الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
لا زال الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم [آل عمران:77].
فهذه الآية الكريمة تدل دلالة واضحة على أن كل من أخذ شيئًا من الدنيا في مقابل ما ضيع من حق الله -تبارك وتعالى-، أو حق عباده، أو حلف على يمين يقتطع بها حق غيره، فهو داخل في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً.
وذكرنا بأن كل ما يُبذل من هذا الحطام الفاني فإنه قليل؛ لأن الدنيا بأسرها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وكذلك في مقابل ما ضيع من عهد الله، فإن ذلك لا يُعد شيئًا.
ويدخل أيضًا في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ سائر شرائع الدين، وجميع ما أمر الله -تبارك وتعالى- به.
وكذلك أيضًا ما نصب عليه الدلائل، وهؤلاء اليهود وقعوا في ذلك كله، حيث كتموا الدلائل على بعث النبي ﷺ، وصفته المُقررة في كتبهم، وكذلك كانوا يبدلون الأحكام وشرائع الدين في مقابل ما يأخذون من الرُشا، كما قال الله -تبارك وتعالى-: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [التوبة:34] فذكر هؤلاء لأن بهم يحصل خراب الأديان، ثم ذكر الفئة الأخرى التي يحصل بسببها خراب الدنيا وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُون [التوبة:34-35] فذكر الصنفين في هذه الآية، وتوعدهم.
وكذلك أيضًا كما ذكرنا بأن كل من ألزم نفسه شيئًا من العهود والمواثيق، أو الأيمان أو النذور، ونحو ذلك، فيجب عليه الوفاء به، وإلا كان ممن اشترى بعهد الله ثمنًا قليلاً، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ [النحل:92] فهذا للأسف واقع بكثرة؛ فتجد في الطوائف المُتصارعة والأحزاب السياسية التي تتنافس في الانتخابات على السلطة، تجد التحالفات، تارة يكون مع هؤلاء؛ لأنه يعتقد أنهم أوفى حظًا، وأقرب إلى الفوز، فإذا تبين له خلاف ذلك لم يُبال بذلك العهد والحِلف والميثاق والعهد، وما إلى ذلك، ويُدير ظهره، وينكث عهده بكل سهولة، هذا أمر شائع، وهذه الآية تدل على أن ذلك من المحرمات، وأنه لا يجوز.
ولما كان هذا المُستعيض بعهد الله شيئًا من الدنيا صار بمنزلة المُشتري، كما قال -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ولكنها صفقة خاسرة، لا ربح فيها، ولا نفع.
ويدخل في قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً اليمين الغموس، سواء كان ذلك ابتداء كأن يحلف على الشيء كاذبًا؛ ليتحصل عليه، أو حينما توجه إليه اليمين، فيحلف بحضرة الحاكم، أو القاضي، ويقتطع حق غيره، وهو يعلم أنه ليس له، فهذا داخل في هذه الآية، وهو كما ذكرنا من كبائر الذنوب؛ لأن مثل هذا الوعيد الخاص يدل على أن ذلك الفعل من جملة الكبائر.
فحكم القاضي لهذا الذي حلف لا يُبيح له ما أخذ، وقد يكون بعضهم ألحن بحجته من بعض، والنبي ﷺ يقضي بناء على ما يسمع، والبينة على المدعي، واليمين على من أنكر، لكنه قال ﷺ: إنما هي قطعة من النار[1]، فهذا حينما يكون صاحب الحق لا بينة له، فيحلف أن ذلك حقه، فإن ذلك لا يُبيح له الأخذ، ولو حكم به القاضي، بناء على ما ظهر، فينبغي على المؤمن أن يتوقى، وأن لا يبيع دينه بشيء من الدنيا، ولو كثُر في نظره، فهو قليل، وأسوأ من ذلك من يبيع دينه لدنيا غيره، -نسأل الله العافية-، يعني هو لا ينتفع، لكن يريد أن يُنفع غيره في دنياه، فيبيع دينه، وقد ذكر الشاطبي -رحمه الله- في أواخر كتاب (الموافقات) لما تحدث عن الفُتيا ألوانًا من التلاعب في هذا، فيبيع الإنسان دينه من أجل أن يُرخص لأحد من معارفه، أو قرابته، أو نحو ذلك، وذكر صورًا وأشياء ووقائع، حتى إن بعضهم كان يقول لصاحب الحاجة: لو علمت أنه لك لابتغيت لك مخرجًا[2]، فيُفتيه بما يُبيح له هذا الأمر، فهذا -أعوذ بالله- يبيع دينه بدنيا غيره، فهذه مراتب ودركات.
