الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(094) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ...} الآية 90
تاريخ النشر: ٠٤ / ربيع الأوّل / ١٤٣٨
التحميل: 495
مرات الإستماع: 1036

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما ذكر الله -تبارك وتعالى- جزاء الذين كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق من بعد مجيء البينات، وبين أن هؤلاء عليهم لعنة الله، ولعنة الملائكة، ولعنة الناس أجمعين، وذكر خلودهم في ذلك، واستثنى من تاب بعد ذلك وأصلح، قال الله -تبارك وتعالى- لبيان صنف من هؤلاء المُرتدين الذين حكم بعدم قبول توبتهم وهم أسوء حالاً من الصنف الذي قبله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّالُّون [آل عمران:90].

والمقصود بذلك: الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا، يعني أنهم بقوا على كفرهم إلى الممات، لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، فالتوبة بابها مفتوح ما لم يُغرغر الإنسان هذه الحالة الفردية، وبالنسبة للمجموع ما لم تطلع الشمس من مغربها، فهناك استثنى الله -تبارك وتعالى- الذين تابوا، يعني: تابوا في وقت الإمهال وقبول التوبة، وهنا: كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا، عامة كلام المفسرين من السلف فمن بعدهم أن ازدياد الكفر هنا يعني البقاء عليه إلى الممات، لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، بعضهم يقول: لن يوفقوا للتوبة أصلاً فتُقبل.

وبعضهم يقول: إن هؤلاء حينما يبقى الواحد منهم على كفره ثم بعد ذلك إذا عاين عند الموت وصار في حال الغرغرة فإن توبته لا تُقبل، وكلا هذين المعنيين حق، والله تعالى أعلم.

فمن بقي على كفره واستمر عليه وعاند فالله لا يهدي القوم الظالمين، لا يهدي القوم الكافرين، ومثل هذا ونظائره أي الذين يصرون على كفرهم وضلالهم وظلمهم، وإلا فقد تاب خلق من الكفار وخلق من الظالمين من المشركين في زمن النبي ﷺ ومن جاء بعدهم وقبل ذلك، وهل أتباع الرسل في زمانهم إلا من أهل الإشراك ثم هداهم الله إلى الإيمان فآمنوا!، وهكذا الذي يبقى على كفره فإذا بلغت الروح الحلقوم تاب، وقال: آمنت، فإن هذا لا تنفعه توبته، كفرعون الذي أعلن إيمانه لكن بعد فوات الأوان، حينما صار يُصارع الموت، وعاين الهلكة: قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِين [يونس:90]، فلم يُقبل إيمانه هذا، فهؤلاء هم الضالون الذاهبون عن الحق، المعرضون عنه، فالمقصود أن بعض العلماء يقولون: لا يوفقون للتوبة، بل يُمدهم الله في غيهم وطُغيانهم يعمهون، فقطع أسباب الرحمة عن نفسه والهداية وأعرض عنها فكان الجزاء من جنس العمل، وهذا الذي ذكره جمع من المفسرين، ومن المتأخرين الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي -رحمه الله-[1]: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُون [الأعراف:201]، لا يستمر ولا يُصر، وَإِخْوَانُهُمْ [الأعراف:202]، يعني إخوان الشياطين على عكس ذلك، تُمدهم هذه الشياطين بالغي.

قال الله تعالى: ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202]، يعني: لا يرجع ولا يرعوي؛ لإمداد الشياطين تغويه وتُغريه بما هو عليه من الباطل، فيكون حال هؤلاء من الإصرار والإقامة على الضلال والكفر بحيث لا يوفقون إلى توبة فلا توبة لهم حتى تُقبل، أو أنهم يتوبون في حال لا تنفع معه التوبة، وكلاهما سواء، يعني سواء إن كان لم يتب أو تاب بعد فوات الأوان فتوبته غير مجدية ولا تنفع.

وقوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا، هذا يدل على أن الكفر يتفاوت، وأنه يمكن أن يزداد الإنسان من الكفر، ولذلك كانت النار دركات، وكان المنافقون في الدرك الأسفل من النار، فالكفار ليسوا سواء، ففرعون الذي ادعى الإلهية والربوبية وتسلط على بني إسرائيل هل هذا مثل كافر في حاله لا يؤذي الناس، ولا يتسبب في أذاهم، ولربما يكون محسنًا إليهم، مشفقًا عليهم إلا أنه كافر بالله العظيم، ففرق بين هذا وهذا، ليسوا سواء، والله حكم عدل فيكون عذابهم في الآخرة متفاوتًا، ولذلك فإن الله -تبارك وتعالى- يقول: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين [المدثر:42-43]، فذكروا ترك الصلاة، وكذلك إطعام المسكين، والخوض بالباطل، إلى الممات: حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين [المدثر:47]، فمثل هذه عددها على أنها من جملة أسباب العذاب، فالكفر يتفاوت فمن كان ملحدًا لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا بالأنبياء ولا بالكتب ولا بالرسل ولا بالقدر ليس مثل الذي يؤمن بالله واليوم الآخر ولكنه وقع في ناقض من نواقض الإسلام هو كافر، لكن الكفار يتفاوتون في عذابهم من هذه الناحية يتفاوتون، وهذا أمر معلوم، والله لا يظلم الناس شيئًا، فأبو طالب: إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان وشراكان من نار، يغلي منهما دماغه[2]، هذا أخف أهل النار عذابًا كما قال النبي ﷺ، فهناك من هو أشد أهل النار عذابًا، وهناك أخف أهل النار عذابًا وهناك بين بين، ولهذا قال الله : إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النساء:145].

