الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(098) تتمة قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ...} الآية 92
تاريخ النشر: ١٢ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 553
مرات الإستماع: 1035

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فما زال الحديث متصلاً بالكلام على قوله -تبارك وتعالى-: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم [آل عمران:92]، فهذه الآية الكريمة قد تضمنت الحث على الإنفاق مما تتعلق به النفوس وتُحبه، وبذلك يتخلص الإنسان من الشُح ويجود على إخوانه، ويكون محققًا لمعنى الإيثار؛ لأن حقيقة الإيثار هو تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية؛ لأن الإيثار تقديم النفس على الغير في الحظوظ الأخروية غير محمود شرعًا ولا مطلوب، ولكن الإيثار بما ذُكر من تقديم الغير على النفس في حظوظها الدنيوية مما تطلبه النفس وتميل إليه فهذا الذي قال الله -تبارك وتعالى- في مدح أهله: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، فهذا الذي يجود وينفق مما يحب لا شك أنه متحقق بصفة الإيثار، بخلاف ذاك الذي لا يُنفق إلا ما تعافه نفسه وتزهد فيه، ويكون خارجًا عن رغبته وحاجته، مثل هذا لا يكون من الإيثار في شيء، ولذلك إذا تحقق هذا المعنى تحققت أواصر الأخوة بين أهل الإيمان وصار المؤمن يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه، فهذا الذي له وقع وقيمة في نفسه يُقدمه لأخيه راضية طائعة بذلك نفسه فتسخو بهذا المحبوب، ومن هنا يحصل التكافل على أحسن الوجوه وأكملها.

كذلك أيضًا فإن هذه الآية قد أشارت إلى هذا المعنى الكبير بل صرحت به وهو نيل البر، وبينت الطريق إليه وهو الإنفاق مما يُحبه الإنسان، والطريق إلى البر بتحقيق شرائع الإسلام والعمل بطاعة الله -تبارك وتعالى-، ولكن مما يُبرهن على صدق طالبيه وصحة هذا الطلب أن يُقدم الإنسان المحبوب؛ ولهذا سُميت الصدقة بُرهان، بأي اعتبار؟ باعتبار أنها تُبرهن على صدق دعوى الإيمان، وكان بذل النفس في سبيل الله -تبارك وتعالى- شهادة، فكأن ذلك يشهد على صحة هذه الدعوى، فأعظم ما يتحفظ عليه الإنسان ويحتاط له وهو أغلى ما يملك هو النفس والمال، فإذا بذل ذلك في مرضاة الله -تبارك وتعالى- فإن ذلك يدل على صدق إيمانه، يشهد بذلك ويُبرهن عليه ويُصدقه، فهي صدقة تُبرهن على هذه الدعوى.

وقوله -تبارك وتعالى-: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، يُشير أيضًا إلى منزلة البر وأنه لا يوصل إليه بالأعمال والنفقات التي هي من قبيل الفضول الذي لا تطمح إليه النفوس، ذلك يحتاج إلى أن يسعى الإنسان إليه بكل مستطاع.

لَن تَنَالُواْ، كأنها مرتبة عالية رفيعة لا يتوصل إليه بالهوينا والعمل الذي يكون فيه الإنسان مسترسلاً مع أهواء نفسه ودواعيها، فإن ذلك لا يورثه هذا المطلوب الكبير الرفيع.

ويؤخذ من هذه الآية: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، أن دخول الجنة كما أنه برحمة الله -تبارك وتعالى-، كذلك الهداية هداية التوفيق فإن ذلك إلى الله وحده لكن ذلك لا شك أنه يُبنى على أسباب، فالله يقول: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ۝ وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ۝ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ۝ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-9]، فعمل الإنسان يكون به متسببًا لنيل ألطاف الله -تبارك وتعالى- وهداه أو يكون متسببًا للحرمان؛ ولذلك فإن الله -تبارك وتعالى- قد جازى أقوامًا بجنس أعمالهم: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، فجازاهم بذلك، انصرفوا صرف الله قلوبهم.

