الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
لما ذكر الله -تبارك وتعالى- خبر عيسى ، وما عده من الرفعة والتطهير من الذين كفروا، وجَعْل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وما ذكر بعد ذلك من الحكم والفصل بينهم، وما يكون لأهل الكفر ولأهل الإيمان بعد الرجوع إليه، قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيم [آل عمران:58].
فقوله: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ أي: ذلك الذي قصصنا عليك من خبر عيسى ، وما في ضمن ذلك من الدلائل والبراهين على نبوته وبشريته خلافًا لما زعمه اليهود في حقه، وخلافًا لما اعتقده النصارى من إلهيته، فذلك كله يدل على صحة نبوتك، وأن الله أوحى إليك بهذه التفاصيل التي لطالما ضلّل بها هؤلاء المُضللون، ولبّس فيها أهل الضلال من اليهود والنصارى، وهذا أيضًا يدل على صحة القرآن، وأنه من عند الله، وأنه مُهيمن على سائر الكتب، ومن معاني هيمنته أنه حاكم عليها، مُبين لكثير مما اختلف فيها أهلها، فهو يُبين حقها من باطلها، وكذلك ينسخ منها ما نسخ، وكذلك أيضًا يُصدق منها ما كان حقًّا ثابتًا لم يحصل له تحريف وتبديل.
وقوله: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ ذلك هذه إشارة إلى البعيد، كما هو معروف عند اللغويين، يقولون: (هذا) للقريب، و(ذاك) للمتوسط، و(ذلك) للبعيد، عند من يجعل القسمة ثلاثية في البُعد، وبعضها يجعلها على قسمين ذاك وذلك للبعيد، ولكن كثير من أهل اللغة يقولون هي على ثلاث رُتب، كقوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ [البقرة:2] فمثل هذا يدل على بُعد، وهذا البُعد ليس ببُعد زماني، وإنما هو بُعد في الرُتبة والمنزلة، فهذا يدل على عِظم هذا القصص والخبر الذي قصه الله -تبارك وتعالى- على رسوله ﷺ، وعلى هذه الأمة، وكذلك أيضًا فيه دليل على رفعة شأن عيسى -عليه السلام-.
وفي قوله: نَتْلُوهُ عَلَيْكَ على سبيل التخصيص للنبي ﷺ، فهذا يدل على شرفه، ورفيع قدره عند ربه -تبارك وتعالى- فخصه بالتلاوة نَتْلُوهُ عَلَيْكَ والنون وصيغة الجمع في قوله: نَتْلُوهُ للتعظيم، فالله هو العظيم الأعظم، والمعظم نفسه يُعبر بمثل هذا، كما هو معلوم في كلام العرب، وهكذا إذا خوطب يقال: أنتم قلتم، أو ذكرتم، على سبيل التعظيم، فالنبي ﷺ هو المُبلغ عن الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة، فخصه بالخطاب لرفيع قدره، وعظيم منزلته؛ ولأنه يقوم بدور المُبلغ عن الله -تبارك وتعالى- والأمة مقصودة بهذا البلاغ، فهي مُخاطبة بذلك بواسطة رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-.
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ فالمتلوة هي الآيات القرآنية ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيم فالذكر هو القرآن؛ وذلك من باب عطف الأوصاف، فهو آيات تدل على صدق من جاء بها، وأنها من الله -تبارك وتعالى-، فهي دلائل واضحة وبراهين لا يمكن أن تكون من عند أحد من البشر، والذكر فيه معنى التذكير، فالقرآن له أربعة أسماء ثابتة على الأرجح، والباقي أوصاف، فهو القرآن والكتاب والذكر والفرقان، هذه الأربعة التي ذكرها كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله-[1]، وما يُذكر من عشرات الأسماء فهو من قبيل الصفات على الأرجح، -والله تعالى أعلم-.
فهنا قال: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الذي هو القرآن، فيكون من قبيل عطف الأوصاف، فيُنزل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات، يعني: ليس الذكر غير القرآن، لكن لما كان يتضمن وصفًا آخر من التذكير كان ذلك سببًا -والله أعلم- لعطفه على ما قبله، وهو الآيات، وهي القرآن، وهذا كثير، سواء كان ذلك بإثبات حرف العطف، أو بإسقاطه، كما في قوله -تبارك وتعالى-: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:1-2] فلم يقل: والذي خلق فسوى، فالرب الأعلى هو الذي خلق فسوى، فهذا من باب عطف الصفات، ثم جاء بالواو وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [الأعلى:3-4] فهذا كله في موصوف واحد، لكن كما ذكرت من أن تعدد الصفات يُنزل منزلة تعدد الذوات، وهذا كما قال الشاعر:
إلى الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم[2] |
فهو الملك القرم، فلم يقل: والقرم، والقرم يعني الذي ينهض بمعالي الأمور، ويخف لها، ولا يتردد فيها، بل هو عظيم الإنجاز، وسريع النهوض بذلك، وابن الهمام، فجاء بالواو، وليث الكتبية في المُزدحم فجاء بالواو، والموصوف واحد، فهنا قال: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيم الذكر الحكيم هنا يكون بمعنى المُحكم، حيث لا يتطرق إليه خلل في ألفاظه، ولا تناقض وتضارب في مضامينه وأحكامه ومعانيه وهداياته، فلا يتطرق إليه النقص بحال من الأحوال.
