيده غيًّا، فلربما تُرك يذهب في بيئة فاسدة مُفسدة بحجة أنه يتعلم المسؤولية، ويعتمد على نفسه ونحو ذلك، هذا خطأ، وسيُسأل الإنسان عن ذلك كله.
فهنا: وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا كرامة من الله -تبارك وتعالى-: كُلَّمَا دَخَلَ تتكرر هذه الكرامة، فهذه الكرامة هي وجود الرزق من غير سبب واكتساب، والله على كل شيء قدير، نعم هذا على خلاف العادة الجارية لكن خرق العادات هذا الذي يُقال له: المعجزات هو في لغة القرآن والسنة، وفي كلام من خوطبوا بالقرآن -السلف الصالح - يُقال لها: الآيات والبراهين.
فهذه براهين على صدق الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، فخوارق العادات هي من البراهين، وهذه الآيات على نوعين: منها ما يكون خارقًا للعادة، هو الذي اصطلح عليه فيما بعد القرون المفضلة على يد بعض أهل الكلام سُمي بالمُعجزات، ولا مشاحة في الاصطلاح، خوارق العادات، ثم شاع في عُرف الاستعمال عندهم أن ما يجري على يد الأنبياء من الخوارق، يُقال له: معجزات، وما يجري على يدي أتباعهم، يُقال له: كرامات.
والواقع أن الجميع من جنس واحد، وكما قال العلماء كالشاطبي -رحمه الله-[4]: بأن كل آية خارقة يعني لتابع نبي فهي آية للنبي الذي تبعه؛ لأنها إنما ظهرت على يده لاتباعه لهذا النبي فكانت آية للنبي المتبوع.
وهذا يدل أيضًا على وجود هذه الكرامات في الأمم السابقة: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا وهذه الكرامات وخوارق العادات والمعجزات هي أنواع:
منها: ما يكون من قبيل الخوارق البصرية، فيُبصر أشياء لا يصل إليها الناس، كما حصل للنبي ﷺ رأى في جدار المسجد الجنة والنار[5].
ومنها: ما يكون خوارق سمعية في السمع، فهذه مثل: النبي ﷺ عندما مر بقبرين فقال: إنهما ليُعذبان[6]، وأخبر أنه لولا الخوف أن يتدافنوا لدعا الله أن يُسمعهم من عذاب القبر[7]، الناس لو سمعوا من عذاب القبر والضرب -نسأل الله العافية- والنكال والصياح والويلات والحسرات في القبور لما ناموا، ولم يهنئوا بطعام ولا شراب ولا عيش.
فهذه خوارق من جهة السمع، وهناك خوارق أخرى قد تتصل بأمور كونية كانشقاق القمر.
وهناك خوارق أخرى من قبيل إيجاد طعام أو شراب أو نحو ذلك من غير سببه، مثل هذا المثال.
وكذلك أيضًا قد يكون بتكثيره، تكثير القليل منه كما وقع للنبي ﷺ[8]، إلى غير ذلك من أنواع الخوارق كالمشي على الماء، ونحو هذا من الإلقاء في النار ولا يحترق حيث تتعطل الأسباب التي أجراها الله من أن النار مُحرقة الآثار.
وكذلك أيضًا مثل: الجري على الماء بطبيعته السيالة الرقيقة فهو لا يتماسك حتى يجري عليه الناس، ومع ذلك إذا أراد الله خرق هذه العادة وغيرها؛ لأنه هو الذي أجراها.