ويؤخذ من قوله: حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، "تنفقوا" فعبر هنا بالفعل المُضارع الذي يدل على التجدد والاستمرار، فالنفقة لا تكون مرة واحدة، وإنما تكون متجددة، وقد يُفهم من هذا أن الإنفاق مما يُحب الإنسان لا يُكتفى فيه بمرة واحدة، وقال بعض أهل العلم بأن الإنسان عليه أن يُطبق ذلك ولو لمرة ليتصف بهذا الوصف ويتخلق به، كما قال ذلك فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين -رحمه الله-[1]، حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، لكن لو نظرنا إلى دلالة التعبير بالفعل المضارع {حَتَّى تُنفِقُواْ}، فإنه قد يدل على تجدد واستمرار، أن ذلك يكون متجددًا، ولكن الله -تبارك وتعالى- قال: مِمَّا تُحِبُّونَ، فمن هذه يمكن أن تكون للتبعيض، بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- من رحمته أنه لم يُطالبنا بأن ننفق كل ما نُحب، وإنما مما نُحب، وهذا القدر غير محدد بأن يكون على الثلث أو النصف أو أقل أو أكثر، بل إنّ النبي ﷺ قال في الوصية عمومًا قال: الثلث والثلث كثير[2]، ولذلك فهم جمع من أهل العلم أن الوصية تكون بما دون الثلث؛ لأن النبي ﷺ قال: والثلث كثير، فذهب بعضهم إلى الرُبع، وبعضهم قال غير ذلك.

فهنا: حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، كما قال الله -تبارك وتعالى-: وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون [البقرة:3]، وذلك تكلم العلماء -رحمهم الله- هل يدخل التبذير والإسراف في النفقة في سبيل الله أو لا يدخل؟

الله -تبارك وتعالى- لما ذكر النفقات على الوالدين والقرابات في سورة الإسراء، قال الله -تبارك وتعالى-: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:26]، إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27]، فهنا ذكر التبذير مقترنًا بالأمر بالإنفاق وإيتاء الحقوق لهؤلاء وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا [الإسراء:26]، ففهم بعض أهل العلم أن النفقة في سبيل الله يدخلها التبذير، قالوا: ليس له أن يُنفق جميع ماله ولا شطر ماله، وإنما يُنفق بعضه بما لا يُفضي به إلى الحرج فيُجحف بنفقته ونفقة من يجب عليه نفقتهم، هذا قاله بعض أهل العلم، ولكنه يرد عليه: أن أبا بكر جاء إلى النبي ﷺ لما دعا إلى الصدقة بكل ماله فسأله النبي ﷺ: ما أبقيتَ لأهلك؟، فقال: تركت لهم الله ورسوله، فقبل منه، ثم جاء عمر كذلك بشطر ماله فسأله النبي ﷺ: ما أبقيتَ لأهلك؟، فقال: تركت مثله، فقبل منه[3]، ففهم منه بعض أهل العلم كالشاطبي -رحمه الله- في "الموافقات"[4] أن ذلك يختلف؛ فمن كان كامل اليقين كأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- واثقًا بالله وبالعِوض من الله لا يتطلع إلى الناس، ولا يتكفف أن ذلك يُقبل منه ولا يكون تبذيرًا، ومن كان دون ذلك إذا أنفق يبدأ يتطلع هنا وهناك أن يُعطى، أن يُحسن إليه، أن يُتلفت إليه، ينظر إلى ما في أيدي الناس، يتحسر على هذه النفقة يتندم ونحو ذلك، فهذا لا يُنفق بهذه النفقة الكثيرة.

وبعض أهل العلم قال: إن الإنفاق في سبيل الله لا يدخله التبذير أصلاً واحتجوا بمثل هذه الوقائع، -والله تعالى أعلم-.

