السبت 21 / جمادى الأولى / 1446 - 23 / نوفمبر 2024
(079) قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} الآية – وقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ...} الآيات 70-71
تاريخ النشر: ١٤ / صفر / ١٤٣٨
التحميل: 568
مرات الإستماع: 1039

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- بُطلان ما عليه أهل الكتاب، وبين حقيقة المسيح ، وذكر ما تنطوي عليه نفوسهم مما يعلمه -تبارك وتعالى-، حيث قال: وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون [آل عمران:69].

قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُون ۝ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون [آل عمران:70-71] فوجه الخطاب إليهم بعد أن كان الخطاب بضمير الغيبة وَدَّت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ ثم قال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ يا أهل الكتاب، يا أهل التوراة والإنجيل، لم تكفرون بآيات الله التي أنزلها على نبيه ﷺ، والتي أيضًا قد دلت على صدق نبينا محمد ﷺ من الآيات البينات، والمعجزات الباهرات، والدلائل الواضحات على صدقه.

وكذلك أيضًا ما تجدونه في كتبكم مما يدل على صدق هذا النبي، وأنه مُرسل من عند الله، حيث عرفتم صفته ومبعثه ومُهاجره، كل ذلك تجدونه في هذه الكتب، وأنه رسول الله حقًّا، وأنه خاتم النبيين، وَأَنتُمْ تَشْهَدُون تشهدون بذلك وتعلمونه وتتيقنونه، كما قال الله -تبارك وتعالى-: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ [البقرة:146] ولم يقل: كما يعرفون أنفسهم؛ لأن الإنسان حينما يولد لا يعرف نفسه، فيحتاج إلى مدة حتى يشب ويُدرك، ثم بعد ذلك يعي نفسه، ويعي ما حوله، لكن يعرف ولده منذ خروجه من بطن أمه، ولا يلتبس عليه بحال من الأحوال؛ لأنه يعتني به عناية فائقة، ومع ذلك كانوا في غاية الكفر حسدًا من عند أنفسهم، أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [النساء:54] فالناس هنا المراد به النبي ﷺ، وهذه الأمة، فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا ۝ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُم مَّن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا [النساء:54-55] ثم قال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ لم تخلطون الحق بالباطل، وهذا يدخل فيه التحريف الذي يشمل تحريف الألفاظ، وتحريف المعاني؛ وذلك لما جاء في كتبهم، فكانوا يبدلون ويغيرون، يلبسون الحق بالباطل، كما قال الله : تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام:91] وكذلك أيضًا من اللبس أنهم يبدلون ويغيرون صفة النبي ﷺ، فيجدون في صفته في كتبهم أنه ربعة من الرجال، يعني: متوسط الطول، وأنه أبيض مُشرب بحُمرة -عليه الصلاة والسلام-، فيقولون: هو آدم، يعني أسمر، بائن الطول، يعني طويل طولاً بائنًا، إلى غير ذلك مما يُبدلونه من أوصافه للتلبيس، قال الله -تبارك وتعالى-: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ يكتمون الأوصاف الحقيقية، ويكتمون أحكام الله التي لا توافق أهوائهم مما حرفوه، كما كتموا آية الرجم في القصة المعروفة لما زنا يهودي بيهودية فحمموهما، وطلوهما بالسواد على الوجه، وطيف بهما بحمار منكسًا، يعني يكون الوجه إلى قفاه فيركب بطريقة معكوسة، ويُطاف بهما في البلد، فلما رأى النبي ﷺ ذلك سأل وأخبروه بأن هذا هو الحكم الذي في التوراة، فأمر بالتوراة، فجاءوا بها فقرأ الحبر، ووضع أصبعه على آية الرجم كان الحكم عندهم المُحصن الرجم، فقال عبد الله بن سلام ، وهو من علماء اليهود ومن أحبارهم الذين دخلوا في الإسلام: مره يا رسول الله فليرفع أصبعه، فلما رفع فإذا آية الرجم تلوح، فأمر بهما النبي ﷺ فرُجما[1]، فهذا من لبس الحق بالباطل، وهو من الكتمان، ومن الكتمان كتمان صفة النبي ﷺ، وصفة هذه الأمة، وما جاء في كتابهم من مبعثه ومُهاجره، فكل ذلك عرفوه بدقة، حتى إن اليهود الذين استوطنوا المدينة والذين كانوا حول المدينة لم يكونوا من أهلها أصلاً، وإنما انتقلوا إليها؛ لأنهم يعلمون أنها مُهاجر نبي، وأنه قد آن خروجه، فيجدون ذلك بأوصاف دقيقة، ولكن لما بُعث، وكانوا يتوعدون الأوس والخزرج، ويقولون: سيُبعث نبي ونتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد، فلما بُعث كما قال الله : يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ يعني: على الأوس والخزرج، فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ [البقرة:89] كل ذلك حسدًا؛ لأنه ليس منهم.

وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون يعني: لم يكن ذلك بجهل وخفاء فيه، وإنما عن قصد وإرادة.

وفي قوله: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ خاطبهم يا أهل الكتاب، فإذا كان المقصود بيان الحقائق كما ذكرت في المناسبات السابقة، وهداية الناس، والدعوة إلى الحق، فينبغي أن يكون بأسلوب تقبله النفوس؛ لأنه لو قال لهم: يا إخوان القردة والخنازير، وأيها الشياطين، فإنهم لا يقبلون مثل هذا، فإذا أردنا أن نُخاطب الناس بالدعوة، سواء كانوا من الكفار، أو من أهل الأهواء والبدع، أو نحو ذلك، فينبغي أن نخاطبهم بعبارة تقبلها النفوس من غير تلبيس، ولا تضييع للحق، ولا إضفاء أوصاف لا يستحقونها، فهذا من لبس الحق بالباطل، وإنما نذكر عبارة لا تكون مخالفة في الشرع، ولا تكون موحشة للنفوس، يَا أَهْلَ الْكِتَابِ فهم أهل كتاب، وهذا النداء تكرر في هذه السورة وفي غيرها، وهو يتضمن أيضًا توبيخ هؤلاء، وتسجيل هذه الأمور عليهم من الكفر بآيات الله، ولبس الحق بالبطل؛ لماذا؟ لأن هؤلاء أهل كتاب، فلا يليق بهم أن يفعلوا ذلك؛ ليسوا كحال العرب الجاهليين الذين لا عهد بكتاب، ولا علم عندهم، فأنتم أهل كتاب وأهل علم، فكيف يقع منكم ذلك؛ ولهذا فإنه كما ذكرنا في بعض المناسبات من قول البقاعي -رحمه الله- في المثل المعروف: "على قدر علو المقام يكون الملام"[2]، فاللوم الذي يتوجه إلى من عندهم شيء من العلم ليس كاللوم المتوجه إلى الجهلة الذين لا عهد لهم بالكتب المنزلة.

يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ فهذا الاستفهام استفهام إنكاري، يُنكر عليهم ذلك، وَأَنتُمْ تَشْهَدُون ولم يقل: وأنتم تعلمون، فالشهادة أقوى من مجرد العلم؛ لأن الشهادة تتضمن العلم؛ لأن الإنسان لا يشهد إلا بما يتيقن، فهي تتضمن اليقين وزيادة؛ وذلك أن الشيء الذي يُشهد به، كأنه يُحسه، بخلاف العلم، فالشهادة أخص وأدق وأقوى وأوثق، وَأَنتُمْ تَشْهَدُون فهذا كالشيء المُشاهد لكم؛ لأنه صار بمنزلة من الرسوخ والوضوح كأنما تشاهدونه.

وكذلك أيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُون فهذه الشهادة إقرار، وأيضًا إظهار لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وفعلهم عكس هذا، وهو الكفر بمعنى الستر والإخفاء، ونحو ذلك، وَأَنتُمْ تَشْهَدُون ولاحظ أن الخطاب الذي قبله كان بضمير الغيب وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ يتحدث عن غائبين، وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ثم وجه إليهم الخطاب يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لأنه دخل في أمر في غاية الأهمية، فيحتاج إلى إيقاظ هذه النفوس لتعي ما يُقال لها، فوجه الخطاب إليهم مباشرة بضمير المخاطب يَا أَهْلَ الْكِتَابِ وقبل ذلك يُخبر عن دخائل نفوسهم؛ ليحذرهم أهل الإيمان، لكن هنا الخطاب موجه إليهم: لماذا يقع منكم هذا الكفر؟ ثم وبخهم ثانية فقال: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فهذا صفة من صفاتهم، وهي خلط الحق بالبطل، وهذه الصفات وغيرها من صفات أهل الكتاب قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: لتتبعن سنن من كان قبلكم، شبرًا شبرًا، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ قال: فمن[3].

