السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(070) قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ} الآية - وقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...} الآيات 56-57
تاريخ النشر: ٢٦ / محرّم / ١٤٣٨
التحميل: 664
مرات الإستماع: 1114

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما أخبر الله -تبارك وتعالى- عيسى برفعه إليه، وتطهيره من الذين كفروا، وجعْل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، قال: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون [آل عمران:55] وهذا -كما ذكرنا- على قولين: بأن المراد بذلك المسيح ، ومن آمن به، ومن كذّبه وكفر به، أو أن ذلك خطاب لهذه الأمة، فالله -تبارك وتعالى- يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، ولا شك أن مرجع جميع الخلائق إلى الله، وأنه سيحكم بينهم فيما يختلفون فيه، كما دل على ذلك القرآن في مواضع أخرى.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك بيانًا لهذا الحكم، وتفصيلاً له: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين [آل عمران:56-57].

فقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ هذا تفريع على الإجمال السابق، فقد ذكر قبله أن المرجع إليه، وسيحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون، قال بعد ذلك: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا على القول بأن ذلك يتصل بالمسيح يكون الكلام: فأما الذين كفروا بعيسى ، وهم اليهود، وعلى القول بأن ذلك الخطاب للأمة يكون ذلك فيمن كفر بالله -تبارك وتعالى- من اليهود والنصارى، وطوائف المشركين.

وقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا عذابًا شديدًا في الدنيا بالقتل والأسر والسلب والإدالة عليهم، وما يقع لهم من الآفات والمصائب والأدواء والبلايا في أنفسهم وأموالهم وذراريهم، وفي بلادهم، وما إلى ذلك، فكل ذلك داخل في هذا العذاب الدنيوي، والعذاب الأخروي بالنار.

وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين يعني: ليس هنالك من ينصرهم، ويُخلصهم من عذاب الله -تبارك وتعالى-، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، وفي الآية بعدها: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ الذين آمنوا بالله ورسله -عليهم الصلاة والسلام-، وصدقوا دعوى الإيمان بالعمل، والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى-، فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي: يُجازيهم على أعمالهم وإيمانهم جزاء وافيًا تامًا لا نقص فيه، وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين وأعظم الظلم هو الإشراك بالله -تبارك وتعالى-، كما في آية لقمان: يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم [لقمان:13] فهو أعظم الظلم؛ لأنه وضع للعبادة في غير مَن خَلَق، فالله هو الذي خلق، ورزق، وأنعم، وأعطى، ثم تُصرف العبادة لغيره؟! فهذا غاية الظلم، فالظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، فكل من وضع الشيء في غير موضعه فهو ظالم، هذا أصله في اللغة، وهو المعنى المعتبر عند أهل السنة والجماعة في معنى الظلم وحقيقته.

فقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ هذا -كما سبق- تفصيل للإجمال في قوله: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ [آل عمران:55] حيث ذكر حال الكفرة أولاً، على سبيل الزجر والتهديد لهم؛ وذلك -والله تعالى أعلم- باعتبار أنه ذكر ما وقع للمسيح ، حيث أحس منهم الكفر، وأرادوا أن ينالوه بالشر والسوء، فنجاه الله ورفعه، وأخبر أنه مُخلصه من هؤلاء الكفار، وأن المرجع إليه، فابتدأ بهؤلاء الكفار الذين أرادوا به سوء، فقال: فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فهذه الآية نص صريح على ما يطال الكفار من عذاب الله -تبارك وتعالى-، فهم في هذه الدنيا ينالهم من ألوان العقوبات الإلهية، إما بتسليط أهل الإيمان عليهم، وإما بما ينُزله الله عليهم من ألوان الآفات والمصائب التي تحل في دارهم، أو تقع على أنفسهم، أو أموالهم، أو غير ذلك، فهذا واقع في هذه الحياة الدنيا، فهذا وعد الله ، فهم لا يعيشون كما نتصور، أو كما يتصور بعض المسلمين في رغد وعافية وعيش هنيء، بل يقع لهم من المكاره ما الله به عليم، ولهم أيضًا في الآخرة عذاب النار، فلهم شقاء في الدنيا، وشقاء في الآخرة، عذاب مُعجل، ومؤجل، فحياتهم تعيسة، ومستقبلهم مُظلم، وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِين فليس لهم من ينصرهم إذا نزل عذاب الله ، فلا يجدون الخلاص، هذا في الدنيا، وكذلك في الآخرة.