فهنا: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ والمحراب هو المكان المُخصص للعبادة، وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا وهذا يدل أيضًا قوله كُلَّمَا، "كلما" هذه تدل على التكرار، يدل على حُسن رعايته لها، أنه كان يتردد عليها، يعني: ما جاءها أول مرة، ثم بعد ذلك تركها وشأنها، لا، كان يأتيها في اليوم في أوقات متعددة، فيجد عندها الطعام بكرة وعشيا، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، هذا يدل على أن الله -تبارك وتعالى- فعّال لما يُريد، يرزق من يشاء كما يُريد، نعم على الناس أن يبذلوا الأسباب في طلب الرزق ولكن إذا شاء الله جعل ذلك من غير سبب، وقد يجعل الله ذلك بسبب ضعيف لا يؤثر في مجاري العادات: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:25]، "هزي" هذه امرأة ضعيفة، في حال النفاس أضعف ما تكون المرأة عليه، فماذا عسى هذه اليد والساعد الضعيف أن يفعل بأعظم جذع، وأضخم جذع وأغلظ جذع وأخشن جذع، وهو جذع النخلة؟! لو جاء أقوى الرجال يريد أن يُحركه ما استطاع، فهي تُحركه بيده نُفساء امرأة ضعيفة ويتساقط الرُطب.
ألم تعلم أن الله قال لمريمِ | وهُزي إليك الجذع يتساقط الرُطب |
ولو شاء أن تجنيه من غير هزه | جنته ولكن كل شيء له سبب[9]. |
فأجرى الله هذه الحياة على هذا النهج والسنة، ولكن إذا شاء خرقها فيأتي الرزق من غير أدنى تسبب، كما وقع لمريم في هذه الحال، وقد يكون بسبب ضعيف لا أثر له، كما في الحال الثانية: وَهُزِّي إِلَيْكِ.
كذلك أيضًا هذا العطاء المُتجدد المُستمر فقد لا يكون هذا العطاء مرة فيكون يُذكر ولا يُعاد ولا يُكرر، لا، كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا، من أين لك هذا الطعام؟ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:37]، إضافة النِعمة إلى المُنعم، وهؤلاء أصحاب عبودية وأصحاب مقامات عالية: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ما قالت هذه بسبب أحوال وتجليات، ومزاولات، وتصفية، ورياضية للنفس تتذلل معها المطلوبات، أبدًا، مباشرة: قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني لا يد لي فيه، ولم تقل: هذه كرامة لي وإنما جاءت بهذا الجواب المُباشر فينبغي على العبد أن يُدرك هذا، فما بالعباد من نعمة فهو من الله لكن الغفلة غالبة، وإلا لو نظر الإنسان في أحواله كلها، لو نظر في مأكله ما يأكل ويُجلب له من أقطار الدنيا، ولم يتعب في زرعه ولا سقيه ويصل إليه، ولو نظر الإنسان في مسكنه وملبسه وأثاثه وفراشه وفي غير ذلك، لا تقل: أنا ما عندي إلا شقة فيها غرفتان أو ثلاث غرف، لا، لا، أنا أعطيك مثالاً أفضل ما يوجد من الحملات في الحج ما توفر لهؤلاء في حال هذا الترف الذي نُشاهده، حملة لربما تصل إلى قريب من عشرين ألف أو أكثر توفر له مقدار فراش واحد، أليس كذلك، ثم -أعزكم الله- إذا احتاج إلى الخلاء يحتاج أن يصطف في طابور -أعزكم الله- في مكان في موضع صغير لا يستطيع أن يفتر أو يتحرك فيه، وإذا أراد أن يضع ثيابه أو يغتسل يجهد ويتعب بحيث لا يصل إليه الماء، ولربما سقطت في غاية الضيق، وفي أحوال تعرفونها من حرارة تفوح لكثرة من يطرقها، والمياه الجارية فيها ونحو ذلك، الآن الإنسان في بيته يذهب متى شاء في مكان واسع، أليس هذا للجميع، لكن الإنسان لا يعرف نعمة الله عليه، يتقلب في غُرف، ينام وحده في غرفة، وهناك أفضل حالاته أنه يجد بقدر فراشه فقط لو تحرك انقلب من الجهة الأخرى ينقلب على من بجانبه، أليس كذلك، هذه نِعم لا نستشعرها، تذهب تغتسل متى شئت في بيتك، تذهب تتقلب في بيتك في أي حجراته شئت، تصور لو أُعطيت هناك هذه الغرفة في مِنى كما يُقدر هذا وكم تساوي؟! ومن الذي يُعطاها؟! هذه التي لربما ترى أنت أنها ليست على قدر المقام، لكن لا نستشعر هذا.