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه "اقتضاء الصراط المستقيم" في أوله ذكر أكثر من ثمان عشرة خصلة شابهت فيها هذه الأمة أهل الكتاب مصداقًا لهذا الحديث، وذكر في ثنايا الكتاب أشياء أخرى كثيرة، فهذه من أوصافهم التي وقع فيها طوائف من هذه الأمة، وهي لبس الحق بالباطل؛ ولذلك وقع الافتراق في هذه الأمة، ووقعت العداوة والبغضاء، وكذلك وقع الكتمان، فطوائف أهل البدع -كما ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- ينظرون إلى النصوص التي تبدو معارضة لمذاهبهم، ودالة على الحق الذي جاء به الرسول ﷺ بأهوائهم، فما لا يستطيعون أن يحملوه ليكون دليلاً على مذاهبهم وآرائهم الفاسدة، فإنهم يسلبونه دلالته الصحيحة، فإما أن يأولوه ويحرفوه؛ ليدل على باطلهم، أو يسلبوه الحق والمعنى الصحيح الذي دل عليه؛ لئلا يدل على الحق، هذا تجده كثيرًا في الطوائف عند الصوفية والرافضة والمعتزلة والخوارج، وطوائف أهل الكلام، وبعض المتعصبة من الفقهاء الذين يتعصبون، فتجد أنه يلوي أعناق النصوص من أجل أن تكون دالة على مذهبه ورأيه، فإذا ما استطاع سلبها هذا الكتمان سلبها الدلالة التي دلت عليها، وقد ذكرت في مجالس غير هذه المجالس نماذج من تلاعب أهل البدع بالنصوص، فمن ذلك مثلاً المعتزلة هناك قاعدة متفق عليها بين أهل السنة والمعتزلة وطوائف أهل الكلام: "أن التوكيد بالمصدر ينفي احتمال المجاز" وهم يوافقون على هذا، ويُقررونه، فقوله -تبارك وتعالى-: وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فتكليمًا هذا مصدر، والمصدر هو ما يأتي ثالثًا في تصريف الفعل، كلم يُكلم تكليمًا، فالمصدر ينفي احتمال المجاز، معناه: أن التكليم حقيقي، وليس بمجاز، يعني: ما كلمه الملك، وإنما كلمه الله حقيقة، فما استطاعوا أن يؤولوه؛ لأنه ينفي احتمال المجاز، وما يستطيعون أن يقولوا إنه مجاز، وأنه تكليم غير حقيقي، فقالوا: تكليم حقيقي، طيب هل تثبتون أن الله يتكلم كما يليق بجلاله وعظمته؟ قالوا: لا، طيب هذه الآية؟! قالوا: كلمه من الكَلم يعني جرحه بمخالب الحكمة، الكَلم الجرح، هل هذا معنى يمكن أن يكون مرادًا بالآية وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى؟ والله يذكر مجيء موسى للميقات فيقول: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فطمع بالرؤية قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف:143] وهؤلاء يقولون: جرحه بمخالب الحكمة، ويقولون: أثبتنا الحقيقة، وليست هذه هي الحقيقة المرادة هنا، لكن هكذا يفعل أهل الأهواء والبدع.

وقل مثل ذلك تأويلات الصوفية، إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً [البقرة:67] في قصة بني إسرائيل، قالوا: هي النفس تُذبح بسكين الطاعة، قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ يسألون عن السن، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة:68] قال الصوفي: ليس في شرخ الشباب، ولا في سن الكهولة والضعف، طيب فقوله: قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِـعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِين [البقرة:69] قالوا: هذه صُفرة أصحاب الرياضة النفسية، يعني أهل التصوف، صُفرة عبادة وبهاء، وليست صُفرة مرض، فصار الصوفي بقرة صفراء، وكذلك أيضًا في قوله: قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ [البقرة:70] يعني: هل هي عاملة مُذللة بالعمل أو لا؟ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ [البقرة:71] قالوا وهكذا الصوفي فليس بجواب الأسواق وسخاب، وإنما في خلوة، وانقطاع للذكر، هذا في قتيل بني إسرائيل؛ ولهم في هذا أشياء كثيرة معروفة، مما يسمونه بالتفسير الإشاري.

وقل مثل ذلك في طوائف الباطنية ففي قوله: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] فالصفا علي، والمروة فاطمة، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [الرحمن:19] علي وفاطمة، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [الرحمن:22] الحسن والحسين، فهذا من أعظم التحريف والتلبيس، فطوائف أهل البدع هكذا يحرفون النصوص، والخوارج يحملون نصوص الوعيد التي وردت في الكفار على أهل القبلة، فيكفرونهم، ويوجبون خلودهم في النار، وهذا كثير، وبعض طوائف الأمة أشبهت أهل الكتاب في لبس الحق بالباطل، وفي كتم الحق، والله المستعان.