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا، كذلك الإيمان يزداد، يزداد في نفسه، ويزداد في متعلقاته أيضًا، ولا يصح أن يُفسر زيادة الإيمان بزيادة متعلقاته كما يقول أهل الكلام الذين يقولون: هو في حقيقته لا يزيد ولا ينقص، وهذه قد تروج على بعض طلاب العلم، ويظن أنها عبارة مستقيمة حيث يجدونها في بعض المصنفات.

الإيمان يزيد في نفسه وينقص في نفسه ويزيد في متعلقاته، ولا يُقال: إن زيادته بزيادة متعلقاته يعني التي آمن بها، وإلا فالأعمال الصالحة من الإيمان أعمال القلوب والجوارح واللسان، فالصلاة إيمان، والصوم إيمان، وحُسن الخُلق إيمان، والصدقة إيمان، إلى غير ذلك فالإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شُعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان[3]، وتميط الأذى عن الطريق صدقة[4].

كذلك أيضًا فإن قول الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا، هذا جُرم كبير، وذكرت في الليلة الماضية أن الله جعل حكم من فعل ذلك القتل؛ لأنه مرتد: من بدل دينه فاقتلوه[5]، فكيف إذا ازداد من الكفر، ولهذا جاءت "ثم": ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا، فهذه قد تكون للرتبة يعني فوق ذلك ازدادوا كفروا، ويحتمل أنها للتراخي الزمني؛ يعني بعد كفرهم وردتهم تزودوا من ألوان الكفر، ازدادوا كفرا.

وهذه الآية تدل على أن الإنسان لا تُقبل توبته عند الموت: لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، على هذا المعنى الذي ذكرنا أنه لا إشكال فيه لا تُقبل التوبة عند الموت، وأخذ منه بعض أهل العلم أنه كلما تمادى الإنسان في الكفر ولم يتب فإنه يزداد؛ لأن كل وقت يمر عليه يزداد فيه وزرًا إلى وزره، ولا شك كما قال الحافظ ابن القيم -رحمه الله-: "أن من لم يكن إلى زيادة فهو حتمًا إلى نقصان"[6]، فالإنسان إما أن يتزود من الأعمال الصالحة والإيمان والتقوى، أو أنه يزداد من الخسران، فالكافر في زيادة من الكفر؛ لأنه يأكل ويشرب ويتمتع بنِعم الله - ولا يتوجه إليه بالعبادة والشكر والإيمان؛ فهو جحود كفور بربه الذي أعطاه وأولاه وأنعم عليه.

وقوله -تبارك وتعالى-: ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا، هذه أيضًا تدل على أنهم تمادوا في الكفر إلى آخر لحظة من وقت القبول والإمكان.

لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ يعني أنه لن يُغفر لهم، وأنهم سيُعذبون ويُحاسبون على ردتهم وكفرهم ويُجازيهم على ذلك.

وكذلك أيضًا يدل بمفهوم المخالفة على أنه من تاب قبل ذلك قُبلت توبته، فالله يقبل التوبة عن عباده، وكذلك يدل على أن الكفر والمعاصي يتولد بعضها من بعض، فيدعوا بعضها إلى بعض فتزداد، فإذا كان الإنسان في الغي فمعصية تدعوه إلى أختها، وهكذا حتى يستمر مقتاتًا على مساخط الله -تبارك وتعالى- فينقضي العمر وهو على هذه الحال، ولذلك فإن الإنسان ينبغي أن يحذر إذا عصى الله -تبارك وتعالى- عليه أن يُبادر بالتوبة ليقطع أثرها، أثر المعصية وإلا فإنها تدعوه إلى أختها وهي فتن يُرقق بعضها، يعني: انظر إلى أحوال الناس أحوال العالم، هذا الإنسان الذي صار مثلاً إلى حال أنه يروج المخدرات مثلاً هل كان كذلك حينما ولد؟! ولد على الفطرة، فما الذي أوقعه وأوصله إلى ذلك؟! يعني لو قيل له: أنت من البداية عُرض عليه أن يكون مروج مخدرات هل يقبل؟

لا يمكن يقبل، ولكن معصية تقود إلى أخرى، يُرقق بعضها بعضا، ويهون بعضها بعضا حتى يصل إلى هذا، في البداية لربما يتساهل بالتدخين من باب التجريب فتدعوه إلى أخرى إلى ثالثة إلى نوع آخر إلى نوع آخر إلى ما فوق ذلك مما يُشبهه، ثم يُجرب أنواعًا أخرى حتى يصل بعد ذلك إلى أسوء ما هنالك، ثم لا يكتفي بهذا حتى يتحول إلى شيطان يُذيع ذلك وينشره في الناس.

