الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما قصّ الله -تبارك وتعالى- خبر عيسى قال بعد ذلك: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون [آل عمران:59].
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ يعني: شبهه أنه وجد من غير أب، فآدم وجد من غير أب ولا أم، فخلقه من تراب، ثم قال له: كن فكان، من غير ولادة، فهذا رد على النصارى، حيث ادعوا إلهية المسيح ؛ لأنه وجد من غير أب، فألحق النظير بالنظير، فيؤخذ من هذه الآية الكريمة: الاحتجاج على المُخالف -كما هو معروف في علم الجدل والمناظرة- بجنس حجته، وربما يُحتج عليه بدليله نفسه، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- كان يقول عن المخالفين: بأنهم لا يحتجون بدليل إلا قلبه عليهم، وجعله حجة عليهم[1]؛ لأن نصوص الكتاب والسنة إنما تدل على الحق الثابت، ولا تدل على الباطل، وإن حرفها المُبطلون، فهنا احتج عليهم بجنس حجتهم، حجتهم: أن عيسى وجد من غير أب، فلم يقل لهم: هو عبد لله ولو وجد من غير أب، لكن قال: كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون بمعنى إذا كنتم تقولون بإلهية المسيح لأنه وجد من غير أب، فقولوا: بإلهية آدم لأنه وجد من غير أب وزيادة من غير أم، فعيسى تقلب في رحم أمه، وتخلق فيه، فحملت به، إلى أن ولد، والإله لا يكون حملاً، ومضى في أطوار الحمل، أن الإنسان يمر بمرحلة الولادة والطفولة فما بعدها إلى أن يصير كهلاً، والإله لا يكون كذلك، فإذا كان لكم حجة في إلهيته لكونه وجد من غير أب، فقولوا -إذًا من باب أولى- بإلهية آدم، حيث وجد من غير أب ومن غير أم، وآدم بإجماع الطائفتين أهل الحق وأهل الضلال -أعني النصارى- ليس بإله، النصارى لا يقولون بإلهية آدم، فهم متفقون مع أهل الإيمان بأن آدم عبد لله ، إذًا فلماذا يقولون بأن عيسى إله؟! فهذا احتجاج عليهم بجنس حجتهم، وإن وجد فرق يعني هنا إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ ذكرنا في الكلام على الأمثال في القرآن بأن عامة أهل العلم ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمهم الله- يُرجعون معنى المثل إلى الشبه، يقولون: إنه يرجع إلى مثل الشبه[2]، وذكرت أن هذا قد لا يطرد، لكن في هذا الموضع لا بأس، فإن الشبه فيه يتأتى، فشبه عيسى بآدم، وقد يقول قائل: يوجد فرق؛ لأن آدم من غير أب ولا أم، وعيسى بأم، فكيف مثله به؟
أجاب العلماء عن هذا بإجابات: أنه لما كان هذا من باب أولى، يعني تأليه آدم في نظر النصارى هو أولى بالإلهية من عيسى -عليه السلام-، فشبهه به، وقال بعضهم: بأن هذا من باب بيان الحالة الخارجة عن المألوف، فالمألوف أن يوجد الإنسان من أبوين، لكن خرجت حالات: حالة وجد من أم دون أب، وهو عيسى هذا غير مألوف، فهي آية ومعجزة، وعندنا حالة أعجب منها، وهي آدم من غير أب ولا أم، وعندنا حواء خُلقت من آدم من غير ولادة، ومن غير أم، فيكون الإلحاق هنا بهذا الاعتبار، أن كل هذه الحالات غير مألوفة، فهي خارجة عن نطاق العادة، وهذا صحيح.
وأيضًا يمكن أن يُقال: بأن الشبه هو إلحاق ببعض الأوصاف المتطابقة والمتوافقة، فلا يلزم من أن يكون ذلك من كل وجه، يعني أن يكون الشبه من كل وجه، فيمكن أن نقول: فلان يُشبه فلانًا يعني في جملة من الأوصاف، ولا يعني أنه يُطابقه في كل شيء، تقول: هذا المسجد يُشبه هذا المسجد، وهذه الدار تُشبه هذه الدار، مع وجود فروقات، فلا يُطلب فيه المُشابهة من كل وجه، وإنما يكفي الاتفاق في بعض الأمور والأوصاف.
وكذلك أيضًا يمكن أن يُقال: ألحقه بآدم باعتبار أن الوجود من غير أب ولا أم أغرب وأخرق للعادة، فشبه الغريب بوجوده، وهو عيسى من غير أب بالأغرب منه لقطع الحجة، فقال لهم: أنتم تستغربون هذا، وادعيتم فيه الإلهية، خذوا ما هو أعجب منه إذًا، وهو آدم ، فيكون ذلك لقطع شُبهتهم واحتجاجهم بعيسى ، فيكون ذلك من باب أولى، إذا قالوا: بأن آدم ليس بإله، فمن باب أولى أن عيسى ليس كذلك، فهذه وجوه يذكرها أهل العلم في جواب هذا السؤال.
