الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
نواصل الحديث أيها الأحبة! فيما يتصل بألوان الهدايات المُستخرجة من هذه التعزية التي يُعزي الله بها أهل الإيمان بعد مصابهم في أُحد، إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين [آل عمران:140]، وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين [آل عمران:141]، مضى الكلام على صدر هذه الآية.
وبقي الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ، فهنا ذكر الحكمة فيما أوقعه -تبارك وتعالى-، وما يوقعه لعباده، وما يحصل من مداولة الأيام بين الناس، فيبتليهم بالهزيمة، أو بالفقر بعد الغنى، أو بالاعتلال بعد الصحة، وهكذا تتقلب بهم الأمور في هذه الدار، وذلك امتحانًا من الله -تبارك وتعالى-؛ ليتبين المؤمن من المنافق، وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ.
وكما ذكرنا في تفسيرها أن هذا، ونظائره محمله على العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وإلا فالله يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فالله يعلم الذين آمنوا، ويعلم أحوال الناس، وما يكون الواحد عليه بعد الابتلاء لكن هذا علم خاص.
وهنا وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ، فعند ذلك يحصل التمايز، ويتبين الصادق من الكاذب، لو كان الأمور جارية على المحاب بإطلاق؛ لدخل في الإيمان كل أحد، لو كانت نصرًا مستمرًا، وعافية دائمة، وغنى لا يحصل بعده فقر، وحاجة؛ لصار الناس جميعًا يُسرعون إلى الدخول في هذا الدين، ويبقى في غمار هؤلاء من يعبد الله على حرف، فلو وضع على محكِ الابتلاء لانكشف، فتأتي هذه البلايا والمصائب ليتميز الناس، وهذا لا يتوقف عند وقعة أُحد.
فلو تتبعتم في السيرة النبوية وما جرى بعد وقعة أُحد فيما حصل للقُراء بعدها قبل ذلك حينما خرج النبي ﷺ بأصحابه، وما كانوا يعانونه من الجراح بعد المعركة، خرج بهم إلى حمراء الأسد لما بلغه أن أبا سفيان هم بالرجوع إلى المدينة ليستأصل المسلمين، ويحمل كما زعموا نساء المؤمنين معهم سبايا إلى مكة، فخرج النبي ﷺ إليهم عند حمراء الأسد.
وكذلك أيضًا ما وقع بعدها من الغدر بالقُراء في بئر معونة، وهي قصة معروفة، وكذلك أيضًا ما حصل من غدر بطائفة أخرى من القُراء كل هؤلاء في وقت متقارب.
بعد أُحد تتابعت المصائب، ثم جاء المشركون، ومن معهم من قبائل العرب بالخندق، وحاصروا المدينة في وقت برد وشدة وجوع وحاجة، حتى كان النبي ﷺ يربط على بطنه حجرين، ويحفر مع أصحابه في غداة باردة -عليه الصلاة والسلام-، هذا كله وقع بعد أُحد، فتتابعت هذه المصائب، ولكن كانت العاقبة لأهل الإيمان، فهنا يحدث التميز، ففي غزوة أُحد ماذا قال المنافقون: لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا [آل عمران:168]، لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ [آل عمران:167].
وهكذا ما قص الله -تبارك وتعالى- في يوم الخندق: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12]، وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا [الأحزاب:13]، وَلَوْ دُخِلَتْ، يعني: المدينة، عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا [الأحزاب:14].
انظر هذه تكشفت، وجاءوا بالاسم القديم الجاهلي يا أهل يثرب، وأعلنوا عما في نفوسهم مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا [الأحزاب:12]، وعود كاذبة، لا حقيقة لها، ففي مقامات الشدة يحصل التمحيص والتمييز.
وهكذا لو نظرت عبر التاريخ، ولذلك تجد المؤرخين حينما يذكرون بعض الوقائع والهزائم والانكسارات وظهور الأعداء مُباشرة يقول: وظهر قرن النفاق، أو يقول: ونجم النفاق، يعني: أنه يبدأ ضعفاء النفوس الذين يتلونون مع الغالب يُمالؤنه، ويكونون معه على إخوانهم من أهل الإيمان، فهذا يحصل به التمحيص.
