السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(077) قوله تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نصرانيًّا...} الآية 67
تاريخ النشر: ٠٦ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 511
مرات الإستماع: 1083

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما أنكر الله -تبارك وتعالى- على أهل الكتاب في محاجتهم في إبراهيم ، حيث ادعاه كل من اليهود والنصارى، وأن التوراة والإنجيل إنما أُنزلت من بعده، فكيف يكون يهوديًّا أو كيف يكون نصرانيًّا؟! فأنكر عليهم المحاجة بغير علم.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك مُصرحًا بحقيقة ما كان عليه إبراهيم ، ومصرحًا بتكذيبهم، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلاَ نصرانيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين [آل عمران:67] ثم بيّن منهم أولى الناس بإبراهيم ؟ فقال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين [آل عمران:68] فوضع النقاط على الحروف كما يُقال، وصرح بكذبهم، وأنه لا يمت إليهم بصلة؛ وأنه أيضًا كان على الحنيفية، وهي دين الإسلام، وبيّن أولى الناس بإبراهيم ، وهو نبينا -صلى الله عليه وآله وسلم-، ومن اتبعه.

فقال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلاَ نصرانيًّا لأن اليهودية والنصرانية إنما وجدت بعد ذلك، وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا فالحنيف المشهور أنه يُقال: للمائل عن الشرك إلى دين الإسلام، والمائل عن سائر الأديان المُنحرفة إلى دين الإسلام، هذا هو المشهور، ولكنه ليس محل اتفاق، فأبو جعفر ابن جرير -رحمه الله- يرى أن الحنيف هو المُستقيم[1]، يعني: المُستقيم على الحق، والمُستقيم على الإسلام، وأنه يلزم منه أن يكون مائلاً عن سائر الأديان، فعند ابن جرير أن هؤلاء الكُثر من أهل اللغة والمفسرين إنما فسروه بلازمه، وهو الميل؛ لأنه إن كان مستقيمًا على الحق ودين الإسلام، فيلزم أن يكون مائلاً عن كل دين سواه، وأولئك الذين يفسرونه بالمائل عن كل دين إلى دين الإسلام يقولون: بأن من فسره بالاستقامة فهو تفسير باللازم، فالمائل يلزم أن يكون مستقيمًا على الحق، وهذه اللفظة على كل حال أهل اللغة اختلفوا فيها وفي توجيهها، والأحنف ابن قيس قيل له: الأحنف لحنف في رجله، يقولون: إن أمه كانت تُرقصه، وهو صغير وتقول:

وَالله لَوْلَا حَنَفٌ فِي رِجْله ودِقَّةٌ فِي سَاقه من هَزْلِهِ
وقلَّة أَخافُها من نَسْلِه مَا كَانَ فِي فِتْيانِكُم من مِثْله[2]

فالحنف ميل في أسفل القدمين، كل واحدة نحو الثانية، فعلى كل حال مؤدى ذلك واحد، وأنه كان على الحق والتوحيد والإسلام، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين فهذا نفي للثلاث طوائف التي ادعت إبراهيم : اليهود، والنصارى، وأهل الإشراك، المشركون في مكة، حيث كانوا يفتخرون أنهم على ملة إبراهيم ، فجاء الرد على هذه الطوائف الثلاث بهذه الآية، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني: أحق الناس بإبراهيم وأخص الناس به هو نبينا ﷺ، والذين اتبعوا إبراهيم حقيقة على التوحيد والحنيفية لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ أي: إبراهيم ، وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ يعني: من أمته -عليه الصلاة والسلام-، وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين أي: ناصرهم ومؤيدهم وحافظهم.

ففي قوله: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلاَ نصرانيًّا العلماء يقولون: بأن نفي الكون الماضي يُحمل على الإطلاق، مَا كَانَ يعني: حتى قبل النبوة، وهذه مسألة يذكرها أهل العلم هل كان الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- على ملة قومهم قبل النبوة؟ ففي قصة شعيب: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88] قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا [الأعراف:89] هل كانوا عليها فقال: وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا [الأعراف:89]؟ فهل يدل على أنهم كانوا كذلك؟ والله قال عن إبراهيم وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين يعني: لم يكن في وقت من الأوقات، فكلمة العود أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا [الأعراف:88] هي من الأضداد، فالعود يُقال لرجوع الشيء إلى ما كان عليه، فتقول: رجع فلان إلى عادته، رجع إلى ما كان عليه، ويُقال للصيرورة صار إلى كذا، تقول: عاد الصبي شيخًا، وهو لم يكن شيخًا قبل ذلك، وعاد الماء ثلجًا، وعاد الطين خزفًا، فهو لم يكن كذلك، لكن حتى يعود اللبن في الضرع هذا بمعنى يرجع، فالأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لم يكونوا على دين قومهم قط، لكن كانوا على الفطرة وهي توحيد الله -تبارك وتعالى-.

مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلاَ نصرانيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين يعني: في وقت من الأوقات، وهنا قال: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلاَ نصرانيًّا فبدأ بالنفي، ثم قال: وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا فهذا من باب التخلية قبل التحلية، فنفى عنه الإشراك أولاً، وأثبت التوحيد.

وبدأ باليهودية مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وثنى بالنصرانية باعتبار أن اليهود سابقون للنصارى من جهة الزمان فهم قبلهم، فجاء هذا على هذا الترتيب، وأيضًا: وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا فلما نفى عنه أن يكون من اليهود أو النصارى قال: وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا يعني: كما نقول: "لا إله إلا الله" نفي لكل ما يُعبد من دون الله، ثم نُثبت عبادة الله وحده وتوحيده، فنفى عنه الإشراك، وأثبت له التوحيد الخالص لله رب العالمين.

وجاءت هنا (حنيفًا) وبعدها (مسلمًا) وبعضهم يقول: هذا باعتبار أنهم كانوا يعرفون الحنيف، ولكنهم ما كانوا يُقرون -يعني اليهود والنصارى- بأنه كان مسلمًا، اليهود يقولون: كان يهوديًّا، والنصارى يقولون: كان نصرانيًّا، فلو قال: ولكن كان حنيفا، هم يقولون: إبراهيم من الحنفاء، ونحن على ملته، لكن قال: كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا فلا يمت إلى دينهم المحرف بصلة، واليهودية والنصرانية بهذه التسمية ليست من الله، وإنما الدين عند الله الإسلام، وكما ذكرنا قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مناسبة سابقة[3]، أو لعله في درس تفسير ابن جُزي أن المقصود بذلك: الإسلام العام الذي هو أصول الشرائع الذي يشترك فيه جميع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- وهو التوحيد لله ، فكل الأنبياء كانوا على الإسلام يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون [البقرة:132] وهذا كبير الأنبياء إبراهيم الذي يُقال له: أبو الأنبياء كان حنيفًا مسلمًا، فالإسلام هو دينهم جميعًا، وأما هذه الأسماء التي أُحدثت بعد ذلك كاليهودية والنصرانية فليست من عند الله ، فهي أديان محرفة، ولا يصح نسبتها هكذا بإطلاق إلى الله، وأن الله هو الذي أنزل اليهودية، وأنه هو الذي أنزل النصرانية، لا، فدين الأنبياء هو الإسلام؛ ولهذا فإن القول بأن هذه أديان سماوية مثلاً عبارة فيها نظر، فنسبتها إلى الله ، وهي محرفة لا يصح، مع أنها أديان مُنزلة، وهي شرائع مُنزلة، ولكن دخلها كثير من التحريف، كما أخبر الله -تبارك وتعالى-.

وفي قوله: وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلاَ نصرانيًّا هذا يسمونه القصر الإضافي، يعني: ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولا غير ذلك، ولكن لما ادعاه هؤلاء نفى ذلك عنه، ثم جاء بعد ذلك الاستدراك وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين مع أن هذا التذييل في قوله: وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين يحتمل أنه تعريض بهم أنهم كانوا على الإشراك، ويحتمل أن يكون من قبيل الرد على المشركين الذين ادعوه من أهل مكة مثلاً أنهم كانوا على ملة إبراهيم ، والقرآن يُعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فهو تعريض بهم أنهم على الإشراك، وهو رد على كل مدعي لهم من غير الموحدين الذين هم على دين الإسلام، هؤلاء اليهود قالوا: عُزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، فكلهم أهل إشراك، وإن كان الإشراك في النصارى أكثر منه في اليهود.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ هذا يدل على تفاوت الناس في القُرب والبُعد، فأقرب الناس إلى إبراهيم وأولى الناس به هم أتباعه حقيقة على دين الإسلام والحنيفية والتوحيد الخالص، وهذا النبي -عليه الصلاة والسلام-، والذين آمنوا به، وصدقوه، فأخرج ذلك كل من لم يؤمن من اليهود والنصارى، وطوائف المشركين على اختلاف مللهم.

