الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
ما زال الحديث متصلاً بقوله -تبارك وتعالى-: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين [آل عمران:97]، ذكرنا في الليلة الماضية طرفًا مما يتفق مع غرض هذا المجلس من بيان المعنى العام لهذه الآية.
وفي هذه الليلة يكون الشروع -إن شاء الله تعالى- في ذكر بعض ما يُستخرج من الهدايات، والمعاني، والفوائد، فقوله -تبارك وتعالى-: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ وقد مضى الكلام على الآيات التي تتعلق بها قبلها إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين [آل عمران:96]، قال: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ فهذا ثناء على هذا البيت بما له من الأوصاف، والمزايا، والكمالات، فتغير الأسلوب إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِين [آل عمران:96]، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا.
وقوله: فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ فالتنكير هنا للآيات، بمعنى العلامات، والدلائل، والأمارات، وما إلى ذلك.
والتنكير في آيَاتٌ هنا يدل على التعظيم، آيات عظيمة، بَيِّـنَاتٌ يعني: أنها ظاهرة، جلية، واضحة، وقد ذكرنا في الليلة الماضية طرفًا منها، وأن الحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر نحوًا من أربعين آية[1]، منها: الحجر المنصوص عليه هنا مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ[2]، ومنها ما ذكرنا، وما لم نذكر، يقولون: رد أصحاب الفيل، إهلاك أصحاب الفيل، رد الجبابرة عنه، نبع زمزم لهاجر، حفر عبد المطلب لزمزم بعد دثورها؛ فخرج الماء، وهو آية، وأن ماءها لما شُرب له، وهذا من أعجب الآيات، بئر زمزم بئر صغير، وعمقه ليس ببعيد، أمتار قليلة، عبر التاريخ، زيد في الحفر شيئًا فشيئًا، لكن إلى ما بلغه اليوم، فإنه ليس كالآبار التي تصل إلى مائة متر، أو مئتي متر، أو نحو ذلك، أبدًا، ولا قريب من هذا، بئر عبر الدهور يستقي الناس منه على كثرة الحجيج، لاسيما في هذا العصر، وكثرة ما ينقلون معهم، ويتزودون، ويقوم عليه سقاية كاملة في المسجد الحرام، وخارج المسجد الحرام، ومصنع كبير يأخذ منه القاصي، والداني -كما تشاهدون- وأيضًا يُنقل إلى المسجد النبوي، بحيث إنك هناك كأنك في المسجد الحرام، لا ينقطع عنه ماء زمزم، بل الناس يتزودون في المدينة، كما يتزودون في مكة، يوجد أماكن مخصصة للناس يأتون معهم بما شاءوا بلا عد، ولا حُسبان، ويتزودون من ماء زمزم، ومع ذلك لا ينفد هذا البئر الصغير، يصب فيه يثُج، ولا أقول يشخب ثلاثة مصبات، وهذا قول من نزل فيه، وشاهده، ثلاثة بعضها في غاية القوة، يقول بعض الخبراء إنّ كل الآبار في العالم تكون متوجهة مياها من جهة الشمال إلا هذا البئر الوحيد، فإن مياهه تأتي من ناحية الجنوب، من جهة جبال الطائف، وله خصائص، وله بصمة لا تتغير، ولا تتبدل، ولا تلتبس مع غيره، أجروا عليه المواصفات العالمية للمياه، والمقاييس، والمعاير فوجدوا له بصمة خاصة، وأنه ليس فيه تلوث، وقارنوه بآبار قريبة في الصفا، بئر قديمة كانت توجد هناك، وأخذوا من مائها، ومن مياه قريبة، معروفة، قديمة حول المسجد الحرام، فوجدوا أن ماءه يختلف تمامًا عنها، ولا يلتبس، وذكروا فيه من المواصفات التي لا توجد في مياه الدنيا لهذا البئر الصغير بين هذه الجبال، في هذا الوادي المنقطع، في وادٍ غير ذي زرع، يستقي منه الناس إلى اليوم، أنتم تعرفون أن العيون التي كانت تجري على وجه الأرض عبر التاريخ في هذه النواحي، وغيرها نضبت؛ لقلة الأمطار، ولغير ذلك، وهذه العيون المعروفة المشهورة في هذه النواحي في الأحساء، ونحوها لو قرأتم في الشعر الجاهلي تجدونها مذكورة، موصوفة، منذ القِدم، وقد جفت، وأصبحت مغارات يابسة في الأرض، وهذا البئر الصغير لم يجف، آبار رأينها بعيدة لا تستطيع أن تنظر إلى قعرها لبُعدها، وظلمته، ومع ذلك فقد جفت، وبعضها تحركت المياه فيها قليلاً في بعض الأمطار التي نزلت في بعض السنين، أو في بعض السنوات الماضية.