فهذه الوقائع الكبيرة، الحروب الكبيرة التي تقع في كل مرة، ينكشف الناس، ويتميز الصف، ويتمحص، فلولا هذه الشدائد لما عُرف ذلك، ولبقي الناس في حال من الدِعة والسلامة والعافية، ولا يظهر الدخيل من الأصيل، لكن تقع وقائع كبار، واعتبر هذا إلى يومنا هذا، حينما تقع الوقائع الكبار تجد التميز يحصل، والتمحيص يظهر، فيخرج من الصف الدخل والدخيل، ومن لا يكون من أهل الصدق والثبات.
كذلك أيضًا هذا يدل على أن ما يقدره الله على الناس من المكاره أن هذه لحِكم بالغة؛ ولهذا فإن سؤال من لا يقين له: لماذا يا رب؟ لا محل له، لا موضع لهذا السؤال، لماذا يا رب؟، لماذا يقع هذا كله؟! يقع لحِكم عظيمة تخفى على كثير من الناس.
وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ، ثم ذكر الحكمة الأخرى وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء، فهذه الشهادة بمنزلة عند الله -تبارك وتعالى-، ولا يمكن أن تُنال إلا بأسبابها التي تقع، وتحصل، فهذا اجتباء منه واصطفاء لبعض عباده المؤمنين، ولذلك فإن وقوع بعض القتلى من أهل الإيمان، وإن كانوا أعزة إلا أن ذلك لا يكون خسارة في المقاييس الصحيحة، في مقياس الله فإن هؤلاء كما قال الله وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء، يتخذهم، يصطفيهم، يختارهم، ينتخبهم، وهو الذي بيده الموت والحياة، وهو الذي بيده تدبير الأمور، فقدر على هؤلاء القتل ليكونوا شهداء عنده، الحياة الدنيا قصيرة جدًا، ليست بشيء لكن إذا جاءت الحياة الحقيقية، الحياة الأبدية السرمدية، فهنا تظهر المنازل، وتظهر مقامات الشهداء العالية، كذلك يدل هذا على فضيلة الشهادة.
ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين، فإن مفهوم المخالفة أنه يُحب المؤمنين، يُحب الذين يوصفون بضد الظلم من أهل التقوى والإيمان، والعدل والإحسان، والظالمون -كما ذكرنا- يدخل فيهم أهل الإشراك دخولًا أوليًّا، ويدخل فيهم أولئك الذين تخلفوا عن رسول الله ﷺ في تلك الوقعة، وهذا وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين، يدل على إثبات المحبة لله بطريق المفهوم.
وكذلك أيضًا في هذا من التنفير عن الظلم، وأسبابه التي توقع به؛ لأن الله لا يحب الظالمين، فيتوقى الإنسان الظلم الذي يكون بينه وبين الله، والظلم الذي بينه وبين خلق الله، بين الناس؛ يأخذ أموالهم، وينتهك أعراضهم بلسانه، أو بغير ذلك، وهكذا في أي لون من ألوان المظالم، كذلك ظلم الإنسان لنفسه.
ويؤخذ من هذه الآية أيضًا: وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِين، أن الشهداء ليسوا كذلك؛ لأن الله اختارهم واصطفاهم، فهم أبعد ما يكونون عن هذا الوصف، ففي هذا بُشرى لأهل الإيمان والتقوى والصدق مع الله -تبارك وتعالى-، وفيه إنذار لأولئك الذين يتصفون بالظلم بأي شكل من أشكاله أو أي لون من ألوانه.
كذلك أيضًا كما قال بعض أهل العلم: بأن الظالم لا عاقبة له، فهؤلاء لا يحبهم الله، إذًا لا يكون لهم تمكين، ولا يكون لهؤلاء عاقبة حميدة، فإذا وقع له إصابة غِرة من أهل الإيمان، أو انتصر في بعض الوقائع، فإن ذلك ما يلبث أن يتحول ويزول فيضمحل، ويبقى الحق والعدل، فهذا كله مما دلت عليه هذه الآية الكريمة.
وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.