الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما حذر الله -تبارك وتعالى- من اتخاذ الكفار بطانة من دون المؤمنين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً [آل عمران:118]، ذكر حال هؤلاء وما تنطوي عليه قلوبهم من العداوة وما يبذلون في سبيل الإفساد والإضعاف والإيقاع بين أهل الإيمان، إلى غير ذلك مما قد عُلم.
قال الله -تبارك وتعالى- معاتبًا أهل الإيمان بعدها: هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور [آل عمران:119]، فهذا مما ذكره الله -تبارك وتعالى- ليُنفر أهل الإيمان من ذلك الفعل الذي حذرهم منه، ونهاهم عنه فيقول: هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ، فذكر المفارقة بين الفئتين، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، والمقصود بالكتاب الجنس، جنس الكُتب المنزلة، حيث تؤمنون بكتابكم وبالكتب المُنزلة قبله، ومن ذلك الكتب التي أُنزلت على بني إسرائيل، وهذا السياق إنما هو في أهل الكتاب، وهو في عمومه ومجمله في النصارى منهم، ولكن هذه الآيات فيها من الإشارات ما يدل على أن المقصود بالقصد الأول اليهود لما سيأتي من قوله -تبارك وتعالى-: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، فهذا كان يقع من اليهود وهم يجاورون المسلمين في المدينة كما هو معلوم، ولكن مثل هذا التحذير والأوصاف المذكورة في الجملة من حال الأعداء هي تصدق على اليهود وتصدق على غيرهم، فلا يجوز أن يتخذوا باطنة كما سبق، لكن في قوله: هَا أَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، هذا لربما في المنافقين من هؤلاء اليهود الذين قالوا وتواصوا: آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون [آل عمران:72]، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا، يعني: بما جاء عن الله مما أوحي إلى رسول الله ﷺ، وإذا خلوا انفردوا وابتعدوا عن أنظاركم: عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، وذلك لشدة حنقهم، قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ، بمعنى: أنهم إذا رأوا ما عليه أهل الإيمان من الاجتماع وصعود أمر المؤمنين والعزة التي صارت لهم فإنهم يتقطعون من الغيظ، يصيبهم من الغيظ والحنق والغضب الشيء الكثير، قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ، أي: أن ذلك لن يتراجع ولن يضمحل، والله مُتم نوره وإن كرهتم.
إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور، يعلم دخائلها، دخائل النفوس وما تنطوي عليه القلوب، ويعلم مُخبئات الصدور.
يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات: هَا أَنتُمْ، فالله -تبارك وتعالى- يذكر ذلك على سبيل التحذير، وجاء بالإشارة بعده أيضًا، فهذا السياق يُشعر بالإنكار والمعاتبة للمؤمنين على ذلك.
يقول: كيف يقع منكم هذه المحبة لهم وهم في المقابل لا يُقابلونكم ويبادلونكم المشاعر التي تصدر عنكم من المحبة ولا يحبونكم؟! وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، مع أن المحبة قضية قلبية، فهذا يعلمه الله -تبارك وتعالى- ولكنه قد يظهر من ملامح الوجه ونظرات العين ما يدل على مكنون الصدر كما هو معلوم، لكن الله قال: وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ، قد تكون مشاعر الآخرين مستوية لا يوجد محبة ولا يوجد بُغض، ولكن هؤلاء هنا نفى المحبة ولا يُحبونكم، وأثبت أيضًا الحنق في قلوبهم والغِل والغضب على أهل الإيمان، وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، فنفى المحبة عنهم نفيًا تامًا: وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ.
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، وهذه فضيلة لأهل الإيمان: كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، فأهل الإيمان يؤمنون بجميع الكتب، بل هم أكمل من المؤمنين من أتباع الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- قبلهم، يعني: الذين تبعوا مثلاً موسى ممن كانوا على الإيمان الصحيح هذه الأمة أكمل منهم من جهات عدة، لكن منها في موضوعنا هذا: أن أهل الإيمان من هذه الأمة آمنوا بالقرآن، وبالنبي ﷺ، وآمنوا بعيسى ، وآمنوا بالإنجيل وآمنوا بموسى وبالتوراة قبل ذلك، لكن المؤمنين في زمن موسى آمنوا بالتوراة وبموسى، وبمن قبله، وآمنوا بمحمد ﷺ إيمانًا حُكميًا، بمعنى أنهم أُخبروا في كتبهم أنه سيُبعث، وذُكرت صفته في كتبهم، لكن الإيمان العملي بالاتباع والإيمان بكل آية منزلة وما إلى ذلك هذا أكمل من الإيمان الحُكمي، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، أما هؤلاء الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى- من كفرة أهل الكتاب فإن هؤلاء لا يؤمنون بما جاء به عيسى أعني اليهود، ولا يؤمنون بما جاء به محمد -عليه الصلاة والسلام-.
