الخميس 19 / جمادى الأولى / 1446 - 21 / نوفمبر 2024
(125) قوله تعالى: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا...} الآية 112
تاريخ النشر: ١٧ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 422
مرات الإستماع: 1007

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- خيرية هذه الأمة بقيامها بأمر الله من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله قال: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون [آل عمران:110]، ثم قال: لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُون [آل عمران:111]، ثم أيضًا ذكر ما قضاه عليهم: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُون [آل عمران:112].

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ بناء الفعل هنا للمجهول؛ لأن فاعله معلوم، فالله هو الذي ضرب ذلك عليهم، فجعل الهوان والصغار لازمًا لهم أينما ثقفوا، فالذل خلاف العز، فهو يعني المهانة والمذلة، أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ والثقف يُقال لإدراك الشيء بحذق، يعني: أين ما وجدوا، أو أين ما أُخذوا فهم على هذه الحال تُلازمهم حيث كانوا لا يُفارقهم ذلك الوصف، وهذا الوصف يصدق على اليهود، والمفسرون حينما يتحدثون عن هذه الآية، يتحدثون عن اليهود، وأنهم من أراد الله -تبارك وتعالى- بهذه الصفة فهم أهل الغضب إذا ذُكر الغضب -نسأل الله العافية- فهم أذلاء أينما وجدوا.

قال: إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ الحبل من الله، والحبل من الناس اختلف المفسرون في المراد بذلك، والذي ذهب إليه بعض المحققين، كالحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن المقصود بالحبل من الله هو ما يُفرض عليهم من الجزية، وما يُطبق عليهم من أحكام الإسلام وحدوده، وما يُلزمون به من ذلك، والصغار كما قال الله -تبارك وتعالى-: حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون [التوبة:29]، إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ.

وبعض أهل العلم يقول: الحبل الذي من الله: هو العهد الذي يُعطيهم إياه أهل الإيمان؛ لأن أهل الإيمان إنما يعطونهم العهد على وفق شرع الله -تبارك وتعالى- يعني: بما يوافق شرعه، وأما الحبل على هذا القول الأخير من الناس فهو ما يعطيهم غير المسلمين من العهود والمواثيق والأمان، ونحو ذلك، وبعضهم يقول: ما يعطونهم من المدد المادي والعسكري، ونحو هذا، على كل حال على هذا التفسير، العهد: الحبل، هو العهد الذي يعطيهم غير المسلمين لا يبعُد أن يدخل معهم ما يعطوهم أيضًا من المدد المادي، وعلى قول ابن كثير -رحمه الله-: "أن الحبل الذي يكون من الناس هو ما يُعطيهم المسلمون من الأمان إذا أمنه أحد المسلمين، أو ما يعطونهم من العهد يعاهدونهم بينهم معاهدة، أو نحو ذلك فيأمنون على أنفسهم، يعني: يكون المعنى هكذا ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل لكن يأمنون على أنفسهم بعهد من الله، أو بعهد من المسلمين يعطونه إياهم، وعرفنا العهد من الله على هذا القول قول ابن كثير، والعهد من الناس، وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعًا بمعنى لكن، وإذا كان منقطعًا إلا بحبل من الله، وحبل من الناس، فإن هذا ليس من جنس المستثنى منه ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ لكن بحبل من الله، وحبل من الناس يأمنون على أنفسهم، لكن الذل لا يُفارقهم، فهو مُلازم لهم حتى مع العهد الذي يكون من الله، أو العهد الذي يكون من الناس، هذا إذا كان الاستثناء منقطعًا، فهم أذلاء، الذل صفة مُلازمة لهم.

وكذلك أيضًا وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ باءوا بغضب، باءوا بمعنى: رجعوا بغضب من الله، وذلك لما ذكر الله -تبارك وتعالى- من كفرهم، وجرائمهم، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ المسكنة هي بمعنى السكون، وذلك ما يُرى عليهم من المسكنة، والفقر الذي يبدوا عليهم، ولو كانوا أغنياء، فهم موسومون بذلك، سمة بارزة تُرى في وجوههم، وهيئتهم، وما إلى ذلك.

وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ يعني: ذلك الذي وقع من ضرب الذلة، والمسكنة هو بسبب كفرهم بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله، والآيات هنا تشمل الآيات المتلوة المنزلة، الوحي، وتشمل أيضًا الآيات المُشاهدة آيات الأنبياء، ونحو ذلك، وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ هذه كما يُقال أعني قوله: بِغَيْرِ حَقٍّ صفة كاشفة، بمعنى: أنه لا يمكن أن يُقتل نبي بحق، فقتلهم للأنبياء واقع بغير حق، وذلك كما سيأتي أن هذا فيه مزيد من الشناعة عليهم، وبيان عظيم جُرمهم، ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ذلك الذي وقع عليهم من ضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله -تبارك وتعالى- الذي حل بهم، ورجعوا به بما عصوا بسبب عصيانهم، وبسبب اعتدائهم، هذا ما يتعلق بمعنى الآية الكريمة.

