الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لما ذكر الله -تبارك وتعالى-في هذا السياق الطويل الرد على النصارى وبيّن حقيقة المسيح ، ودعا إلى مُباهلتهم، وما إلى ذلك مما مضى في هذه الآيات، أخبر عن حقيقة تنطوي عليها نفوسهم، وتظهر جلية فيما تُبديه ألسنتهم، وما يظهر على أعمالهم وتصرفاتهم، فقال: وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69].
وَدَّتْ طَائِفَةٌ [آل عمران:69] يعني: تمنت طائفة مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:69] جماعة من اليهود والنصارى لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [آل عمران:69] بإبعادكم عن الحق، وصرفكم عن دينكم الذي اختاره الله لكم، حسدًا كما قال الله -تبارك وتعالى-: حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [البقرة:109] فحسدوا أهل الإيمان على هذا الهدى الكامل، والنعمة العظيمة السابغة، فأرادوا سلبهم منها، ولو لم يتحولوا إلى دينهم، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69] يعني: أن حقيقة الأمر أنهم بذلك يُضلون أنفسهم؛ لأنهم صدوا عن الحق، واشتغلوا بإضلالكم، فالضلال واقع عليهم، وهم منغمسون غارقون فيه، ولكنهم لا يشعرون؛ لانطماس بصائرهم من جهة، ولشدة عداوتهم وحنقهم من جهة أخرى، ولانهماكهم في إضلالكم من جهة ثالثة، وَمَا يَشْعُرُونَ [آل عمران:69].
فقوله: وَدَّتْ طَائِفَةٌ [آل عمران:69] أي: تمنت، فدل ذلك على شيء في النفوس، ومثل هذا الذي يكون في القلوب، وتنطوي عليه النفوس، فإنه لا بد أن يكون له أثر في واقعهم، وما يزاولون ويبذلون، فيصدر عنهم من الأفعال والأقوال والتصرفات ما يُريدون به التوصل إلى هذا المطلب وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:69] و(منْ) هنا يحتمل أن تكون للتبعيض، يعني أن بعض أهل الكتاب وهم الكبراء والقادة من أهل سلطانهم، ورأيهم وديانتهم من الأحبار والرهبان، ونحو ذلك؛ لأن هؤلاء هم الذين يقودون العامة، ويوجهونهم، فيحتمل أن تكون (من) هذه بيانية، ويحتمل أن تكون تبعيضية، أي بعض أهل الكتاب، وهم القادة بنوعي القيادة، يعني القيادة السياسية والقيادة الدينية، الأحبار والرهبان.
والمعنى الآخر الذي تحتمله (من) أن تكون بيانية وَدَّتْ طَائِفَةٌ [آل عمران:69] من أي الطوائف، مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:69] فهي للبيان، وليست للتبعيض باعتبار أن هذه الطائفة تنتسب إلى أهل الكتاب، ولكن في الغاية والمآل كأن القولين يرجعان إلى شيء واحد؛ لأن الطائفة لا تعني الجميع؛ وذلك محمول كما ذكرت على المُقدمين فيهم، الذين يقودون هؤلاء الأتباع، وبيدهم التصرف، واتخاذ القرار، والعامة تبع لهم.
