الجمعة 20 / جمادى الأولى / 1446 - 22 / نوفمبر 2024
(127) قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ...} الآية 114
تاريخ النشر: ١٩ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 447
مرات الإستماع: 921

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فما زال الحديث في صفة هؤلاء الذين أثنى الله عليهم من أهل الكتاب -كما مضى- في قوله -تبارك وتعالى-: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون [آل عمران:113]، ثم قال الله -تبارك وتعالى-: يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين [آل عمران:114]، إضافة إلى تلك الأوصاف من الاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى- ودينه وشرعه أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون [آل عمران:113]، إضافة إلى هذه التلاوة يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، يؤمنون بالله -تبارك وتعالى- أنه الواحد، الفرد، الصمد الذي لا إله غيره، وما يندرج تحت ذلك مما يجب الإيمان به، مما يتصل بالإيمان بالله، كالإيمان بربوبيته مع ألوهيته، وكذا الإيمان بأسمائه وصفاته، وما يلزم من ذلك من الإيمان بالكتب، والرسل، والملائكة، وما يجب أن يؤمن به العبد، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وهو يوم القيامة، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وقد مضى الكلام عليهما، وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، يُبادرون إليها، ولا يتوانون، وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين، أولئك الموصوفون بهذه الصفات من عباد الله الصالحين.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات في صفتهم: يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، عبر بالفعل المضارع يؤمنون -وكما سبق- أن الفعل المضارع يدل على الاستمرار، ويدل أيضًا على التجدد، فهم مستمرون على الإيمان، ولما كانت قضايا الإيمان، وشرائع الإيمان متنوعة، متفرقة، فالعبوديات كثيرة، والعبد بحاجة إلى إيمان بالوحي المُنزل، وبحاجة إلى إيمان في كل ما يأتي، ويذر، وذلك كما قد علمتم أن الصلاة إيمان، والصوم إيمان، والتلاوة إيمان، وهكذا كل ذلك من الإيمان يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فخص الإيمان بالله -تبارك وتعالى- باعتبار أنه يستلزم الإيمان بما يجب الإيمان به.

وذكر الإيمان باليوم الآخر؛ لأن ذلك هو المحرك الذي يحمل على الامتثال بفعل ما أمر الله -تبارك وتعالى- واجتناب ما نهى، فإذا علم العبد أن ثمة يومًا يُحاسب الناس فيه على أعمالهم، ويُجزون على جرائرهم، وجرائمهم، ويُجازون على إحسانهم فإنه يرعوي، ويكف، وينزجر عما لا يليق، ويُبادر إلى طاعة الله -تبارك وتعالى- ويستحضر نظره إليه، فيكون في حال من الحفظ لقلبه، ولسانه، وجوارحه، لا يحتاج إلى رقيب من الخلق، وإنما عليه رقيب من نفسه، هذا كثيرًا ما يُذكر مع الإيمان بالله والعلماء يذكرون هذه العلة التي أوجبت هذا الاقتران، الإيمان بالله واليوم الآخر.

وكذلك حينما يذكر الله -تبارك وتعالى- في سياق الذم قومًا يجترئون عليه، ونحو ذلك، يذكر أنهم لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، فأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، كما سبق التعبير بالمضارع "يأمرون" يدل على أن ذلك يتجدد، وكما قلنا في تقديم المعروف على المنكر أنه -والله أعلم- باعتبار أن الأمر بالمعروف هو الأصل، وذلك كما ذكرنا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "أن النفوس خُلقت لتعمل، ولم تُخلق للترك[1]، وأن الترك من باب تخلية المحل، وإلا فالمقصود هو الفعل أن تُعمر القلوب بالإيمان، وطاعة الله وتُعمر الجوارح، واللسان بذلك"، فهذا هو المطلوب، ولكن حينما يعرض المنكر فعندها يُحتاج إلى الإنكار لهذا المنكر من أجل مُباعدته، وتنظيف المجتمع منه؛ ليبقى مجتمعًا صالحًا، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ.

ولاحظ هنا أنه ذكر الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بعد الإيمان، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، وهناك في صفة هذه الأمة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران:110]، فأخر الإيمان.

وقد ذكرت أجوبة للعلماء عن وجه هذا التقديم والتأخير في الآيتين، وكان من أوضح ذلك -والله أعلم- أنه في حق هذه الأمة كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران:110]، أن هذه الأمة لما تميزت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر من غيرها من الأمم، فكان ذلك سِمة بارزة فيها، أما الإيمان فهو مشترك بين هذه الأمة وغيرها، فقُدم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أول سمات هذه الأمة، وأُخر الإيمان، وأما هنا في صفة هؤلاء من أهل الكتاب ذكر الإيمان أولاً.

وهكذا يمكن أن يُقال: -باعتبار ما سبق- أن الإيمان هو الأصل، وهؤلاء لم يتميزوا فيه تميز هذه الأمة، فيوجب هذا التقديم، لكن لا شك أن تقديمه هناك يدل على أهميته، كما أن ذكره هنا مع الإيمان بالله واليوم الآخر يدل على أهميته، يعني: عده مع هذه الخصال العِظام، فهذا يدل على منزلته في الدين.

