الأربعاء 22 / شوّال / 1445 - 01 / مايو 2024
(126) قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ...} الآية 113
تاريخ النشر: ١٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 466
مرات الإستماع: 1008

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- حال طوائف من أهل الكتاب، وكان ظاهر الخطاب العموم في وصفهم بهذه الأوصاف وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُون [آل عمران:110]، لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُون ۝ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُون [آل عمران:111-112]، فكان ذلك مما قد يُفهم أن جميع أهل الكتاب بهذه الصفة.

فقال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون [آل عمران:113]، الآيات، وذلك بمعنى أن أهل الكتاب لا يستوون، وليس جميعهم بالوصف المذكور قبله، إذ منهم طائفة مستقيمة على أمر الله، منهم أمة قائمة، بمعنى جماعة مستقيمة على أمر الله -تبارك وتعالى- يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون، يعني: أنهم يقومون الليل تاليين للآيات، وهم في حال الصلاة، حيث عُبر عنها هنا برُكن من أركانها، وهو السجود الذي يدل على كمال الخضوع، وَهُمْ يَسْجُدُون، وليس المعنى أنهم يقرءون الآيات، ويتلونها في حال سجودهم، فذلك مما قد ورد النهي عنه، فالقرآن لا يُتلى في حال السجود، إنما يقال "سبحان ربي الأعلى" فهو موضع للتسبيح، وللاجتهاد أيضًا في الدعاء؛ لأن أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد[1] -كما قال النبي ﷺ-.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات، والمعاني لَيْسُواْ سَوَاء، هذا يدل على كمال عدل الله -جل جلاله وتقدست أسماؤه- فهو يُعطي كل ذي حق حقه، فلما كان أهل الكتاب لا يستوون بيّن أحوالهم، وأن منهم طائفة مستقيمة على الحق، وهم في حال من العبادة، والانقياد، والخضوع، والطاعة.

وفيه أيضًا الاحتراز، فإذا ذُكر كلام قد يُفهم منه تعميم الحكم، وثمة ما قد يُستثنى من ذلك، يعني سواء الحكم على الأشخاص، أو الحكم على الأشياء والمسائل والقضايا، ونحو ذلك، فهنا يأتي الاحتراس والاحتراز، فقال: {لَيْسُواْ سَوَاء}، فلا يُفهم من ذلك -يعني مما سبق من تلك الأوصاف التي ظاهرها العموم- أن ذلك يُراد به جميع الأفراد من أهل الكتاب، فمثل هذا وما قبله يعني من العدل والاحتراز هذا أمر لا بد منه، والله -تبارك وتعالى- يقول لعباده المؤمنين: {كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء:135]، وهذه صيغة تدل على المبالغة فعال يعني بمعنى كثير القيام بالقسط، والقسط هو العدل، وهذا أمر واجب، والأمر للوجوب، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة، فلا يصح تعميم الأحكام على الناس، سواء كان ذلك في أهل بلد، أو كان في أهل مذهب، سواء كان ذلك في المذاهب التي لربما تجتمع على اعتقاد معين، أو كان ذلك فيما يتصل بالمذاهب الفقهية التي تجتمع على مذهب لإمام مُتبع، وكذلك أيضًا فيما يتصل بالقبائل، أو طوائف الناس، أو نحو هذا، فلا يصح أن يُعمم.

وقد جاء النهي عن سب القبيلة بفعل واحد منها، فهؤلاء إنما صدر ذلك الخطل، أو الخطأ، أو الخلل من واحد، فلا يصح أن يُعمم، ولذلك إذا لقي الإنسان في بلد بعض الناس ممن لا يروق له، أو أساء إليه، أو نحو ذلك لا يصح أن يُبادر، فيحكم على أهل البلد أن هؤلاء لربما لصوص، أو أنهم أهل حيل، أو أنهم يعبدون المال، أو أنهم لا خلاق لهم، أو أن أخلاقهم سيئة، أو نحو ذلك، هو إنما لقي قلة قليلة من هؤلاء الذين يبلغون لربما عشرات الملايين، فهذا من الظلم في الحكم على الناس، وكذلك أيضًا حينما يُضاف إلى طائفة من الطوائف، فالله أمر بالعدل حتى لو كنا نختلف معهم في الاعتقاد، يُضاف إليهم ما ليس من أفعالهم أصلاً، أو مما لا يُقرونه، أو قاله بعضهم ولا يقول به جميعهم.