وأيضًا فإن قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ الاسم الموصول وصلته يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ يفيد العموم، فلا يختص بفئة معينة، أو أفراد، وإنما كل من وقع في ذلك فهذا يشمله، فلا تختص بهؤلاء اليهود الذين وقع منهم ذلك، وإنما ذلك عام لكل من شابههم بفعلهم، هؤلاء كما قال الله -تبارك وتعالى-: لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ هذا ظاهره العموم، فقوله: لاَ خَلاَقَ نفي، يعني: لا نصيب، وخلاق نكرة، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، لكن هذا مُقيد بعدم التوبة، أنهم إن لم يتوبوا، وهذا من نصوص الوعيد التي كان السلف كالإمام أحمد -رحمه الله- يُجريها على ظاهرها؛ لئلا يخف وقعها، فيستهين الناس بها، فينتفي مقصود الشارع، أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ أي: لا نصيب لهم في الآخرة، فهذا لا شك أنه عظيم، فإذا كان الإنسان لا نصيب له في الآخرة، فمعنى ذلك أنه خاسر، لكن هذا مُقيد بعدم التوبة كما قلنا.
ومثل هذا الوعيد الشديد على نكث الأيمان التي يشتري الإنسان بها ثمنًا قليلاً، ليس المقصود أنه حلف أن لا يأكل، ثم أكل، أو حلف أن لا يخرج، ثم خرج، وإنما المقصود شيء آخر، وهو أن يستعيض بالعهود والمواثيق، ونحو ذلك، أو يأخذ الأيمان، ويقتطع بها حقوق الناس، فهذا لا شك أنه مؤذنٌ بانفراط مصالح الخلق، في أمورهم الدينية، والدنيوية، فتضيع الحقوق إذا تساهل الناس في هذا، فيكون الإنسان لا عهد له، ولا ذمة، يبيع دينه لعرض من الدنيا، كما ذكر النبي ﷺ في آخر الزمان: يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرًا، أو يمسي مؤمنًا، ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا[3]، يعني: إذا لاح له أمر توجه إليه، فيعتقد أن فيه المصلحة، أو نحو ذلك، وهذا يُشبه حال المنافقين، فكانوا إذا رأوا أن الغزو قريب مع رسول الله ﷺ، والغنيمة متحققة، وكثيرة، جاءوا، وإذا كان السفر بعيدًا، وفيه ما فيه من المخاطرة، والعدو قوي، جاءوا يعتذرون إليه، ويحلفون الأيمان الكاذبة على هذه المعاذير، فهذا الذي يُصبح مؤمنًا، ويُمسي كافرًا، والعكس، يبيع دينه بعرض من الدنيا، هذا باعتبار أنه لا ذمة له، ولا مبدأ أصلاً، أين وجدت المصلحة الدنيوية الحقيرة في نظره سارع وهرول إليها، فهذا لا يمكن أن يوثق به، ولا يؤتمن على شيء، ولا يُطمئن إليه، ولا تستقيم أحوال الناس بهذه الطريقة، لو تفشى فيهم هذا، تكون قد مرجت عهود الناس، ومواثيقهم.
وقد أشار النبي ﷺ إلى شيء من ذلك، كما جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: قال لي رسول الله ﷺ: كيف أنت إذا بقيت في حثالة من الناس؟ قال: قلت: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: إذا مرجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا وشبك يونس بين أصابعه، يصف ذاك، قال: قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال: اتق الله ، وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك، وإياك وعوامهم[4]، فذكر هذه الحال، -فنسأل الله العافية-، وأن يحفظ علينا ديننا.