والاتباع هنا جاء على سبيل الإطلاق لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني: اتبعوه اتباعًا مُطلقًا، ليس فيه مثنوية، فهنا يصدق على هؤلاء أنهم أتباعه حقيقة، وَهَـذَا النَّبِيُّ يعني: النبي ﷺ، ولم يذكره باسمه، فذلك أبلغ -والله أعلم- أعني أنه قال: وَهَـذَا النَّبِيُّ -عليه الصلاة والسلام-، والعلماء يقولون: بأن الإشارة أبلغ من التسمية، تقول: هذا، فيكون أبلغ وأدل على المراد، وفي قوله: وَهَـذَا النَّبِيُّ تنويه به بذكر النبوة، فلم يقل: ومحمد ﷺ، والذين اتبعوه، بل قال: وَهَـذَا النَّبِيُّ ففي ضمنه إثبات النبوة، وفي ضمنه التنويه بشأنه وذكره بصفة شريفة عظيمة جليلة، وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فأطلق في صفة المؤمنين، آمنوا بكل ما يجب الإيمان به، وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين ولاحظ هنا عُلقت الولاية بالإيمان، وكما ذكرنا مرارًا القاعدة، بأن الحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، وَاللّهُ وَلِيُّ الحكم حكمٌ بالولاية أنه ولي، هذا الحكم علقه بوصف وهو الإيمان وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين فهذا حكم بولايته -تبارك وتعالى- لمن اتصفوا بالإيمان، والحكم المُعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، فدل ذلك على أن ولاية الله -تبارك وتعالى- تتفاوت بقدر إيمان العبد، وبحسبه يكون له من ولاية الله ، وفي الحديث القُدسي: من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب[4]، ثم ذكر الجالب لولايته: من إقامة الفرائض والنوافل بعدها، وأساس ذلك وقبله توحيد الله -تبارك وتعالى- والإيمان الصحيح.

وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين ولاحظ هنا لم يقل: وهذا النبي والذين آمنوا والله وليهم، وإنما أظهر في موضع يصح فيه الإضمار لإبراز هذا الوصف في إثباته لهم أنهم أهل إيمان واتباع للنبي ﷺ، والذين معه، وآمنوا به، وفيه أيضًا أن الولاية إنما هي مرتبطة بهذا الوصف كل الارتباط، وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين فمن أراد ولاية الله ورامها فعليه أن يسلك هذا الطريق، وهو الإيمان، واتباع النبي ﷺ، وليس لها طريق سوى ذلك إطلاقًا، الطرق كلها مسدودة، لا توصل إلى ولاية الله .

وهكذا في هذه الجُمل لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ فاسم إبراهيم تكرر في هذه الآيات المتقاربة، فهذا فيه تنويه به، وتنويه بشأنه، ورفع لدرجاته بذكره في هذه الأمة، والحكم بشأنه أنه كان على الحنيفية، ونفي العلاقة بينه وبين هؤلاء الضُلال من اليهود والنصارى، وأهل الإشراك الذين تنازعوه، وهو النبي الوحيد الذي تنازعته هذه الطوائف الثلاث، كل طائفة تقول هو معنا، وهو منا، وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين فهؤلاء هم أهل ولاية الله ، وهم أيضًا الأتباع حقًّا لإبراهيم .

وفيه كما سبق تعريض بأن الذي ليس منهم إبراهيم ليسوا بمؤمنين، فلما نفى ذلك عنهم وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ، مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يهوديًّا وَلاَ نصرانيًّا وأيضًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِين [آل عمران:68] إذًا أولئك الذين نفى عنهم أي صلة بإبراهيم من جهة الولاية ونحو ذلك، ليسوا بمؤمنين فإيمانهم فاسد.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/104).
  2. ( المخصص (1/177).
  3. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (1/73).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق، باب التواضع برقم (6502).

مواد ذات صلة