وهكذا -أعزكم الله- المرأة البغي لو أنه عُرض عليها من البداية -امرأة عفيفة نشأت على الفطرة- أن تزني لأبت فكيف بالبغاء -الزنا بأجرة- لكل من أراد؟! لكن هذه تساهلت في البداية بجملة أمور تدرجت معها إلى حال من التحلل والجُرأة على حدود الله -تبارك وتعالى- حتى صارت تُخادن الرجال وتبذل عرضها، ولربما إذا صارت في حال لا ترغب فيها النفوس تتحول إلى من يدل على غيره -نسأل الله العافية-، يعني أنها بعبارة أخرى أنها توصل إلى نساء أخريات مما قد علمتم حال من صار إلى ذلك -نسأل الله العافية-، ما الذي جعلها بهذه المثابة؟

هي المعصية تقود أخرى، ولذلك في حديث حذيفة: تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا فأيما قلب أُشربها نُكت فيه نُكتة سوداء، وأيما قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين أسود مرباد كالكوز مجخيًا لا يعرف معروفًا ولا يُنكر منكرًا إلا ما أُشرب من هواه[7]، هذا منتهي يعني قد خُتم عليه، هذا كيف يكون؟ في البداية نكتة واحدة -معصية- تُعرض الفتن عليه، منظر سيء، نظرة حرام، نُكتة سوداء، نظرة ثانية حرام تقوده إليه، ثم فتنة ثالثة نظرة ثالثة نُكتة سوداء رابعة عاشرة إلى أن يصير القلب أسود مربادًا، السواد المرباد أقبح الألوان، سواد مع حُمرة، كالكوز مجخيا، يعني مقلوبًا لا يمكن أن يستوعب الماء في داخله، فهذا القلب منكوس لا يقبل ولا ينتفع بموعظة ولا بقرآن، ولا بتذكير، ولا بنصيحة إلا ما أُشرب من هواه، في غي قد عمي عن الحق تمامًا، وأُصم، ما الذي قاده إلى ذلك؟ ما الذي أوصله إلى هذه الحال؟ هل كان هكذا من البداية؟

الجواب: لا، لكنها نُكتة سوداء ثم قادت إلى أخرى ثم إلى ثالثة ورابعة وعاشرة ومائة وألف حتى اسود القلب، ولذلك ينبغي أن نُدرك منذ البداية، أننا حينما نهم بالمعصية نتذكر أن هذه ليست مجرد معصية وإنما هي نُكتة سوداء في القلب، ليست معصية عابرة يتوب منها الإنسان أو يُعذب عليها، لا، هي نُكتة في القلب، ولذلك ما نجده من قسوة في قلوبنا هذا له أسباب منها هذه المعاصي التي توجب الغفلة، يُقرأ علينا القرآن من أوله إلى آخره وقد لا تجد خاشعًا، وهكذا، فهذه يدعو بعضها إلى بعض، لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ، لن تُقبل.

وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّالُّون أشار إليهم بإشارة البعيد هذا لبُعد مرتبتهم وجاء بضمير الفصل "هم" ودخلت أل على الضالين، وَأُوْلَـئِكَ هُمُ، ولم يقل: أولئك ضالون، وإنما قال: وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الضَّالُّون، يعني الذين استحقوا الوصف الكامل، يعني: كأنه لا ضال إلا هؤلاء؛ لأنهم أضل الناس، إنسان عرف الحق وشاهد أعلامه وبراهينه ودلائله ثم بعد ذلك ينكص على عقبيه ثم يزداد في الغي وفي الكفر فهذا في غاية الضلال، بخلاف من لم يدخل ما ذاق، ولذلك فإن المُنتكسين عن الهدى والحق والإيمان أشد ضراوة على الإيمان وأهله من أولئك الذين لم يدخلوا فيه، فيتحول في الغالب مثل هذا إلى عدو شرس يتحدث عن مشاهدات من الداخل، ولربما يقلب الحقائق ويزورها بطريقة احترافية كما يُقال -نسأل الله العافية- فتكون نكايته أشد وأعظم، هذا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: تفسير السعدي (ص:313).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابا، برقم (213).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب شعب الإيمان، برقم (35).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من أخذ بالركاب ونحوه، برقم (2989)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف، برقم (1009).
  5. أخرجه البخاري، كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، باب حكم المرتد والمرتدة واستتابتهم، برقم (6922).
  6. انظر: زاد المعاد في هدي خير العباد (4/9).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وأنه يأرز بين المسجدين، برقم (144).

مواد ذات صلة