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ [آل عمران:69]هذا الأمر النفسي الذي تنطوي عليه النفوس لا يعلمه إلا الله، وقد أخبر الله نبيه ﷺ على ما تنطوي عليه نفوسهم؛ وذلك من أنباء الغيب، فهو من جهة يدل على صدق ما جاء به الرسول ﷺ، وأنه مؤيد بالوحي، فإن ذلك مما يُسرون به، ويتناجون به بينهم، ومن جهة أخرى: فإن مثل هذا يكشف عن حقيقة في نفوس هؤلاء من أهل الكتاب أنهم يريدون إضلالكم، فقد لا يتمكنون من فعل شيء، لكن يبقى ذلك من الأمور المرغوبة التي يتمنونها في نفوسهم، وإذا لاحت لهم فرصة، فإنهم لا يدخرون وسعًا في إضلالكم، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] يعني: ليست مجرد أماني، بل يصل الأمر إلى أكثر من الكلام والمقال وهو إلى القتال، وَلَا يَزَالُونَ وكلمة (لا يزال) يعني: أن ذلك مستمر لا ينقضي، حَتَّى هذه للغاية، وأما في الرضا، فكما قال الله -تبارك وتعالى-: ولن هذه أقوى صيغة من صيغ النفي تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فالرضا لا يتحقق إلا باتباع الملة، وهؤلاء على طائفتين اليهود والنصارى، وهؤلاء يُكفر بعضهم بعضًا، ويلعن بعضهم بعضًا، ويُعادي بعضهم بعضًا، فإذا اتبعت ملة هؤلاء سخط هؤلاء، وإذا اتبعت ملة هؤلاء سخط هؤلاء، ثم هم طوائف أيضًا منقسمة في داخل الطائفة الواحدة، فاليهود طوائف يُكفر بعضها بعضًا، كما هو معروف، وكتب المِلل والنِحل تذكر أسماء تلك الطوائف قديمًا، ويوجد طوائف جديدة في هذا العصر الحديث بينهم غاية الشر والعداوة، وكذلك النصارى، فهم طوائف يُكفر بعضهم بعضًا، وهم أكثر انقسامًا وتفرقًا، ثم كل طائفة لا ترضى أبدًا أن تكون على ملة الطائفة الأخرى؛ لما وقعت الحرب على سبيل المثال بين الصرب والكروات والصِرب أرثوذكس، ماذا فعلوا بالكروات؟ فعلوا فيهم الأفاعيل، كان المسلمون يقولون قبل الحرب التي وقعت عليهم من قِبل الصِرب، وقد سمعت هذا من بعض المسلمين هناك يقولون: يفعلون الأفاعيل بالنصارى بالمخالفين لهم في الملة، يعني هؤلاء على مذهب، وهؤلاء على مذهب، يقولون: كانوا يأخذون المرأة من الشارع، ويقطعونها تقطيع وهي حية، يقولون: هؤلاء إذا التفتوا إلينا يقولون: الدور سيأتي على المسلمين، إذا التفتوا إلينا ماذا يمكن أن يصنعوا بنا؟ إذا كان هذا الحقد فيما بينهم، وبالفعل لما التفتوا إلى المسلمين بعد الكروات كان مما فعلوه ما قد علمتم آنذاك، ومن ضمن ذلك أنهم كانوا يأتون بقدر ضخمة مليئة بالزيت المغلي، وفيها رافعة، فيأتون بالرجل وهو حي، فيغمسونه فيها، ثم يرفعونه، وإذا هو عظام تلوح، هيكل عظمي، ليس فيه لحم ولا عصب، يقتلون بهذه الطريقة، وفعلوا الأفاعيل، كما هو معروف، وكانوا يفجرون بالنساء، فإذا حملت وولدت ربما بكى الصبي، وهو يفجر بها، فإذا بكى قطعوا رأسه، وألقوه عليها، من أجل أن ترضعه، والنساء يعملن الأعمال الشاقة في حفر الخنادق، وغير ذلك في النهار، ويفجرون بهن في الليل، كل شيء فعلوه مما لا يمكن تصوره، وكانوا يحملون الناس في بعض الأماكن، وينقلونهم إلى ناحية خارج البلد، ويذبحونهم، ويستخسرون عليهم رصاصة، وكان الشباب الذين قلة معرفتهم بدينهم يتوسلون إليهم على أنهم نصارى من أجل أن يسلموا من القتل، فيكشفون عن عوراتهم، فإذا وجدونه مختونًا ذبحوه بمجرد هذه العلامة فقط، وهذا الإنسان بحاله بعيد عن التدين، وربما لا يعرف الدين، ولا يصلي، ومع ذلك يفعلون بهم هذا، فهنا يُنبأ الله عن حقيقة تنطوي عليها نفوس هؤلاء.
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فهذا أمر مُكتن في نفوسهم، فإذا وجدوا القدرة فعلوا ما بوسعهم؛ ولذلك لا يُستغرب منهم رمي المسلمين بالعظائم، وممارسة أنواع الضغوط والتهديدات والتحالف مع الطوائف الضالة المنحرفة، وإحياء الفرق التي تنتسب إلى الأمة لتشتيتها، وتفريق شملها.