وفي قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ذكر العمل الصالح، وهكذا في كتاب الله -تبارك وتعالى- فالإيمان لا بد له من الأعمال الصالحة، والأعمال الصالحة هي من جملة الإيمان، والذين يقولون: الإيمان في القلب، متذرعين بذلك إلى ترك العمل، هؤلاء على اعتقاد فاسد، وهذه عقيدة يُقال لها: عقيدة المُرجئة، فهم الذين يقولون: الإيمان في القلب، فيترك أحدهم العمل بطاعة الله محتجًا بأن الإيمان في القلب، والواقع أن الإيمان في القلب واللسان والجوارح، والله يقول: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة:143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، فسماه إيمانًا، فالإيمان قول وعمل بإجماع أهل السنة والجماعة[1]، وأنه لا يقتصر على عمل القلب، أو تصديق القلب فقط، والنبي ﷺ يقول: الإيمان بضع وستون وفي رواية: بضع وسبعون شعبة، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[2]، فذكر هذه الثلاثة: شهادة أن لا إله إلا الله، هذا نُطق باللسان، مع مواطأة القلب، وإماطة الأذى عن الطريق، وهذا عمل بالجوارح، والحياء شعبة من الإيمان، أي خصلة وخلة قلبية، يظهر أثرها على الجوارح، فكل ذلك من الإيمان، فالصلاة إيمان، والذكر إيمان، والصيام إيمان، والحج إيمان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إيمان، والكلمة الطيبة إيمان، والصدقة إيمان، إلى غير ذلك.

وهنا وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أطلق في الإيمان، والمعنى: آمنوا بما يجب الإيمان به، من الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما إلى ذلك، وكذلك أيضًا عمل الصالحات، فهذا يصدق على الأعمال المشروعة جميعًا، إذا كانت بنية صحيحة؛ ولهذا يقولون: بأن العمل لا يكون صالحًا إلا إذا كان خالصًا لله من غير رياء ولا سمعة، وأن يكون أيضًا على الوجه الذي شرعه النبي ﷺ، فلا يكون مُبتدعًا؛ لأن الله لا يُعبد إلا بما شرع، وفي الحديث: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد[3] فالله لا يقبل المُبتدعات والمحدثات، وإنما يقبل الأعمال الصالحات الخالصة، التي هي صواب مما شرعه ربنا -تبارك وتعالى-، وبلغه النبي ﷺ.

وقال: فَيُوَفِّيهِمْ بمعنى أنه يأتيهم الجزاء وافيًا من غير نقص، بل يكون مُضاعفًا؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، بحسب ما يحتف بالعمل، وما يقوم في قلب صاحبه من الإخلاص والإخبات، وطيب المكاسب، وتصحيح الأعمال، وما إلى ذلك مما ينبغي مراعاته ومُلاحظته في العمل.