وأيضًا إذا كان هذا الوعيد لمن اشترى بعهد الله، وبأيمانه ثمنًا قليلاً، فإن من يكون موفيًا بعهد الله وبأيمانه، يكن لهم المنازل العالية في الجنة، ولهم الجزاء الأوفى عند الله -تبارك وتعالى-، فهؤلاء الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى- لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وأيضًا وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ وكما قلنا: المقصود: نظر رحمة، فهذا النظر نظر خاص، وإلا فإن الله سميع بصير، لا يخفى عليه شيء من أحوال خلقه، فذلك يدل على سخطه عليهم، وفيه إثبات النظر لله ، على ما يليق بجلاله وعظمته.
وقوله: وَلاَ يُزَكِّيهِمْ بمعنى: أنه لا يُطهرهم، فيبقون في أرجاسهم وذنوبهم وأحمالهم، وإلا فالذنوب لها مطهرات كما جاء في الحديث عن النبي ﷺ قال: تحترقون، تحترقون، فإذا صليتم الفجر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم شيء حتى تستيقظون[5] فالصلاة تُطهر، والصدقة تُطهر، والزكاة تُطهر، خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا [التوبة:103] وهكذا أيضًا المصائب التي تحصل للإنسان تُطهره، والأمراض والبلايا كل ذلك يكون تطهيرًا.
فهؤلاء لا يزكيهم الله ، وإذا لم تحصل التزكية للإنسان، فإنه يكون في حال من الارتكاس في الذنوب والآثام، بحيث إنه يستحق العقوبة؛ ولهذا قال: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم لم يحصل لهم تطهير بهذه المُطهرات التي في الدنيا كلها، وأيضًا سكرات الموت يحصل بها تطهير، وفي البرزخ يحصل تطهير بعذاب القبر، وفي أهوال القيامة يحصل تطهير، فمن لم يُطهره ذلك جميعًا، وبقي من غير تزكية، فمعنى ذلك أنه -نسأل الله العافية- يقدم يوم القيامة، وهو يحمل أوزاره وأوضاره، وأعماله السيئة، وما أغنى عنه دُريهمات أخذها، وضيع عهد الله وميثاقه، أو ضيع حقوق الناس، واستهان بها، واقتطع ذلك بالأيمان الكاذبة، والله المستعان.
فهذا كله -أيها الأحبة- مما ينبغي أن يحذر المؤمن منه، وأن يتباعد منه، وأن يتقي الله، وأن يُعظم عهوده ومواثيقه وأن يتقي الأيمان.
والسلف كانوا يؤدبون الصبيان على الحلف، وأحيانًا تجد الأولاد والصبيان يتكلم الواحد منهم كلمة ويعقبها يمين، وكلمة ويعقبها يمين، وكلمة ويعقبها يمين، فهذا ينشأ بعد ذلك مستخفًا في الأيمان؛ ولذلك تجدون في كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: باب ما جاء في كثرة الحلف، ما علاقة هذا بالتوحيد؟ علاقته بالتوحيد أن هذا الذي يُكثر الحلف مُستهتر، ومُستخف بمقام الرب -تبارك وتعالى-، فلو كان يُعظمه لما حلف على كل شيء، مما يستحق، أو لا يستحق، يمينه تسبق كلامه؛ ولذلك تجد الأشياء التي حلف عليها النبي ﷺ مُدة حياته معدودة، يذكرها العلماء، بل يصنفون في هذا المصنفات، والمسائل التي حلف عليها الإمام أحمد مسائل محدودة، لكن الذي يتكلم ويحلف بين كل لفظة ولفظة، لا أقول بين كل جملة وجملة، فهذا لا شك أنه غير مُعظم لله ، والله المستعان، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري في كتاب المظالم والغصب باب إثم من خاصم في باطل، وهو يعلمه برقم (2458) ومسلم في كتاب الأقضية، باب الحكم بالظاهر، واللحن بالحجة برقم (1713).
- الموافقات (5/278).
- أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن برقم (118).
- أخرجه أحمد ط الرسالة برقم (6508) وقال محققو المسند: "صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين".
- أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (2224) وهو في صحيح الترغيب والترهيب رقم (357).