وهنا قال: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، ولم يذكر ما في مقابل ذلك من حالهم، وذلك كما يقول البلاغيون: إنه من باب الاكتفاء يعني أنه يكتفي بأحد المتقابلين عن ذكر الآخر؛ لأنه يدل عليه، وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، يعني: وهم لا يؤمنون كذلك، لا يؤمنون بالكتاب كله، وعلى قول بعض أهل العلم من أمثلة هذا النوع: فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، فذكر الأشرف، ولكن وإن لم تنفع فالتذكير متعين.
سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81]، والبرد لم يذكره لكنه عُلم من ذكر الحر، سرابيل تقيكم الحر أي والبرد، وهكذا، والله تعالى أعلم.
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ، وعُبر هنا بالفعل المضارع -والله تعالى أعلم- باعتبار أن الإيمان مستمر، فالفعل المضارع يدل على الاستمرار والتجدد، فالإيمان كانت الآيات تنزل وشرائع الإيمان تنزل، فهم يؤمنون بكل ما نزل بكل ما جاء عن الله -تبارك وتعالى-.
وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا، وهذا يدل على ضعفهم وسوء طواياهم وعلى جُبنهم؛ لأن التلون دليل على الضعف، فالذي يتلون هو الذي لا يستطيع أن يواجه بمبادئه أو باعتقاده أو نحو ذلك فهو مع من غلب، ولذلك كان المنافقون مبنى ذلك النفاق على أصل الكذب، فالكذب هو أصل النفاق، ولذلك ذكر النبي ﷺ الصفات التي من وجدت فيه كان منافقًا إذا اجتمعت: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف[1]، وإخلاف الوعد هو من الكذب، وقد سئل الإمام أحمد -رحمه الله- "كيف تعرف الكذابين؟ قال: بمواعيدهم"[2]، فإخلاف للمواعيد نوع من الكذب.
وإذا اؤتمن خان فهذا لون من الكذب، فالكذب تارة يكون بالقول، وتارة يكون بالفعل.
وإذا عاهد غدر، فكل ذلك يرجع إلى صفة الكذب، فهذا الكذب إنما يصدر عن نفس ضعيفة لا تستطيع أن تواجه، ويقول: الإنسان أنا أعتقد كذا، أو فعلت كذا أو نحو ذلك فيروغ ويلجأ إلى الكذب، فالمنافق هذه حاله، وهذا دينه مع من غلب، ولذلك ذكر الله -تبارك وتعالى- في سورة الأحزاب قوله: وَلَوْ دُخِلَتْ، يعني: المدينة، عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا، من نواحيها الأربع، ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا، في القراءة المتواترة هذه، يعني: لبذلوها، وفي القراءة الأخرى: لأتوها، بمعنى جاءوها، الفتنة: الكفر، يعني: الفتنة الكفر على أرجح أقوال المفسرين، وهو قول الجمهور في هذه الآية، وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا [الأحزاب:14]، يعني: لا يحتاجون إلى طول انتظار وتفكير وإعمال ذهن ومراجعة، إنما مُباشرة فهم مع من غلب، ولذلك هم ضعفاء، ولذلك وصفهم الله بقوله: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4]، إذا نادى المنادي للجهاد أو نادى للاجتماع: الصلاة جامعة أو نحو ذلك، وجبت قلوبهم وخافوا يعتقدون أن ذلك لشيء نزل بهم، وهكذا، قال الله -تبارك وتعالى-: يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُم [محمد:20]، وقال: تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [الأحزاب:19]، وصف الله أحوالهم في دواخلهم، وفي أيضًا ما يظهر عليهم من الأمارات والعلامات وصفًا دقيقًا.