يعني: أحيانًا الطائفة التي نختلف معها على سبيل المثال الأشاعرة مثلاً، هؤلاء الأشاعرة مدارس، وهم يتفاوتون في مدى قُربهم وبُعدهم، فبعضهم أقرب إلى التجهم، وبعضهم أقرب إلى أهل السنة المحضة، فهم ليسوا سواء فلا يصح أن يُجمع أسوء ما عندهم يعني قول الغُلاة منهم الذين هم أقرب إلى الجهمية في النفي، ثم بعد ذلك يُعمم، ويؤتى بأقوال لهؤلاء، وهؤلاء، وهؤلاء من الأقوال المنحرفة لبعض مدارسهم، ثم يُعمم الحكم على الجميع، فيقال: هؤلاء هم الأشاعرة، نعم نحن نختلف معهم، ولكن الله أمر بالعدل، فهذا قول فلان من أئمتهم، ولكن لم يقل به من أئمتهم أيضًا أصحاب المدارس الأخرى عندهم، لم يقل به فلان، ولا فلان، ولا فلان، فهذه يجب أن نتذكرها دائمًا.

الصوفية على سبيل المثال نحن نختلف معهم، ولكنهم ليسوا سواء، بعضهم يحمل عقائد الإلحاد كأهل وحدة الوجود، ونحو ذلك، وبعض هؤلاء يحملون شركيات، وعبادة للقبور، وغلاة في هذا الباب، وبعضهم عندهم بدع في الأذكار، وما أشبه هذا، وكل هذا منكر لكن المنكر يتفاوت، والقضية أنه لا يصح أن نجمع ما عند هؤلاء من الضلالات بطوائفهم المختلفة، نجمع أسوء ما عندهم من القول بالحلول والاتحاد، أو وحدة الوجود، أو نحو ذلك من الغلو بالأموات، وعبادة القبور، ودعاء غير الله، ونحو هذا، نجمع هذه الأشياء ونقول هؤلاء هم الصوفية، ليس كل الصوفية يقولون بوحدة الوجود، وليس كلهم يقولون بالحلول والاتحاد، وليس كل من انتسب إلى التصوف معنى ذلك أنه يعبد الأموات والقبور، ونحو هذا، فيجب العدل.

لا يصح أن نجمع أسوء ما عند طوائفهم ثم نُضيف ذلك إلى الجميع ولربما أخرجنا ذلك في كتاب وقلنا: هؤلاء هم الصوفية، هذا لا يجوز، والله يقول: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ [الأنعام:152]، وقال: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ [المائدة:8]، يعني: عداوة قوم، لا تحملكم العداوة على ترك العدل، فيجب العدل مع القريب والبعيد، والله -تبارك وتعالى- يذكر أهل الكتاب، ويقول لَيْسُواْ سَوَاء، فمنهم كذا، ومنهم كذا، فالذين ينتسبون إلى الإسلام أولى بالعدل معهم، كذلك في الاحتراس أيضًا إذا ذكر الإنسان كلامًا قد يُفهم منه التعميم، ونحو ذلك، فينبغي أن يُبين أن ذلك ليس على ما قد يُفهم من أجل أن لا يُفهم كلامه على غير مراده، فيذكر الاستثناء، ويذكر ما يمكن أن يُخرج من هذا، ونحو ذلك.

في قوله -تبارك وتعالى-: لَيْسُواْ سَوَاء، هذا السياق جيء به -والله تعالى أعلم- لإخراج هذه الطائفة من أهل الكتاب الذين هم بهذه الصفة من الإيمان، والخضوع لله والعبادة بعد الحكم على أكثرهم بتلك الصيغة التي يُفهم منها تعميم الحكم، فهنا قال: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون [آل عمران:113]، وأيضًا في هذه الجملة لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، حيث إنه جاء بهذا الوصف أهل الكتاب، أو بهذا الاسم، ولم يكتفِ بالضمير يعني ما قال: ليسوا سواء منهم أمة قائمة يتلون، ومعلوم أنه إذا كان الموضع يحتمل الإضمار فإن ذلك يكون اختصارًا في الكلام، وإنما يكون الإظهار في موضع الإضمار -كما ذكرنا في مناسبات متعددة- يكون لعلة، لسبب.