وهذا المسلك لا يليق بحال من الأحوال، والمؤمن يبحث عن الحق دائمًا، ويتبعه، ولا يتوقف في ذلك طرفة عين، ولا يكتم الحق، ولو كان مخالفًا لهواه.

وكذلك أيضًا فإن قوله: لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: مما ينبغي على العلماء من إظهار الحق وبيانه، فإذا حصل منهم اللبس، ولم يميزوا بين الحق والباطل بصورة واضحة، بل أبقوا الأمر مُبهم، وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره، ترتب على ذلك خفاء الحق؛ لأنها قضية متلازمة[4]، يعني: كل من لبس الحق بالباطل، فلا بد أن يكون كتم الحق، ويضيع من الحق بقدر ما حصل من اللبس، ومن ثَم يبقى العامة في حيرة، ويكون ذلك سببًا لفتنة بعضهم، فالواجب على أهل العلم أن يكون ذلك مُقررًا عندهم بوضوح، من غير إيهام، ولا إبهام، يعني: قد يكون من ينتسب إلى العلم -لشيء في نفسه- لا يريد أن يخسر الناس مثلاً في نظره، خاصة مع فتنة الإعلام الآن، فهو لا يريد أن يخسر المتابعين، ولا يريد أن يخسر الجماهير في هذه القنوات أو الوسائل أو الوسائط أو المتابعين في تويتر، أو غير ذلك من الوسائل، فلا يقول لشيء: أنه حرام، ولا يقول لشيء: إنه بدعة، فإذا سُئل أجاب إجابة لا تأخذ منها حقًّا ولا باطلاً، ولا تخرج منها بنتيجة، وإذا أراد أن يكون أوضح قال: المسألة فيها خلاف، ولكل وجهة، فبهذه الطريقة لا يمكن أن يتبين الحق، والواجب هو أن يُبين الحق، ويقول الإنسان ما يعتقده، إلا إذا كان سيحصل فتنة من الجواب لهذا السائل، أو نحو ذلك، ففي هذه الحال كما قيل: من المسائل ما جوابه السكوت، وقال عبد الله بن مسعود : ما أنت بمحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة[5]، فهذه الأمور تُراعى فيها المصالح، لكن في غير هذا في الحلال والحرام والسنة والبدعة، وما إلى ذلك، أمور معروفة وظاهرة، ويتحرج الإنسان، فلا يُسمع منه كلمة حرام، ولا يُسمع منه كلمة بدعة، كل ذلك لأنه يريد أن يحتوي هؤلاء وهؤلاء، فلا يخسر أحدًا، ولا يبدو متشددًا أمام الآخرين، فهذا غلط، والحق أحق أن يُتبع، ولا يتبع الإنسان أهواء الناس، ويكون ذلك على حساب الحق، ويؤثر رضاهم على رضا الله -تبارك وتعالى-، نُبين الحق، ونُقدمه للناس، ونُقربه بعبارة واضحة، ونذكر معه دلائله، فمن قَبِلَ فالحمد لله، ومن أعرض، فإنما يضر نفسه.