فهنا هذا في أهل النفاق من هؤلاء أهل الكتاب: وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، والأنامل هي أطراف الأصابع، وهذا كما ذكرنا في بعض المناسبات أنهم لشدة حنقهم لا يجدون ما يُفرغون فيه شُحنة الحنق والغيظ والغضب إلا بعض أصابعهم، فهم يتألمون من هذا الفعل ولكنهم يشعرون بالتشفي كما هو معلوم، والإنسان أحيانًا قد يعض على أضراسه فتصتك بقوة من شدة احتدام النفس في مغالبة، أو حنق وغضب أو نحو ذلك، هذا يفعله الإنسان، ولربما صدر أيضًا عن بعض الحيوان من شدة ما يجد في نفسه، لا يستطيع أن يُفرغه في الطرف الآخر فيتصرف مثل هذه التصرفات إما أنه يعض أنامله، أو لربما عض شفته، أو لربما صك أضراسه صكًا قويًّا، ولربما حركها فأصدر صوتًا، ولا زال الناس يُعبرون بمثل هذا عن الحنق والغيظ والغضب.
فهنا: عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، لو تمكنوا فإنهم سيفرغون هذا الغضب لا شك فيكم بكل مستطاع من القتل والتنكيل والأسر والتعذيب والإهانة والضرب والإذلال، وكذلك يُسمعونكم ما تكرهون.
إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور، "إن" هذه تفيد التوكيد، وهي بمنزلة إعادة الجملة مرتين، إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ، عليم هنا هذه صيغة مُبالغة شديد العلم.
بِذَاتِ الصُّدُور، فهو يعلم دخائل النفوس وما تنطوي عليه، وما يُخفيه الإنسان ويواريه، فهو يُخبركم عن علم مُحيط دقيق ثابت لا يتطرق إليه الخطأ والخلل، فيُخبر عن نفوس هؤلاء وما يُضمرونه من العداوة، وأن هؤلاء لا يمكن أن يصدر عنهم خير لكم، وما فيه نفع وصلاح بحال من الأحوال، فكيف تتخذونهم بطانة؟! كيف تثقون بهم؟! كيف تثنون عليهم؟! كيف تدافعون عنهم؟ كيف تحبونهم؟! واليوم يوجد كثير من المسلمين يغضب بعضهم إذا ذُكر هؤلاء الكفار بسوء، أو عبر المؤمن عن مشاعر فرح إذا أصابت أولئك الكفار بلية ومصيبة من آفة سماوية أو أرضية أو غير ذلك، تجد هذا الإنسان ينبري للدفاع عنهم، وتثور حميته وغيرته مدافعًا عن هؤلاء، ويتألم لهم ويتوجع لما أصابهم ويُدافع عنهم وهم يذبحون المسلمين صباح مساء! ولا يُبدي شيئًا من التأثر لذلك، ولكنه لا تتحرك غيرته وحميته إلا بهذه الحال إذا حل بهؤلاء الكفار عقوبة من الله -تبارك وتعالى-، ونزل بهم شيء من بأسه وعذابه، فانبرى للدافع عنهم والوقيعة بأهل الإيمان الذين لربما أبدوا شيئًا من التشفي والفرح بما حل بهؤلاء الأعداء، فهنا الله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور.
ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: أنه لا يصح الاغترار بحال من الأحوال بما قد يتفوه به الإنسان، وما قد يُعبر به من مشاعر كاذبة بعبارات يُزينها ويُنمقها ولكنه يُخفي في قلبه غلاً وكمدًا وحقدًا على هذا المُخاطب بهذا الكلام المعسول، فإنه لا يغتر بمثل هذا الكلام إلا بليد، والعبرة ليست بالأقوال وإنما العبرة بالأعمال، والأفعال وبما يصدر عن الإنسان وبالواقع العملي، كيف تصرفاته؟ كيف حاله مع هؤلاء المؤمنين؟! كيف مواقفه؟! فمثل ذلك هو الذي يُعبر عن حاله، أما أن يكون الكلام جميلاً والفعال في غاية القُبح فهذا الفعل يُكذب القول، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.
- أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، برقم (33)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، برقم (59).
- أدب الإملاء والاستملاء (ص:40).