ثم أيضًا الحكيم يعني: الذي يكون في هداياته وإرشاده وتعليمه في غاية الحكمة، والحكمة هي الإصابة في القول والعمل، وتُقال أيضًا لوضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، فلا شيء يأمر به القرآن إلا وهو في غاية الصواب والحكمة، فلا يتطرق إليه خلل؛ لأن الخلل إما أن يتطرق لنقص العلم، وإما أن يتطرق لوضع الشيء في غير موضعه، يعني: قد يكون الخطأ الذي يقع أحيانًا سببه نقص العلم، فيكون الحكم غير صحيح أصلاً، أو يكون الحكم صحيحًا، لكن ليس في هذا المكان، أو ليس بهذا الزمان، فأوقع في وقت لا يصلح له، فوقع بسبب ذلك الخلل، أما الحكيم فهو الذي بغاية الإصابة، مبناه على علم صحيح لا يتطرق إليه الخطأ والجهل، وكذلك يوقع الأشياء في مواقعها، ويضعها في مواضعها، وهذا يدعو إلى أمر ومعنى كبير وهو: أن يطمئن العبد كل الاطمئنان إلى أن كل ما دعا إليه القرآن، وأرشد إليه في غاية الصواب، لا يحتاج إلى استدراك، وتردد، واختبار، وتجريب، وإنما يقطع به المؤمن ويطمئن كل الاطمئنان، متى يقع التردد والقلق ونحو ذلك؟ حينما لا يوثق بهذه القرارات أو الأحكام، فتكون مبناها على دراسة غير صحيحة مثلاً، أو أنها جاءت في توقيت غير مُناسب، فيقع في سبب ذلك الخلل، أما أحكام الله وآياته فلا يتطرق إليها شيء من هذا أبدًا، ومن ثَم فإن على المؤمن والمؤمنة أن يتلقى عن الله تلقيًا مُطلقًا كاملاً من غير توقف ولا ترد، وبهذا يتبين انحراف من يزعم أنه بحاجة إلى عرض الوحي على عقله، وأنه يحتاج أن يُفلتر بعقله الضعيف، فهذا يحتاج إلى مثل هذا؛ لأنه غير واثق بأن أحكام الله صحيحة، وهؤلاء قد لا يجترئون على رد الحكم وتكذيبه مُباشرة، ولكن قد يُحرفونه من جهة المعاني، فيحملونه على محامل بعيدة وغير مُرادة للشارع من أجل أن يُبدلوا كلام الله، فيكون التحريف في المعنى، أما اليهود فاجترئوا على تحريف الألفاظ والمعاني، على سبيل المثال بالواقعة المعروفة: لما زنا يهودي ويهودية فحمموهما، وجعلوهما على حمار، وطافوا بهما، فلما رأى النبي ﷺ ذلك سألهم ما يجدون في التوراة؟ فقالوا: نجد التحميم، بمعنى أنه يُلطخ وجه الزاني بسواد كالفحم ونحوه، ويوضع على حمار مقلوبًا، وجهه إلى الخلف تشنيعًا وتشهيرًا من أجل أن يُلفت الأنظار، ثم يطوفون به في البلد، فالنبي ﷺ دعا بالتوراة، فجاءوا بالتوراة، فوضع الحبر أصبعه على آية الرجم عندهم في التوراة، والرجم ثابت عندهم في التوراة، فابن سلام ، وهو من خيار أصحاب النبي ﷺ ممن أسلم من اليهود، وكان من أحبارهم، قال: مره يا رسول الله فليرفع أصبعه، فرفعها فإذا هي آية الرجم، فاعتذروا بعذر قبيح بعد أن أقروا بالحكم وهو الرجم، وأمر بهما النبي ﷺ فرُجما، قالوا: بأن الزنا قد كثُر في أشرافهم، وما استطاعوا أن يُقيموه عليهم، فأرادوا حكمًا يشترك فيه الشريف والوضيع[3]، فجاءوا بهذا الحكم المُبدل، وهو التحميم، مع هذه الطريقة التي يفعلونها من جعله على حمار معكوسًا منكوسًا، ويطوفون به في نواحي البلد، هذا تبديل لحكم الله، وتبديل لكلامه، كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام:91] فهذا مما كانوا يُظهرونه، يقولون: هذا حكم الله، هذا المُثبت في التوراة.
لكن القرآن لا يتطرق إليه هذا؛ لأن الله -تعالى- يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون [الحجر:9] فلا يمكن أن يتطرق إليه تحريف، ولا يمكن أن يتطرق إليه خلل، بسبب نقص العلم، فالله هو العليم، علمه مُحيط بكل شيء، فهو يعلم خفايا الأمور، وخباياها، وهو الخبير الذي يعلم الخفيات، واللطيف الذي يعلم الدقائق، وهو المُحيط أحاط بكل شيء علمًا، وهو عليم صيغة مبالغة، وكذلك سميع سمعه نافذ، وبصير، فكل هذه صيغ مُبالغة، وكذلك هو شهيد فهذا زيادة على العلم بالشهود، وكذلك أيضًا هو حفيظ، ومن ضمن معاني الحفيظ أنه يحفظ الأعمال، ونحو ذلك، وهو رقيب لا يخفى عليه خافية، كل ذلك يدل على إحاطة تامة بالدقائق والعظائم، وبالأمور الكبار والصغار، فإذا جاءك الحكم عن الله فلا يسعك المسلم في هذه الحال إلا أن يقول: سمعنا وأطعنا.
نتوقف عند هذا، ونسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكّرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (1/94).
- البيت بلا نسبة في خزانة الأدب (5/105).
- أخرجه البخاري كتاب الحدود، باب الرجم في البلاط برقم (6819) ومسلم كتاب الحدود، باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا برقم (1699).