وهكذا في هذا الماء الذي نشربه، أنا رأيت في بعض البلاد التي فيها أنهار يشربون الماء أشبه ما يكون بالطين أحمر، ثم رأيتهم يحملونه من النهر في أساليب بدائية على حمير -أعزكم الله- تنك ويشربونه، لم أستطع أن أغسل فيه يدي ما استطعت، وإذا وقع على ثوبك صبغه، هذا الماء الذي عندهم وقالوا: لا يوجد عندنا غير هذا، ونحن كما ترون، في السابق اقرأوا كلام الشعراء وتغنيهم بالمياه:
شجت بذي شبم من ماء محنية | صافٍ بأبطح أضحى وهو مشمول[10]. |
يعني: رياح الشمال، صافٍ بأبطح أرض مُنبسطة ماء إذا وجده هذا هو الغاية، الآن نحن نقول: لا، هذا فيه لربما أمراض وبعوض ونحو ذلك، لا يُشرب من هذه المياه، وذاك في السابق كان عندهم غاية الأماني.
في الضحى بارد ورياح من الشمال يهب عليه هذه أمنية عندهم يذكرونه في أشعارهم، ومن منا الآن يبحث عن مثل هذا، النبي ﷺ وهو رسول الله تعرفون في غزواته في تبوك ونحو ذلك حينما ينهى أن يسبقه أحد إلى بئر من أجل أن الماء قليل ليُكثره ﷺ، ويجد رجلين قد سبقاه.
وكذلك في غزوة المُريسيع لما تشاجروا على الماء مولى لعمر ومولى لعبد الله بن أُبي، فمولى عمر يُقال له: الجهجاه سك مولى عبد الله بن أُبي رجل من جُهنية فحصل ما حصل يا للأنصار، وذاك قال يا للمهاجرين على ماء يزدحمون من أجل الكل يريد أن يُسرع ليأخذ مما علا في البئر قبل أن يصير إلى كدر، قبل أن يختلط الماء بالطين ولا يبقى إلا حُثالة.
وقوله: قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يرزق من يشاء من عباده بغير عوض، فهو الغني وبغير حساب يرزق الرزق الكثير كما ذكرنا، كما أعطى الله مريم، فإن قوله: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا، الرزق هنا تنكير يدل على العظيم، وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ، و"إنّ" هنا تفيد التعليل، "إنّ الله"، "لأن الله" وهي تدل على التوكيد، تدل على اعتقاد راسخ، فهذا يوجب الثقة بالله ، إضافة إلى اسمية الجملة: إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم بغير حساب، وأن يوفقنا لما يُحب ويرضى، وأن يُعيينا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، -والله أعلم-.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب قول النبي ﷺ: الدين النصيحة: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، برقم (1361)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، برقم (292).
- أخرجه الحارث في مسنده، برقم (830)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/ 131)، برقم (132)، والبيهقي في الشعب، برقم (1680).
- انظر: الشعر والشعراء (1/ 74)، والعقد الفريد (6/ 186)، وزهر الأكم في الأمثال والحكم (1/ 151).
- انظر: الموافقات (2/ 444).
- أخرجه البخاري، تاب الأذان، باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، برقم (749).
- أخرجه البخاري، كتاب الجنائز، باب الجريد على القبر، برقم (1361)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، برقم (292).
- أخرجه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، برقم (2867).
- أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، برقم (4102)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، برقم (2039).
- انظر: التمثيل والمحاضرة (ص:269)، وأحسن ما سمعت (ص:16)، وشرح مقامات الحريري (1/ 237).
- انظر: جمهرة أشعار العرب (ص:633)، والتذكرة الحمدونية (5/ 306).