وقوله: وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون هذا فيه أيضًا ذم لهؤلاء، بأن الكتمان وقع عن علم، وأن كل كتمانٍ عن علم فهو قبيح، بخلاف ما لو وقع من الإنسان كتمان غير مقصود؛ لأنه كان يجهل ذلك الحكم، ومن ثَم فإن هؤلاء الذين يقعون في كتمان الحق، ولبس الحق بالباطل يقعون في قضية متلازمة؛ لأنه -كما سبق- كل من لبس الحق بالباطل، فهو كاتم للحق، وهذا اللبس قد يكون بالشُبهات بإثارتها، وقد يكون بإخفاء الدليل الدال على الحق، وقد يكون بإيراد أدلة لا تدل على المراد، أو بإيراد بعض أدلة المسألة وتكون ذات شقين، والمفترض أن يؤتى بهذه الأدلة وهذه الأدلة، ويستبين الحق، لكن المبتدعة يأتون بشق من الأدلة، كما فعلت الخوارج والمرجئة والمعتزلة، فالمرجئة أخذوا نصوص الوعد والمغفرة، ونحو ذلك، فقالوا: لا يضر مع الإيمان ذنب، والخوارج وأشباه هؤلاء عكسوا القضية، فالصحيح أن يُجمع هذا وهذا، وتجد كثير من المختلفين في عصرنا هذا يقعون في مثل هذه الإشكالات، فتجد هذا يكتب، وهذا يرد في مسائل دقيقة في العذر بالجهل والتكفير، وما أشبه ذلك، ومن كان له بصر بالأدلة، وكلام أهل العلم يعلم أن هؤلاء العلماء، حتى المنقول عنه، له عنه نقولات أخرى، خلاف هذا الكلام الذي نُقل ما جاء به، قد نُحسن الظن به، ونقول: بأنه ما وقف عليها، لكن قد يجدها في رد من يرد عليه، والآخر الذي يرد عليه أحيانًا يكون في الطرف الآخر، وهذه مشكلة، والصحيح أن تُجمع هذه النصوص، وهذا كثير، وقد رأيته في كلام كثيرين، ينقل عن شيخ الإسلام نقولات، والذي لا يعرف كلام شيخ الإسلام في المواضع الأخرى يقول: ما بعد هذا شيء، خلاص هذا في غاية الوضوح، والواقع أن شيخ الإسلام له كلام في غاية الوضوح عكس هذا أيضًا، لكن هذه لها تنزيل، وهذه لها تنزيل، لكن لشيء في النفس قد يورد الإنسان ما يوافق هواه، ويترك الباقي، وهكذا أيضًا أهواء النفوس، فقد يقع الإنسان في شيء من الكتمان للحق؛ لأنه يصعب عليه، كما قال المعلمي -رحمه الله- في كتابه التنكيل، وما أُفرد منه من كتاب "القائد إلى تصحيح العقائد" حيث ذكر كلامًا نفيسًا في مداخل الهوى الدقيقة في النفس، والتي لا يشعر بها كثير من الناس، يقول: الإنسان أحيانًا يُقرر المسألة تقريرًا محكمًا في نظره، ثم ينقدح في ذهنه ما ينقض ذلك، أو يُعارضه، يقول: فيشق عليه، يقول: هو ما أعلنه إلى الآن، ولا نشره، ومع ذلك يشق عليه، فكيف لو نشره وأعلنه؟! وكيف لو كان الإيراد من غيره؟! وكيف لو كان هذا الإيراد ممن يكرهه؟! فهذا أشد عليه[6]، فهذه مداخل، حتى إنه قال: تجد المرأة أحيانًا لما تختلف عائشة -رضي الله عنها- مع ابن عمر مثلاً، أو مع أبي هريرة تود أن قول عائشة -رضي الله عنها- هو الصحيح؛ لماذا؟ ماذا تستفيدين؟ لأنه تعتبر أن ذلك انتصارًا للنساء، فهي تشعر بهذا[7]، وذكر أشياء الوقت لا يسع لذكرها، لكن الهوى مداخله دقيقة في النفوس، ويحتاج الإنسان إلى تجرد كبير، وأن يبحث عن الحق دائمًا، ويكون ذلك هو مطلوبه، والله المستعان.

وهنا ختم الآية وَأَنتُمْ تَعْلَمُون وفي الآية الأولى: وَأَنتُمْ تَشْهَدُون هنا الكفر بآيات الله، وهذا أخص من الحق، فهي بعض الحق، ويجدون ذلك منصوصًا عندهم في كتبهم، فالشهادة أخص من العلم، وهناك كفروا بآيات الله، وهم يشهدون، فناسب مع الخاص الأخص، ومع الأعم الأعم، فالشهادة أخص من العلم، وآيات الله أخص من الحق؛ لأنها بعض الحق، الحق بعضه آيات لله ، وبعضه غير ذلك، فالحق أوسع من مجرد أن يكون آيات الله، سواء المتعلقة بصحة نبوة النبي ﷺ، أو غير ذلك، فهنا لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ولم يقل: بالحق، وَأَنتُمْ تَشْهَدُون فذكر الشهادة، فهي أخص من مطلق العلم، فالشهادة تكون على أمر يتيقنه الإنسان، كأنما يُشاهده، لكن لما قال الله : لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون فالعلم أعم من الشهادة، وكذلك أيضًا كتمان الحق، ولبس الحق هذا أعم من مجرد الكفر بآيات الله، فقد يكون بها، وقد يكون بغيرها، فجاء بالأعم وَأَنتُمْ تَعْلَمُون هكذا قال بعض أهل العلم.

لعل هذا يكفي، والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري في كتاب المناقب باب قول الله تعالى: {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون} [البقرة:146] برقم (3635) ومسلم في كتاب الحدود باب رجم اليهود أهل الذمة في الزنا برقم (1699).
  2. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور - العلمية (6/100).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لتتبعن سنن من كان قبلكم» رقم (7320) ومسلم في العلم، باب اتباع سنن اليهود والنصارى برقم (2669).
  4. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص:134).
  5. صحيح مسلم (1/11).
  6. القائد إلى تصحيح العقائد (ص:13).
  7. القائد إلى تصحيح العقائد (ص:13).

مواد ذات صلة