يؤخذ منها من الهدايات، والمعاني من قوله -تبارك وتعالى-: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ هذه العقوبة مناسبة لجُرمهم، وقد ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- في مجموع الفتاوى بأن أصل دين اليهود الكبر، ولذلك يردون الحق، ويترفعون عنه، فعاقبهم الله -تبارك وتعالى- بما يُناسب هذه العلة، وذلك بضرب الذلة، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ فالجزاء من جنس العمل، لما كانوا يتكبرون على الحق ضرب الله عليهم الذل، ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ إلى قوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ الآية، هذا ضرب الذلة، وما رُتب عليه يدل على خطورة الكفر بآيات الله خطورة المعاصي، والاعتداء؛ لأنها سبب لهذه العقوبات، ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ.

فالكفر بآيات الله أو التكذيب بها -سواء كانت متلوة، أو مشاهدة- يكون سببًا لمثل هذه العقوبات، فعلى الإنسان أن يحذر من التكذيب إذا سمع بشيء من آيات الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- أو آيات النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- لا يُكذب بها، ولا يقولن قائل بأن هذا غير معقول، أو أن هذا لربما فيها مبالغة، أو نحو ذلك.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ الغضب هنا مُنكر فهو يدل على التفخيم، والتهويل، وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ هذا التركيب "من الله" الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لغضب يؤكده؛ لأن التنكير أفاد التفخيم والتهويل وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ فلما أُضيف ذلك إلى الله -تبارك وتعالى- كان ذلك أعظم، وأشد، وأفخم، فهو يؤكد هذا التعظيم الذي استفيد، وعُرف من التنكير، وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية فيما ضرب الله عليهم بتكبرهم، عاقبهم بالذل، ولما كانوا في غاية الحرص على المال، والكسب عاقبهم بالمسكنة، وكذلك أيضًا تفعل المعاصي، فإن صاحبها يكون ذليلاً، ولا بد، فالمعاصي لها أثر، والعزة إنما تكون مع الإيمان، فإذا كان الإيمان تامًا، كاملاً فإن العزة تكون تامة، وإذا نقص الإيمان نقصت العزة، والمعاصي يكون لها من الأثر البالغ في هذا الباب ما لا يخفى، فهذا مُشاهد، ولهذا قال بعض السلف كما جاء عن الحسن: "وإن طقطقت بهم البراذين -يعني ركبوا المراكب الفارهة، ونحو ذلك- فإن الذل لا يُفارق وجوههم"[1] يعني أصحاب المعاصي.

وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ هذا -كما ذكرنا في آية البقرة- بأنه في آية آل عمران وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ جاء الحق منكرًا، وهناك في سورة البقرة بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، فمن أهل العلم من يقول -كما سبق-: بأن قوله: بِغَيْرِ حَقٍّ أن ذلك من غير حق مُطلقًا، لا بالحق المعتبر عند الله ولا في حق يعتقدونه هم، ولو كان مخالفًا لشرع الله بغير حق مطلقًا، أما هناك بِغَيْرِ الْحَقِّ يعني: بغير الحق المعهود الذي أحقه الله فهو الموافق لما شرع، يعني: على كل معنى أنهم يقتلونهم يعني من الآيتين أنهم يقتلونهم بغير حق لا عند الله وفي شرعه، ولا فيما يعتقدونه هم أيضًا أنه موجب للقتل، وإن كان باطلاً في نفسه.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: بِغَيْرِ حَقٍّ لما ذكر هذا فإن ذلك يدل على زيادة التشنيع على هؤلاء، فقتل الأنبياء جريمة عظيمة، فإذا ذُكر بغير حق -وهو دائمًا بغير حق- فإن ذلك يكون فيه زيادة شناعة على من فعل ذلك، واجترئ عليه، ففيه زيادة توبيخ لهم، يقتلون أشرف الخلق من غير حق.

وكذلك أيضًا ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ هناك ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة:61]، وهنا: ذَلِكَ بِمَا عَصَوا إذًا: هذا تعدد للعلل التي أوجبت تلك العقوبات، ويمكن أن يُقال بأن هذا الذي جاء في آخر الآية ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ هذا التذييل يشمل ما سبق بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فيشمل الكفر، وقتل الأنبياء -عليهم السلام- وما شابه ذلك.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ هذا فيه نشر ولف مرتب، يعني: انظر إلى الجرائم التي ذكرها، يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء، ثم قال: ذَلِكَ بِمَا عَصَوا فقتل الأنبياء والكفر بآيات الله معصية، وقتل الأنبياء عدوان وَكَانُوا يَعْتَدُونَ فجاء بهذا التذييل في آخر الآية، يُناسب ما قبله، فالكفر بما عصوا، والاعتداء بقتل الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة التي تصف هؤلاء اليهود الذين هم أذل خلق الله، وأعظمهم مسكنة، فذلك لا يكون في وقت من الأوقات، بل يكون مُلازمًا لهم في كل حال، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب، (1/89).

مواد ذات صلة