يقول كبار السن: هذه لا يوجد فيها مياه جافة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وبئر زمزم لا يجف، وتلك بئر في مزرعة يستقي منها صاحب هذه المزرعة، وجفت، وهذه يستقي منها الناس، هؤلاء الملايين الذين يأتون للحج، وغير هؤلاء ممن يأتي للعمرة يستقون منها، ومع ذلك ليست هذه آية؟! بئر منذ عهد إبراهيم إلى اليوم، والناس يرتادون هذا البيت، ومع ذلك هي في ازدياد، وقوة، ولو قلت الأمطار، فهذا بيت الله -تبارك وتعالى- تجف الآبار، وهذه لا تجف، وتجف العيون، وهذه لا تجف.
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ آيات، وهذا يدل على أن الآيات تُقال للآيات الشرعية الدينية كآيات القرآن، وتُقال أيضًا لغيرها من الآيات الحسية الكونية كما في هذه الآيات للبيت الحرام.
وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ هذه كما يقول أبو بكر ابن العربي -رحمه الله- من أوكد ألفاظ الوجوب[3]، وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ يعني العرب إذا قالوا لفلان عليّ كذا يعني أنه حق، ثابت، لازم، واجب.
وهكذا جاء تأكيد وجوب الحج تعظيمًا لفرضه، وتقوية لحرمته، وَلِلّهِ فهذه تدل على الوجوب وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ وهذا إذا كان بهذه المثابة فإنه أيضًا يدل على وجوب المبادرة بالحج على من استطاع؛ لأن الله قال: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً والأرجح عند الأصوليين: أن الأمر يقتضي الفور إلا لدليل، يعني: أن الحج واجب على الفور إذا كان الإنسان مستطيعًا فليس له أن يؤجل، فهذا فرض الله، أوجبه على عباده المستطيعين، فعليهم أن يُبادروا إلى الإجابة وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق [الحج:27]، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28] الآية.
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ نادي بهم، تصور رجل ليس عنده لا أجهزة، لا مُكبرات صوت، وليس عنده أجهزة اتصال، يؤذن بوادٍ غير ذي زرع، ماذا عسى أن يبلغ هذا الصوت، لكن الله بلغه، حتى قيل إنه قد بلغ الأجنة في الأرحام، وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً رجالا يعني على الأقدام، قال بعض أهل العلم: إنه قدمهم؛ لأن الرُكبان يزدرونهم، فجبر كسرهم، وضعفهم، فقدمهم في الذكر، رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق [الحج:27]، وبعضهم يقول: قدم رجال يعني المُشاة لئلا يُفهم أن ذلك لا يجب إلا على من يملك الراحلة، فالذي يستطيع أن يحج ماشيًا يجب عليه أن يحج ماشيًا، يَأْتُوكَ رِجَالاً على الأقدام، وإلى عهد قريب كان بعض الناس يذهبون إلى الحج بالأقدام، بعضهم يأتي من خارج جزيرة العرب، وهذا معروف عند كبار السن إلى اليوم في الجنوب، وفي الشمال، وفي الشرق، وفي الغرب، يركبون البحر، وينزلون من هنا من هذا الساحل يمشون مع كل من يُريد التوجه إلى ناحية الغرب أيًّا كانت وجهته، ويعملون معه بالخدمة، وقد تكون الأجرة هي أنهم يصحبونه، وعلى ماذا؟ على أقدامهم، ولربما يُنظر إليهم على أنهم لا شأن لهم، وفقراء جاءوا إلى الحج، وبعضهم يقضي سنوات، وهو لم يصل إلى بيت الله الحرام، وبعضهم يموت، وقبورهم شاهدة، وفي بلاد الجنوب الممتدة إلى اليمن تجد عند أهل تلك النواحي قبور يعرفونها، يقولون هذه طريق الحجاج، وهذه قبور من مات منهم في الطريق، هذا موجود، ويعرفه أهل تلك النواحي، ويعرفون طريق الحجيج في تلك البلاد الممتدة على طولها.
يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ الضامر هو الراحلة التي ضمُرت من طول المسير أضناها المسير، ذهب زهمها، وصارت منكمشة، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق [الحج:27]، والفجّ هو الطريق بين الجبلين يأتيك من نواحي -أقاصي- الدنيا إجابة لدعوة إبراهيم وانظروا الآن يأتون بالطائرات، والسيارات، ويأتون بالسفن، وقد رأيت من جاءوا إلى الحج على الأقدام من بعض الجمهوريات الإسلامية، رأيتهم جاءوا على أقدامهم إلى الحج، وإلى المدينة، وقد سألتهم سؤالاً ظننت أنهم فعلوا ذلك تقربًا، وتعبدًا لأقول لهم بأن قصد المشقة في العبادة غير مقصود شرعًا، قلت: هل قصدتم ذلك تقربًا، وتعبدًا؟ قالوا: لا، قلت: لماذا إذًا أتيتم على الأقدام، وأنتم تستطيعون أن تركبوا السيارات، والمراكب الأخرى، قالوا: جاء آباءكم إلينا على هذه الدواب، والرواحل، والجمال، فبلغونا هذا الهدى، فنحن لا نستطيع أن نوفي شكركم، ولو أتيناكم حبوًا، وأردنا أن يسمع العالم بعد سقوط الشيوعية؛ لأنها كانت تحكمهم، لما تفكك الاتحاد السوفيتي جاء بعضهم من بعض هذه الجمهوريات، يقولون فأردنا أن نُعلن للعالم أننا بعد ثمانين سنة ما نسينا الكعبة، فنأتيها مشيًا حينما خُلي بيننا، وبينها، لاحظ، وهؤلاء كانوا نُخبة أطباء، وأصحاب تخصصات كلهم، يقول كبيرهم: لما أعلنت أن ما عزمت عليه، ومن يريد أن يصحبني، يقول تقدم لي عدد كبير، نسيت كم قال ألف، يقول: فاخترت منهم هؤلاء العشرة.
لاحظ دعوة إبراهيم وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً فدل هذا على أن الحج واجب على المستطيعين، دون غيرهم كما ذكرنا في الليلة الماضية أنه بدل بعض من كل، يعني: المستطيعين بعض الناس، فهو بدل منه، النَّاسِ عام، مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً خاص، يصدق على بعض الناس، فكل من كان مستطيعًا من الرجال والنساء فإنه يجب عليه أن يُبادر إذا كان مُكلفًا، وأن لا يؤخر، والأدلة على هذا معروفة، وقول عمر لما همَّ أن يكتب إلى الأنصار، ويُنظر فيمن استطاع الحج، ولم يحُج أن يُفرض عليهم الجزية قال: "ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين"، هذا عن عمر -رضي الله عنه وأرضاه- [4].
وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين وهذا أيضًا يدل على تشديد، وعلى الحض الشديد على أداء الحج، وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين وذكرنا في الليلة الماضية أن المقصود هنا بالكفر يعني جحود وجوب الحج، وقال بعض أهل العلم: "إن كان ذلك من غير جحود فهو كفر نعمة"، وعلى كل حال الوقت أدرك، وأُكمل -إن شاء الله تعالى- في الليلة الآتية.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم الطف بإخواننا في بلاد الشام، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، انصرهم نصرًا مؤزرا، اللهم داوي جرحاهم، واشف مرضاهم، اللهم تقبل قتلاهم وشهداءهم، اللهم عليك بعدوك وعدوهم، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعل الدائرة عليهم، اللهم احصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.
- انظر بدائع الفوائد، لابن القيم (2/45).
- انظر بدائع الفوائد، لابن القيم (2/45).
- انظر أحكام القرآن، لابن عربي (1/374).
- انظر التلخيص الحبير (2/488).