وقال الله -تبارك وتعالى-: لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ، لم يشترط علينا أن ننفق جميع ما نُحب وإنما بعضه، ولكن يأتي هنا يرد سؤال عن الإنفاق من غير ذلك، هل معنى هذا لو أن الإنسان أنفق من غير ما يُحب أن ذلك لا يُتلفت إليه، ولا يؤجر عليه ولا يُثاب، فقال الله -تبارك وتعالى-: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم فـ "ما" هذه تفيد العموم مع ما صيغ بعدها من النكرة المسبوقة بمن التي تدل على التنصيص في العموم، وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ، أي شيء، يعني: ولو كان قليلاً، ولو لم يكن مما يحبه الإنسان، لو كان من الأشياء التي لربما لا يحتاج إليها، أو كانت من قبيل الدون أو نحو ذلك فإن الله يعلم ذلك، ففيه هذا المعنى أن الله يقبل هذه الصدقات ويعلمها ولو قلّت، ولو لم تكن ذات شأن، لكن ألّا تكون نفقات الإنسان محصورة بالرديء يُنفق مما يُحب ولكنه لا يُتلف الرديء فيُعطيه لمن ينتفع به، ويحفظ النِعمة فلا يكون مهدرًا مُضيعًا لها، فهذا الموضع: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ، يُفيد تعميم أنواع الإنفاق أن الله يُثيب عليه، وكذلك أيضًا فيه معنى يُشبه التهديد: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، فيه ترغيب باعتبار أن الله سيُجازي، فذكر العلم يدل على الجزاء أنه عالم به مطلع عليه لن يضيع عنده، ولكن أيضًا فيه ما يُشبه الوعيد، وذلك حينما يُنفق الإنسان النفقات التي لا تصلح للانتفاع مثلاً وتكون هذه هي نفقاته، فإذا دُعي إلى النفقة جاء بتمر فاسد لا يصلح للأكل، وسبق ذكر الحديث: "الرجل الذي جاء بعذق من شيص وعلقه في المسجد، فقال النبي ﷺ: إن صاحبه ليأكله شيصًا يوم القيامة[5].

فبعض الناس إذا دعُي إلى الصدقة جاء بأشياء لا تصلح للانتفاع الآدمي بل حتى الحيوانات قد لا تأكلها، يأتي بأطعمة تالفة منتهية الصلاحية قد يتضرر من يأكلها فيمرض أو يموت، يأتي بتمور قد تغيرت واسودت ونخرها السوس بقيت عنده منسية في المستودع سنوات ثم بعد ذلك لما سمع أن أحدًا من الناس يجمع الصدقات أو أن فقيرًا يأخذها جاء بذلك وجمعه ولمه ووضعه بين يديه، فهذا: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، يعلم الجيد من ذلك والرديء، يعلم بهذه النفقات ويُجازي عليها، والإنسان قد يُحرج أمام الآخرين حينما يأتي بأشياء من هذا القبيل يعني رديئة، لو أنه فتح هذا الطعام أو فتح وهو فاسد أمام الآخرين أمام من يُحرج منهم، بل حتى أمام الفقير لربما لا يجترئ أن يجعل ذلك بين يديه بهذه المثابة، أو أن يكتب اسمه عليه أو أن يُعطيه ويقول: تفضل هذه صدقتي والناس ينظرون إليه مكشوفة غير مغطاة، فهو يُحرج من الناس، ولهذا قال الله : أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ، لا تقصدوا الخبيث بالإنفاق، وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ [البقرة:267]، المعنى في هذا، -والله تعالى أعلم- على الأرجح أنك لن تأخذه لو أعطيته إلا على سبيل الإغماض، يعني غض الطرف حياء ومجاملة فتأخذه من هذه اليد وتصرفه باليد الأخرى: وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ، يعني: لو دُفع إليكم، إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ، يعني: على سبيل الحياء والمجاملة والإغماض يعني بمعنى غض الطرف.