فهنا مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، فلما مدح هؤلاء، وذكر أنهم من أهل الكتاب، فهذا أولاً ليعُم الطائفتين: اليهود والنصارى؛ لأن الآية التي قبلها قتل الأنبياء، ونحو ذلك، هذا كان في اليهود، فلو قال "منهم أمة قائمة" لفُهم أنهم اليهود، ولكنه قال: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، ثم إن ذكر الكتاب، أو نسبة هؤلاء إلى الكتاب لا شك أنه يحتمل في مقام سياق المدح، أنه يتحمل تشريفًا، فهم أهل علم أهل كتاب، وهم أيضًا أهل طاعة وخضوع وعبادة، بخلاف ذكر ذلك مع الطائفة التي قبلهم، وهم أكثر أهل الكتاب حيث إنهم يقتلون الأنبياء إلى آخره، فنسبة هؤلاء إلى ذلك -أهل الكتاب- لاشك أنه شناعة عليهم، وأعظم في بيان جرمهم، فهم مع علمهم، ومع ما عندهم من الكتاب اقترفوا هذه الجرائم، فاللوم الذي يلحقهم لا شك أنه أشد وأعظم من اللوم الذي يلحق غيرهم، لكن هنا هذه الأمة التي هي قائمة على أمر الله مطيعة خاضعة، هم أهل كتاب، يعني أوتوا نصيبًا وافرًا من الكتاب، فهذا يكون مدحًا لهم، وليس كحال أراذلهم.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، فجاء بهذه الصيغة اسم الفاعل؛ ليدل -والله تعالى أعلم- على أن هذه الصفة راسخة، ثابتة فيهم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، فجاء بما يدل على الثبوت والرسوخ، مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون، عُبر بالفعل المضارع يَتْلُونَ؛ فالفعل المضارع يدل على التجدد والاستمرار، يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ، فهذه الآيات متكررة، متجددة، وليست بمرة واحدة تحصل، ثم بعد ذلك ينقطع يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ.

والمقصود بهذه الطائفة بلا شك هم الذين آمنوا بمحمد ﷺ ممن أدركه قطعًا، ويدخل فيه أولئك الذين كانوا قبل مبعثه، ممن كان على التوحيد، والإيمان الصحيح من غير تبديل ولا تحريف ولا إشراك، الذين كانوا يتبعون الأنبياء حقًا قبل مبعث النبي ﷺ أما من بعد مبعث النبي ﷺ فلا يسع أحدًا إلا اتباعه -عليه الصلاة والسلام- كما قال ﷺ: لا يسمع بي من أمتي يهودي أو نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار[2]، مهما كان موحدًا، ومهما كان عابدًا، ومهما كان مطيعًا، ومهما كان متبعًا لنبيه؛ لأنه يجب الإيمان بالنبي ﷺ.

وفي قوله -تبارك وتعالى-: مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ، ذكر ابن عطية -رحمه الله- في كتابه "المُحرر الوجيز": "بأن قيام الليل لقراءة العلم المُبتغى به وجه الله داخل في هذه الآية، قال: وهو أفضل من التنفل لمن يُرجى انتفاع المسلمين بعلمه"[3]، هذا بأي اعتبار؟ باعتبار أن الاشتغال بالعلم أفضل من نوافل العبادات، وهذا ملحظ جيد، التقرب إلى الله، ونحو ذلك إذا كانت النية صالحة، وخالصة لمن يُرجى الانتفاع بعلمه، فاشتغاله بالعلم يكون من الاشتغال بذكر الله وطاعته، ونحو ذلك، ولعله يدخل في هذا الثناء والمدح، لكن ليس ذلك يعني أن يكون الإنسان جافًا، ليس له صلاة في الليل، وهو يطلب العلم، فإن ذلك لا يليق بحال من الأحوال.

وتعرفون قول الإمام أحمد لما جاءه شاب يطلب العلم، فبات عنده ليلة، فوضع له وضوءه، فلما أصبح -يعني صلاة الفجر- وجد الوضوء لم يتغير -يعني الماء- لم يتغير، فقال الإمام أحمد: "طالب علم ليس له ورد من الليل"[4]، يعني: هذا غير متصور، ولا يُعقل، فالعلم يدل على العمل، ويدعوا إليه، وإلا فما فائدة العلم، لكن الكلام فيمن يشتغل بالعلم، فكون هذا الإنسان قد يُصلي بعض الوقت، ويشتغل بالعلم بعض الوقت، فيُرجى له بالاشتغال بالعلم من الفضل ما يُماثل، أو ما يكون نظيرًا، أو أفضل من الصلاة، والنفل الذي يتنفله، هذا هو المراد، والله تعالى أعلم.

ويؤخذ أيضًا من هذا المدح مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ، بماذا مدحهم؟ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون، وهذا أكمل أحواله أن تكون هذه التلاوة في الصلاة، فإن قراءة القرآن في الصلاة لا شك أنها أكمل، ويدل على أن المراد هنا بقيام الليل أنه قال: وَهُمْ يَسْجُدُون، كما سيأتي إن شاء الله، ومن هنا أخذ النووي -رحمه الله- أنه ينبغي لقارئ القرآن أن يعتني بقراءة الآيات في ليله أكثر من القراءة في نهاره من هذه الآية، وقال: "وإنما رُجحت صلاة الليل، وقراءته لكونها أجمع للقلب، وأبعد عن الشاغلات، والمُلهيات، والتصرف في الحاجات، وأصون عن الرياء، وغيره من المحبطات"[5]، ولذلك لما ذكر الله عباده الذين تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16]، قال: فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة:17]، قال بعض أهل العلم: أخفوا عبادتهم بقيامهم الليل، حيث لا تراهم العيون؛ فأخفى الله قدر ثوابهم، فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين، والجزاء من جنس العمل.