وكذلك أيضًا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، كأن هؤلاء لما حققوا الإيمان سعوا إلى تكميل غيرهم، لما حصل لهم الصلاح بالإيمان توجهوا إلى إصلاح غيرهم، وهكذا المؤمن فإنه لا يكتفي بإصلاح نفسه، وإنما يسعى لإصلاح إخوانه والمجتمع من حوله، ولذلك فإن الإهلاك الذي حصل، أو الذي يحصل أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه لا يقع إذا كان أهل تلك القرى مصلحون، قال: وَأَهْلُهَا مُصْلِحُون [هود:117]، ولم يقل صالحون، فالإصلاح لا شك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو عماده وقُطب رحاه، فهو الأساس في هذا الباب، ولا يتصور إصلاح من غير أمر بمعروف ونهي عن المنكر وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، الأمر يشمل ما كان مستحبًا، وما كان واجبًا، وكذلك في النهي عن المنكر يشمل ما كان محرمًا، وما كان دونه من المكروهات، وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وأن (أل) هذه تشمل كل معروف في المعروف، وكذلك المنكر ينهون عن كل منكر.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ، فالنهي يتكرر وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، فهذا كله يدل على أن هذا يتجدد منهم، وأنه مستمر لا ينقطع.

وكذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- في الآية السابقة يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون [آل عمران:113]، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ، يقول بعض أهل العلم: ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر بعد ذكر تلاوة الآيات؛ لأنه لا يمكن الإيمان بالشيء إلا بعد العلم به، فإذا تلو الآيات فإن ذلك يوصلهم إلى الإيمان، يعرفهم بالله -تبارك وتعالى- وعظمته، وأسمائه وصفاته، ويُعرفهم بالطريق الموصل إليه، والرسل وسيرهم، وما إلى ذلك.

وهكذا أيضًا في قوله: وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، فإنه من صدق مع الله -تبارك وتعالى- وعرف ما يطلب، فإنه لا يتوانى، وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، وصيغة المفاعلة هنا ليست على ما هو معهود في الغالب من أن يكون ذلك بين طرفين كما يُقال مثلاً قاتل، حارب، ونحو ذلك، وإنما قد تأتي هذه الصيغة مرادًا بها الوصف، يُسارعون، فهذا أحد الأمثلة يُسارعون، يعني: أنهم يُسرعون لكن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، يعني: فيه مزيد من الإسراع، يُسارعون، فهذا الذي عرف حقيقة ما يطلب لا ينتظر ولا يتوقف.

ولذلك قال الله عن المنافقين: وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى، لماذا؟ قال: يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلا [النساء:142]، فالدافع ضعيف، وهكذا قال: وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب:18]، فهؤلاء لضعف الدافع عندهم يتأخرون، يتأخرون عن الصلاة، ويأتون إليها متثاقلين، ويتخلفون حيث لا يراهم الناس كما في صلاتي الصبح، والعشاء في وقت مضى -كما هو معلوم- حيث لا يوجد مثل هذه الأنوار، ونحو ذلك، فلا يراهم الناس.

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، قد يكون المراد بذلك يُسارعون خوف الفوت، والموت، فيبادرون، هذا ذكره بعض أهل العلم، أو أنهم كما سبق يقومون بها في حال من المُبادرة، والإسراع، والنشاط من غير توقف، أو تردد، أو تثاقل، وهذا أقرب إلى السياق، والله تعالى أعلم.

وقد يكون هذا من قبيل التعريض، أو يتضمن ما يكون تعريضًا باليهود باعتبار أنهم أبطأوا عن الإيمان، وتأخروا مع ما عندهم من العلم ما أعطاهم الله من الكتاب.

ولاحظ أن -قوله تبارك وتعالى-: وَيُسَارِعُونَ، قال: فِي الْخَيْرَاتِ، ولم يقل يسارعون إلى الخيرات، مع أن هذا الفعل يصح أن يُعدى بإلى يُقال: يُسارعون إلى الخيرات، لكنه قال: وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، ففي تدل على الظرفية، وإلى تدل على الغاية، فهنا حينما قال: وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، دل على أنهم في داخلها، وضمنها، وأنهم منغمسون فيها، مشتغلون بالعمل بذلك، وليسوا بخارجين عنه، فيهدفون إليه، ويسعون إلى تحقيقه، وإنما هم في الخيرات هم في ضمنها، هم يشتغلون بها هم يُعافسونها، ولكنهم يطلبون المزيد، فليسوا ببُعداء عنها، ولا بمنأى عنها، فهذا من دقة التعبير القرآني وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، هم داخلون فيها عاملون فيها، ولكن يطلبون المزيد، وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ، فهي تشملهم، وتُحيط بهم إحاطة الظرف بالمظروف.

وفي قوله: وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين، الإشارة كما عرفنا بـأولئك تدل على البُعد، فهذا لعلو رُتبتهم أنهم في مرتبة عالية، وَأُوْلَـئِكَ، فقوله: -تبارك وتعالى-: وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين، فهؤلاء حازوا طبقة عليا بهذه الفضائل، وحققوا الصلاح بشهادة الله -تبارك وتعالى- ما قال: وهم من الصالحين وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين، للإشعار بعلة هذا الحكم، لماذا كانوا من الصالحين؟ لأنهم حققوا تلك الأوصاف، وأولئك المنعوتون بتلك الصفات من الصالحين من جملتهم، فينبغي للعبد إذا مر بمثل هذه الآيات أن ينظر في هذه الأوصاف، يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون، يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين [آل عمران:114]، فإذا مر بمثل هذه الآيات نظر، وعرض نفسه عليها هل هو مُحقق لهذه الأوصاف، هذه الصفات هي التي أثنى الله على أهلها، ووعدهم بالخيرات في الدنيا والآخرة، فهل نحن كذلك؟! وما الذي ينقصنا من هذا حتى نستدركه، ونعوضه، ونجتهد في تصليح ما وقع من الخلل والنقص؟

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: اقتضاء الصراط المستقيم، (2/126).

مواد ذات صلة