وفي قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ هذا -كما ذكرنا في الكلام على الأمثال- يُؤخذ منه إثبات القياس؛ لأن القياس هو إلحاق فرع في أصل في حكم لعلة جامعة بينهما؛ ولذلك فإن كل الأمثال دالة على إثبات القياس، تقول مثلاً: بأن المُسكر من المصنوعات الحديثة من الكحول، ونحو ذلك لها حكم الخمر بجامع الإسكار، وإن لم تكن موجودة زمن النبي ﷺ، فألحقنا الفرع بالأصل في الحكم، وهو التحريم؛ لعلة جامعة بينهما، وهي الإسكار، فحيث وجد الإسكار وجد الحكم الذي هو التحريم، فهذا نوع تمثيل وإلحاق، هذا فضلاً عن قياس التمثيل.
ويؤخذ من قوله: إِنَّ مَثَلَ أن مثل ومِثل بمعنى واحد، كل ذلك يرجع إلى معنى التشبيه هنا، فجمع بين أداتي التشبيه، وكل ذلك لتوكيد هذا المعنى وتقريره وإثباته، فجاء بالكاف التي تدل على التشبيه (كـ) وجاء بـ(مثل) فلو قال: إن مثل عيسى عند الله كآدم فُهم الكلام، لكن قال: {كَمَثَلِ آدَمَ} فــالكاف تدل على التشبيه، ومثل تدل على التشبيه.
وقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ فهذا بمعنى أن ذلك في حكم الله -تبارك وتعالى- حيث كان كلاهما في خلقه خارجًا عن المعهود، وهو عبد لله مربوب، وخلقه يدل على قدرة الله ، وتصرفه في هذه المخلوقات كيف شاء إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إذًا أحكام هؤلاء الذين ألهوا المسيح هي خارجة عن حكم الله -تبارك وتعالى-، ومناقضة له، فهي كفر وباطل؛ لأن الحق هو ما كان موافقًا لحكم الله ، فهذا حكمه، وهو العبودية، مهما تصرف الخلق، وتنوعت طرائق إيجادهم، فإنهم لا يخرجون عن هذا الوصف كونهم عباد لله .
خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون الضمير في خَلَقَهُ وفي قَالَ لَهُ يرجع إلى آدم، ولا يرجع إلى التراب، وتوحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون فهنا المقول له (كن) هو آدم ، وقدم هنا الخلق على القول خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن حسب الترتيب الزمني، خلقه الله قبل أن يقول له: كن، أي: أنه خلقه، فقيل له: كن، فخُلق ووجد؛ لأنه كان مصورًا من تراب، وهذا التراب خُلط بالماء، فصار طينًا، ثم تُرك فصار من طين لازب، ثم جف فصار من صلصال كالفخار، فهذه مراحل خلق آدم .
ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون أي: قال لآدم -عليه الصلاة والسلام-: كُن يعني: بشرًا، فكان، وهكذا أوجده من غير أب ولا أم، و(ثم) هنا تفيد التراخي، كما هو معلوم، لكن هل هو التراخي في الزمن؟ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ إذا كان القول قبل خلقه من تراب، فيكون للتراخي الرُتبي، كقوله تعالى: ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد:17] فالإيمان قبل، ولكن ذلك للترتيب الرُتبي، وليس في الزمن.
وأيضًا في قوله: ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن يعني بالصفة التي أرادها الله -تبارك وتعالى-، وبهذا الخلق الذي أصله من تراب، ولكنه تحول إلى شيء آخر، ووجد فيه الروح، فهو كائن يعقل ويتحرك ويتصرف ويعمل.
وعبر هنا في قوله: كُن فَيَكُون بالمُضارع، ولم يقل: فكان، والتعبير بالمُضارع عن أمر مضى فيه معنى بلاغي، يذكره البلاغيون، وهو تصوير الأمر الماضي بصورة حية، كأنك تشاهدها؛ وذلك لتقريب هذا الخلق، ولاستحضار هذه الصورة، بتخليقه ، كقوله -تبارك وتعالى-: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا [فاطر:9] فلم يقل: فأثارت سحابًا، وإنما قال: فَتُثِيرُ سَحَابًا كأنك تُشاهد هذه الرياح وهي تُثير السحاب.
وفي قوله: ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُون [آل عمران:59] إثبات صفة الكلام لله ، وأنه كلام حقيقي، بحرف وصوت، يتعلق بمشيئته وإرادته، وفيه إثبات الصفات الفعلية لله -تعالى- على ما يليق بجلاله وقدرته.
فهذه الآية تُبين حقيقة كبرى فيما يتصل بالمسيح ضلّ بها خلق من الناس، حيث افترق بنو إسرائيل على طوائف: فطائفة رموه بأقبح الأوصاف، وكفروا به، وطائفة غلت واضطربت أقوالها فيه، فمن قائل: بأنه الله، ومن قائل: بأنه ابن الله، ومن قائل: بأنه ثالث ثلاثة، وذهب بعضهم إلى تأليه أمه -رحمها الله-، فهذه الآيات تُبين الأصل الذي ضلوا فيه، وتُبين الحق وتُجليه.
فأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.
والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (4/389).
- الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية (3/444).