وقوله: يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون، فهذا -كما ذكرنا- أنه يدل على أنهم يقرؤونه في الصلاة، وهذا -كما ذكر شيخ الإسلام- "بأن أحوال قراءة القرآن بأن ما كان في صلاة فهو أكمل مما كان خارج الصلاة"[6]، ولذلك يمكن للإنسان أن يجعل ورده من قراءة القرآن في كل يوم، سواء كان جزءا، أو أكثر من ذلك، أن يجعله في الليل، وصلاة الليل تبدأ بعد العشاء، فيمكن أن يجلس في أول الليل، ويُصلي، ويجعل ورده قراءة، ولو كان نظرًا من المصحف، فيكون ورده في صلاة في الليل، فإذا كان ينام مبكرًا، ويستطيع أن يستيقظ في آخر الليل، فهذا أكمل، إن لم يكن يُغالب النوم، أو يُغالب النُعاس.

وهنا أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون، لاحظ هنا مع الفئة الأخرى المقابلة لهم أولئك يكفرون بآيات الله، وهؤلاء يتلونها آناء الليل، وهم يسجدون، وبضدها تتبين الأشياء، ولهذا يُقال إن ذلك -والله أعلم- ربما يكون السبب في تقديم ذلك على الوصف بالإيمان الذي بعده يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [آل عمران:114]، فلماذا وصفهم بأنهم يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون قبل ذكر الإيمان؟ لأن أولئك كانوا يكفرون بآيات الله، فهؤلاء في غاية الإيمان بها، والخضوع، فهم يتلونها آناء الليل وهم يسجدون.

وتخصيص السجود هنا بالذكر من بين سائر أركان الصلاة باعتبار أنه الأكمل في الخضوع، وكما ذكرنا ليس المراد أنهم يقرؤونه في حال السجود، وإنما أنهم يقرؤونه في الصلاة، والقاعدة في هذا الباب أنه قد يُعبر عن العبادة برُكن من أركانها، بمعنى أنه حينما يُعبر عن العبادة بجزء منها فذلك يدل على أنه ركن من أركانها، كما قال الله : وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، يعني: القراءة في صلاة الفجر، ولا شك أن قراءة الفاتحة ركن في الصلاة، فُعبر عن صلاة الفجر بقرآن الفجر، وهكذا التعبير عن الصلاة بركن منها، أو بجزء منها وهو السجود، يدل على أهميته، وعلى ركنيته.

وكذلك في قوله: وَهُمْ يَسْجُدُون، هذا حال يعني أنهم يتهجدون في الليل بتلاوة، إما كتابهم، إذا قلنا: إنهم قبل مبعث النبي ﷺ من كانوا على التوحيد، والإيمان بأنبيائهم على وجه صحيح، فهم يقومون الليل بكتابهم، أو أنهم ممن دخل في الإسلام، فهؤلاء يقومون الليل بكتاب الله القرآن يتلونه في ليلهم، وهنا تقييد التلاوة، بتلاوة الكتاب في حال السجود، هذا أبلغ مما لو قيل يتهجدون بآيات الله؛ لأنه لا يدل على صورة فعلهم، لكن لما قال: وَهُمْ يَسْجُدُون، فهذا يصور حالهم من الخضوع، والسجود، ونحو ذلك.

وكذلك التعبير بالجملة الاسمية وَهُمْ يَسْجُدُون، فهذا يدل على الثبوت واللزوم، بخلاف قوله: يَتْلُونَ فهذا يدل على التجدد، ودخل الضمير هنا يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون فدخل ضمير الفصل هنا لتقوية النسبة، تقوية الكلام، إضافة ذلك إليهم، فهذا أبلغ بالمدح، فهذا يقوي الحكم، ويؤكده، وفي قوله: يَتْلُونَ، وكذلك: وَهُمْ يَسْجُدُون، التعبير بالفعل المضارع -كما سبق- يدل على التجدد، فالسجود متكرر، والنبي ﷺ قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود[7]، أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجد[8].

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (482).
  2. أخرجه النسائي في السنن الكبرى، كتاب التفسير، باب قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} [هود:17]، برقم (11177)، وهو عند مسلم بلفظ: ((لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار))، كتاب الإيمان، باب وجوب إيمان أهل الكتاب برسالة الإسلام، برقم (153).
  3. انظر: تفسير ابن عطية، (1/493).
  4. انظر: سير أعلام النبلاء، (11/298).
  5. انظر: التبيان في آداب حملة القرآن، للنووي، (64).
  6. انظر: الفتاوى الكبرى، (354-355).
  7. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب فضل السجود، والحث عليه، برقم (489).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، برقم (482).

مواد ذات صلة