وقوله -تبارك وتعالى-: فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، يدعوا إلى الإخلاص، إذن لا داعي لإعلان ذلك وإشهاره أن فلان قد تصدق بالصدقة الفلانية أو أنه قد بنى المسجد الفلاني، أو أنه قد تبرع للمشروع الفلاني، فيُعلن مثل هذا ويقول المُحسن الكبير فلان ابن فلان، الله -تبارك وتعالى- يعلمه، وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، وكثير من الأحيان الناس يسألون عن بعض التفاصيل، على سبيل المثال بعضهم يقول: أريد أتبرع بمصاحف مثلاً لأبي لأمي لفلان لفلانة كذا لأخي لأختي لصديقي لصديقتي؛ وأكتب عليها أن هذه صدقة لفلان ابن فلان، لا حاجة لهذا، ولا داعي للكتابة على المصاحف: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، أريد أن أبني مسجدًا لفلان من الناس صدقة، هل يحتاج أن أكتب على ذلك اسمه؟

لا حاجة لهذا؛ لأنه: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، بعض الناس يقول: أوصيت من يحفر لي بئرًا أو يبني لي مسجدًا ونسيت أن أذكر له اسم المُتبرع له، لا حاجة؛ لأن الله يعلم ذلك يعلمه، يقول مثلاً: أنا أوصيت من يذبح ذبائح ويوزعها على الفقراء في بلاد فقيرة ونحو ذلك، ونسيت أن أذكر له المُتصدق عنه: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، يعلمه، لا حاجة لتحديد الاسم وذكر ذلك للوكيل ونحو هذا، الله يعلم ذلك وتصل، ولذلك في بعض المناسبات في بعض المواقف في بعض كذا المغازي في زمن معاوية ، وذلك في رجل قد غلّ من الغنيمة في غزة مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ثم بعد ذلك ندم هذا الرجل بعد أن تفرق الجيش فجاء إلى عبد الرحمن وأخرج له مائة دينار فأبى أن يأخذها، وقال: "تلقى بها ربك"، تلقى بها الله وقد تفرق الجند فكيف أوصل ذلك إليهم، فسأل من حضر من أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا مثل ما قال عبد الرحمن، فقصد معاوية وعرض ذلك عليه فأجابه بمثل ما أجابوه.

ثم بعد ذلك لقي عبد الله بن الشاعر السكسكي وكان الرجل يبكي، فقال: ما يُبكيك؟، فقال: غللت مائة دينار وأخبره الخبر، فقال: أمطيعي أنت، قال: نعم، قال: فانطلق إلى معاوية فقل له خذ مني خُمسك، خُمس المائة دينار؛ لأنها من الغنيمة، فأعطيه عشرين دينارًا، وانظر إلى الثمانيين الباقية التي هي أربعة أخماس التي هي للجُند فتصدق بها عن ذلك الجيش فإن الله يعلم أسمائهم، ومكانهم، فإن الله يقبل التوبة عن عباده، فقال: معاوية: "أحسن والله، لئن أكون كنت أفتيته بها كان أحب إليّ من أن يكون لي مثل كل شيء امتلكت"[6].

فهذا لو صح إسناد هذه الرواية يدل على هذا المعنى، فهذا إذا كان الإنسان لا يستطيع الوصول إلى صاحب الحق، فهذا يكون في الحقوق الضائعة ونحو ذلك، إنسان يقول: اشتريت من مكان ولم أوفيه الثمن، رجعت إليه وجدت المكان مُقفل، تعامل معي شخص بقي له جزء من المبلغ بحثت عنه لم أجده، سألت، كان عندي عامل، كان عندي سائق سافر تبين أنه قد نسي بعض المتاع ليس عندي أي عنوان أصل إليه، ماذا أفعل؟ نقول: تصدق به عنه، هذا إذا كان لا يمكن الوصول إليه، وإلا فالأصل أن حقه محفوظ، ويُفرق في هذا، يعني: بعضهم الناس أحيانًا تكون هذا لبيت مال المسلمين يكون الإنسان يقول: أنا عليّ أشياء تتعلق بجهات العمل التي كنت أعمل فيها هذا العمل يكون ما يتقاضاه الإنسان من بيت المال، ما يتقاضاه على هذا العمل، يعني: موظف حكومي مثلاً، ويقول: أريد أن أتصدق بهذا المال، نقول له: لا، لا تتصدق فيه تُعيده إليه، يقول: لا يقبلون مني، نقول: يوجد حساب اسمه إبراء ذمة يرجع إلى بيت المال توصله إلى هذا الحساب، تُدخله في هذا الحساب، لكن لو كان لغير بيت مال المسلمين لشخص معين، أو لمجموعة من الناس، وشركة أغلقت لا يُعرف أين هم الآن ولا يوصل إليهم فيُتصدق به في هذه الحال، ويصل إلى صاحبه إن شاء الله تعالى.