وحينما وجد ما سُمي بالاستعمار في القرنين الماضيين، فعلوا كل ما باستطاعتهم، ومن ذلك أنك تجد الكتب التي ألفها فلاسفة من المنتسبين إلى الإسلام، وهي كتب المعتزلة، وكتب طوائف الباطنية، وحققها المستشرقون الذين هم مقدمة المستعمر، فكانوا يدرسون الفِرق، وحال الأمة، ويتعرفون على أحوالها حجرًا حجرًا، الأرض والمواقع والمياه والجبال والنباتات والقبائل واللهجات، وتجد بعض هؤلاء يتكلم بلهجات لا يعرفها، من مجاورته للعشيرة أو القبيلة، فهو يتكلم بلهجتهم، وإذا وجد أحدًا منهم في أي مكان في العالم قال: أنت من بني فلان، بطن من قبيلة كذا، كيف عرف؟ درسوا هذا دراسة دقيقة، ودرسوا القرآن والسنة، وهم الذين ألفوا أول مُعجم ضخم كبير، وهو المُعجم المُفهرس لألفاظ الحديث.
قال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في مفتاح كنوز السنة: لو وجد هذا قبل لاختصر عليّ نصف حياتي[1]، فكيف بالمُعجم المُفهرس الذي يبلغ نحو ستة مجلدات كبار ضخمة، قدر الواحد ذراع، ألفوه هم من أجل أن يصلوا إلى مرادهم بأسرع ما يمكن في السُنن، وكتبوا وألفوا الكتب في الطعن في الإسلام، وإثارة الشبهات في القرآن والسنة، وللأسف تلقفها بعض تلامذتهم ممن درسهم في بلادهم، وتتلمذوا على المستشرقين، وصاروا يرددون هذه الشُبه، ويُقررونها على تلامذتهم، ودُرست في بعض بلاد المسلمين، وهي شبهات تطعن في القرآن، أو في سنة رسول الله ﷺ، أو في الإسلام، وما طه حسين عنا ببعيد، فكان يُردد ما كان يقوله بعض أساتذته من المستشرقين نفس الشبهات، فكانوا يدرسون الإسلام من أجل إيجاد المادة، أو المدخل الذي يدخلون منه، والمادة التي يستعملونها في إضلال المسلمين، وأما تأسيس المدارس التنصيرية، فقد فعلوا ذلك وأكثر من ذلك، ونوعوا هذه المدارس، وكانوا يضعون حِصص الإنجيل الأولى من أجل استيعاب الطلاب، وصفاء الأذهان، وتعلم الإنجيل معلمة لطيفة، يُحبها الطلاب، للطفها معهم، وتُحببهم فيه، وأنشأوا مدارس ربما لها أيضًا رسوم عالية من أجل أن لا يدخلها إلا أولاد الباشاوات، كما يقال، من أجل أن هؤلاء ستكون لهم الريادة والقيادة في مجتمعاتهم، من أجل أن لا يدخل غيرهم في تلك المدارس الخاصة، فكانوا يربونهم على أعينهم، وبعض هذه المدارس كانت لها ما يُسمى بالإسكان الداخلي، أو نحو ذلك مما يُعبرون عنه، يعني: يبقى الأولاد إلى نهاية الأسبوع في هذه المدرسة ينامون فيها، ويعيشون ويأكلون تحت نظر هؤلاء، ومن تميز أخذوه إلى بلادهم، ثم بعد ذلك يرى ما يبهره من مظاهر حضارتهم، ثم يرجع صدىً لهم، يُردد ما يقولون من غير وعي، فيكون فتنة لقومه، وأنشأوا المدارس التنصيرية، وأرسلوا الإرساليات التنصيرية في بلاد المسلمين، فعاثت في الأرض فسادًا، وبقي دين الله ثابتًا، وكان عمل هؤلاء إلى تبار وبوار، وها هي الأمة تعود من جديد إلى دينها، وتستمد هدي نبيها -صلى الله عليه وآله وسلم- شيوخها وشبانها، رجالها وفتياتها، وانظر دلائل ذلك ظاهرة، كالشمس في وسط النهار، ولا أدل على ذلك كأقرب مثال نُشاهده صباح مساء: هؤلاء الذين يأتون إلى الحج والعمرة، حتى صاروا من الكثرة بحيث لا يمكن أن يستوعبهم المكان إلا بتحديد الأعداد لكل أهل بلد لكثرتهم، قبل ذلك ما كان يأتي أحد إلا القليل، قبل عقود ليست بالبعيدة كان بعضهم يذكر أنه قد بلغ الحُجاج مبلغًا كبيرًا، وأنه حج في ذلك العام نحو مائة ألف إنسان، هذه نقلها لي أحدهم، ممن حج مع الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-، وأنه كان يُنبأهم الشيخ عبد الرحمن أن الحجاج كثير في ذلك العام، حيث يُقال: إنهم بلغوا مائة ألف، ومائة ألف ماذا تعني الآن؟ لا شيء، الناس تهفو أفئدتهم، ويُعملون الأقدام والمراكب، ويأتون إلى بيت الله -تبارك وتعالى-، وأبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- كان من سياستهما: أن يُمنع الناس من التمتع في الحج، يعني بالحج والعمرة في سفرة واحدة؛ لئلا يخلو البيت سائر العام، ما يأتيه أحد، يريدون العُمار أن يأتوا بسفرة أخرى، والحج بسفرة مستقلة؛ ليكون البيت مؤمًا، أما الآن فكما ترون، فهذا دين الله، منذ أشرق على البشرية، وهو في زيادة، وفي الوقت الذي اشتدت فيه الحرب على الإسلام في هذا العصر، جاء هذا الإعلان التاريخي الذي لم يحصل قبل اليوم، من كبير أهل ديانتهم، حيث اعترف أن المسلمين هم الأكثر في العالم، زادوا على النصارى، وأن الإسلام هو الأكثر انتشارًا في العالم، وبعده بأشهر جاء ذلك الاعتراف نفسه من كبير رجال سياستهم، وقال مثل هذا الكلام بأن الإسلام هو الأكثر انتشارًا من بين سائر الأديان، وأن عدد المسلمين صار هو الأكثر في أهل الأديان، هذا أول مرة يحصل في التاريخ، النصارى أكثر من المسلمين عبر العالم، وإذا نظرت إلى الجهود التي يبذلونها، والرجال الذين يقومون بالتنصير في أنحاء العالم في أفريقيا وآسيا وغير ذلك، ونظرت إلى الأموال التي تُرصد، والطائرات والإمكانات تجد شيئًا هائلاً، كأنهم يريدون أن يحولوا العالم بأسره إلى ضلالتهم، وإذا نظرت إلى جهود المسلمين القليلة البسيطة الضعيفة على قلة الإمكانيات، ونُدرتها، تجد هذا الانتشار؛ لماذا؟ لأنه دين الفطرة؛ وذلك ضلال لا تقبله النفوس، فقد يطاوعهم من يطاوعهم من أجل أن يحصل على شيء من المال، ثم ما يلبث أن يُدير ظهره إليهم، كما حصل كثيرًا في بلاد في أفريقيا وآسيا، فهذه أمنية عندهم يسعون إليها، ولا غرابة، فالله يُخبرنا عن حقيقة في نفوسهم، فنحن لا نستغرب حينما نسمع منهم بعض التصريحات في مثل هذه الأيام، وبعض الكلام الذي يقولونه عن الإسلام وأهله، وما يرمون به المسلمين من العظائم، فأبشروا وأملوا، فالإسلام قد جاوز القنطرة، فلا يستطيع هؤلاء ولا غيرهم أن يطفئوا نور الله ، فقد حاول قبلهم كثير، ولكنهم باءوا بالخسار، ورجعوا بالبوار والخيبة، فهذا أمر قد اكتمل وتم الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة:3] فهذه المحاولات والمزاولات التي تصدر عنهم، كما قال الله -تبارك وتعالى-، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (ما يضلون) أقوى صيغة من صيغ الحصر، فلم يقل: هم بذلك يظفرون بكم، وإنما قال: وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ بأقوى صيغة من صيغ الحصر، إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ يعني: ما يضلونكم بهذا، وقد رأيت في بعض البلاد التي ركزوا عليها، وراهنوا أنها في عام ألفين ستكون نصرانية، وفي مكان يُعتبر هو قلب العاصمة، وكنيسة ضخمة ومسجد يُقابلها هو الأكبر يتسع إلى أكثر من خمسين ألف مصلٍ، رأيت في يوم الأحد الكنيسة لا يأتيها إلا الواحد بعد الواحد، وليسوا من أهل البلد من الصينيين، وأظن أن هؤلاء من الذين يعملون بالكنيسة، أفراد يأتون، لا يتجاوزون العشرة، من أول الصباح إلى ارتفاع الضحى، وهذا يوم الأحد، وأما المسلمون فيجتمعون ويحتشدون في يوم الجمعة، ويصلون في الساحات، بأعداد هائلة، فهذا أمر مشاهد، مع أنه مُرس على تلك البلاد من الاستعمار والإذلال والقتل والتنكيل والتضليل والمدارس التنصيرية مدة أربعمائة سنة، وماذا كانت النتيجة؟ تعود إلى دين الله ، فاثبتوا على إيمانكم، واطمئنوا على دين الله فإنه لن يضيع؛ لأنه هو الذي تولى حفظه، لكن يخاف الإنسان على نفسه في أي موقع هو، أما دين الله ، فلا خوف عليه إطلاقًا، وكل هذه الجهود تنقشع، كما قال -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ هذا في الدنيا، وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُون [سورة الأنفال:36] هذا في الآخرة، لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون [سورة الأنفال:37] فهذه حقائق يُخبر بها من خلق أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير [سورة الملك:14] الذي يعلم دقائق الأشياء، وخفاياها.
وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وهذا يدل على أن الجزاء من جنس العمل، فالذي يعمل على إضلال الناس الواقع أنه يبوء بالضلال، ويقع فيه، وهذا فيه تطمين لأهل الإيمان: أن ضلال هؤلاء والإضلال الذي يُمارسونه إزاءكم إنما يعود عليهم، وهذه سنة الله -تبارك وتعالى-من الإضلال والمكر والكيد، وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ [سورة فاطر:43] فلا يحصل لغيرهم ما يريده أهل المكر.
فكذلك في قوله: وَمَا يَشْعُرُونَ فلم يقل: وما يعلمون، فالشعور أبلغ من مجرد العلم، فالشعور يكون للشيء الذي يُحس ويُشاهد، لكن كأن هؤلاء في غمرة الباطل، وفي شدة الغيظ والحنق الذي يجدونه في أنفسهم، وفي الإغراق في العمل لإضلالكم، صاروا في حال من لا يُحس أصلاً، ليس لا يعلم بل لا يُحس، يعني: هناك أشياء تُحس، فهؤلاء أصبحوا لا يشعرون بذلك، مع أنه ظاهر؛ لأنهم في غمرة مع انطماس بصائرهم؛ ولهذا لا يشعرون به، فهم يُعمِلون الأموال والطاقات والجهود، ومختلف التخصصات، مع آلة عسكرية ضخمة، فيُهددون بها الأمة، ومع ذلك فالله -تبارك وتعالى-حافظ لدينه، وناصر له، ومُبطل لكيد هؤلاء، والله -تبارك وتعالى- يقول: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى [آل عمران:111] فالأذى ليس بضرر؛ لأن الله يقول: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر[2]، فيؤذي ربه، لكن هل يستطيع أن يضر ربه؟ كلا؛ لأن الله -تبارك وتعالى- يقول كما في الحديث القدسي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني[3]، من الخلق حتى يوصلوا الضرر إلى الله -تبارك وتعالى-، لكن الأذى مثل السب والكلام التخويف والتهديد وإشاعة قالة السوء والتُهم الباطلة، والتشويه للإسلام وأهله ونحو ذلك فهذا يقع ولكن الله يُبطل كيد هؤلاء، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [يوسف:52].
فأسأل الله أن يكبتهم، وأن يرد كيدهم في نحورهم، وأن ينصر دينه ويُعلي كلمته، وأن يحفظ المسلمين بحفظه، وأن يكلأهم برعايته، وأن يردهم إلى دينهم ردًا جميلا، إنه خير مسؤول وهو العزيز الحكيم، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
- مقدمة (مفتاح كنوز السنة).
- أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية:24] الآية برقم (4826) ومسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب النهي عن سب الدهر برقم (2246).
- أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم برقم (2577).