وسمى هذا الجزاء أجرًا، والأجر هو ما يُعطى للعامل في مقابل عمله، وهذا من كمال فضله -تبارك وتعالى-؛ لأنه هو الذي خلق، وهو الذي شرع، وهو الذي هدى ووفق، وهو الذي أغنى وأعطى، وهو الذي أعان، فالملك ملكه، والخلق خلقه، والأمر أمره، ثم بعد ذلك يُسمي هذا الجزاء الذي هدى إليه، ودعا إليه، ووفق إليه، وأعان: أجرًا، والواقع أنه المُتفضل على عبده، فالعبد الذي يوفق للعمل الصالح يحتاج إلى مزيد من الشكر على ما أنعم الله عليه وهداه وألهمه رشده، ووفقه لطاعته، فيرزق العبد، ثم يوفقه، ويهدي قلبه، ويُعينه على الصدقة، ثم يُجازيه الجزاء الأوفى بالأضعاف المضاعفة، ويُسمي ذلك أجرًا، كأنه أجر لازم من حيث الوفاء به.

وقال هنا: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ ولم يقل: في الدنيا والآخرة، لأنه قد يُفهم ذلك مما قبله، فإن عذاب الكافرين في الدنيا والآخرة، فكذلك جزاء المؤمنين، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل:97] هذا في الدنيا، فذلك من المُعجل، فالله -تبارك وتعالى- يسوق إلى عبده من الألطاف والخيرات في هذه الحياة الدنيا، وما يدخره له في الآخرة أعظم وأوفى، ويدخل في هذا الثواب المُعجل لهم في الدنيا: النصر على الأعداء، والعزة والتمكين، والحياة الطيبة التي تعمر قلوبهم، ولكن توفية الأجور إنما يكون ذلك يوم القيامة، كما قال الله : وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور [آل عمران:185] فالذي يُعطى في هذه الحياة الدنيا مما يسوقه الله لعبده في هذه الحياة إنما هو شيء يسير؛ ولذلك فإن العبد ينبغي أن لا يتقال عطاء الله وفضله عليه، ويقول: بأن ما جاءه إنما هو شيء يسير، فليست هذه الدار هي دار التوفية، وإنما التوفية هناك في الآخرة، وإنما هذه دار ابتلاء، يُقلب الله فيها بين الشدة والرخاء، فيحصل لهم ما يحصل من المكاره والمسار، وما إلى ذلك، ثم يصيرون إليه فيوفيهم أجورهم غير منقوصة، ويزيدهم من فضله.

وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين فهذا كما قال الله فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا يعني: الذين كفروا، فجاء هذا الختم لهذه الآية مناسبًا لما ذُكر قبل ذلك، فهم ظالمون، والله لا يحب الظالمين.

وأما قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين فمفهوم مخالفته أن الله يُحب المؤمنين، فدل على عدم محبته تنصيصًا وتصريحًا للفريق الأول فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ ودل بمفهومه على محبته للفريق الآخر، وهم أهل الإيمان، والعمل الصالح.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: فَأُعَذِّبُهُمْ هذا بضمير المُتكلم، فالله يتحدث عن نفسه، ثم قال: وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ ولم يقل: فأوفيهم، وإنما قال: فَيُوَفِّيهِمْ على سبيل الغيبة، فهذا نوع من الالتفات من المُتكلم إلى الغائب، وقلنا: إن هذا من الأساليب البلاغية، وفيه ما فيه من تنشيط السامع، وما إلى ذلك من التفنن في الخطاب، وفيه من جهة إبرازه بضمير المُتكلم: إبراز للعزة والقوة، ويكون ذلك أدعى للمهابة، فالمُعذب هو الله -تبارك وتعالى-، فذلك يعني أن هذا العذاب لا يُقادر قدره، وأنه عذاب في غاية الشدة والإيلام.

نسأل الله أن يقينا وإياكم عذابه، وأن يُدخلنا جنته، وأن يرحمنا برحمته.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: فَيُوَفِّيهِمْ فهذا بصيغة الغائب فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين وجمع الأجور فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ باعتبار كثرة الأعمال وتنوعها، فيتنوع أجرها وجزاءها عند الله -تبارك وتعالى-.

هذا وأسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. الفتاوى (7/672).
  2. أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب أمور الإيمان برقم (9) ومسلم في كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان برقم (35).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور برقم (1718).

مواد ذات صلة