فالمقصود أن هذه الآية تُشير إلى الإخلاص فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم.

كذلك إثبات الجزاء وأن كل إنسان سيُجازى بعمله إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر؛ فإثبات العلم يُشير إلى هذا فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، والتأكيد هنا: فإن، فهذا بمقام إعادة الجملة مرتين، وكذلك اسمية الجملة: فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، فهذه الصيغة صيغة خبرية، ولكنها متضمنة هذا المعنى والحكم من الترغيب في الإنفاق، وأن الله يُجازي عليه، والتحذير من إنفاق الرديء، والتذكير بالإخلاص، والتقدير: وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، فإن الله يُجازيكم عليه قل أم كثُر؛ لأنه عليم به لا يخفى عليه من ذلك خافية.

وكذلك أيضًا هذه الجملة: فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم، يعني: يُجازيكم إن كان جيدًا أو رديئًا يتفاوت الثواب بحسب قيمة النفقة وبحسب أثرها، وما يكون لها من نفع وما إلى ذلك، الله يعلم ذلك.

وفيه إثبات صفة العلم لله -تبارك وتعالى- مما يورث المراقبة أن الإنسان يُراقب ربه في كل أعماله، وتكون إرادته متوجهة إلى الله، لا يلتفت إلى شيء آخر لا يُرائي ولا غير ذلك.

وتقديم الجار والمجرور: فَإِنَّ اللّهَ بِهِ، فهذا لا شك أنه يدل على عناية بهذا المقدم، فَإِنَّ اللّهَ بِهِ، بهذا المُعطى، والكلام كله عليه، هذا العطاء لابد أن يكون من الجيد، ولابد أن يكون مما يُحب الإنسان فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيم.

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين، والطف بإخواننا المستضعفين، وانصرهم على عدوك وعدوهم، وفك حصارهم، وأهلك من ظلمهم واعتدى عليهم، وأرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم فرج عن إخواننا وانصرهم نصرًا مؤزرا، واجعل لهم من كل ضيق فرجًا، ومن كل كرب وشدة مخرجًا، إنك سميع عليم عزيز حكيم، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. انظر: تفسير العثيمين: الفاتحة والبقرة (2/288).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب الوصية بالثلث، برقم (2743)، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوصية بالثلث، برقم (1629).
  3. أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في الرخصة في ذلك، برقم (1678)، والترمذي، في أبواب المناقب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، برقم (3675)، وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح برقم (6030).
  4. الموافقات (3/71).
  5. لم أجده بهذا اللفظ ولكن أخرج أبو داود في كتاب الزكاة، باب ما لا يجوز من الثمرة في الصدقة، برقم (1608)، عن عوف بن مالك، قال: دخل علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المسجد وبيده عصا، وقد علق رجل قِنًّا حشفًا، فطعن بالعصا في ذلك القِنو، وقال: ((لو شاء رب هذه الصدقة تصدق بأطيب منها))، وقال: ((إن رب هذه الصدقة يأكل الحشف يوم القيامة))، والنسائي، كتاب الزكاة، باب -قوله عز وجل-: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267]، برقم (2493)، وابن ماجه، أبواب الزكاة، باب النهي أن يخرج في الصدقة شر ماله، برقم (1822)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود، برقم (1426).
  6. أخرجه سعيد بن منصور في سننه (2/316)، برقم (2732).

مواد ذات صلة